عقيق وعقيق

نشر سعادة شيخ العروبة الأستاذ أحمد زكي باشا خطابًا وصل إليه من صاحب الجلالة ملك اليمن، ولم يتخير للنشر ما فيه من التحيات الطيبات، بل نشره برُمَّتِه فجاءت فيه عبارات تفتح الشهية وتُسيل اللُّعاب، ولست جائعًا وأنا أكتب هذا الكلام، وإنما هو تعبير يصور ما جاء في خطاب جلالة ملك اليمن إلى سعادة الأستاذ، فقد قال يخاطب ساكن جيزة الفسطاط: «وسيكون مطلوبكم من العقيق واصلًا إليكم».

ومعنى هذا أن سعادة الباشا طلب من جلالة ملك اليمن أن يرسل إليه حِملًا من العقيق، وأن ملك اليمن الذي ورث الكرم عن أبيه وأجداده سيرسل إليه المطلوب.

فضل العقيق

وقبل أن أتكلم عن العقيق وأوصافه وأنواعه أبدأ فأذكر كيف خَلَصتُ بفضله مرة من ورطة الامتحان، فقد كنت طالبًا بالجامعة االمصرية، وكان المرحوم إسماعيل بك رأفت — غفر الله له — يعتقد أني قليل المحصول من العلم الذي كان يدرِّسه وهو الجغرافيا ووصف الشعوب، واتفق له أن أسقطني في الامتحان مرتين، وكنت أستحق ذلك؛ فقد سألني مرة عن حدود مصر الطبيعية في الامتحان فقلت: إن حدود مصر الطبيعية من الجنوب هي منابع النيل، فغضب، فقلت له: تلك هي الحدود الطبيعية، وهي الحدود التي لا يحب الإنجليز أن نعرفها على وجهها الصحيح! وكان ذلك في أواخر سنة ١٩٢٠ بعد أن قضيت نحو سنة في الاعتقال، ودخل في رُوعي أن حدود مصر الطبيعية هي ما كان يسميه المرحوم سعد باشا «من منبع النيل إلى مصبه»، وكان رأفت بك لسوء حظي يرى أن ما يُحتجُّ به في الجرائد غير ما يُجاب به في الامتحان!

وفي العام التالي سنة ١٩٢١ كنت أؤدي امتحانًا عند رأفت بك، وكان الدكتور منصور فهمي عضوًا في اللجنة. وكان يحبُّ أن يخلِّصَني من براثن ذلك الأستاذ، وجاء ذكر وادي العقيق في الامتحان، فتدخل الدكتور منصور وقال: حدثني يا شيخ زكي، أتذكر شيئًا مما قال الشعراء في وادي العقيق؟ فرأيت من الحزم أن آخذ بتلابيب تلك الفرصة السانحة، واندفعت أتحدث عما قال الشعراء في وادي العقيق والدكتور منصور يشجعني على الإطناب، وظل رأفت بك ينظر ويَعْجَبُ كيف أتيحت هذه الفرصة لطالب ثرثار يعرف كل شيء إلا مادة الامتحان! وكانت مدة الاختبار ثلاثين دقيقة انتهبتُ نحو ثلثيها وأنا أبدئ وأعيد في الناحية الوجدانية من أخبار وادي العقيق! وخلصت من يد الأستاذ إسماعيل بك رأفت، ولولا لطف الدكتور منصور ويُمن العقيق لاغتالني ذلك الرجل الذي كانت تُضرَب بقسوته الأمثال.

ما هو العقيق؟

هو خَرَز أحمر يكون باليمن، ومنه سيكون مطلوب زكي باشا، وبسواحل رومية منه جنسٌ كدِر كماءٍ يجري من اللحم المملَّح (وشرح هذه النقطة مما سيتفضل به الأستاذ محمد مسعود)، وفيه خطوط بيض خفيفة. وقد دخل العقيق في الخرافات الطريفة فذكروا أن من تختَّم به سكنتْ روعته عند الخصام، وانقطع عنه الدم من أي موضع كان.

ومن أطايب الخرافات ما كنَّا نسمع من أن الظريف هو من تَخَتَّم بالعقيق، وروى نونية ابن زيدون، وتمذهب بمذهب الشافعي. وقد كنت حينًا كذلك ثم تحنَّفتُ فذهب مني ثُلث الظرف، ثم نزعت خاتم العقيق فذهب الثلث الثاني، ونَسيتُ مع الأسف نونية ابن زيدون فذهب الظرف كله، وعدت لا أصلح إلا لمناوشة خلق الله من الكُتَّاب والشعراء والمؤلفين.

