ملاحظات أدبية ولغوية

بس!

بَسْ: كلمةٌ مستعملة في لغة التخاطب، ولكنها متروكة في اللغة الأدبية، وهي مع ذلك من الكلمات التي عرفتها المعاجم، وقد عثرت في بعض كتب الأدب على شاهد طريف لهذه الكلمة؛ إذ حدَّث بعض العلماء وقد تزوج: لما حُمِلت المرأة إليَّ جلست في بعض الأيام على العادة أكتب شيئًا والمحبرة بين يديّ، فجاءت أمها فأخذت المحبرة فلم أشعر بها حتى ضَربتْ بها الأرض وكسرتها. فقلت لها في ذلك، فقالت: بَس! هذه شرٌ على ابنتي من ثلاثمائة ضرة!

جواب شاعر

قال بعض الشعراء في وصف الصهباء:

حمراء مثل دم الغزال وتارةً
بعد المزاج تخالها زِرْيابا
وإذا المِزَاج علا فشجَّ جبينها
نَفَثَتْ بألسنة المزاج حَبابا

فاستدعاه المهديُّ وقال: لقد وصفتَ الخمر فأحسنت في وصفها إحسان من شربها، وقد استحققت الحَدَّ! فقال الشاعر: أيؤمنني أمير المؤمنين حتى أتكلم بحجتي؟ قال: قد أمَّنتُك، فقال: وما يدريك، يا أمير المؤمنين، أني أجدت وصفها، إن كنت لا تعرفها؟ فقال المهدي: اُعزُب، قبَّحك الله!

حذوك النعل بالنعل

عرفنا هذا التعبير في شعر عمر بن أبي ربيعة حين قال:

فلما توافَقْنا عرفتُ الذي بها
كمثل الذي بي حذْوَك النعل بالنعلِ

ثم رأيناه بعد ذلك في كلام رواه الأصمعي إذ قال: مررت بالبادية على رأس بئر وإذا على رأسه جَوَارٍ، وإذا واحدة منهن كأنها البدر، فوقعت عليَّ الرِّعدة، وقلت:

يا أحسن الناس إنسانًا وأملحهم
هل باشتكائي إليك الحب من باسِ
فبيِّني لي بقولٍ غير ذي خُلُفٍ
أبِالصَّريمة نمضي عنك أم ياسِ

قال: فرفعت رأسها وقالت لي: اخسأ! فوقع في قلبي مثل جمر الغضا، فانصرفت عنها وأنا حزين، ثم رجعت فإذا هي على رأس البئر فقالت:

هلمَّ نَمْحُ الذي قد كان أولهُ
ونُحدث الآن إقبالًا من الراسِ
حتى نكون ثَبيرًا في مودتنا
مثل الذي يحتذي نعلًا بمقياسِ

والشاهد في الشطر الأخير. وأذكر أني ذهبت لزيارة قبر شهيد الوطنية محمد بك فريد في ديسمبر سنة ١٩٢٠، فوقف الدكتور محجوب ثابت يخطب فقال: لقد عرفت فريدًا يوم كان يلازم مصطفى باشا كامل حذوك النعل بالنعل.

وكانت هفوة؛ فقد ظن الدكتور محجوب أن كل ما ورد في الشعر القديم يمكن الانتفاع به في خُطب هذا الزمان.

طغيان النساء

سَوْرةُ الضعيف مرهوبةٌ مَخُوفة، ولذلك قال الشاعر في وصف الخمر:

وضعيفةٍ فإذا أصابت فرصةً
فتكت كذلك سَوْرةُ الضعفاءِ

والمرأة ضعيفة، ولكنها حين تَطْغَى تصبح عاتية عاصفة، ومن أمثلة ذلك ما وقع من أم أوفى العبدية وقد دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أم المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابنًا لها صغيرًا؟ فقالت: قد استحقت النار. فقالت: إنها أصغر مما تظنين! قالت: قد استوجبت النار، فتنمَّرت أمُّ أوفى وقالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أبنائها الكبار ألوفًا؟ فعرفت عائشة أنها تُعَرِّض بيوم الجمل فصاحت: «خذوا بيد عدوة الله!»

