الفصل الثالث

من القاهِرة إلى عَيذابْ

(١) مَواطنُ الأَنبِياءِ

وفي صَبِيحةِ اليوْمِ السَّادِسِ مِن شَهر المُحَرَّمِ، كَان انفِصالُنا عن «القاهِرَةِ»، وصُعودُنا — في النِّيلِ — قاصِدينَ إِلى «قُوص»

وقد رأَيْنا الْقُرى مُتَّصلَةً علَى شطِّ النِّيلِ، فمِنْهَا قَرْيَةٌ في الضِّفَّةِ الشَّرْقِيَّةِ مِن النِّيلِ مُباشَرَةً، لِلصَّاعِدِ فيهِ. ويُذكَرُ أَنَّ فيها كَان مَولدُ النَّبيِّ «مُوسى الكليمِ» صلَّى الله علَيهِ وسَلَّمَ، ومنْها أَلْقَتْهُ أُمُّهُ في الْيَمِّ، وهُو النِّيلُ. وعاينَّا أَيضًا بغَرْبيِّ النِّيلِ؛ مُيامِنًا لنا — يوْمَ إِقلاعِنا، وفي اليَوْم الذي ولِيَهُ — المَدينَةَ القَديمةَ المنْسُوبَةَ ﻟ«يُوسَف الصِّدِّيقِ»، وبِها مَوْضِعُ السِّجْنِ الذي كَان فيهِ. وتُنْقَلُ أَحْجارُهُ إِلى القَلعَةِ المُبْتَناةِ الآنَ عَلَى «القاهِرَةِ»، وهُو حِصْنٌ حَصينُ المَنَعَةِ، وكانَ بهذهِ المَدِينَةِ الطَّعامُ الذي اختَزَنَهُ بها «يوسفُ» صلَّى الله علَيهِ وسلَّمَ.

(٢) مُنْيةُ ابنِ الخَصِيب

ومنْها الْمَوْضِعُ المَذكُورُ ﺑ«مُنْيةِ ابن الْخصِيبِ»، وهُو بلَدٌ على شَطِّ النيلِ — مُيامِنًا للصَّاعِد فيهِ — كبيرٌ، فِيهِ الأَسْواقُ والْحَمَّاماتُ وسائِرُ مرافِق الْمُدُنِ. اجْتَزْنا علَيْهِ في الْيَوْم الثَّامن لإِقلاعِنا مِنْ «مِصرَ» — لأنَّ الرِّيحَ سَكَنَتْ عنَّا، فتَربَّصْنا في الطَّريقِ.

ولو ذَهَبْنا إِلى رَسْمِ كُلِّ موضِعٍ يعترضُنا في شَطَّيِ النِّيلِ — يمينًا وشِمالًا — لضاقَتِ الكتبُ عنْهُ. لكنْ نَقْصِدُ من ذلك إِلَى الأَكْبرِ الأَشْهَر.

(٣) إِلَى أُسْيوطَ

ومرَرْنا بمدِينةٍ قديمة كان لها سُورٌ عتيقٌ، هدمَه «صَلاحُ الدينِ» وجعلَ — علَى كُلِّ مركَبٍ مُنْحَدِرٍ في النيل — وَظِيفةً من حَمْل صَخْرِه إلى القاهرةِ، فنُقِلَ بأَسْرِهِ إِلَيْها.

ومن الْمَواضِعِ التي اجْتَزْنا علَيْها في الصَّعِيد: موضعٌ يُعْرَفُ ﺑ«مَنْفَلُوطَ» بمقرَبَةٍ مِنَ الشَّطِّ الْغَرْبيِّ، مُيامنًا للصَّاعِد في النِّيل — فيهِ الأَسْواقُ وسائِرُ ما يُحتاجُ إِلَيْهِ من الْمَرافِقِ، في نهايةٍ منَ الطِّيبِ. وقَمْحُ هذا الْبَلَدِ يُجْلَبُ إِلَى «مِصرَ»، لِطيبهِ ورزانَةِ حَبَّتِهِ (ثِقَلِها). وقَدِ اشْتَهر عِنْدَهُمْ بذلِكَ. فالتُّجَّارُ يُصَعِّدُون في الْمَراكِبِ لاسْتِجْلابِهِ.

ومنْها مدينةُ «أُسْيُوط»، وهي من مُدُنِ الصَّعيدِ الشَّهيرَةِ، بَيْنَها وبيْن الشَّطِّ الْغَرْبيِّ من النِّيلِ مقدارُ ثلاثةِ أَميالٍ.

وهي جميلةُ الْمَنْظَرِ، حَوْلَها بَساتِينُ النَّخْلِ، وسُورُها عتيق.

