الملاك يستكشف القرية
٢٤
أقدم الكاهن على تصرف لا أجده حكيمًا؛ سمح للملاك أن ينزل إلى القرية وحده ليُكوِّن فهمًا أفضل عن البشرية. لم يكن تصرُّفًا حكيمًا، فكيف يتوقع أن يستقبل الناسُ الملاك؟ لا بد أن يجذب الانتباه. لطالما أحاط الكاهن نفسه بهالةٍ من الوقار في القرية، أما أن يحتشد الناس في موكب يعبر الشوارع الرئيسية، فتكثر التعليقات الفضولية، والتفسيرات والإشارات، فكان ذلك أكثر مما يحتمل. وقد يصدر عن الملاك تصرفات يراها الناس غريبة للغاية لا شك. عيونٌ محدقة، لسان حالها يسأل: «ومن هذا الذي أتى به الآن؟» ألم يكن من واجبه أن يُعدَّ عظته في الوقت المناسب؟ انطلق الملاك مبتهجًا وحده بتوجيه من الكاهن، ولم تزل نفسه ملائكيةً نقية لم تعكرها طباع البشر.
مشى الكاهن متمهِّلًا، يداه البيضاوان متشابكتان وراء ظهره المحدب، يوجه وجهه النضر هنا وهناك. حدق في فضول إلى وجوه الناس الذين صادفهم في طريقه. بينما هو كذلك كان طفلٌ يميل لاقتطاف بعض نباتات البيقة وزهر العسل فوقع نظر الطفل عليه، فما كان منه إلا أن تقدم نحوه ووضع ما اقتطف في يده. كان ذلك هو التصرف الطيب الوحيد الذي لاقاه من البشر (فيما عدا الكاهن، وشخصًا آخر). سمع الجدة جاستيك توبخ حفيدتها وهو يمر من الباب: «أيتها المنحرفة المتبجِّحة! أيتها التافهة العديمة النفع!»
توقف الملاك مذهولًا من الكلمات الغريبة التي تلفظت بها الجدة جاستيك: «ترتدين أفضل ملابسك، وتتزينين على أتم ما يكون، ثم تذهبين للقاء لا أدري من، وأنا في المنزل أعمل كالعبيد من أجلك، أي سيدة ستكونين؟ متبرجة لا قيمة لك.»
توقف الصوت فجأة، فعمَّ المكانَ السكون، قال الملاك: «يا للغرابة!» وهو لم يزل يشاهد المشاحنات العديدة. خاطب نفسه مستغربًا: «متبرجة لا قيمة لك!» لم يكن يعرف أن السيدة جاستيك لاحظته وكانت تتأمل مظهره من وراء الستار. انفتح الباب فجأة، وحدقت في وجه الملاك. كانت غريبة المظهر؛ شعرٌ أبيض مليء بالأتربة، وفستانٌ ورديٌّ متسخٌ مفتوح يُظهر انتفاخ عروق رقبتها، ووجه كرأس وحشٍ غريب، انطلق منه فجأة وابل من الإهانات:
«أليس لديك شيءٌ تفعله غير استراق السمع لما يجري خلف أبواب الناس؟»
حدق فيها الملاك مشدوهًا.
فقالت: «هل سمعت ما قلت؟»
رد الملاك: «هل تعترضين على سماعي؟!»
ردت: «أعترض على سماعك لي؟! بالطبع أعترض، ماذا كنت تظن؟ يا لك من أبله!»
قال الملاك: «لكن إن لم تريديني أن أسمع، فلماذا صرختِ هكذا بصوتٍ عالٍ؟ ظننتك …»
قالت: «ظننتني ماذا؟! يا لك من ضعيف، أيها الغبي المتطفل، أليس لديك شيءٌ تفعله أفضل من التحديق فيمن قد يصادفك وفَتْح فمك كالأبله ثم نقل الكلام في الأرجاء؟ أيها السخيف الثرثار، يجدر بك أن تخجل من التطفُّل على بيوت الناس واستراق السمع.»
