مقدّمَة١

بقلم  كامل كيلاني
أول يناير سنة ١٩٤٠م

١

أَيُّها الصبيُّ العزيزُ:

حَدَّثْتُك في مُقدِّمةِ القصَّةِ الأُولى — من هذه المجموعة — بما اسْتَولَى على نفسِي مِن التردُّدِ والحَيْرَةِ حينَ همَمْتُ بتقديمِ قِصةِ «ابنِ يَقْظَانَ» التي يسَّرْتُها لك، وأَدنَيْتُها إلى فهمكَ، فأَقبلتَ عليها مبتهِجًا راضيًا. ولعلَّك تَذْكُر، ما أَفْضَيْتُ به إِليكَ في مقدِّمَتِها، مِن أَنَّنِي وقفتُ — حينئذٍ — طويلًا، فلم أَدْرِ بأَيِّ المجموعتينِ أُلْحِقُها.

أَبِالْقِصَصِ العلميةِ، أَمِ بِالْقِصَصِ العربيةِ؟ ثُم انتهيتُ إِلى إلحاقِها بالقِصَصِ العربيةِ؛لأَنها — كما قلتُ لكَ — عَريقةٌ بتفكيرها وخيالِها في العُروبةِ.

٢

فلمَّا همَمْتُ بإِظهارِ هذه الرِّحلةِ لَكَ، عَرَضَ لي مِثلُ هذه الأَسئلةِ، إِنَّ هذه الرحلةَ الشَّائقةَ هِيَ — في مجموعها — من أَبرعِ الكتبِ الجُغْرافيَّةِ وأَحْسَنِها طريقةً، وأَهْداها أُسلوبًا في ترغيبِ الناشِئَةِ، وتعْريفهم تَقْويمَ البُلْدانِ. فهل أُلحِقُها بما أَظهرتُهُ لكَ من القصصِ الجغرافيّةِ؟

وفيها كثيرٌ من الشَّبَهِ بِالْقِصَصِ العالَمِيَّةِ التي اخترتُها لك، فهل أُلحقُها بمجموعةَ «أَشهرِ القصصِ»؟ وقد كانتْ حافِزَةً لابن بَطُّوطةَ على إِظهارِ رحلته الشائقةِ الَّتِي وعدتُك بتلخيصها منذُ أَعوامٍ، فلمَّا أَعدَدْتُها لك، لم أَرَ بدًّا من إِرجائِها حتَّى تقرأَ هذهِ الرِّحْلةَ المعجِبَةَ التي أَلْهمَتْ ابنَ بَطُّوطَةَ بدائعَ مِنْ معانيهِ الرائعةِ.

وهي قد مثَّلَتْ عَصْرَ «صلاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ» وَصَوَّرَتْ نَواحِيَ تاريخيَّةً مِنْهُ، لا ينبغي أَن يَجْهَلَها طالبٌ في المدارسِ الثَّانَوِية — في مِثل سنِّكَ وثقافَتِكَ — فهل أَفتتحُ بها المجموعةَ التاريخيَّةَ التي أَعدَدْتُها لك؟

٣

عَلَى أَنِّنِي قدِ انْتَهيْتُ إِلَى إِلحاقِها بالقِصَص العربيَّةِ؛ لأَنَّها كسابِقَتِها آيةٌ من روائع الفنِّ العربيِّ والتفكيرِ العربيِّ.

وقد جَمَعتْ هذه الرِّحلةُ في بعضِ فُصُولِها المُبْدَعةِ — إِلى ما حدَّثْتُكَ به من المَزَايا — أَفَانِينَ مِن صدقِ التعبيرِ، وبراعةِ التصويرِ، واستفاضةِ الوصفِ، وأَصَالَةِ التفكيرِ، وطَوَّعَتْ من المَعاني المُسْتَعْصِيَةِ، وجَلَتْها في أَحسنِ مَعْرِضٍ، وأَشرَفِ صياغةٍ، وافْتنَّ فيها مُبْدِعُها ما وسِعَهُ طَبْعُه المَوْهُوبُ وخيالُهُ الخِصْبُ.

وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّ هذِهِ الرحلَةَ سَتُكْسِبُكَ — إِن شاءَ اللهُ — قُدرةً على البيانِ، وتمكُّنًا من فنِّ الإِنشاءِ، وسَتَزْدَادُ ثقافَتُكَ الفكريِّةُ والجغرافيةُ والدِّينيَّةُ والتاريخيةُ واللُّغَويةُ كُلَّما أَمْعَنْتَ النَّظَر، وأَطلتَ الرَّوِيَّةَ في تَفَهُّمِها، واسْتيعابِ طُرَفِها المُسْتَمْلَحةِ قراءَةً وتفكيرًا.

٤

وقد كَتبَ هذهِ الرحلةَ المُعجِبَة «أَبو الحُسَيْنِ محمدُ بنُ جُبيْرٍ الأَندلسِيُّ»، وهُو من «غَرناطَةَ» إِحْدى حَواضِرِ الأَنْدلُسِ الَّتِي ازْدَانَتْ بكَثيرٍ مِنْ بَدائِعِ الآثارِ، وَلا سِيَّما قَصْرُ الْحَمْراءِ الَّذِي تَرى مَشْهَدًا مِنه في هذه الصُّورَةِ.
figure
وقدِ ابتدأَ «ابْنُ جُبَيْرٍ» رِحْلَتَهُ هذهِ مِنْ «غَرْناطةَ». وكانَ أَوَّلُ تقييدِه لها كما قال: «يومَ الْجُمُعَةِ المُوفِي ثلاثينَ لشهرِ شَوال سنةَ ثمانٍ وسبعينَ وخَمْسِ مئة٢ على متنِ البحرِ.

٥

وقد كان إِقبالُكَ على القصَّة العربيَّةِ السابقِةِ «حيِّ بنِ يَقْظانَ» حافِزًا لِي ومُشَجِّعًا على إِظهارِ هذه الرِّحلةِ — بعدَ أَنْ أَوْجَزْتُها وفصَّلْتُها وَعُنِيتُ بِتَبْوِيبِها وَتَيْسِيرِ أُسلوبها لكَ — حتى لا تَتَعثَّرَ — في أَثناء مطالعَتِها — بما يَنْبُو عنهُ ذوقُكَ الغَضُّ، من المَعانِي والعِباراتِ المغلَقةِ التي لا يكاد يَسْتَسِيغُها — في هذا العصرِ الحدِيثِ — من كانَ في مِثلِ سنِّكَ. وقدْ حذفتُ الفضولَ منها، وغَيَّرْتُ بعضَ أَلفاظِها وعِبارَاتِها حتى لا يتطَّرقَ السَّأَمُ إِلى نفسِكَ. ولكنَّنِي تَوَخَّيْتُ الاِقتصادَ في ذلك — ما وسِعَني الجَهْدُ — فلم أَحُلْ بينكَ وبينَ أُسْلوبِ المُؤلِّفِ إلاَّ قَلِيلًا.

أَمَّا بعدُ، فقد انتقلتُ بِكَ — أَيُّها الصبيُّ العزيزُ — في هذا الكتاب وسابِقِهِ إِلى مَرْحلةٍ جديدةٍ، راجيًا أَن تَأْلَفَ أُسلوبَ غيري من الكتَّابِ والمؤَلِّفِينَ، كما أَلِفْتَ أُسْلُوبِي — من قبلُ — في الأَعوام المَاضِيةِ.

وفَّقَنِي الله إلى نفْعكَ وتَعْليمكَ، ويسَّرَ اللهُ لكَ سبيلَ الاْنتفاعِ والتَّعَلُّمِ، ونَفَعَ الله بكَ وطنَكَ ولُغَتَكَ، إِنَّهُ أَكرمُ مسئُول.

١  نثبت في هذه الطبعة مقدمة الطبعة الأولى، كما أثبتناها في الطبعات السابقة.
٢  ٢٥ من فبراير سنة ١١٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