(٤) هَيْكَلُ إِخْمِيمَ

ومنها موضع يعرف ﺑ«أَبي تِيجٍ». وهو بلَدٌ فيهِ الأَسْواقُ وسائرُ مرافقِ الْمُدُنِ، وهو في الشَّطِّ الغربيِّ منَ النِّيل. ورأَينا مدينةَ «إِخْمِيمَ» وهي أَيضًا من مُدنِ الصَّعيدِ الشهيرةِ الْمذكورةِ، بشرْقِيِّ النيلِ، وعلى شَطِّه. وهذهِ الْمَدينةُ قديمةُ الإِنشاءِ، عتيقةُ الوَضْعِ، وبها آثارٌ ومصانعُ من بُنْيانِ الْقُدَماءِ، وكنائِسُ يَعْمُرُها — إِلى الآنَ — بعضُ نصارَى القِبْطِ. ومنْ أَعْجَبِ الهياكل — المُتحَدَّثِ بغرائبها في الدنيا — هَيْكَلٌ عظيمٌ في شرقِيِّ تلك المَدينة وتحتَ سُورها، طولُه مِائَتا ذِراعٍ وعشرونَ ذراعًا، وسَعَتُهُ مئة وسِتُونَ ذِراعًا. وهو يُعْرَفُ عنْدَ أَهْلِ هذه الجهةِ بِاسْمِ «الْبَرْبَى»، وهذا الاسْمُ يُطلقونه على الآثارِ القديمةِ التي تماثلُه، وهذا الهيكلُ العظيمُ قَام على أَرْبعينَ سَارِيةً، حاشَا حِيطَانَهُ. دَوْرُ كلِّ كلِّ سارية (عمُودٍ) منها خَمْسُون شِبرًا، وبينَ كلِّ ساريةٍ وساريةٍ ثلاثون شِبْرًا.

ورُءوسُها في نِهايةٍ من العِظَم والإِتقَانِ، قد نُحِتَتْ نحتًا غريبًا، فجاءَتْ بديعةَ الشَّكلِ، مُرَكَّنَةً (مَتينَةَ البِناءِ)، كأَنَّ الخرَّاطينَ تَناولُوها. وهي كلُّها مزخَرَفَةٌ بأَنواعِ الأَصْبِغَةِ اللاَّزَوَرْدِيَّةِ وسواها. والسَّواري كلُّها منقوشةٌ، مِنْ أَسْفلها إِلى أَعلاها. وقدِ انتصب علَى رأْسِ كلِّ ساريةٍ منها إِلى رأْس صاحبتها التي تليها لَوْحٌ عظيمٌ من الحجرِ المَنحوت. وسَقْفُ هذا الهيكل كُلُّهُ مِنْ أَلْواح الْحِجارة المنْتَظِمةِ ببديع الإِلْصاقِ. فجاءَتْ كأَنَّها فَرْشٌ واحدٌ. وقَدِ انتظمتْ جَميعَهُ التصاويرُ البديعةُ والأَصْبِغَةُ الغَرِيبَةُ، حتى ليُخَيَّلُ للنَّاظر فِيها أَنَّها سَقْفٌ مِنَ الخشَب المَنقُوش. والتَّصاويرُ عَلَى أَنواعٍ، في كلِّ بلاطَةٍ من بلاطاته. فمنها ما قد جلَّلَتْهُ طُيورٌ بِصُوَرٍ رائِقَة، باسطَةٌ أَجْنحتَها، تُوهمُ النَّاظِرَ إِليْهَا أَنَّها تَهُمُّ بالطَّيَرانِ. ومنها ما قَدْ جلَّلَتْهُ تَصاوِيرُ آدَمِيَّةٌ، رائِقَةُ المنظَر، رائعَةُ الشَّكْلِ، قَدْ أُعِدَّتْ لكلِّ صورة منها هيئَة هي عليها: كَإمْساكِ تِمْثالٍ بيدِها، أَو سلاحٍ، أَوْ طائرٍ، أَو كأْسٍ، أَو إِشارةِ شخص إلى آخرَ بِيَدِهِ، أَو غيرِ ذلك، مما يَطُولُ الوَصْفُ لَهُ، ولا تتأَتَّى العبارةُ لاِسْتيفائِهِ. ودَاخِلَ هذا الهيكلِ الْعَظِيمِ وخارجَهُ وأَعلاهُ وأَسْفَلَه: تصاويرُ، كلُّها مُختلفاتُ الأَشكال والصِّفةِ. منها تصاويرُ هائلةُ المَنظَرِ، خارجةٌ عن صُوَرِ الآدمِيِّين، يسْتَشْعِرُ الناظرُ إِليْها رُعْبًا. وَيَتَمَلأُ منْها عِبْرَةً وتَعَجُّبًا. ولَسْتَ ترى فيه مَغْرِزَ إِشْفَى (والإِشفَى: المِثْقَب الذي يُخْرَز به الْجِلدُ)، ولا تَجدُ مَغْرِزَ إِبرة، إِلا وجدتَ فيه صورةً أو نَقْشًا، أَو كتابةً لا تُفْهَمُ كأَنَّها الْخَطُّ المُسْنَدُ (وَهُوَ خَطٌّ يَمَنِيٌّ قَدِيمٌ). وقَدْ عَمَّ هذا الهيكلَ العظيمَ الشأْنِ — كُلَّهُ — هذا النَّقْشُ البديعُ. ويتَأَتَّى فِي صُمِّ الحِجارةِ مِنْ ذلك ما لا يتأَتَّى في الرِّخْوِ من الْخَشَبِ، فَيَحْسَبُ الناظرُ — استعظامًا له — أَنَّ الزمانَ لَوْ شُغِلَ بتَرْقِيشِهِ وتَرْصِيعِهِ وتَزْيِينِهِ، لضَاقَ عَنْهُ. وعَلَى أَعْلَى هذا الهَيكلِ سَطْحٌ مَفروشٌ بأَلْواحِ الْحِجارَةِ العَظيمَةِ — عَلَى الصِّفَةِ المَذكُورَةِ — وهُو في نِهايةِ الارتفَاعِ، فَيحارُ الْوَهْمُ فيها، ويَضِلُّ العَقْلُ، حِين يتَمَثَّلُ الْجُهودَ التي بُذِلَتْ في رَفْعِ هذهِ الصخور الهَائِلَة، إِلى أَعلَى ذلك الهَيكلِ.