فوجئ الملاك عندما وجد أن سمةً ما في صوتها أثارت في نفسه أسوأ الأحاسيس، وتولدت لديه رغبةٌ قوية في الانسحاب، لكنه قاوم رغبته تلك ووقف يستمع بتهذيب (على عادة قومه في أرض الملائكة في الإنصات لمن يتحدث). لم يفهم ثورتها على الإطلاق؛ إذ لم يجد سببًا لانطلاقها في وصلة الذم التي لم تبدُ لها نهايةٌ قريبة، كما لم يسبق له أن سمع أحدًا يطرح عليه سيلًا من الأسئلة ثم لا ينتظر إجابة.
أطلقت السيدة جاستيك عليه لسانها الحادَّ الذي عُرفت به، فأكدت له أنه ليس رجلًا مهذبًا، وسألته عما إذا كان يعتبر نفسه كذلك، وقالت إن كل المتسولين يفعلون مثله هذه الأيام، وشبهته بالخنزير المذبوح، وأبدت تعجبها من وقاحته، وسألته كيف لا يخجل من نفسه وهو واقف مكانه، وما إذا كانت قد نبتت له جذور ثبتته في الأرض، وأرادت أن تعرف ما كان يقصد بتصرُّفه، وسألته عما إذا كان قد سرق ملابسه من فزاعة الطيور، وقالت إن غرورًا غريبًا وراء سلوكه، وسألته إن كانت أمه تعرف أنه خرج من البيت وحده، وفي النهاية قالت: «لديَّ شيء سيحركك من مكانك.» ثم عادت إلى المنزل وصفقت الباب وراءها.
شعر الملاك بسلامٍ تامٍّ بعد أن ذهبت؛ فقد أُمهل عقله استراحةً يحلل فيها أحاسيسه المضطربة. كفَّ عن الانحناء والابتسام، ووقف مكانه مشدوهًا.
خاطب الملاك نفسه قائلًا: «في هذا الإحساس ألمٌ غريب، يكاد يفوق إحساس الجوع كراهة، ولكنه مختلف عنه، فعندما يكون المرء جائعًا، يشعر برغبة في الأكل. أعتقد أنها كانت امرأة، أريد الانصراف الآن، أعتقد أني سأنصرف.»
استدار ببطء، ومضى في طريقه متفكرًا، ثم سمع باب المنزل يُفتح مجددًا، والتفت فرأى عبر نباتات من الفاصوليا الإسبانية، السيدة جاستيك تحمل قِدرًا مليئًا بماء كانت تغلي فيه ملفوفًا ويتصاعد منه البخار، جاء صوتها من خلف الأزهار القرمزية يقول:
«من الجيد أنك انصرفت يا سارق البنطال، لا تأتِ للتطفُّل واختلاس النظر حول هذا المنزل مرةً أخرى وإلا فسأُعلِّمك الأدب، أنا أعني ما أقول.»
وقف الملاك في ارتباكٍ شديد، لم تكن لديه رغبة في الاقتراب من المنزل مرةً أخرى أبدًا. لم يفهم بالتحديد ماذا أرادت أن تفعل بالقِدر الأسود، لكن شعوره العام كان الاستياء، لم يكن لديه تفسير للأمر.
صاحت السيدة جاستيك بنبرةٍ متصاعدة: «سأفعلها!» وكررت: «حقًّا سأفعلها!»
استدار الملاك ومضى في سبيله، وفي عينَيه نظرةٌ متحيرة.
وخاطب نفسه: «كانت غريبة جدًّا! أكثر غرابة من الرجل القصير المتَّشح بالسواد، وكانت تعني ما تقول، لكني لا أعرف ما كانت تعني.» ثم صمت لبرهة ثم خاطب نفسه مجددًا وهو لم يزل متحيرًا: «أعتقد أنهم جميعًا يعنون شيئًا.»
