الآداب الباقية

كنت بينت للخصم الشريف سلامة موسى وجه الخطأ فيما ذهب إليه من الدعوة إلى الإقلال من العناية بالأدب العربي، وكانت حجتي أنه يُعنَى بالأدب الفرعوني مع أنه أدب مُوغِل في القدم، وأن الأستاذ عبد القادر حمزة يبذل جهودًا عنيفة في شرح الأساطير الفرعونية، ولم يقل أحد إنه يضيع وقته فيما لا يفيد، فكيف يلام رجل مثلي إذا قَصَرَ عمره على درس الأدب العربي، مع أنه أدبٌ حيٌّ لا يزال يسيطر على أذواق الناس في المشرق والمغرب، وهو فوق ذلك يفسر غوامض النفس العربية التي تلقت الإسلام ونشرته في العالمين.

وللباحث أن يؤمن بالإسلام وأن لا يؤمن، ولكنه لا يستطيع أن ينكر أن الإسلام يسيطر على كثير من الشعوب، والباحث لا مفرَّ له من درس اللغة التي أُدِّيتْ بها مذاهب ذلك الدين، وهو يفعل ذلك علمًا إن لم يفعله تدينًا؛ أي أنه لا مندوحة من درس أصول ذلك الدين من النواحي اللغوية والتشريعية، والمسلم وغير المسلم في ذلك سواء؛ لأن العلم لا يوجب على العالم أن يؤمن بالإسلام قبل أن يدرس الإسلام، ولا يفرض عليه أن يعتنق المسيحية قبل أن يدرس المسيحية، وإنما يأتي الإيمان بعد الدرس، وقد لا يأتي أبدًا، فما أحسب صديقي سلامة موسى سيُسلم وإن سبق الناس إلى فهم القرآن!

وأعود اليوم فأقرر أن لدراسة الأدب العربي غايات أخرى غير تلك الغايات الدينية، وأبدأ فأنقض حجة الأستاذ سلامة موسى؛ إذ يرى أن غاية الأدب هي توجيه الحياة الاجتماعية، وأن الأدب الحديث أنفع دائمًا من الأدب القديم؛ لأنه أقرب ولأنه يصلح الحياة التي نعيشها تمام العيش، أما الأدب القديم فيتحدث عن حياة مضت وانقضت، ولم يبق ما يوجب أن نتلفت إلى ما كان فيها من محاسن وعيوب.

ماذا تريد أيها الصديق؟

أتحسب أن الأدب لا غاية له إلا توجيه الحياة الاجتماعية؟

عَدِّ عن هذا، فالأدب كما يكون ضربًا من الإصلاح، يكون نوعًا من الوصف، وهو وثيقة تسجَّل فيها مظاهر الحياة الاجتماعية، وقد يصير دستورًا تخضع له الحياة الاجتماعية.

فإن كنت في ريب من ذلك فراجع كتب الأدب في القديم والحديث، وستراها سِجِلَّات دُوِّنَتْ فيها أزمات القلوب والنفوس والعقول، ستراها نماذج وصفية قبل أن تراها شرائع وقوانين.

والفرق عظيم بين الأدب وبين التشريع، فإن التشريع يَرسُم حدود المعاملات وفقًا لما اطمأنَّ إليه الناس في فهم الحقوق والواجبات. أما الأدب فيصور الألم من القبح والدمامة في المحسوسات والمعقولات، ويصوِّر النماذج العالية التي يصبو إليها الكُتَّاب والشعراء.

فرجل القانون يعيش في عالم الواقع، أما الأديب فيعيش في عالم المِثَال، رجل القانون يعيش في أجواء يَحُدُّها الضُّرُّ والنفع، أما الأديب فله وَثَبَات وبَدَوَات لا يدركها إلا المصطَفَوْن الأبرار من أهل الأرواح.