وداخِلَ هذا الهيكلِ — من الْمَجالسِ والزَّوايا، والمَداخِلِ والمَخارجِ، والْمَصاعِدِ والمَعارجِ، والمَسارِبِ والمَوالجِ — ما تَضِلُّ فيه الجماعاتُ من الناسِ، ولا يَهْتَدِي بعضُهم لِبَعْض إِلاَّ بالنِّداءِ العَالِي. وعَرْضُ حائِطِهِ ثمانيةَ عشَرَ شِبْرًا، وهُو كلُّهُ من حِجارةٍ مرْصُوصَةٍ عَلَى الصِّفةٍ التي ذكرناها. فشأْنُ هذا الهيكلِ عظيم، ومَرْآهُ مِنْ عجَائِبِ الدُّنيا الَّتي لا يبْلغُها الْوَصْفُ.

(٥) أَعوانُ الزكاةِ

وفي بلادِ هذا الصَّعيدِ التي تعترضُ طريقَ الحُجَّاجِ والمُسافرينَ: كإِخميمَ، وقُوصٍ، ومُنْيَةِ ابْنِ الْخَصيبِ، كثيرٌ من الأَذَى والمُضايقاتِ التي يُلْحِقُها المَكَّاسُونَ بهم، متعلِّلين بالرغبة في تَحْصِيلِ الزَّكاةِ، فهم — كأَصحابِهم الذين استَقْبَلونا في ميناءِ الإِسكندرية — يُدْخِلون أَيْديَهُمْ في أَوْساطِ التُّجار، فَحْصًا عمَّا تأَبَّطُوهُ أَوِ احْتَضنوه من دراهِمَ أَوْ دنانيرَ، دونَ أَن يُراعُوا ما يَسْتَوْجِب الزَّكاةَ. ورُبَّما أَلزمُوهُمُ الأَيْمانَ عَلَى ما بأَيديهِمْ، وهلْ عندهُمْ غيرُ ذلك؟ ويُحْضرُونَ كتابَ اللهِ العزيزِ يَقَعُ الْيمِينُ عليهِ، فيقِفُ الحُجَّاجُ — بَيْن أَيْدِي هؤلاءِ المُتناولينَ للزَّكاةِ — مَواقِفَ خِزْي ومَهانَة، تُذَكِّرُهُمْ أَيَّام المُكوسِ.

(٦) جَوْر المَكَّاسين

وهذا أَمر لا شك في أَن «صلاحَ الدِّينِ» لا يَعْرِفُه، ولو عَرَفَهُ لأَمر بِقَطْعِهِ وإِزالتهِ، كَما أَمر بقَطعِ ما هُو أَعْظَمُ مِنْه، ولجاهدَ أَصحابَ هذا الجَورِ المُتَنَاوِلينَ للزَّكاةِ، فإِن جِهادَهُمْ من الواجبات، لِما يَصْدُر عنهم من التَعسُّفِ، والْجَوْر، وَعَسِيرِ الإِرْهاقِ، وسوءِ المعامَلَةِ مع غُرباءَ قد انْقطَعُوا إِلى الله، وخرجُوا مُهاجرِين إِلى حَرمِه الأَمينِ. ولَوْ شاءَ اللهُ لكانَتْ هذه المُناسَبةُ فُرْصةً لتَحْصيلِ الزَّكاةِ، ومَنْدُوحَةً لاقْتِضائِها عَلَى أَجمَلِ الوُجوهِ مِنْ ذَوى الْبضائع في التِّجاراتِ، مَتَى حالَ عَلَيْها الْحَوْلُ، واسْتَوْجَبَتِ الزَّكاةَ. أَمَّا اعتراضُ الغرباءِ المُنْقَطعينَ — مِمَّنْ تَجِبْ الزَّكاةُ لَه لا عَلَيْهِ — فأَمْرٌ لا يَرْضاهُ ذلِكَ السُّلْطانُ العادِلُ، الَّذي قَدْ شمِلَ البلادَ عَدْلُهُ، وسارَ في الآفاقِ ذِكْرُهُ.

(٧) شياطِينُ الإِنْسِ

وَمِنْ أَشْنَعِ ما شَاهَدْناهُ — مِنْ ذلِكَ — خُروجُ طائفةٍ من المَرَدَة: أَعوانِ الزكاة، وقد رأَينا في يدِ كلِّ مارد منهم مِسَلَّةً — مِنَ المَسالِّ الطِّوالِ — فيَصعَدُونَ إِلى الْمَراكبِ استِكْشَافًا لِما فيها، فلا يَتْرُكون غِرارة ولا عِكْمًا (زَكيبةً) إِلاَّ تَخَلَّلُوهُ وخَرَّقُوهُ بِتِلْكَ المِسَلاَّتِ المُؤْذِيَةِ، مَخافَةَ أَن يكونَ في تلك الغِرارة أَو الْعِكْم — اللَّذَيْنِ لا يَحْتَوِيانِ غَيْرَ الزَّادِ — شَيْءٌ غُيِّبَ عليهِ مِنْ بِضَاعَة أَوْ مَال.