٢٥
واصل الملاك سَيره حتى اقترب من ورشة الحدادة وأصبح على مرأًى من قاصديها، وكان شقيق ساندي برايت يُثبِّت حَدَواتٍ على حوافر حصانِ حوذيٍّ من أمبرتون، في حين كان مراهقان يقفان بالقرب من الورشة يتابعان تركيب الحدوات وعلى وجهَيهما أمارات البلادة. وبينما اقترب الملاك استدار المراهقان ثم الحوذي نحوه ببطء بزاوية ضيقة وأخذوا يُحدِّقون فيه بهدوء وثبات، ولم يبدُ على وجوههم أي انطباع.
شعر الملاك لأول مرة بالحرج، واقترب أكثر محتفظًا بنظرة ودٍّ على وجهه، ولو لم يجد ردًّا لها سوى نظراتهم الخالية من التعبير. وكانت يداه خلف ظهره وعلى وجهه ابتسامةٌ مبهجة، وأخذ يراقب الحدَّاد وهو منهمك فيما بدا له شيئًا غير مفهوم. وكانت عيون المراهقَيْن والحوذي موجهةً نحوه، فانشغل بالنظر إلى الثلاثة معًا وتشتَّت انتباهه وتعثَّر في حجر. فانطلقَت من أحد الأجلاف الثلاثة ضحكة سخرية، وتعذَّر عليه فهم نظرة الملاك المستفهمة، فوكز رفيقه بكوعه ينبهه، ولم ينبس أيٌّ منهما، ولا الملاك، بكلمة.
ولم يكد الملاك يمر من أمامهم، حتى همهم أحدهم بهذا اللحن على نحوٍ عدواني:
فانفجر الثلاثة بالضحك، وحاول أحدهم أن يتغنَّى ببعض الكلمات فمنعه امتلاء حلقه بالبلغم، ومضى الملاك في طريقه.
قال المراهق الآخر: «من يكون هذا؟»
وكان الحدَّاد حينئذٍ منهمكًا بمطرقته.
قال الحوذي: «ظني أنه أحد الغرباء عن القرية، يبدو عليه حمق وبلاهة بالغان.»
علق أحد المراهقين بتحذلق: «هكذا هم الأغراب.»
قال الحوذي: «على ظهره شيء يشبه السَّنام كثيرًا، بل هو سَنامٌ بالتأكيد.»
ثم عمَّ الصمت مجددًا، وواصلوا تحديقهم في جسمه المبتعد بدون إبداء أي انطباع.
وبعد صمتٍ طويل قال الحوذي مجددًا: «يشبه السَّنام كثيرًا بالفعل.»
٢٦
استأنف الملاك مشيه في القرية منبهرًا بكل ما يراه، وتناهى إلى سمعه صوت شخص لم يره يدندن بكلمات غير مفهومة تتماشى مع اللحن الذي سمعه من ذلك المراهق عند ورشة الحدادة، فخاطب نفسه متحيرًا: «يبدءون، ثم لا يلبثون أن يتوقفوا، ولكن ماذا يفعلون بين البداية والتوقف؟»
قالت سارة جلو (التي تقطن في ١ تشيرتش كوتدجز)، وهي تنظر من وراء الستار: «هذا هو الكائن الذي أطلق الكاهن عليه النار ببندقيته الكبيرة.»
وقالت سوزان هوبر وقد تملَّكها الفضول: «يبدو فرنسيًّا.»
رأت سارة جلو عينَيه للحظة فقالت: «عيناه جميلتان!»
واصل الملاك تمشيته، مرَّ ساعي البريد بجواره فلمس الساعي قبعته مُحيِّيًا إياه، ثم رأى كلبًا نائمًا تحت أشعة الشمس، وأكمل مشيه فصادف ميندام الخوري، فأومأ ميندام برأسه محييًا من بعيد ومرَّ سريعًا (إذ لم يكن الخوري يريد أن يراه أحد يتحدث مع الملاك في القرية حتى يعرف عنه المزيد). وسمع من أحد المنازل صراخًا عاليًا أصدره طفل، فارتسمت الحيرة على وجهه الملائكي. بعد ذلك وصل الملاك إلى جسرٍ منخفض عن آخر المنازل التي مرَّ بها، فاتكأ على سور الجسر وظل يراقب تتابع شفرات الطاحونة اللامعة.
