الفصل الحادي عشر

بَيْن العِيدَيْن

(١) في محلَّة «مِنًى»

وفي يومِ السبْتِ — التاسعَ عَشَرَ من شَوَّال — صَعِدْنا إِلى «مِنًى» لمُشاهَدِةِ المَناسِكِ المُعظَمةِ بها، ولمُعايَنةِ مَنزِلٍ اكْتُرِي لنا فيها إِعدادًا للمُقامِ بها أَيامَ التَّشْرِيقِ (وهِيَ الأَيَّامُ الثَّلاثَةُ الَّتِي تلِي عِيدَ الأَضْحى)، إن شاءَ اللهُ، فأَلفَيناها تَملأُ النُّفوسَ بَهجةً وانْشِراحًا: مَدينَةً عظيمَةَ الآثارِ، واسعَةَ الاِختطاطِ، عتِيقةَ الوضْعِ، قد دَرَسَتْ إِلاَّ منازِلَ يَسيرَةً مُتَّخَذَةً للنُّزولِ، تَحُفُّ بجانبَيْ طريق مُمتدِّ الطُّولِ، كأَنه مَيدانٌ: انبساطًا وانفِساحًا.

(٢) مسجدُ البَيْعَةِ

فأَوَّلُ ما يَلْقَى المُتوجِّهُ إِليها — عن يسارِه وبِمَقْرَبة منها — مسجدُ البَيعَةِ المُبارَكِة التي كانت أَوَّلَ بَيعة في الإسلامِ، عقَدها العَباسُ رضي الله عنه للنَّبيِّ عَلَى الأَنصارِ.

(٣) جَمْرَة العَقَبةِ

ثُمَّ يُفضَى منهُ إلى «جمرةِ العَقبَةِ»، وهي أَوَّلُ «مِنًى» للمُتوَجِّهِ من «مكةَ»، وعن يَسارِ المارِّ إِليها. وهي عَلَى قارِعةِ الطَّريقِ، مُرْتفِعةٌ للمتراكِمِ فيها من حَصَا الْجَمَراتِ. ولَوْلا آياتُ اللهِ البيِّناتُ فيها لكانت كالْجِبالِ الرَّوَاسِي، لِما يجتَمعُ فيها عَلَى تَعاقُبِ الدُّهورِ وتوالِي الأَزمِنَةِ. لكنْ للهِ — عزَّ وجلَّ — فيها سرُّ كَريمٌ من أَسرارِه الخفِيَّاتِ. وعليها مَسجِدٌ مُبارَك، وبها علَمٌ مَنصوبٌ شِبهُ أَعلامِ الحَرمِ التي ذكَرناها، فيَجْعلُها الرَّامِي عن يَمِينِهِ، مُستقْبِلًا «مكةَ» — شَرَّفَها اللهُ — ويَرْمي بها سَبْعَ حَصَياتٍ. وذلك يومَ النَّحْرِ إِثْرَ طُلوعِ الشمْسِ. ثم يَنحَرُ أَو يَذبَحُ وَيحلِقُ. والمُحَلَّقُ (مَوْضِعُ حَلْقِ الرَّأْسِ) حَوْلَ «مَكَّة»، والمَنْحَرُ في كلِّ موضِعٍ من «مِنًى»، لأَنَّ «مِنًى» كلَّها مَنحَرٌ (مَذْبَحٌ).

وبعْدَ هذه الجَمْرةِ العَقَبيَّةِ موضعُ «الجَمْرَةِ الوُسطَى»، ولها أَيضًا عَلَمٌ منصوبٌ. بينَهما قَدْرٌ يسيرٌ. ثُمَّ بعدَها يُلقِي الجمْرَةَ الأُولى، ومسافُتها منها كمسافةِ الأُخْرَى.

