الفصل السادس عشر

أَيّام الوداع

(١) بِنْتُ الأَمير

ومن عجيبِ ما شاهدْنا من الأُمورِ البديعةِ الداخلةِ مدخلَ السُّمْعَةِ والشهرةِ، أَن إِحدى الخواتين المذكوراتِ — وهي بنتُ الأَمير مسعودٍ — وصلَت عشيَّ يومِ الخميسِ السادسِ للْمُحرمِ، ورابعَ يومِ وصولِنا المدينةَ إلى مسجدِ رسول اللهِ ، راكِبةً في قُبَّتِها وحولَها قِبابُ كرائِمها وخدَمِها. والقراءُ أَمامها والفِتْيانُ والصَّقالِبُ بأَيدِيهم مقامعُ الحديدِ يَطوفُون حولَها، ويدفعُون الناسَ أَمامَها، إلى أن وصلَت إلى بابِ المسجدِ المكرمِ، فنزلَتْ تحتَ مِلْحَفَةٍ مبسوطةٍ عليها، ومشتْ إِلى أن سَلَّمتْ عَلَى النبي والحُرَّاسُ أَمامَها، والخدَّامُ يرفعُون أَصواتَهم بالدعاءِ لها، إِشادَةً بِذكرها. ثم وصلَت إلى الرَّوْضَةِ الصغيرةِ التي بينَ القبرِ الكريمِ والمنبرِ، فصلَّت فيها تحتَ المِلْحَفَةِ، والناسُ يتزاحَمُون عليها، والمقامِع تدفعُهم عنها. ثم صلَّت في الحَوْضِ بإِزاءِ المنبرِ، ثمَّ مَشتْ إلى الصَّفْحَةِ الغربيةِ من الروضةِ المكرمةِ، فقعدت في الموضعِ الذي يقالُ إِنه كانَ مهبطَ جبريلَ عليه السلامُ. وأُرْخِيَ السِّتْرُ عليها، وأَقامَ فتيانُها وصقالِبُها وحُجَّابُها عَلَى رأْسها خلْفَ السِّتْرِ، تأْمُرُهم بأَمرِها، واستجلَبَتْ معها إلى المسْجدِ حِملَين من المتاعِ للصَّدَقَةِ، فما زالت في موضِعها إلى الليل.

(٢) الواعظ الأَصبَهانيُّ

وقد وقَع الإِيذانُ بوصولِ صدرِ الدين رئيسِ الشافعيَّةِ الأَصْبَهانِيِّ لعَقْدِ مجلسِ وعْظٍ تلك الَّليْلَةَ، وكانتْ ليلَةَ الجُمُعَةِ السابعِ من المحرمِ، فتأَخَّرَ وصولُه إِلى هَدْءِ من الَّليْل، والحرمُ قد غَصَّ بالمنتَظرينَ، والخاتونُ جالسةٌ موضِعَها.

وكان سببُ تأَخرِه تأَخُّرَ أَميرِ الحاج، لأَنَّه كانَ عَلَى عِدَةٍ (وَعْدٍ) من وصولِه إِلى أن وصلَ، ووصل الأَمِيرُ، وقد أُعِدَّ له كُرسيٌّ بإِزاءِ الروضةِ المُقَدَّسَة، فصعِدَه وحضَر قُرّاؤُه أَمامَه، فابتدَرُوا القراءَةَ بنغماتٍ عجيبةٍ وتلاحينَ مطربةٍ مُشْجِيَةٍ. وهو يلْحَظُ الرَّوْضَةَ المُقَدَّسَةَ فيُعِلنُ بالبكاءِ.

(٣) لَباقَة الْخَطيب

ثم أخذَ في خُطْبَةٍ من إِنشائِه سِحْرِيَّةِ البيانِ. ثم سلَكَ في أَساليبَ من الوَعْظِ باللسانيْنِ، وأَنشَدَ أَبياتًا بديعةً من قولِهِ، منها هذا البيت، وكان يردِّدُه في كلِّ فصلٍ من ذكره ويُشيرُ إلى الروضةِ:

هاتيكَ روضَتُه تفوحُ نَسِيمَا
صَلُّوا علَيْه وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا

واعتذَرَ من التقصيرِ لهولِ ذلك المَقامِ. وقال: «عجبًا للأَلْكَن الأَعْجَمِ، كيفَ يَنْطِقُ عند أَفصحِ العربِ!».

(٤) أَثر الوعظ

وتمادَى في وعظهِ إِلى أَن أَطارَ النُّفُوسَ خَشيةً ورِقَّة، وتهافتَتْ عليهِ الأَعاجِمُ معُلِنين بالتوبَةِ. وقد طاشَتْ أَلْبابُهم وذَهَلَتْ عقولُهم، فيُلْقُون نواصِيَهم بينَ يدَيْه، فيستدْعِي جلَمَيْن (مِقْصًّا) ويَجُزُّها ناصيةً ناصيةً، ويكْسُو عِمامَتَه ذلك الرَّجُلَ المجْزُوزَ الناصِيَةِ، فيوضَعُ عليهِ للْحِين عمامَةٌ أُخْرى من أَحدِ قرائِه أَوْ جُلَسائِه، ممنْ قد عَرَف منزِعَه الكريمَ في ذلك، فبادَر بعمامَتِهِ لاستجلابِ العَرْضِ النَّفِيس لمكارِمِه الشهيرةِ عندَهم، فلا يَزالُ يخلَعُ واحدًة بعد أُخْرَى، إِلى أَنْ خلَع مِنها عِدَّةً، وجزَّ نواصِيَ كثيرةً.