تابع قنطرة الطاحونة، فخاطب نفسه: «يبدءون، ثم لا يلبثون أن يتوقفوا!» واندفعت المياه تحت الجسر مخضرةً وداكنة يخطُّها الزَّبَد.
ارتفع وراء الطاحونة برج الكنيسة المربع الشكل ووراءه ساحة الكنيسة، وتناثرت على جانب التل شواهد القبور والألواح الخشبية، وأطَّرت ست شجرات زان المشهد كله.
سمع الملاك صوت خطوات واحتكاك عجلات من خلفه، واستدار فرأى رجلًا يرتدي أسمالًا بُنيَّةً متسخة وقبعة من اللِّبْد تكاثرت عليها الأتربة فصبغتها بلونٍ رمادي، كان الرجل يهتزُّ اهتزازًا طفيفًا في وقفته ويُحدِّق في ظهر الملاك، وكان وراءه رجلٌ آخر لا يقل عنه اتِّساخًا، يدفع عربةَ صقلِ سكاكينَ على الجسر.
قال الأول وهو يبتسم ابتسامةً خفيفة ويكتم فُواقه: «طاب صباحك!»
فحدق فيه الملاك، ولم يكن قد سبق له أن رأى ابتسامةً مصطنعة من قبلُ، فردَّ الملاك سائلًا: «من أنت؟»
اختفت الابتسامة المصطنعة وردَّ الرجل، بلسان أثقله السُّكْر: «ليس من شأنك من أنا، ما اسمُك؟»
وجاء صوت الآخر يستحثه من ورائه: «هيَّا!»
كرر الرجل المتسخ بنبرةٍ حادة: «ما اسمك؟ ألا يمكنك إجابتي؟»
وجاء صوت صاحب العربة مجددًا: «هيا أيها الأحمق، أفسح الطريق.» وتراجع بعربته.
قال الملاك: «لا أفهم.»
رد الرجل بكلمات حالت ثمالته دون أن تخرج واضحة: «ألا تفهم؟ سؤال بسيط، ما اسمك؟ ألن تجيبني؟ ألن تفعل؟ لم ترد تحية الصباح، فلتعطني إجابة. لا عليك، فلتفعل ما يحلو لك.»
تحيَّر الملاك، ووقف الرجل السكران يترنَّح لوهلة، ثم سحب قبعته من فوق رأسه فجأة ورماها بين قدمَيِ الملاك، وقال بلهجة مَن حَزَم أمرًا مهمًّا: «حسنًا إذن.»
جاء صوت صاحب العربة مجددًا يقول: «هيَّا!» ووقف على بُعد عشرين ياردةً تقريبًا.
قال الثمل: «أتريد القتال، أيها اﻟ… سأُلقِّنك درسًا، لا ترد عليَّ تحية الصباح!» ولم يفهم الملاك كلمةً مما قال.
حاول الرجل خلع سترته وهو يقول: «تظنني ثملًا؟ سألقنك درسًا!» وجلس صاحب العربة يشاهد العراك المنتظر. قال الرجل الثمل: «هيا!» وكان معطفه معقدًا، فظل الرجل يترنَّح على الجسر وهو يحاول خلعه، ويتلفَّظ في الوقت ذاته بكلمات التهديد والوعيد. وبعد فترةٍ بدأ الملاك يشكُّ في أن هذه الحركات والأقوال ذات طابعٍ عدائي، واصل الثمل تهديده والسترة عالقة على رأسه تقريبًا: «لن يميز أحدٌ شكلك بعدما أفرغ منك.»
انخلعت السترة أخيرًا واستقرت على الأرض، وكشف الصديري المهترئ الذي كان يرتديه ذلك العامل المتجول الثمل عن جسمٍ عضليٍّ مُشعر لم يخفَ عن عينَي الملاك. وأخذ الرجل وضعية التأهب للقتال.