(٤) رَمْيُ الجمَرات

وفي وَقتِ الزَّوَالِ من ثاني يومِ النَّحْرِ تُرْمَى في الأُولَى سبع حَصَياتٍ، وفي الوُسطَى كذلك، وفي العَقَبةِ كذلك؛ فتلك إحدَى وعِشرون حصاةً. وفي الثَّالثِ من يومِ النَّحْرِ — في الوقتِ بعَينِه — كذلك عَلَى التَّرتيبِ المذكورِ، فتلك اثنَتانِ وأَربعُونَ حَصاةً في اليومَينِ، وسَبْعٌ رُمِيَت في العَقَبَةِ يومَ النَّحْرِ، وَقتَ طُلوعِ الشَّمسِ كما ذكَرناه، فتلك تَكْمِلةُ تِسعٍ وأَربعَين جَمْرةً.

وَفِي إِثْرِ ذلك يَنْفصلُ الحاجُّ إلى «مكةَ» من ذلك اليومِ.

واختُصِرَ في هذا الزَّمانِ إحدَى وعِشرُونَ كانت تُرْمى في اليَومِ الرَّابعِ عَلَى ذلك التَّرتيبِ لاستِعجالِ الحَاجِّ، خَوفًا من العَربِ الشُّعْبيِّين (بنِي شُعْبَةَ)، إِلى غيرِ ذلك من مَحذُوراتِ الفِتَنِ، المُغيِّراتِ لآثارِ السُّنَنِ.

فمضَى العَمَلُ اليَومَ عَلَى تِسْع وأَربَعينَ حَصاةً. وكانت في القَدِيمِ سَبعينَ. واللهُ يَهَبُ القَبولَ لعبادِه.

والصادِرُ من «عَرفاتٍ» إِلى «مِنًى» أَوَّلُ ما يُلقِي: الجمْرةُ الأُولَى، ثم الوُسطَى، ثم جَمْرةُ العقَبةِ. وفي يَومِ النَّحْر تكُونُ جَمْرةُ العقَبةِ أُولَى مُنفَرِدةً بسبْعِ حَصيات — حَسْبَما تقدَّمَ ذِكْرُهُ — ولا يَشترِكُ معها سِواها في ذلك اليومِ. ثم في اليومَين بعدَه تَرجعُ الآخرةَ عَلَى التَّرتيبِ حَسْبَما وَصَفناه. وبعدَ الجمْرَةِ الأُولَى يُعَرِّجُ عن الطَّرِيق يَسيرًا ويلقَى مَنحَر الذَّبيحِ حيثُ فُدِيَ بالذَّبْحِ العظيمِ. وعَلَى المَوْضعِ المُبارَكِ مَسجدٌ مَبنِيّ، وهو بمَقْرَبَة من سَفْحِ جَبلِ «ثَبِير».

(٥) مسجد الخَيْفِ

ويُفْضَى من ذلك إلى مسجدِ «الخَيْفِ»، وهو آخِرُ «مِنى» في تَوجُّهِكَ (أَعنِي آخِر المَعمورِ منها بالبُنْيانِ)، وأما الآثارُ القديمةُ فآخِذَةٌ إِلى أَبعدِ غايةٍ أَمامَ المَسجِدِ. وهذا المَسجِدُ المُبارَكُ متَّسعُ الساحَةِ كأَكبَرِ ما يكونُ من الجوامعِ، والصَّوْمعةُ وسَطَ رَحْبَةِ المَسجدِ. وله في القِبْلَةِ أَرْبعُ بَلاطاتٍ يَشملُها سَقفٌ واحدٌ. وهو منَ المساجِدِ الشهيرَةِ: بركةً وشرف بُقْعَةٍ. وكَفَى ما وَرَدَ في الأَثَرِ الكريمِ من أن بُقْعَتَهُ الطَّاهِرَةَ مَدْفِنُ كثيرٍ من الأَنْبِياءِ، صلواتُ الله عليهم.

وبِمَقْرَبةٍ منهُ — عن يَمِينِ المارِّ في الطريقِ — حَجَرٌ كبيرٌ مُسْنَدٌ إلى سَفْح الجَبَل، مُرْتَفِعٌ عنِ الأَرْضِ يُظِلُّ ما تَحْتَهُ. ذُكِرَ أَنَّ النبيَّ قَعَدَ تحتهُ مُسْتَظِلًا.