والكُتَّاب الاجتماعيون يعيشون في عالم الواقع كما يعيش رجال القوانين، ولذك نراهم يهتمون بشؤون لا يلتفت إليها أحد من الشعراء، والأستاذ سلامة موسى كاتبٌ اجتماعي وليس بأديب، واللغة عنده ليست إلا أداة تفاهم، وكل تأنق في العبارة والأسلوب يبدو لعينيه وكأنه لَغْوٌ وإسراف، والأدب القديم لا يمكن أن يحتل رأسًا مثل رأس الأستاذ سلامة موسى، وهل في الأدب القديم جنيهات وبورصات وصناعات واقتصاديات حتى يهتم به هذا الصديق الذي يضع على عينيه نظارة من ورق البنكنوت؟

أما الأديب — وا رحمتاه للأديب! — فهو إنسان لا يعرف غير عالم المعاني، وليس للدنيا في نفسه حدود ولا تواريخ، فهو يتلمس الحكمة حيث وقعت، الحكمة الجميلة التي تحمل طابع الحق والخير والجمال.

والذي ينظر إلى الدنيا بعين الاقتصاد لا يستطيع أن يفهم ذوق الأديب، فالعباس بن الأحنف هو عند أهل الاقتصاد مجنون؛ لأنه قضى عمره يتغنى بمحبوبة واحدة قَصَرَ عليها فنه وهواه. وعمر بن أبي ربيعة مخبول؛ لأنه لم يكن يحلم بغير مناسك الحج، ولم تكن تلك المناسك في قلبه إلا معالم فتنة وملاعب شباب. وميسيه أحمق؛ لأن باريس لم تكن في نفسه إلا مطارح صبابة، ومنازل هواء، ومراتع فتون.

ولكن هؤلاء المجانين فيما يرى الاقتصاديون هم عندنا أعقل العقلاء، ومجموعة ميسيه في الشعر والقصص أحب إلى قلبي مما تحتويه خزائن البنك الأهلي، وبيتٌ من ديوان المتنبي أعزُّ على نفسي من بيت في الزمالك وهي روضة البحرين. ولا أُنكر أني أجازف حين أرمي بمثل هذا القول، ولكني أعرف أني وقعت غير مرة في مثل هذا الطيش، فقد بعت ساعتي وملابسي وأنا في باريس لأقتني كتابًا نادرًا هو ترجمة دي ساسي للتوراة، وفي سنة ١٩١٥ تحدث الناس أن القاهرة في خطر وأن الألمان سيقذفونها بالمهلكات، فلم أَخَفْ يومئذ إلا على مكتبتي فنقلتها إلى سنتريس، وعدت إلى القاهرة في طمأنينة، كأن نفسي لا تهمني، وإنما يهمني أن تعيش مكتبتي وأن تحيا فيها أرواح الكُتَّاب والشعراء.

وليس معنى ذلك أن الأديب لا يعرف قيمة المال، أو أنه شخص مجذوب لا تستهويه إلا بوارق الخيال، لا، إن الأديب قد يعرف أخطار المنافع المادية، ولكنه ينظر إليها نظرة المأخوذ بما فيها من القدرة على تلوين الوجود، والأديب حين يمرّ على البنك الأهلي يتمثل ما في المال من سحر وطغيان، فهو يُذل الكرام ويُعز اللئام، وهو الذي يرفع ويضع، ويقدِّم ويؤخِّر، ويُكرم ويُهين، وهو الذي يؤجِّج نار الحرب حين يشاء، ويضع قواعد السلم حين يشاء، وبفضله تُصان أعراض، وتُذال أعراض، وباسمه تُقَضُّ مضاجع وتَهدأ جُنُوبٌ، ولولا المال لتساوى الناس فلم يكن فيهم وضيع ولا رفيع. وأكثرُ القِيَم المعنوية لا تخلقها فضائل العقل والوجدان، وإنما يخلقها المال الذي يستطيع أن يجعل من العجوز الحيزبون عروسًا حسناء!

وخلاصة القول أن الأديب ينظر إلى المصارف المالية نظرة شعرية، ويتمثلها خياله على نحو من السيطرة والجبروت قد لا يرتقي إليها علماء الاقتصاد.

ما لي ولكل هذا؟ الذي يهمني هو أن أقرر أن الأديب لا يَشُوقه غير المعاني، وهو من أجل ذلك لا يتقيد بالحدود التاريخية ولا الجغرافية، وهو لا يُعنَى بالمشاكل إلا من الوجهة الإنسانية، أما الأوضاع الاجتماعية فموقفه منها موقف الوصَّاف الذي يشرح المحاسن والعيوب. والأديب ليس دائمًا من الحكماء، وإنما هو فنان ينتفع بمظاهر الرشد والغيّ، والبِرّ والفجور، والجِدّ والمجون.