رفع قبضتَيه أمام وجهه، ورفع كوعيه، وأخذ يتقدم ويتراجع وهو يقول: «امسح هذا الطلاء عنك، هيا!»
ألحَّ قائلًا: «هيا!»
تركز انتباه الملاك على القبضتَين السوداوَين المشعرتَين وهما تتمايلان وتتقدمان وتتراجعان، وصاح الرجل ذو الملابس الرثة: «هيا، سألقنك درسًا!» ثم بصوت أكثر شراسة: «سأنكِّل بك!»
وفجأة اندفع الرجل نحو الملاك، وتحرَّك الملاك بفعل غريزةٍ جديدة عليه، فرفع ذراعه على نحوٍ دفاعي وتفادى هجمة الرجل. كادت قبضة الرجل تصيب كتف الملاك، لكنه أخطأه وسقط أرضًا بفعل اندفاعه وارتطم وجهه بسور الجسر. تردَّد الملاك لوهلة فيما كان عليه فعله بشأن الرجل الذي تكوَّم أرضًا، ثم التفت إلى رفيقه، في حين كان الرجل يقول: «دعني أقف، دعني أقف مرةً أخرى أيها الخنزير، سألقِّنك درسًا!»
شعر الملاك بتقزُّزٍ غريب ونفورٍ شديد، وابتعد عن الرجل الثمل ببطء، وتوجه إلى صاحب العربة، وقال:
«ماذا يعني كل ذلك؟ لا أفهم ذلك!»
رد صاحب العربة منزعجًا: «هذا الأحمق اللعين يقول إن اليوم يوم زفافه الفضي.» ثم نادى صاحبه قائلًا: «هيا!»
وقال الملاك: «زفافٌ فضي؟! ماذا يعني ذلك؟»
رد الرجل: «محض هراء، دائمًا يفتعل عذرًا كهذا، أمرٌ مزرٍ، كان عيد ميلاده البهيج في الأسبوع الماضي، ولم يكد يفيق من الثمالة حتى أفرط في الشراب مجددًا. (هيا أيها الأحمق.)» ثم خاطب رفيقه الثمل: «هيا أيها الأحمق.»
قال الملاك: «لكن، لا أفهم، لمَ يترنح هكذا؟ ولماذا يحاول التقاط قبعته من على الأرض هكذا، ولا يتمكن من الإمساك بها؟»
رد صاحب العربة: «يبدو أن أهل هذا البلد يتسمون بالبراءة حقًّا! لأن الثمالة أعمَتْه! وماذا قد يكون السبب غير ذلك؟ (هيا، عليك اللعنة).» ثم عاد لمخاطبة الملاك: «لأنه شرب حتى لم يعد في جسدِه متَّسعٌ لقطرةٍ أخرى، هذا هو السبب.»
لاحظ الملاك نبرة صاحب العربة فاستصوب أن يكف عن طرح الأسئلة عليه، ووقف بجوار العربة يشاهد الرجل الثمل على الجسر.
«هيا! أعتقد أني سأضطر لالتقاط هذه القبعة، دائمًا ما يثمل هكذا، لم يكن لي شريك مثله من قبلُ، دائمًا يثمل هكذا.»
تأمَّل صاحب العربة قائلًا: «كما لو كان نبيلًا غير مضطر لكسب العيش، ما إن يشرب قليلًا حتى يصبح أبله متهورًا هكذا، ويستفز كل من يصادفه (هاك القبعة)، سأكون محظوظًا إن لم يقدم على استفزاز جيش الاستقلال كله للقتال (يا إلهي! هيا يا رجل!) سأضطر لالتقاط القبعة مجددًا الآن، لا يأبه بالإزعاج الذي يسببه للآخرين.»
شاهد الملاك صاحب العربة يعود ممتعضًا لمساعدة رفيقه في ارتداء القبعة والسترة. ثم التفت الملاك عائدًا إلى القرية وقد بلغت به الحيرة مداها.
٢٧
بعد هذه الواقعة، مضى الملاك في طريقه فتجاوز الطاحونة ووصل إلى ما وراء الكنيسة ليتفقد شواهد القبور.
