كلماتٌ للدرس والتحقيق

لما صودر كتاب تاريخ بغداد حزنت حزنًا شديدًا، وكان أول ما فكرت فيه نسختي التي لم أتسلم منها إلا جزءًا واحدًا مع أني دفعت من ثمن الكتاب مبلغًا يقسم على ٢ وعلى ٤ وعلى ١١، ولناشر الكتاب أن يذكر هذا حتى لا يضيع على الموقِّع فيه أدناه ما أنفقه من المال!

ثم أخذت أفكر في السبب الذي من أجله صودر الكتاب، وهو إثبات ما قيل في هجاء أبي حنيفة، وتذكرت أني كنت جمعت أشياء كثيرة مما هوجم به الشافعي رحمه الله استعدادًا لكتاب شرعت في وضعه نقدًا لمذهبه، وكان ذلك يوم نشرتُ كتاب (الأخلاق عند الغزالي) الذي استقبله علماء الأزهر الشريف استقبالًا يثبط العزائم ويشلّ النشاط. وقد اتفق — مع الأسف — أني غيرت ذلك الميدان وانصرفت بعض الانصراف عن دراسة التشريع الإسلامي، وأقبلت كل الإقبال على دراسة الأدب الخالص حيث لا نصطدم إلا قليلًا بعقائد الناس.

واليوم أريد أن أدون بعض الملاحظات بمناسبة كتاب تاريخ بغداد. وأذكر أولًا أن أظهر مَحمدة عُرف بها الإسلام هي التسامح في معارضة المفكرين. والذي يراجع كتاب «الإسلام والنصرانية» لفقيد العلم والدين الشيخ محمد عبده يرى أن المؤلف حصر هجومه على النصرانية في سرد ما عُرف عن النصارى من معارضة الآراء والمعتقدات، وإحراقهم لكتب الفلسفة، وتشتيتهم لجماهير المفكرين. وفي مقابل ذلك اهتم المؤلف بإظهار سماحة الإسلام وأهله في معاملة أحرار الفكر والعقل والوجدان.

فإذا استطاع اليوم أحدٌ أن يقاوم المؤلفات والمؤلفين، وأن يستعين الحكومة في مصادرة ما لا يروقه من المطبوعات، ومضايقة من لا يرضى عنه من الباحثين، فسيُفتَح للإسلام تاريخ جديد في العدوان على الحرية الفكرية لا يُقاس به ما عُرف عن النصرانية في قديم الزمان؛ لأن النصرانية كانت تعتدي على أحرار الفكر يوم كانت أوربا تَعْمَهُ في غيِّ الهمجية، ولا كذلك نحن اليوم؛ لأننا نعيش في القرن العشرين، عصر العلم والنور فيما تذكر الجرائد والمجلات!

وأذكر ثانيًا أن هذا الذي نشاهده قد يكون دليلًا على انحطاط الشرق في هذه الأيام؛ لأن الإسلام لم يتسامح مع أحرار الفكر إلا حين كان الشرق عزيزًا قويًّا، ولم تعتد النصرانية على أحرار الفكر إلا يوم كان الغرب جاهلًا ضعيفًا. وعلى هذا الأساس لا يكون للديانات دخلٌ في تقدير الحرية الفكرية، وإنما المسألة ترجع إلى العلم والجهل، فلينظر قومٌ أين يضعون أنفسهم بعد هذا البيان!

واذكر ثالثًا أن من الخير كل الخير أن نعرف ما نُسب إلى بعض الأئمة من الهفوات؛ لأنهم يتكلمون باسم الدين، مع أنه قد يتفق أن يضع أحدهم القاعدة وهو مأخوذ من حيث لا يشعر بحالته النفسية. ومثال ذلك ما اشتهر عن أحد المجتهدين من تحليل النبيذ، فهو في رأيي لا يعبر في هذه المسألة عن الشرع الشريف، وإنما يعبر عن حالته النفسية، فقد كان عرف الشراب في صباه، وكانت له مجالس حفظها عليه حَمَّاد عَجْرَد حين قال، وقد تكدر ما كان بينهما من صفاء:

إن كان نُسْكك لا يَتِمُّ
بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي حيث شئـ
ت مع الأداني والأقاصي
فلطالما زكَّيتَني
وأنا المقيم على المعاصي
أيام نشربها ونسكرُ
من أباريق الرصاصِ

وأرجو القارئ أن لا يشتط في مؤاخذتي على هذا التأويل؛ لأني مقتنع بأن بعض المشرِّعين يأخذون كثيرًا من أهوائهم الشخصية وهم يضعون القواعد الاجتماعية، ومن الخير أن نُرجع أغلاط الأئمة إلى مذاهبهم في فهم الحياة قبل أن نرجعها إلى الشرع الشريف.