وهذا لا يمنع أن يكون الأديب من أهل الكفاح Homme d’action، وهو حين يكافح يصبح قوةً خطرةً في الحياة الاجتماعية؛ لأنه يحلِّق دائمًا في الأجواء العالية، ولا يقنع بالقليل، وتمتاز الحياة العربية بكثرة من ظهر فيها من الأدباء المكافحين؛ فقد كان امرؤ القيس وأبو فراس والمتنبي وابن العميد من رجال الكفاح، وكان أئمة النثر الفني في دواوين الإنشاء من أهل الكفاح، وكانوا يسيطرون على الحياة الاجتماعية والسياسية، ولكنهم كانوا مع هذا نماذجَ من الخرق والطيش في عالم الاقتصاد؛ إذ كانوا يتسابقون في ميادين التبذير والإسراف، وكانت المعنويّات هي التي تسيطر على أذواقهم وعقولهم، فلم يتركوا شيئًا يدل على تعمق في فهم أصول المعاش. والذي لا مِرْية فيه أن الأدباء لا يخلُون من انحراف، وقليلٌ منهم من يوصف باعتدال المزاج، ولكن ذلك الانحراف هو أصل تلك العبقرية التي تبني وتهدم، وتأسو وتجرح، وهم حين يسيطرون على الحياة الاجتماعية والسياسية يرفعون عنها آصار البلادة والخمود، ولولا أهل الأدب من كُتّاب الصحف والمجلات لأصبحت حياة الناس تجري على وضع رتيب لا يقظة فيه ولا إحساس، فهم على ما فيهم من عيوب مِلحُ هذه الدنيا، ولا يطيب في غيبتهم عيش، ولا يجمُل بدونهم وجود.

ومن طبيعة الأدباء أن تضيق عليهم دنياهم فلا يجدون فيها كفايتهم الروحية والعقلية من ذخائر المعاني، فهم أبدًا متنقلون بالفكر والخيال من أرض إلى أرض، ومن عهد إلى عهد، ولا يعلم إلا الله كيف فُطِرَتْ تلك النفوس التي لا تفرِّق بين قديم وحديث، وإنما تعشق المعنى الأصيل، ولا يهمها أن تعرف أين يقع من التاريخ.

وبفضل تلك الفطرة الذوقية تحيا آداب وفنون تطاوَلَ عليها الزمان. وما الذي يروع الناس من خرائب الكرنك ومقابر وادي الملوك؟ وما هي قيمة الأهرام حين تنظر إليها بعين العقل؟ إن القناطر الخيرية أجمل من الأهرام وأنفع، ولكنها لا تجذب أحدًا من المتشوفين للنفائس؛ لأنها بِنْت الأمس، ولأنها بُنيت في سبيل النفع، ولم يُلحظ فيها أن تكون مَشرقًا من مشارق الفن الجميل، أما الأهرام فمَرَاد سحر وفتون، ولها في قلوب المتشوِّفين منزلة عالية؛ لأن الذين بنوها فكروا في معنًى شعريّ بديع هو معنى الخلود.

ولو نظرنا إلى الأهرام بعين الاقتصاد أو بعين سلامة موسى لرأيناها سُبَّةً في تاريخ مصر، والفراعنة الذين بَنَوها فعلوا ما فعلوا في غيبة البرلمان، في عهد «نسيم» ذلك الزمان، وإلا فكيف يمكن حكومةً برلمانية أن ترضى بتسخير الفلاحين جميعًا في إقامة بناء لا تدخله شمس ولا هواء، ولا يصلح إلا للأموات؟

ومع هذا فمن ذا الذي ينكر أن الأهرام من بقية السِّحر في مصر، وأنها عنوان ما كان في هذا الوادي من عناصر القوة في الأبدان والعقول والأذواق؟

الأهرام بُنيت بفضل الظلم والطغيان، ولكن للشعر فيها مواقف، وللهوى إلى منادحها نزاع،١ وما ضاع من أموال الناس وأرواحهم في بناء الأهرام لا يُساوي قُبْلةً مختلَسة ينهبها شاعرٌ من محبوبته في رحاب تلك الصروح الشمَّاء.

أقول هذا وأستغفر الله لمن ينتهبون القُبُلات في ذلك الحرم الأمين!

١٢ سبتمبر سنة ١٩٣٥
١  النزاع: هو الشوق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