الأعقة والعقائق

الأعقة جمع عقيق، والعقائق كذلك جمع عقيق، ولكن لا يستوي الجمعان، فالعقيق يُجمع على عقائق حين يكون دالًّا على الخرز الأحمر الذي يتختم به الظرفاء، ويجمع على أعقة حين يكون بمعنى الوادي، والعرب تقول لكل مَسِيل ماء شقَّه السيل في الأرض فأنهره ووسعه: عقيق، فالأعقة هي الأودية، ومن ذلك قول الشاعر:

تربَّعُ ليلى بالمصيَّخ فالحمى
وتحفر من بطن العقيق السواقيا

وعقيق المدينة مشهور، وفيه يقول الشاعر:

إني مررت على العقيق وأهلُهُ
يشكون من مطر الربيع نُزُورا
ما ضرَّكم إن كان جعفرُ جاركم
أن لا يكون عقيقكم ممطورا

وهناك عقيق آخر يدفع سيله في غَوْرَيْ تهامة، ويظن ياقوت أنه المعنيُّ بقول أبي وَجْرة السعدي:

يا صاحبيَّ انظرا هل تؤنسان لنا
بين العقيق وأوطاس بأحداجِ

وهو الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه فقال: لو أهلّوا من العقيق كان أحبَّ إليَّ.

العقيق اليماني

وقد أكثر الشعراء من الحديث عن العقيق اليماني، وهم يريدون به بعض الأقطار النجدية؛ لأن أرض هوازن في نجد مما يلي اليمن، وإياه عنى الفرزدق حين قال:

ألم تر أني يوم جوِّ سُويقةٍ
بكيتُ فنادتني هُنيدة ما ليا
فقلت لها إن البكاء لراحةٌ
به يُشتَفَى مَن ظن أن لا تلاقيا
قفي ودِّعينا يا هُنيد فإنني
أرى الركب قد ساموا العقيق اليمانيا

وفي العقيق اليماني يقول الشريف الرضيّ:

أقول لركب رائحين لعلكم
تحلُّون من بعدي العقيق اليمانيا
خذوا نظرة مني فلاقوا بها الحمى
ونجدًا وكثبان اللوى والمَطاليا
ومُرُّوا على أبيات حيٍّ برامةٍ
فقولوا لديغٌ يبتغي اليوم راقيا
عَدِمتُ دوائي بالعراق فربما
وجدتم بنجدٍ لي طبيبًا مداويا

عقيق المدينة

وفي عقيق المدينة يقول سعيد بن سليمان يتشوق إليه وهو في بغداد، ويذكر غلامًا له اسمه زاهر ابتلاه الزمن بمحادثته بعد فراق الأحباب:

أرى زاهرًا لما رآني مُسهَّدًا
وأنْ ليس لي من أهل بغدادَ زائرُ
أقام يعاطيني الحديث وإننا
لمختلفان يوم تُبْلَى السرائرُ
يحدثني مما يجمِّع عقلهُ
أحاديث منها مستقيمٌ وحائرُ
وما كنت أخشى أن أرانيَ راضيًا
يعللني بعد الأحبة زاهرُ
وبعد المصلى والعقيق وأهلهِ
وبعد البلاط حيث يحلو التزاورُ
إذا أعشبتْ قُريانُهُ وتزينت
عِراصٌ بها نبتٌ أنيق وزاهرُ
وغنَّى بها الذبان تغزو نباتها
كما واقعت أيدي القيان المزاهرُ

وقد عاد العقيق على الزمن اسمًا شعريًّا يتحدث عنه الشعراء من حيث لا يعرف أحد أي عقيق يقصدون، وانظر قول بعض الأعراب:

أيا نخلتَيْ بطن العقيق أمانعي
جنى النخل والتين انتظاري جناكما
لقد خفت أن لا تنفعاني بطائلٍ
وأن تمنعاني مُجتَنَى ما سواكما
لَوَ انَّ أمير المؤمنين على الغنى
يحدَّث عن ظليكما لاصطفاكما

وقال البحتري:

قد أرتك الدموعُ يوم تولت
ظُعُنُ الحيِّ ما وراء الدموعِ
عبرات ملء الجفون مَرَتْها
حُرَقٌ للفراق ملء الضلوعِ
فرقةٌ لم تدعْ لعينيْ محبٍّ
منظرًا بالعقيق غير الربوعِ

وقال السريّ الرفاء:

مررنا بالعقيق فكم عقيقٍ
ترقرق من محاجرنا فذابا
ومن مَغْنًى جعلنا الشوق فِيهِ
سؤالًا والدموع له جوابا
وفي الكلل التي غابت شموسٌ
إذا شهدت ظلام الليل غابا
حملت لهن أعباء التصابي
ولم أحمل من السلوان عابا
ولو بَعُدتْ قِبابك قابَ قوسٍ
من الواشين حيين القبابا

بين نجد والعقيق

وقد طار الشعر كل مطار بالحديث عن نجد والعقيق، وإن لم يكن نجد ولا عقيق، وأروع ما قرأنا في الارتياح إلى هذين الوطنين قول أعرابية كانت تسكن عقيق المدينة ثم حُمِلتْ إلى زوجها في نجد:

إذا الريح من نحو العقيق تنسَّمتْ
تَجَدَّد لي شوق يضاعف من وجدِي
إذا رحلوا بي نحو نجدٍ وأهلهِ
فحسبي من الدنيا رجوعي إلى نجدِ
٢٨ رجب سنة ١٣٥٢ﻫ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