وقد نَهَى اللهُ عن التَّجَسُّسِ، فكَيْفَ عَنْ كَشْفِ ما يُرِيدُ صاحِبُهُ أَن يسْتُرَهُ، ولا يُحب أَنْ يُطْلِعَ عليه أَحَدًا — لحقارَتِه أَو نفاستِهِ — من غَيْرِ أَن يَبْخَلَ بواجِبٍ يلزَمُهُ. واللهُ الآخِذُ على أَيدي هؤلاءِ الظَّلَمةِ بيدِ هذا السُّلطانِ العادِلِ وتوفيقِهِ، إِنْ شاءَ الله.

(٨) طائفةٌ من مُدُن الصعيد

ومِنَ المواضِعِ التي اجتَزْنا عليها — بَعْدَ «إِخْمِيمَ» موْضِعُ مُنْشاةِ السُّودانِ، عَلَى الشَّطِّ الْغَرْبيِّ من النِّيلِ. وهي قَرْيَةٌ مَعْمُورَةٌ، ويقالُ إِنَّها كانت فِي الْقِدَمِ مَدينَةً كبيرةً. وقدْ قام أَمام هذه القَرْيةِ — بينَها وبينَ النِّيلِ — رصيفٌ عال من الحِجارة كأَنَّهُ السُّورُ يَضْرِبُ فِيهِ النيلُ ولا يَعْلُوهُ عِنْدَ فَيْضِهِ ومدِّهِ. فالْقَرْيَةُ — بِسَبَبهِ — في أَمْنٍ من أَمْواجِ النيل ومياهِهِ.

ومنها موضعٌ يُسَمَّى «الْبُلْيَنَةَ» وهي قَرْيَةٌ حسَنَةٌ كثيرةُ النَّخْل، بالشَّطِّ الْغَرْبِيِّ مِنَ النيلِ، بينَها وبينَ «قُوصٍ» أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، ومنها موضعٌ يسمَّى «دَشْنَة» بالشَّطِّ الشرْقِيِّ من النيل، بينها وبينَ «قُوصٍ» بَريدانِ (والْبرِيد: اثْنَا عَشَرَ مِيلًا). ومنها موضعٌ بغَرْبيِّ النيلِ، وعلى مقرَبة من شَطِّهِ، يسمَّى «دَنْدَرَةَ» وهيَ مدينةٌ من مُدُنِ الصَّعِيد، كثيرةُ النخلِ، مُسْتَحْسَنَةُ المَنظَرِ، مُشْتَهِرةٌ بِطَيِّبِ الرُّطَبِ، بينها وبينَ «قُوصٍ» بَرِيدٌ. وذُكِرَ لنا أَنَّ فيها هَيْكَلًا عَظِيمًا — وهو معروفٌ عِنْدَ أَهْلِ هذهِ الجهاتِ «بالْبَرْبَى» — حَسبما ذكَرنا عندَ ذِكرِ «إِخْمِيمَ» وهَيْكَلِها. وَيقالُ إِنَّ هَيْكَلَ «دنْدَرَةَ» أَحفلُ منهُ وأَعظمُ. ومنها مدينةُ «قِنا» وهي من مُدن الصَّعِيدِ، بَيْضاءُ أَنيقَةُ الْمَنْظَرِ، ذاتُ مبان حفِيلَةٍ. ومنها «قِفْطٌ» وهيَ مدينةٌ بِشَرْقِيِّ النيل — وعلى مقدار ثلاثةِ أَمْيال من شَطِّه — وهيَ من الْمُدُنِ المذكورةِ في الصَّعيدِ حُسْنًا ونظافَةَ بُنيانٍ، وإِتقانَ وَضْعِ.

ثم كان الوصولُ إلى «قُوصٍ» يومَ الْخَميس الرَّابعِ والعشرينَ لِمُحَرَّمٍ؛ فكانَ مُقامُنَا في النيلِ ثمانيةَ عَشَرَ يَوْمًا، ودخلنا مَدِينَةَ «قُوص» في التاسعَ عَشر، وهذهِ المدينةُ حفيلةُ الأَسْواقِ، متَّسِعةُ الْمَرافقِ، كثيرةُ الْخَلْقِ، لِكَثْرةِ الصادِرِ والواردِ من الحُجَّاجِ والتُّجَّارِ اليَمَنيينَ والهِنْدِيينَ وتُجَّار أَرْضِ الْحَبَشَ؛ لأَنَّها مَخْطَرٌ (مَمَرٌّ) لِلْجَمِيع، ومَحَطٌّ لِلرِّحالِ، ومُجْتَمَعُ الرِّفاقِ، ومُلْتَقَى الْحُجَّاجِ المَغارِبةِ والمِصريينَ والإِسْكَنْدَرِيينَ ومَنْ يتَّصلُ بهمْ. ومنها يُسافِرون مُفَوِّزِين (قاطِعينَ الْمَفازة) بِصَحْراءِ «عَيْذَابَ»، وإِليها انْقِلابُهُمْ حين يَرْجِعُون من الْحَجِّ. وكان نُزُولُنَا فيها بفُنْدُقٍ يُنْسَبُ لابْنِ الْعَجَمِيِّ.