(٦) العودُة إلى «مكةَ»

فلمَّا قَضَيْنا مُعايَنَةَ هذه المَشاهِدِ الكريمَةِ أَخَذْنا في الانصرافِ مُسْتَبْشِرِينَ بِما وَهَبَنا اللهُ من فَضْلِهِ في مُباشَرَتِها، ووَصَلْنا إِلى «مكةَ» قريبَ الظُّهر، والحمدُ للهِ على ما منَّ به.

(٧) غار حراءَ

وفي يومِ الأَحَدِ المُوفِي عِشرينَ لِشَوَّالٍ صَعِدْنا إلى الجَبَلِ المُقَدَّسِ «حِراءَ»، وتبرَّكْنا بمُشاهَدَةِ الغارِ في أَعلاهُ الذي كان النبيُّ يتعبَّدُ فيه، وهو أَوَّلُ موضعٍ نزلَ فيهِ الوحيُ عليه.

(٨) صلاة الاستسقاءِ

وفي ضَحْوَةِ يومِ الثُّلاثاءِ الثاني والعِشْرِينَ منه اجتَمَعَ الناسُ كافةً للاسْتِسْقاءِ تُجاهَ الكعبةِ المعُظَّمَةِ، بَعد أن نَدَبَهُمُ القاضي إلى ذلك، وحَرَّضَهُم على صيامِ ثلاثةِ أَيَّامٍ قَبْلَه. فاجتَمَعُوا في هذا اليومِ الرابعِ، وقد أَخلَصُوا النِّيَّاتِ للهِ عزَّ وجلَّ. وبَكَر الشَّيْبِيُّونَ ففتَحوا البابَ المُكَرَّم من البيتِ العتيق. ثُمَّ أَقبلَ القاضي بينَ رايتَيْهِ السوْداوَيْنِ لابسًا ثيابَ البَياضِ، وأُخْرِجَ مَقامُ الخليل إِبراهيمَ ، وَوُضِعَ على عتَبةِ بابِ البيْتِ المُكرَّمِ، وأُخرِجَ مُصحَفُ «عثمان» رضيَ اللهُ عنهُ — من خِزانَتِهِ، ونُشِرَ بإِزاءِ المَقامِ المُطَهَّرِ، فكانتْ دَفَّتُهُ الواحِدةُ عليهِ، والثَّانيَةُ على الباب الكريمِ.

ثُمَّ نُودِيَ في النَّاسِ بالصَّلاةِ جامعةً. فصلَّى الْقاضى بهِم — خَلْفَ موضِعِ المَقام المُتَّخَذِ مُصَلًّى — رَكعتَيْنِ، قرأ في إِحْداهُما بِسُورَةِ «سَبِّح اسْمَ رَبِّك الأَعْلَى»، وفي الثانية بِسُورَة «الغَاشِيَةِ»، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ — وقد أُلْصِقَ إلى مَوْضِعِهِ المَعْهُودِ من جدارِ الكَعْبَةِ المُقدَّسَةِ — فَخَطَب خُطْبةً بليغةً والَى فيها الاستغفارَ، ووَعَظ الناسَ وذكَّرَهُم وخَشَّعَهُم، وحَضَّهُم على التَّوْبةِ والإِنابةِ للهِ — عزَّ وجلَّ — حتَّى نَزَفَتْ دَمْعَها العُيونُ، واستَنْفَدَتْ ماءَها الشُّؤُونُ، وعَلا الضَّجِيجُ، وارتفَعَ الشَّهِيقُ والنَّشِيجُ؛ وحوَّل رِداءَهُ، وحوَلَ النَّاسُ أَردِيَتهُمْ، اتِّباعًا للسُّنَّةِ.

