حجازيات الشريف الرضي

– أين نحن من الليل؟

– أي ليل تعني، يا صاح؟!

– ليل هذا الزمان!

– أنت إذن تعني الليل البهيم؟

– وما البهيم؟

– كان يجب أن تفهم وأن لا تحتاج إلى إيضاح، أَمَا تعرف قول الشاعر:

أَعِنِّي على الليل البهيم فإنَّهُ
على كل عين لا تنامُ طويلُ

– أعرف هذا البيت، ولكنه كان لعهد معرفتي به خاليًا من كلمة «البهيم».

– أنا الذي حولته إلى هذا الوضع ليأتلف مع ليل الزمان؟

– وما هو الأرَق في مثل هذا الليل؟

– هو يا صديقي وصل الأحزان بالأحزان والهموم بالهموم، في الأزمان التي يكون فيها الفقر علامة لكرام الناس.

– وما عسى أن تكون الغَفَوات للمحزونين في مثل ذلك الليل؟

– هي البلادة الذهنية والروحية التي تُنسي الرجل أشجان الرجال!

– فهمت! ولكن ماذا عسى أن يصنع من يكرُم عليه قلبه وعقله فلا يتبلد تبلد الأغفال؟

– يلتمس من يُعينه على الليل البهيم!

– وكيف يكون العون في مثل هذه الحال؟

– للكرام، يا صديقي، ألوان من العُلالات، وخير ما أتعلل به حين يطول الأرق في ليل الزمان هو الاغتباق بأكواب الشعر الجميل … إليك المكتبة فإن شئت كلَّفت خاطرك — كما يعبر بعض الناس — فخطوت خطوات إلى الصِّوان الخاص بدواوين الشعراء.

– البحتري، أبو تمام، ابن المعتز …

– هات ديوان الشاعر الذي يودِّع الباخرة «زمزم».

– وهل كان القدماء يعرفون الباخرة «زمزم»؟

– كانوا يعرفونها، وكانت تُسمى لعهدهم «سفينة الصحراء».

– شيء عجيب!

– العجيب هو أن لا تعرف ذلك!

•••

دعتني إدارة الباخرة زمزم للعبور من الإسكندرية إلى بورسعيد، فلبَّيتُ الدعوة ثم تخلفتُ؛ لأن البحر يخيفني أعنف الخوف، ولست أخاف الغرق فإن أشرف الأكفان عندي هو الماء الأجاج، ولكني أخشى الدُّوَار الذي عانيتُ أهواله عشرات المرات في عبور بحر «العرب» من الإسكندرية إلى مرسيليا، فقد كنت في كل مرة أتمنى لو تُقَطَّع بيني وبين البحر أسباب اللقاء، لا قدر الله ولا سمح!

وكانت هذه الدعوة الكريمة مما لَفَتَ النفس إلى صورة موسم الحج في أنفس الشعراء القدماء، وكنت فيما سلف شغلتُ نفسي بتلوين هذه الصورة حين ألَّفت كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره»، ثم عدت فتذكرت أن للشاعر عمر بن أبي ربيعة خليفةً قرشيًّا هو الشريف الرضيّ: إمام شعراء الوجدان في القرن الرابع.

ومن الحديث المُعاد أن أتكلم عن ابن أبي ربيعة في هذا الفصل الذي أكتبه للبلاغ، فليكن حديثي عن الرجل المهيب الجليل الورع العفيف الشَّهم الذي لم تمنعه هيبته ولا جلالته ولا ورعه ولا عفته عن تدوين النوازع الوجدانية التي كان يفيض بها قلبه أيام الحجيج.

كانت إلى الشريف الرضي إمارة الحج فاتفق له بذلك أن يشهد الموسم شهود النبلاء، وكان موسم الحج عند القدماء يجمع بين فرصتين: الفرصة الدينية التي تؤدَّى فيها الفريضة، والفرصة الاجتماعية والوجدانية التي يتعرف بها الرجل إلى أعيان الناس ويمتع عينه وقلبه بما يُحشَر في موسم الحج من ألوان الجمال، ولنتذكر أن ذلك وقع يوم كان العرب يجمعون بين التقى والفتوَّة، ويصلون بين الدنيا والدين، ومَثَلهم في ذلك مَثَل أهل أوربا في العصر الحديث، ففي أوربا لعهدنا هذا مواسمُ للحج يذهب إليها المتقون تديُّنًا، ويزورها الشعراء تظرفًا، فيجد فيها أولئك وهؤلاء مُتْعَة العين ومُتْعَة الروح.

فلا يحسب بعض القراء أن إسراف الشريف الرضي في وصف ما اجترحتْ عينه أيام الحج خروجٌ على وقار تلك الأرض المقدسة، هيهات، فلو كان ذلك مما يَغُض من قدره لما تيسَّر له أن يتولى إمارة الحج، وأن يتولى نقابة الأشراف، وأن يجد من يرشّحه للخلافة الإسلامية … إنه لا مفر من الاقتناع بأن صورة الدين تختلف في أذهان الناس باختلاف ما هم عليه من قوة وضعف، ونباهة وخمول، ومن الحق أن نقرر أن الناس لا تكثر وساوسهم في فهم الدين إلا في العصور التي يضعف فيها الدين، ومَثَلهم في هذا مَثَل العليل لا يكثر تفكيره فيما يضر وما ينفع إلا حين تهجم العلة ويَعزُّ الشفاء. أما الصحيح فلا يفكر فيما يأتي وما يدع؛ لأن العافية تُنسيه عواقب الإفراط في الطعام والشراب.

فيا أيها القارئ المتحفظ، لا تظنّ أن الشريف الرضي كان رقيق الدين، ولكن تذكَّر أن الغزل والتشبيب علامة العافية والفتوَّة، وتذكر قبل كل شيء أنه رجل قرشيٌّ، وأن القرشيين كانوا معروفين بوثبات العزائم، وصَبَوَات القلوب.١
١  هذه القطعة مقدمة لمقالات نشرها الكاتب في البلاغ (مارس سنة ١٩٣٤)، ثم اتفق للكاتب أن ينظر في حجازيات الشريف نظرة ثانية، وأن يكتبها بصورة جديدة وهو في بغداد سنة ١٩٣٨ بحيث صارت ركنًا من كتاب «عبقرية الشريف الرضي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