(٩) خُسوفُ القمر

واستَهَلَّ هِلالُ «صَفَر» ليلةَ الأَرْبِعاءِ، ونَحْنُ ﺑ«قُوصٍ» نُريدُ السَّفَر إِلى «عَيذابَ»، وفي يَوْمِ الإثْنَيْنِ الثالثَ عشرَ منهُ، أَخْرَجْنا جميعَ رِحالِنا — مِنْ زَاد وسواهُ — إِلى موْضِعٍ بِقِبْليِّ الْبَلَدِ وعَلَى مَقْرَبةٍ منهُ، فَسيحِ السَّاحَةِ، مُحْدَقٍ بالنِّخِيل، يَجْتَمِعُ فيهِ رِحالُ الحاجِّ والتُّجارِ، وتُشَدُّ فيهِ، ومنهُ يَسْتَقِلُّونَ وَيَرْحَلون، وفيهِ يُوزَنُ ما يُحْتَاجُ إِلى وزْنِهِ عَلَى الْجَمَّالِينَ.

فلما كُنَّا إِثرَ صَلاةِ العِشاءِ، رفعْنا منهُ إِلى ماءٍ يُعْرَفُ بالحاجرِ، فبِتْنَا بهِ. وأَصْبَحْنا — يومَ الثُّلاثاءِ بَعْدَهُ — مُقيمينَ به، بِسَبب تَفقُّدِ بعضِ الجمَّالين — مِن العَرب — لِبُيوتِهِمْ، وكَانَتْ عَلَى مَقْرَبة مِنْهُمْ.

وفي لَيلة الأَرْبِعاءِ: الخامسَ عشَرَ منهُ — ونَحْنُ بالحاجرِ — خُسِفَ القَمرُ خُسوفًا كُلِّيًّا — أَوَّلَ الليلِ — وتمادَى إِلى هَدْءٍ منهُ. ثمَّ أَصْبَحْنا يَوْمَ الأَرْبِعاءِ مُسافِرينَ — إِلى نصف النَّهار — فَبلَغْنا موْضعًا يُعْرفُ بقِلاع الضِّياعِ. ثمَّ كانَ الْمَبيتُ بِمَوْضع يُعْرَفُ بِمَحَطِّ اللَّقيطَةِ. كلُّ ذلكَ في صَحْراءَ لا عِمارَةَ فيها.

(١٠) مصرعُ العَبدين

ثُمَّ غَدَوْنا يَوْمَ الخميسِ، فنَزَلْنا عَلَى ماءٍ يُنْسَبُ لِلْعَبْدَيْن، وقد سأَلْنا عن العَبْدَين من هُما، فَقيلَ لَنَا إِن عَبْدَينِ قد ماتا عطشًا — قبل أَن يرِدا هذا الماءَ — فَسُمِّيَ ذلكَ المَوْضعُ بهما. وقَبْراهُما بهِ، رَحِمَهُما اللهُ. ثُمَّ تزَوَّدْنا منهُ الماءَ لثلاثةِ أَيَّام، وَفَوَّزْنا (سِرْنا في المَفَازة، وهي: الصَّحْراءُ) مُسافرِينَ سَحَرَ يَوْم الْجُمُعةِ السَّابعَ عشرَ منهُ، نَبيتُ كُلِّما جاءَ الليلُ، ونرَى في طَريقنا القَوافِلَ العَيْذابِيَّةَ والقُوصِيَّةَ — صادِرَةً ووارِدةً — والْمَفازَةَ مَعْمورَةً أَمْنًا. فلمَّا كانَ يَوْمُ الإثْنَيْنِ المُوفي عِشرينَ منهُ، نزَلنا على ماءٍ بموْضِعٍ يُعْرِفُ بِاسْمِ «دنْقاش» وهيَ بئْرٌ مَعِينةٌ قَرِيبٌ ماؤها مِنْ وجهِ الأَرْض، فَيرْتَوِي منها — من الأَنام والأَنعامِ — ما لا يُحْصِيهِمْ إِلا اللهُ عَزَّ وجَلَّ.

(١١) الهوادِجُ اليمنيَّة

ولا يسافَرُ في هذه الصَّحْراءِ إِلاَّ عَلَى الإِبِل; لِصَبْرِها عَلَى الظَّمَإِ. وأَحْسَنُ ما يَسْتَعينُ بهِ المُسافِرونَ — مِن أَهْلِ اليسارِ وذَوِي التَّرْفيهِ — أَنَّهُم يَضَعون عَلَى الْجِمالِ شَقادفَ تُشْبِهُ الهَوَادجَ والمَحاملَ. وأَحْسنُ أَنواعِها اليمانيَّةُ، وهي مُجَلَّدَة مُتَّسِعَةٌ، مَشْدودةُ إِلى الجمالِ بأَحْزِمة يُوصَلُ بين كُلِّ اثْنَيْن منها بالحبال الوثيقة. ويوضع الهَوْدَجُ أَوِ الشُّقْدُفُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعير. ولها أَذْرُعٌ قَدْ حَفَّتْ بأَرْكانِها، يكونُ عَليها مِظَّلةٌ تَقي مَنْ في الهَوْدَجِ حَرَّ الشَّمس؛ فَيقعُدُ مُسْتريحًا، ويتناوَلُ — مع عَديلهِ — ما يَحْتاجُ إِليهِ من زادٍ وسِواهُ، ويُطالِعُ — متَى شاءَ المُطالَعةَ — في مُصْحَفٍ أَوْ كتابٍ. ولِمنْ شاءَ — مِمَّنْ يأْلَفُ الَّلعِبَ بالشِّطْرَنْجِ وَيَسْتَجِيزُهُ — أَن يُلاعِبَ عَديلَه تَفَكُّهًا وإِجْماعًا لِلنَّفْسِ. وبالْجُمْلَةِ فإِنها مُرِيحَةٌ مِن نَصَبِ السَّفَرِ. وأَكْثرُ المُسافِرينَ يرْكَبونَ الإِبِلَ عَلَى أَحْمالِها، فَيُكابدونَ مِن مَشَقَّةِ الْحَرِّ ولَفْحِ الشَّمس عَنَتًا وَمَشَقَّةً.