(٩) أَيام الاستسقاءِ

ثُمَّ انْفَضَّ الجَمْعُ راجينَ رَحمةَ اللهِ، غيرَ قانِطينَ منها، واللهُ يتلافَى عِبادَه بِلُطْفِهِ وكَرَمِهِ. وتَمادَى اسْتِسْقاؤُه بالنَّاس ثلاثةَ أَيَّام متَواليَةٍ — عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ — وقد نالَ الجَهْدُ (المَشَقَّةُ) من أَهل الْحِجازِ وأَضَرَّ بهم القَحْطُ، وأَهْلَكَ مَواشِيَهم الجَدْبُ. لم يُمْطَروا في الرَّبِيعِ، ولا الخريفِ، وَلا الشِّتاءِ، إِلاَّ مَطرًا طَلًا (قَلِيلًا) غيرَ كافٍ ولا شافٍ. واللهُ لَطيفٌ بعبادِه، غيرُ مُؤاَخِذِهم بِجَرائِمِهمْ، إِنَّهُ الحَنَّانُ المَنَّانُ.

(١٠) على جبل «ثوْر»

وفي يومِ الْخميسِ الرَّابِعِ والعشرينَ من شوَّال صَعِدْنَا إِلى جَبل ثَوْرٍ لِمُعايَنةِ الغارِ المُبارَكِ الذي أَوَى إِليه النبيُّ مع صاحبهِ الصِّدِّيقِ — رَضيَ اللهُ عنهُ — حَسْبَما جاءَ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ العزيزِ، وقد ولَجْنا هذا الغارَ. وهذا الجبلُ صَعْبُ المُرْتَقَى جدًّا يُقَطِّعُ الأَنْفاسَ تَقْطيعًا، لا يكادُ يُبْلَغُ مُنْتهاهُ إِلاَّ وقد أُلْقِيَ بالأَيْدِي إِعْياءً وكَلالًا، وهُو من «مكةَ» عَلَى مِقدار ثلاثةِ أَميالٍ.

وفي يومِ الجُمُعةِ بعدَه، وَصلَ السَّرْوُ اليمنِيُّونَ في عَدد كثير مُؤَمِّلين زِيارَةَ قبْرِ الرَّسولِ، وجَلبوا مِيرَةً (زادًا) إلى «مكةَ» عَلَى عادَتِهم. فاسْتَبْشَرَ الناسُ بقُدومهمُ اسْتِبْشارًا كثيرًا، حتى إنَّهم أَقاموهُ عِوَضَ نُزولِ المَطرِ. ولطائِفُ اللهِ لسكانِ حَرَمهِ الشريفِ واسعةٌ، إِنهُ — سُبْحانهُ — لطيفٌ بعبادِه، لا إِله سِواهُ.

(١١) مولد النبي

استهلَّ هلالُ ذِي القَعْدَةِ ليلةَ الأَرْبِعاءِ. وهذا الشهرُ المُبارَكُ ثانِي الأَشهُرِ الحُرُمِ وثاني أَشهُرِ الحَجِّ. وفي يومِ الإثنين — الثالثَ عشرَ منهُ — دخلْنا مولدَ النبيِّ، وهو مسجدٌ حفيلُ البُنْيانِ، وكانَ دارً لعبدِ الله بنِ عبدِ المُطَّلب: أَبي النبيِّ. ومولدُه شِبْهُ صَهْرِيجٍ صغير سَعَتُه ثلاثةَ أَشْبار، وفي وَسَطِه رُخامةٌ خَضْراءُ سَعَتُها ثُلُثا شِبرٍ مُطوَّقةٌ بالفِضَّة. فتكونُ سَعَتُها — مع الفِضَّةِ المُتَّصِلَةِ بها — شِبْرًا. وهوَ مَسْقَطٌ لأَكْرَمِ مولود عَلَى الأَرْض، ومَمَسٌّ لأَطهَر سُلالَةٍ وأَشْرَفها. وبإِزائِهِ مِحْرابٌ حفيلُ القَرْنَصَةِ (كَثيرُ الزُّخْرُفِ) مرسومةٌ طُرَّتُه (جانِبُهُ المُقَدَّمُ) بالذَّهَبِ. وهذا المَوْضِعُ المُبارَكُ هو شَرْقِيُّ الكعبةِ مُتَّصِلٌ بِسفْحِ الجَبَل. ويُشْرِفُ عليهِ بمَقْرَبةٍ منهُ جبلُ «أَبي قُبَيْس» وعَلَى مقرَبة منهُ أيضًا مسجِدٌ مكتوبٌ عليهِ: هذا المَسجدُ هوَ مولودُ عليِّ بن أبي طالب رضوانُ اللهِ عليه، وفيه تَرَبَّى رسُولُ اللهِ وكانَ دارًا ﻟ«أَبي طالبٍ» عمِّ النبيِّ وكافِلِهِ.