(٥) ثمن الوَعظ

ثم ختَمَ مجلِسَه بأَن قالَ: «معشرَ الحاضِرين! قد تكلمتُ لكُم ليلَةً بحرَمِ اللهِ — عزَّ وَجَلَّ — وهذه الليلَةَ بحرمٍ رسولهِ . ولابدَّ للواعِظِ من كُدْيَةٍ، وأَنا أَسأَلكُم حاجةً، إِن ضَمِنْتُموها لي أَرَقتُ لكم ماءَ وجهي في ذكرها». فأَعلَن الناسُ كلُّهم بالإِسْعافِ والتَّلْبيَةِ، وشَهيقُهم قد عَلا. فقال: «حاجَتِي أَن تَكْشِفُو رءُوسَكم، وَتبْسُطُوا أَيْدِيَكم، ضارِعين لهذا النَّبيِّ الكريمِ في أَنْ يَرْضَى عنِّي، ويسترضِيَ اللهَ عزَّ وجلَّ!»

(٦) ضراعةُ التائِب

ثم أَخذَ في تَعْدادِ ذُنوبهِ والاعترافِ بها، فأَطارَ الناسُ عمائمَهم وبسَطوا أَيْدِيَهُم للنبِيِّ ، داعِين له باكينَ مُتَضَرِّعين. فما رأَيْتُ ليلَةً أَكثرَ دُموعًا ولا أَعظَمَ خُشوعًا من تلكَ الليلةِ. ثم انْفَضَّ المجْلِسُ وانفَضَ الأَميرُ، وانفَضَّت الخاتونُ من موضِعِها.

وعند وصول صدر الدِّينِ أزِيلَ السِّتْرُ عنها، وبقيَتْ بين خَدَمِها وكرائِمها مُتَلَفِّعَةً في رِدائِها، فعايَنَّا من أَمرِها — في الشُّهْرَةِ الملُوكيَّةِ — عجبًا.

(٧) صدر الدِّين

وأَمرُ هذا الرَّجلِ: صدرِ الدِّينِ عجيبٌ في أُبَّهَتِهِ، وملوكيته وفخامة هيئَتِهِ، وبهاءِ حالتِهِ، وظاهرِ مُكْنَتِهِ، ووُفور عَتادهِ وقُوَّتِهِ، وكثْرَةِ عبيدِه وخَدَمَتِه، واحتفالِ حاشيَتِهِ وغاشِيَتِهِ. فهُوَ — من ذلك — على حالٍ يَقصُر عنها الملوكُ، ولهُ مضرِبٌ كالتَّاج العظيمِ في الهواءِ، مُفَتَّحٌ عَلَى أَبوابٍ عَلَى هَيْئةٍ غريبةِ الوضعِ، بديعةِ الصَّنْعَةِ والشَّكْلِ. تُطِلُّ عَلَى المَحَلَّةِ من بُعْدٍ فتُبْصِرُه سامِيًا في الهواءِ. وشأْنُ هذا الرَّجل العظيمِ لا يستوعِبُه الوصفُ. شاهَدْنا مجْلِسَه فرَأَيْنا رجلًا يذُوبُ طلاقَة وبِشْرًا، ويَخِفُّ للزَّائِرِ كرامةً وبِرًّا، على عظيمِ حُرْمَتِه، وفخامَةِ بِنْيَتِه. وهو قد أُعْطي البَسْطتَيْنِ عِلْمًا وجِسْمًا. اسْتَجَزْناه فأَجازَنا نثْرًا ونظمًا. وهو أَعظَمُ مَن شاهَدْنا بهذهِ الجهاتِ.

(٨) عَشِيَّةُ الوَداع

وفي عَشِيِّ ذلك اليوْمِ المبارَكِ كان وَداعُنا للرَّوْضَةِ المُبارَكَةِ، والتُّرْبةِ المُقَدَّسَةِ، فيا لَه وداعًا عَجبًا ذهَلَتْ لَهُ النفوسُ ارتياعًا، حتى طارتْ شَعاعًا، واسْتَشْرَتْ (عَظُمَتْ) بهِ النفوسُ التِياعًا، حتى ذابَتِ انصداعًا. وما ظَنُّكَ بموقِفٍ يُناجَى بالتَّوْدِيعِ فيهِ سيِّدُ الأَوَّلِينَ والآخِرينَ، وخاتَمُ النَّبِيِّين، ورسولُ ربِّ العالَمين! إِنهُ لمَوْقِفٌ تَنْفَطِرُ لَهُ الأَفْئِدَةُ، وتَطيشُ به الأَلْبابُ الثابتةُ المُتَّئِدَةُ. فوا أَسفاه وا أَسفاه! كلٌّ يبوحُ لَدَيْه بأَشْواقِه، ولا يَجدُ بُدًّا من فِراقِه، فما يسْتَطِيعُ إِلى الصَّبْرُ سَبيلًا، ولا تَسْمَعُ في هول ذلكَ المَقامِ إِلا رَنةً وعَويلًا. وكلٌّ — بلِسانِ الحالِ — يُنْشِد:

مَحَبَّتِي تَقْتَضِي مُقامِي
وحالَتِي تَقْتَضِي الرَّحِيلاَ

•••

وكان مُقامُنا بالمدينةِ المكَرَّمَةِ خمسةَ أَيَّامٍ، أَولُها يومُ الإثْنَيْن، وآخرُها يومُ الجُمُعَةِ. بَوَّأَنا الله — بِزِيارَةِ هذا النَّبِيِّ الكريمِ — منزلَ الكرامَةِ، وجعلَه شَفِيعًا لنا يومَ القِيامَةِ، وأَحلَّنا — من فضلِه — في جوارِه دارَ المُقامَةِ برحْمَته، إِنه غفورٌ رحيمٌ، جوادٌ كريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