شاعرة يهودية

كان في اليهود من العرب شعراء، أشهرهم السموءل، وكان في اليهود المستعربين شعراء، أشهرهم ابن سهل، وكان من المستعربين منهم شواعر، وهذا غريب، ومن أشهر الشواعر اليهوديات قَسمونة بنت إسماعيل الأندلسية، وكان أبوها شاعرًا فاعتنى بتأديبها، وربما صنع من الموشحة قِسمًا فأتمّتها هي بقسم آخر … قال لها أبوها أجيزي:

لي صاحب ذو بهجة قد قابلتْ
منعًا بظهر واستحلتْ جُرمها

ففكرت غير كثير وقالت:

كالشمس منها البدر يقبس نورَهُ
أبدًا ويكسِفُ بعد ذلك جِرمها

فقام كالمختبل وضمها إليه، وجعل يقبِّل رأسها ويقول: أنت والكلماتِ العشر أشعر مني!

ونظرت في المرآة يومًا فرأت جمالها وقد بلغت أوانَ التزويج، فقالت:

أرى روضةً قد حان منها قِطافها
ولست أرى جانٍ يمدُّ لها يدا
فوا أسفي يمضي الشباب مضيَّعًا
ويبقَى الذي ما إن أسمِّيهِ مفرَدا

وسمعها أبوها فنظر في تزويجها.

العربدة

يتحدث الناس كثيرًا عن العربدة، عربدة السكارى، وقد تحدث شوقي عن القلب النشوان فوصفه بالعربيد، وأكثر الناس لا يعرفون من أين جاءت كلمة عِربيد، فليعرف من لا يعرف أنها من العِرْبد، وهي حية تَنفُخ ولا تؤذي. وأكثر السكارى يتصايحون ولكنهم جبناء!

المعيدي

المُعَيْدِيّ بسكون ياء التصغير وتشديد ياء النسب هو تصغير المعدِّيّ بتشديد الدال والياء، نسبة إلى مَعَدّ بتشديد الدال، وإنما خُففت الدال في (المعيدي) استثقالًا للتشديدين مع ياء التصغير. وفي الناس من لا يعرف تصريف هذا الاسم على شهرته، مع أن أكثرهم معيديون!

حتى عند الموت!

من المعروف أن من غلب عليه فن من الفنون أُولع بألفاظه وأخيلته، وقد حُفِظ من ذلك شيء كثير في اللغة العربية، ومن أظرف ما قرأته أن أحد الرياضيين دعا ربه وهو يُحْتَضَر فقال: «اللهم يا من يعلَم قُطر الدائرة، ونهاية العَدد، والجذر الأصمّ، اقبضني إليك على زاوية قائمة، واحشرني على خط مستقيم!»

إن هذان لساحران

كتبت في العدد الأخير من مجلة (أبوللو) مقالًا ووردت فيه عبارات عن بعض التعابير القرآنية، وقلت: إن في القرآن تعابير لا تُقبَل إلا في القرآن؛ لأنها نموذج لبعض لغات ذلك العهد، ومنها (إن هذان لساحران) فهي مقبولة في القرآن، ولكنها لو وقعت في كلام كاتب لقلنا بلحنه؛ لأن القاعدة الغالبة لا تجيز رفع اسم إن، وكنت في هذا قد استأنست بكلام نقله ابن فارس، ثم اطلعت على تأويل غريب لأبي زكريا يحيى بن علي وهو يقول في (إن هذان لساحران): إن الهاء اسم إن، وذان لساحران جملة خبر لإنْ، ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية، والمعنى عنده: وأسروا النجوى قالوا إِنْهَا؛ أي نجوانا، (ذان لساحران)، فما رأي العلماء في هذا التأويل؟

أبو العير وأبو العجل

كان أدباء العرب يتخيرون بعض الأسماء المضحكة ليضيفوا إليها ما يحلو لهم من الفكاهات، وقد تخيل أحدهم أن أبا العَير ولَّى أبا العِجل ولاية عريضة، وكتب له بذلك عهدًا فقال:

يا أبا العِجل! وفقك الله وسددك! ولَّيتك خراج ضياع الهواء، ومساحة الهباء، وكيل ماء الأنهار، وعدّ الثمار، وصدقات البوم، وكيل الزقوم، وقسمة الشوم، بين الهند والروم، وأجريت لك من الأرزاق، بغض أهل حمص لأهل العراق، وأمرتُك أن تجعل ديوانك ببرقة، ومجلسك بأفريقية، وعيالك بميسان، وإصطبلك بهمذان، وخلعت عليك خُفَّيْ حُنَين، وقميصًا من دَين، وسراويل من سخنة عين، فَدُر في عملك كل يوم مرتين، والحمد لله على ما ألهمنا فيك، فقابلنا بالشكر فيما نُوليك!

٢٠ يوليه سنة ١٩٣٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