(١٢) قبة الوحي

ودخلتُ أَيضًا دارَ «خَديجةَ» الكُبرَى — رَضْوانُ اللهِ عليها — وفيها قُبَّةُ الوَحْيِ. وفيها أَيضًا مَوْلِدُ «فاطمةَ» —رضي الله عنها — وهو بيتٌ صغيرٌ مائِلٌ للطُّولِ. والمَوْلِدُ شِبْهُ صِهْرِيجٍ صَغِيرٍ، وفي وَسَطِهِ حَجَرٌ أَسْوَدُ. وفي ذلك البيتِ موْلِدُ «الحسَنِ» و«الْحُسَيْنِ» ابنَيْها — رضيَ اللهُ عنهما — وهُوَ لاصِقٌ بالجدارِ؛ ومَسْقَطُ شِلْوِ «الحَسَن» لاصِقٌ بِمَسْقَطِ شِلْوِ الحُسَينِ (والشِّلْوُ: الْجَسَدَ).

وعليهما حجرانِ مائِلانِ إلى السوادِ، كأَنَّهما علامَتانِ لِلْمَوْلِدَيْنِ.

(١٣) مواطنُ كريمَةٌ

وفي الدارِ المُكرَّمةِ أَيضًا مُخْتَبَأُ النبيِّ شَبِيهُ القُبَّةِ. وفيهِ مَقْعَدٌ في الأَرْضِ عميقٌ شَبيهُ الحُفْرَةِ، داخلٌ في الجدارِ قليلًا. وقد خرجَ عليه منَ الجدارِ حجرٌ مبْسوطٌ، كأَنَّه يُظِلُّ المَقْعَدَ. قيلَ إِنهُ الحجرُ الذي غَطَّى النبيَّ عند اختبائِهِ في ذلك المَوضِعِ. وعَلَى كلِّ واحد — من هذه المَوالِيد — قُبَّةُ خَشَبٍ صغيرةٌ تصونُ المَوضِعَ، غيرُ ثابتةٍ فيهِ، فإِذا جاءَ المُبْصِرُ لها نَحَّاها، ولَمَسَ الموضِعَ الكريمَ، وتَبَرَّك بهِ، ثم أَعادها عليه.

(١٤) زعيم الشَّيْبِيِّينَ

وفي يومِ الْجُمُعَةِ — الرابعِ والعِشْرِينَ من ذِي القَعْدَة — نَفَذَ أَمْرُ الأَميرِ «مُكًثِرٍ، بالقَبْضِ عَلَى زعيمِ الشَّيْبِيِّينَ «مُحمدِ بن إِسماعيل»، وانتهاب منزلِهِ وصرْفِهِ عنْ حِجابَةِ البيتِ الحرامِ. وذلك لِهَناتٍ (لأَشْياءَ) نُسِبَتْ إِليهِ، لا تليقُ بِمَن نِيطَتْ به سِدَانَةُ البيتِ العتيقِ (ومَنْ يُرِدْ فيهِ بِإلحادٍ بظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ). أَعاذَنا الله من سُوءِ القَضاءِ، ونفوذِ سِهامِ الدُّعاءِ. وفي هذهِ الأَيامِ السالِفَةِ من الشهر المَذكورِ توَالى مَجيءُ السَّرْوِ اليَمَنيِّينَ — في رِفاق كثيرة — بالمِيرَةِ من الطَّعامِ وسواهُ، وضُروبِ الإدامِ والفواكِهِ اليابِسَةِ، فأَرْغَدُوا البَلَدَ (وسَّعُوا أَرزاقه وأَخْصبُوه). ولَوْلاَهُم لكانَ من اتِّصالِ الجَدْبِ وغَلاءِ السِّعْرِ في جَهْدٍ ومَشَقَّةٍ، فَهُمْ رحمةٌ لهذا البَلَدِ الأَمِين.