مثال آخر: الإمام الشافعي يرى «أن لمس المرأة عمدًا أو سهوًا ينقض الوضوء»، وهذه مسألة فرغ من بحثها الشافعية، وأستاذنا الشيخ الظواهري يعرفها جيدًا، فهل يسمح القارئ أن أدله على السبب الذي من أجله تشدد الشافعي في التحرز من لمس المرأة؟

الذي أراه أن ذلك يرجع إلى حالة نفسية عند الشافعي رحمه الله، فقد كان يعتقد أن الرجل ضعيف جدًّا بجانب المرأة، وأنها خليقة بأن تنقله من الهدى إلى الضلال. وقد اتفق له رحمه الله حين انتقل من العراق إلى مصر أن رأى المرأة المصرية من أخطر أسباب الغي والفتون، وأُثِر عنه أنه قال: «من لم يتزوج بمصرية فليس بمحصَن»، وقد سرى رأيه في البيئات المصرية إلى هذا اليوم. وأهل الريف من المنوفية إذا أرادوا الحط من شأن امرأة وصفوها بأنها لا تنقض الوضوء، يريدون أنه لا أنوثة فيها على الإطلاق.

كيف نشأت المذاهب؟

والفصول التي قَبِلَ حذفها الخانجي أفندي من تاريخ بغداد قد تكون من أظهر ما يشرِّف المسلمين؛ لأن النقد الذي وُجِّهَ إلى الأئمة يدل على أنه كانت هناك حياة عقلية، وكان هناك ناس لا يقبلون كل ما يُقدَّم إليهم من أصول التشريع. وأبو حنيفة قوبل مقابلة عنيفة في حياته، وعُورض مذهبه بعد وفاته، وأدق ما هوجم به قول حفص بن غياث وقد سُئل عنه: «أعلم الناس بما لم يكن، وأجهل الناس بما كان». يُريد أنه كثير الاهتمام بوضع الفروض والاحتمالات. ولو تأملنا قليلًا في العداوات التي ثارت بين أصحاب المذاهب لرأيناها كانت جزيلة النفع، وأظهرها ما كان بين الحنفية والشافعية؛ فقد حملتْ أتباع المذهبين على التعمق في البحث والاستقراء، وعادت على الفقه الإسلامي بالنفع الجزيل. وأمتع الساعات في الترويح عن النفس هي الساعات التي نقضيها في مراجعة الخلافات المذهبية حيث تتناحر الآراء، وتتصاول العقول. والأدب العربي من أغنى الآداب في هذا الباب؛ ففي منافرات النحاة والفقهاء والمتكلمين مُتَعٌ عقلية لا تفنى جِدتها عند من يفهمون النحو والفقه والتوحيد.

وهنا مسألة لا مَفَرَّ من عرضها على القراء، وهي الأسباب التي قضت لبعض المذاهب بالنباهة وقضت على بعضها بالخمول. ومن المحزن أن نقرر أن القوة كل القوة كانت للسياسة والمال: فأظهر الأئمة لم يكن أكثرهم علمًا، ولكن كان أكثرهم مالًا وجاهًا، وإن شئت فقل: كان أظهر الأئمة هو أكبرهم منزلة عند السلطان.

ومن المُوجِع أنه كان للمصريين إمام عظيم ضاع علمه وفقهه لقلة الجاه والمال: وهو الليث بن سعد الذي وُلد في قلقشندة بالقرب من قليوب سنة ٩٤، وتُوفي سنة ١٧٥، وقد وصفه الإمام الشافعي بقوله: «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به».

وهؤلاء «الأصحاب» نحن نعرفهم؛ فهم التلامذة الذين لا يرعون أستاذهم إلا إن كان ذا جاه وذا مال!

أين مقام مالك؟

وبمناسبة هذا الكلام نذكر — والحديث ذو شجون — أننا شهدنا اثنين يتنازعان مرة في المفاضلة بين الشافعي ومالك، إلى أن قال أحدهما وقد حَمِيَ الوطيس: كيف تفضل مالكًا على الشافعي مع أن للشافعي (مقامًا) نعرفه وليس لمالك (مقام) معروف؟

والمقام هنا هو «القُبة» العالية التي يستريح في ظلها رفات الشافعي محمد بن إدريس، والناس لا يُذكرون في مصر إلا إن أقيمت فوق قبورهم القباب!

وكنت قرأت منذ سنين رسائل المرحوم مصطفى كامل إلى المدام جولييت آدم، ومنها رسالة بمناسبة مَنْحِه رتبة الباشوية، وهي رسالة فيها فرح وابتهاج، وقد رأى رحمه الله أن من الصغار أن يفرح بالرتب والألقاب؛ ولهذا علل فرحه في ختام تلك الرسالة بأن للرتبة قيمة عظيمة في تقريبه إلى القلوب؛ لأن أهل مصر قد يتشيعون بلا رأي ولا بصيرة إلى أصحاب الرتب والألقاب!

وللقارئ أن يُجيب بدون مواربة: أكان مصطفى كامل باشا يقابل بما قوبل به يوم أسس الحزب الوطني لو كان (مصطفى أفندي كامل)؟

إن الدنيا هي الدنيا والناس هم الناس، ويا ويل من جمع بين غِنى الرأس وفقر الجيب في أرض يُقدَّم فيها أغنياء الجيوب على أغنياء الرؤوس!

٥ أغسطس ١٩٣٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