(١٢) شِجار الجمّالين

وفي هذا الماءِ وقعَتْ مُشاجرَةٌ بِسَببِ التَّزَاحُمِ عَلَى الماءِ بين بعْضِ جَمَّالِي العرَبِ اليَمَنيِّينَ — أَصْحَابِ طريقِ «عَيْذَاب» —وبين بعْضِ الأَغْزازِ (والغُزُّ جِنْسٌ منَ التُّرْك)؛ فكادَت تلكَ الْمُهاوَشَةُ تُفْضي إِلى الفِتْنَةِ، ثمَّ عَصَمَ اللهُ منها ولَطَفَ.

(١٣) الطريقان

والقَصْدُ إِلى «عَيْذاب» مِن «قُوصٍ»، عَلَى طريقَيْنِ: إِحْداهُما تُعْرَفُ بِطَريقِ الْعَبْدَيْنِ — وهي هذه التي سلكْناها — وهيَ أَقْصرُ مَسافةً. والأُخْرَى تبْدَأُ مِن قرْية على شاطئِ النِّيل بالقُرْبِ من مَدينة «قِنَا»: وتَلتقي الطَّريقانِ عَلَى مَقْرَبة منْ ماءِ «دنقاش»، كما تَلْتَقِيانِ كذلك على ماءِ «شاغِبٍ»، وهو عَلَى مسافة يوْم بعْدَ «دنقاش».

فلمَّا كانَ غِشاءُ يوْمِ الإثنيْن، تَزَوَّدْنا الماءَ — لِيوْمٍ ولَيْلَةٍ — ورفعنا إلى ماءِ «شاغِبٍ»، فَوَرَدْناهُ. وهذا الماءُ ثِمَادٌ (قليلٌ) والنَّاسُ يَحْفِرُونَ عليهِ في الأَرْضِ، فَتَسْمَحُ الأَرْضُ بهِ قريبًا غيرَ بَعيدِ.

(١٤) مُلْتَقَى القوافِلِ

ثُمَّ رحلْنَا في وقت السَّحَرِ من يَوْمِ الْخَمِيسِ — بعْدَ أَن تزَوَّدْنا الْماءَ — فلَمَّا كانَ ضَحْوَةُ يَوْمِ الأَحَدِ نزَلْنا ﺑ«أَمْتانَ»

وفي هذا الْيوْمِ كانَ فَراغُنا مِنْ حِفْظِ كِتابِ اللهِ، عَزَّ وجَلَّ، لهُ الْحَمْدُ ولَهُ الشُّكْرُ عَلَى ما يَسَّر لَنا مِنْ ذلِكَ.

وقد وَرَدْنَا الْمَاءَ ﺑ «أَمْتانَ» فِي بِئرٍ معِينَةٍ، قَدْ خَصَّها اللهُ بِالْبَركةِ، وَهُوَ أَطْيَبُ مِياه الطَّريقِ وأَعْذَبُها. فَيُلْقِي كلُّ واردٍ دَلْوَهُ، وتلتَقي فيها دِلاؤُهُم التي لا تُحصى، فَتَرْوَى الْقوافِلُ النَّازِلَةُ عَليْها — عَلَى كَثْرَتِها — وتَرْوَى جَماعاتٌ كَثِيرة من الإبِل، لو وَرَدَتْ نَهْرًا من الأَنْهارِ لأَنْضَبَتْهُ وأَنْزَفَتْهُ.

وقد أَردنا أن نُحْصِيَ الْقَوافِلَ الْوارِدَةَ والصَّادِرةَ — في هذه الطَّريق — فما تَمَكَّنَ لَنا، ولا سِيَّما القَوافِلَ العَيْذَابيَّةَ التي تحْمِلُ سِلَعَ «الهند» وبضَائِعَها الْواصِلَةَ إِلى «الْيَمَنِ» ثُمَّ مِنَ «الْيَمَنِ» إِلى «عَيْذاب»

وأَكْثَرُ ما شاهَدْنا مِن ذلك أَحْمالُ الْفُلْفُلِ، فَلَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْنا — لِكَثْرَتهِ — أَنَّهُ يُوازِي التُّرابَ قِيمةً.

وقد كُنَّا نَسِيرُ بِقارِعَةِ الطَّريق — في تلك الصَّحْراءِ — فَنَرى أَحْمالَ الفُلْفُل والقِرْفةِ وغَيْرِها من البضائِعِ والسِّلَعِ، مَطْرُوحَةً — لا حارِسَ لها — وقد تُرِكَتْ في عُرْضِ الطَّريقِ، إِمَّا لإِعْياءِ الإِبِلِ الْحامِلَةِ لها أَوْ غيرِ ذلك من الأَعْذارِ. وتبقى تلك الأَحْمَالُ بِمَوْضِعها، إلى أَنْ يَنْقُلها صاحِبُها مَصُونَةً من الآفاتِ، عَلَى كَثْرَة المارِّينَ عليها من مُختَلِف النَّاسِ.