(١٥) زُوَّار «طَيْبَةَ»

ثُمَّ تَوَجَّهُوا إِلى زِيارَةِ التُّرْبَةِ المباركةِ «طَيْبَةَ» مَدْفِنِ رسولِ الله ، ووصلوا في أَسْرَعِ مُدَّةٍ. قطَعُوا الطَّريقَ من «مَكَّة» إِلى «المَدينَةِ» في أَيَّامٍ يَسِيرةٍ، ومن صَحِبَهم من الحاجِّ حَمِدَ صُحْبَتَهُمْ.

(١٦) أَفواج اليمن

وفي أَثْناءِ مغِيبِهم وَصَلَتْ منهم طوائِفُ أُخَرُ للحجِّ خاصَّةً — لضيق الوَقْتِ عنِ الزِّيارة — فأَقامُوا ﺑ«مكةَ»، ووصلَ الزُّوارُ منهم، فضاقَ بهم المُتَّسَعُ. فلمَّا كانَ يومُ الإثْنَيْن — السَّابعِ والعِشْرِينَ من الشهر — فُتِحَ «البَيْتُ العَتِيقُ»، وتَولَّى فَتْحَه من الشَّيْبِيِّينَ ابنُ عم الشَّيبيِّ المَعْزُولِ، وهوَ أَمْثَلُ طريقةً منه على ما يُذْكَرُ.

فازدَحمَ السَّرْوُ للدُّخولِ، عَلَى العادَةِ. فجاءُوا بأَمرٍ لم يُعْهَد فيما سلَف: يَصعَدُون أَفْواجًا حتى يَغَصَّ البابُ الكريمُ بهم، فلا يَسْتَطِيعونَ تَقَدُّمًا ولا تأَخُّرًا، إِلى أن يَلِجُوا على أَعْظَمِ مَشَقَّة. ثُمَّ يُسْرِعُونَ الخروجَ فيضيقُ البابُ الكريمُ بهم. فينحدِرُ الفوجُ منهم على المَصْعَدِ، وفوجٌ آخَرُ صاعدُهُ، فيلْتَقِيه وقد ارتبَطَ بعضُهم إلى بعضٍ. فرُبَّما حُمِل المُنْحَدِرُون في صُدُورِ الصَّاعِدِينَ، وربَّما وقَفَ الصَّاعِدُونَ للمُنْحَدِرينَ وتضاغَطُوا إِلى أَن يَميلوا، فيقعَ البعضُ على البعضِ. فيُعاينُ النَّظَّارَةُ منهم مَرْأًى هائِلًا. فمنهم سَلِيمٌ ومنهم غيرُ سليمٍ.

وأَكْثرُهم إِنَّما ينْحَدِرون وَثْبًا عَلَى الرءُوسِ والأَعناقِ.

(١٧) أَعجب ما رأَينا

ومن أعجبِ ما شاهَدْناهُ في ذلك اليَوْم أَن صَعِدَ بعض من الشَّيْبِيِّينَ — في أَثناءِ ذلكَ الزِّحامِ — يَرُومُون الدُّخُولَ إِلى البَيْتِ الكريمِ. فلَمْ يَقدِرُوا على التخلُّصِ، فتعلَّقوا — منْ عَضادتَيِ البابِ (وهُما: خَشَبتاهُ مِنْ جانِبه) — بأَسْتارِ حافَتَيْهِما. ثُمَّ إِنَّ أَحدَهُم تَمَسَّكَ بإِحْدَى الشَّرائِطِ القِنَّبِيَّةِ (الكَتَّانيَّةِ) — وهذه الشَّرائطُ مُمْسِكة للأَستار — إِلى أن علاَ الرُّءُوسَ والأَعناقَ فوطِئَها، ودخلَ البيْتَ فلَم يَجِدْ مَوْطِئًا لِقَدَمِه سِواها، لِشِدَّةِ ازدحامِهم، وتَراصِّهِمْ وتَراكُمِهِم، وانْضِمامِ بَعْضِهِم إلى بَعْضٍ.

وهذا الجَمْعُ الذي وَصلَ منهُمْ في هذا العامِ لم يُعْهَدْ قَطُّ مِثْلُهُ فيما سلَف من الأَعوام.

ولله القُدْرَةُ المُعْجِزَةُ.

(١٨) إِحرام الكعبة

وفي هذا اليومِ (الذي هو السابعُ والعِشرُونَ من ذِي القَعْدَةِ) شُمِّرَتْ أَسْتارُ الكعبَةِ المُقَدَّسَةِ إلى نَحْوِ قامَةٍ ونصفِ قامةٍ — من الجُدْر — من الجوانبِ الأَرْبَعَةِ. ويُسَمُّونَ ذلك إحْرامًا لها، فَيَقولون: «أَحرَمَتِ الكعبةُ»، وبهذا جَرَتِ العادَةُ دائمًا في مِثْلِ هذا الوقْتِ من الشَّهْرِ. ولا تُفْتَحُ مِنْ حِينِ إِحْرامِها إلاَّ بَعْدَ الوَقْفَةِ.

فكأَنَّ ذلك التَّشْمِيرَ إِيذانٌ بالتَّشْمِير للسَّفَرِ، وإيذانٌ بقُرْب وقْتِ وَداعِها المُنْتَظَرِ.

لا جعلَهُ اللهُ آخِرَ وَداعٍ، وقَضى لنا إِليها بالعودَةِ، وتَيْسِير سَبيل الاستِطاعَةِ، بِعِزَّتِهِ وقُدْرَتِه.

(١٩) زَوْرَة الوَداع

وفي يومِ الجُمُعَةِ الرَّابعِ والعشرينَ قبلَ هذا اليومِ، كان دُخولُنا إِلى البَيْتِ الكريمِ على حالِ اخْتِلاس وانتهاز فُرصَة أَوجدَتْ بعضَ فُرجَةٍ من الزِّحامِ. فدخَلْناه دُخُولَ وَداعٍ، إِذ لا يُتَمَكَّنُ دُخُولُه — بعد ذلك — لِتَرادُفِ الناسِ عليهِ — ولا سِيَّما الأَعاجِمُ الواصِلُون مع الأَمِير العِراقِيِّ. فإِنَّهم يُظْهِرون — من التَّهافُتِ عليْه، والبِدار إِلَيهِ، والازْدِحامِ فيهِ — ما يُنْسِي أَحوالَ السَّرْو اليَمَنِيِّينَ، لفَظاظَتِهِم وغِلْظَتِهم. فلا يَتَمَكَّنُ لأَحَدٍ مِنْهُم النَّظَرُ، فَضْلًا عن غيرِ ذلك. واللهُ — عزَّ وجلَّ — لا يجعَلُهُ آخِرَ العهْدِ ببَيْتِه الكريمِ، ويَرْزُقُنا العَودَ إلَيهِ على خَيْرٍ وعافية.

(٢٠) قبة الحديد

وفي يومِ إِحْرام الكَعبةِ المَذكُورِ، أُقلِعَت — عن موْضِعِ المَقامِ المُقَدَّسِ — القُبَّةُ الخشبيَّةُ التي كانت عليهِ، ووُضعَت — عِوَضَها — قُبَّة الحَديد، إِعدادًا للأَعاجمِ. لأَنها لو لَم تكُن حَديدًا لأَكلُوها أَكلًا، فَضلًا عن غَيرِ ذلك، لِما هُم عليه من صِحةِ النُّفوسِ — شَوقًا إِلى هذه المَشاهدِ المُقَدَّسةِ — وتَطارُحِهِم بجُسومِهم عليها.

واللهُ يَنفَعُهم بِنِيَّاتِهِم.