(١٥) طريق الوَضَحِ

ثُمَّ كانَ رَفْعُنا مِنْ «أَمْتَانَ» صَبِيحةَ يَوْمِ الإثْنَين، ونزَلْنا على ماءٍ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِاسْمِ «مُجاجٍ» بِمَقْرَبَة مِنَ الطَّريقِ، ظُهْرَ يوْمِ الاثْنَيْنِ، ومِنْهُ تَزَوَّدْنا الْمَاءَ لأَرْبَعَةِ أَيَّام — إِلَى مَاءٍ بِموْضِعٍ يُعْرَفُ باسْم «الْعَشَراءِ»، عَلَى مسافَة يَوْمٍ مِنْ «عَيْذَاب».

ومِنْ هذه الرِّحْلَةِ المُجَاجِيَّةِ يُسْلَكُ الْوَضَحُ، وهي رمْلَةٌ سَهْلَةٌ تَتَّصِل بساحِلِ بَحْر «جُدَّةَ» وتُوَصِّلُ إِلَى «عَيْذَاب»، حَيْثُ يمْشى المُسَافِرُ في أَرض فَسِيحَةِ الأَرجاءِ، يَمْتَدُّ فيها الْبَصر يَمِينًا وشِمَالًا.

وفي ظُهر الثُّلاثَاءِ كانَ رَفْعُنا مِنْ «مُجاجٍ»، سالكين عَلى الْوَضَحِ. وقَد استهلَّ هلالُ رَبيع الأَوَّل ليلةَ الجمعة، ونحن بآخِر الْوَضَح، عَلَى نحْو ثَلاثِ مَراحِلَ من «عَيْذَاب».

وفي وقت الغداة مِن يوم الْجُمُعَةِ، كان نُزولُنا عَلَى الْماءِ بمَوْضِعِ «الْعُشَرَاءِ»، عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ «عَيْذَاب».

وَماءُ هذا الْمَوْضِع لَيْسَ بِخَالِص الْعُذُوبَةِ. وهُوَ فِي بِئْرٍ غَيْرِ مَطْوِيَّة (غَيْرِ مَبْنِيَّةٍ من الداخِل).

وأَلْفَيْنَا الرَّمْلَ قد انْهالَ عليِها، وغطَّى ماءَها. فرامَ الْجَمَّالُونَ حَفْرَها واسْتِخْراج مائِها، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذلِكَ، وَبَقِيَتِ الْقَافِلَةُ لا ماءَ عِنْدَها.

فأَسْرَيْنَا تِلْكَ الليْلَةَ، فنَزَلْنَا — ضَحْوَةً — عَلَى ماءٍ قَرِيبِ مِنْ «عَيْذَاب»، وهو بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنها، تَسْتَقِي مِنْهُ الْقَوافِلُ وأَهْلُ الْبَلَدِ، ويَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَهو بِئْرٌ كَبِيرَةٌ.

(١٦) مدينة «عَيْذَاب»

فلمَّا كان عَشِيُّ يَوْمِ السَّبْتِ دخلنا «عَيْذَاب»، وهي مدينةٌ على ساحِلِ بَحْرِ «جُدَّة»، غَيْرُ مُسَوَّرةٍ، أَكثرُ بيوتِها الأَخْصاصُ، وفيها الآن بناءٌ مُسْتَحْدَثٌ بالْجِصِّ. وَهيَ من أَحْفَلِ مَراسِي الدُّنْيا، لأَنَّ مراكِبَ الهندِ والْيَمَنِ تَحُطُّ فيها، وتُقْلِع منها، زَائِدًا إِلى مَراكب الحُجَّاجِ الصادرةِ والواردةِ. وهي في صَحراءَ لا نَباتَ فيها، ولا يُؤكلُ فيها شيْءٌ إِلاَّ مَجْلُوبٌ يَجيئها من البلادِ الأُخرى.

لكِنَّ أَهلَها — بِسَبَبِ الْحُجَّاج — تحْتَ مَرْفقٍ كثيرٍ، وفي خَيْرٍ عميمٍ، لأَنَّ لهم — على كلِّ حِمْل طَعامٍ يَجْلُبونَهُ — ضريبةً معلومةً خفيفَةَ المُؤْنَةِ، إِذا قيسَتْ إلى الوظائِفِ المُكُوسيَّةِ التي كانوا يتقاضَوْنَها قبلَ اليوْمِ.

وقد ذكرنا أَن «صَلاحَ الدين» قد أَزالها، ولهم أَيضًا من المَرافِقِ من الحاجِّ إِكراءُ الْجِلاَبِ منهم (أَجرُ المَراكب)، فَيَجْتَمِعُ لهم مِنْ ذلك مالٌ كثيرٌ يتقاضَونَهُ من حمْل الحجَّاج إِلى «جُدَّةَ» ورَدِّهِمْ إِلى «عَيْذَاب» وقتَ انفِضاضِهِمْ من أَداءِ الْفَرِيضَةِ.