(٢١) الزعيم المَعزول

وفي يومِ الثُّلاثاءِ الثَّامنِ والعِشرِينَ من الشهْرِ، جاءَ زَعيمُ الشَّيْبِيِّينَ المَعزولُ يتَهادَى بين بَنِيهِ — زَهْوًا وإِعجابًا — ومِفتاحُ الكَعبةِ المُقدَّسَةِ بيَدِه قد أُعِيدَ إِليه. ففَتح البابَ الكَريمَ، وصَعِدَ مع بَنِيهِ السَّطحَ المُبارَكَ الأَعْلَى، بأَمراسٍ من القِنَّبِ غَليظةٍ (حِبالٍ من الكَتَّانِ)، وقد أَوثَقوا تلك الحِبالَ في أَوتادِ الحديدِ المَضْرُوبةِ في السَّطح، وأَرسَلوها إلى الأَرضِ. فيُرْبَطُ فيها شَبيهُ مَحمِلٍ من العُود (الْخَشب)، ويجلِسُ فيه أَحدُ سَدَنةِ البيتِ من الشَّيْبِيِّينَ، فيُصعَدُ به عََلى بَكَرَةٍ مُعَدَّةٍ لذلك، في أَعلى ذلك السَّطحِ، فيتَولَّى خِياطَةَ ما مزَّقَتهُ الرِّيحُ من الأَسْتارِ.

(٢٢) ثمَنُ الوظيفة

فسأَلْنا: كَيف عادَ هذا الشَّيبِيُّ المَعزُولُ إِلى وظِيفتِهِ، وصُرِفَ إلى خُطَّتِهِ، عَلَى صِحَّةِ الهَناتِ المَنسوبَةِ إِليهِ؟ فأُعْلِمْنا: أَنه صُودِرَ عليها بخَمْسِ مئة دينارٍ مَكِّيَّةٍ استَقْرَضَها ودَفَعها.

فطالَ التَّعجُّبُ من ذلك. وتحقَّقْنا أَنَّ إِظهارَ القَبْضِ عليه لم يكُنْ غَيْرَةً ولا أَنَفَةً عَلَى حُرُماتِ اللهِ المُنتهَكَةِ عَلَى يدَيهِ. والحالُ تُشبِهُ بعضُها بعضًا. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.

وإِلى اللهِ المُشتكَى من فَسادٍ ظَهرَ — حتى في أَشرَفِ بِقاعِ الأَرضِ — وهو حَسْبُنا ونعْمَ الوكِلُ!

(٢٣) آثارٌ جليلة

وفِي يومِ الأَرْبِعاء التاسِعِ والعِشْرِينَ مِنْ ذي القَعْدَةِ المَذكورِ، دخَلْنا دارَ الخَيْزُرانِ التي كانَ مِنها منْشَأُ الإِسْلامِ. وهِي بإِزاءِ «الصَّفا»، ويُلاصقُها بَيْتٌ صَغيرٌ — عَن يَمين الدَّاخِل إِليْها — كان مَسكَنَ «بِلالٍ» رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وبالقُرْبِ مِنْها بُيُوتٌ لِلْكِراءِ من الحاجِّ.

وهذه الدَّارُ المُكَرَّمَةُ دارٌ صغيرةٌ، وهي مجدَّدةُ البِناءِ.

وعن يَمِينِ الدَّاخِل إلَى هذِهِ الدَّار بابٌ يُدْخَلُ مِنه إِلى قُبَّةٍ كَبيرة بديعةِ البِناءِ، فيها مقَعْدُ النَّبيِّ والصَّخْرَةُ التي كان إليْها مُسْتَنَدهُ. وعنْ يَمين المَقْعَدِ موضعُ «أَبِي بَكْر الصِّدِّيق»، وعَنْ يَمين «أَبي بكرٍ» موضِعُ «عَلِيِّ بن أََبِي طالِبٍ».

والصَّخْرَةُ التي كان إليها مُستْتَنَدُهُ، هِيَ داخِلَةٌ في الجِدار شِبْهُ المِحراب.

•••

وفي هذِهِ الدَّارِ كانَ إسْلامُ «عُمَرَ بنِ الخَطَّاب»، ومنها ظَهَرَ الإسْلامُ على يَدَيْهِ، وأَعزَّهُ اللهُ بِه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