(١٧) في دارِ الحَبَشِيِّ

ولَسْتَ تَرى أَحدًا مِنْ أَهلها ذَوِي الْيَسَار والغِنى إِلاَّ مَنْ لهُ الْجَلَبَةُ والْجَلَبتان (المرْكَب والمَركَبَانِ). فهي تعود عليهم برزق واسِعٍ. سُبْحَانَ قاسِمِ الأَرزاقِ على اخْتِلافِ أَسبابها، لا إِله سِواهُ.

وكان نُزُولُنا فيها بِدَارٍ تُنْسَبُ إِلى «مَونَح» أَحَدِ قُوَّادِها الْحَبَشِيِّينَ الذينَ بَنَوْا فيها المَنازلَ وتأَثَّلُوا بها (اكتَسَبُوا وأَسَّسُوا) الدِّارَ والرِّباعَ والْجِلابَ.

(١٨) مغاصُ اللؤْلؤ

وفي بَحرِ «عَيْذَاب» مَغَاصٌ عَلَى اللُّؤْلُؤ في جزائر على مقرَبة منها. وأَوانُ الْغَوْصِ عليهِ في هذا التاريخِ الذي أُقَيِّدُ فيه هذه الأَحْرُفَ — وهو شَهْرُ يونْيُو الْعجمي — والشَّهْرُ الذي يَتْلُوهُ.

ويُسْتَخْرَجُ منهُ جَوْهَرٌ نَفِيسٌ، لهُ قِيمةٌ سَنِيّةٌ، يَذْهَبُ الغائِصونَ عليهِ إِلى تلك الْجَزائِرِ في الزَّوارِيقِ، ويقيمونَ فيها الأَيَّامَ، فَيَعُودونَ بما قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ واحِد منهم بِحَسَبِ حَظِّهِ مِنَ الرِّزْقِ. والْمَغاصُ منها قريبُ القَاعِ، ليسَ ببعيدٍ. وَيَسْتَخْرِجُونَهُ في أَصْدافٍ لها أَرْواحٌ — كَأَنَّها نَوْعٌ منَ الْحِيتانِ — وهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالسُّلَحْفاةِ. فإِذا شُقَّتْ ظَهَرَتِ الشَّفتانِ — مِن داخلها — كأَنَّهُما مَحارتَا فَضَّةٍ. ثمَّ يَشُقُّون عليها فَيَجِدُونَ فيها الْحَبَّةَ — منَ الْجَوْهَرِ — قد غَطَّى عليها لَحْمُ الصَّدَفِ. فَيَجْتمِعُ لهمُ من ذلك بِحَسَبِ الْحُظُوظِ والأَرْزَاقِ. فَسُبْحانَ مُقَدِّرِها لا إِله سِواهُ.

(١٩) سُكانُ الجِبالِ

لكِنَّهُمْ بِبلْدَةٍ لا رطْبَ فيها ولا يابِس، قد أَلِفُوا بها عَيْشَ البَهائِمِ. فَسُبحانَ اللهِ المُحَبِّبِ الأَوْطانَ إِلى أَهْلِها!

على أَنَّهم أَقْربُ إِلى الْوحْشِ منهم إلى الإِنْسَانِ.

والرُّكوبُ من «جُدَّةَ» إِليها آفةٌ لِلْحُجَّاجِ عظيمةٌ، إِلاَّ الأَقلَّ منهم، مِمَّنْ يُسَلِّمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. وذلك أَنَّ الرِّياحَ تُلْقِيهمْ — على الأَكْثَر — في مراسٍ بِصَحاري تَبْعُدُ منها مما يلي الْجَنُوبَ. فينْزِلُ إِليهم البُجاةُ — وهم نوْعٌ من السُّودانِ ساكِنُونَ بالْجِبَالِ — فَيُكْرُونَ منهم الجمالَ، ثمَّ يَسْلُك بهم البُجاةُ غيرَ طريقِ الماءِ. فَرُبمَا ذهب أَكْثَرُهُمْ عَطَشًا وحصل الْبُجاةُ عَلَى ما تَخَلفَ منْ نَفَقَةٍ أَوْ سِواها. ورُبما كان من الْحُجَّاجِ مَنْ يتَعَسَّفُ تلك الصحراءَ عَلَى قَدَمَيْهِ، ويمشي فيها على غير هُدًى، فَيَضِلُّ ويَهْلِكُ عَطَشًا. والذي يسْلَمُ منهم يصلُ إِلى «عَيْذَاب» كأَنَّهُ مَيِّتٌ قد عادَ إِلى الحياةِ وهَوُ مُنَشَّرٌ من كَفَن.

وقد شاهَدْنا منهمْ — مُدَّةَ مُقامِنا — أَقْوامًا قد وَصلوا عَلَى هذه الصِّفَةِ. في مَناظِرِهِم الشَّاحِبَةِ المُسْتحِيلَةِ وهَيْئَاتهِمُ الْمُتغَيِّرة، آيةٌ لِلْمُتَوسِّمينَ، وَعِبْرَةٌ للنَّاظِرينَ.

•••

وأَكْثَر هَلاَكِ الْحُجَّاجِ بِهذهِ المَراسِي، ومنهم منْ تُسَاعِدُهُ الريحُ إِلى أَنْ يَحُطَّ بمُرْسَى «عَيْذَاب» وَهُوَ الأَقَلُّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