خاطب الملاك نفسه وهو يقرأ العبارات المنقوشة على شواهد القبور: «لا بد أن هذا هو المكان الذي يضعون فيه الأجزاء المتداعية، كلماتٌ غريبة: رفات! سأنهض من جديد! أي أن أمرهم لم ينتهِ تمامًا، عزيمةٌ قوية.»
ثم قال الملاك بصوتٍ خفيض: «هوكينز؟ هوكينز؟! الاسم غريب عليَّ، لم يمت في ذلك الحين … الأمر واضح، انضم إلى زمرة السمائيين في ١٧ مايو ١٨٦٣، لا بد أنه شعر باغتراب هناك كاغترابي أنا هنا، أتساءل لمَ يضعون هذا الإناء فوق الشاهد؟ غريب! هناك العديد من الأواني الحجرية الأخرى، أوانٍ حجريةٌ صغيرة عليها غطاءٌ حجري أيضًا.»
حينئذٍ تدفَّق صبيةٌ كُثرٌ من المدرسة الوطنية، ووقف أحدهم فاغرًا فاه عندما رأى الملاك مُتشحًا بالسواد وواقفًا بين الشواهد البيض، ثم تبعه آخرون وفعلوا مثله، فقال أحدهم: «انظروا إلى ظهره الغريب!»
وقال آخر: «شعره كشعر الفتيات!»
التفت الملاك نحوهم فاستغرب منظر رءوسهم الصغيرة البارزة من وراء الجدار المغطَّى بالأشنة، وابتسم في وجوههم المحدقة ابتسامةً خفيفة ثم التفت إلى السياج الحديدي الذي أحاط بقبر فيتز-جيرفيز، وقال: «إحساسٌ غريب بعدم اليقين، ألواح وأكوام من الحجر وأسيجة، هل يخافون شيئًا ما؟ هل يحاول هؤلاء الموتى النهوض من رقدتهم؟ هناك بعض القمع، التحصينات.»
أخذ ثلاثة من الصبية يغنون معًا: «قص شعرك، قص شعرك.»
خاطب الملاك نفسه: «غريب أمر هؤلاء البشر! بالأمس كان ذاك الرجل يريد قصَّ جناحيَّ، والآن يريد هؤلاء الصغار أن أقصَّ شعري! قريبًا لن يتركوا فيَّ شيئًا.»
صاح صبيٌّ آخر: «من أين لك بهذه القبعة؟» وآخر: «من أين أتيت بهذه الملابس؟»
خاطب الملاك نفسه: «يسألون أسئلة يبدو جليًّا أنهم لا يريدون إجابات لها، ألاحظ ذلك من نبرة حديثهم.» ونظر إلى الصبية الصغار متفكرًا وتابع: «لا أفهم طرائق البشر في التواصل، يبدو أن هذه الإيماءات ودية، طقس من نوعٍ ما، لكني لا أعرف كيف يكون الرد عليها، أعتقد أني سأعود إلى الرجل القصير السمين ذي السلسلة الذهبية المعلقة على بطنه فأطلب منه التفسير.»
استدار واتجه إلى البوابة، وعندئذٍ سمع أحد الصبية الصغار يصيح ويرمي قشرة ثمرة زان. فسقطت على الطريق أمام ساحة الكنيسة، وتوقف الملاك متفاجئًا.
ضحك كل الصبية الصغار، وقلَّد صبيٌّ آخر صيحة الأول ورمى قشرة أصابت الملاك، فذهل ذهولًا بالغًا، وبدءوا جميعًا يصيحون الصيحة نفسها ويقذفون قشور ثمر الزان. وأصابت إحداها يد الملاك، وأصابته قشرةٌ أخرى بجوار أذنه. وتحرك الملاك نحوهم مرتبكًا، وتلفَّظ ببعض كلمات الاحتجاج حتى وصل إلى الطريق. دُهش الصبية الصغار وتملكهم الذهول من فرط ارتباكه وجُبنه. ولم يكن هذا السلوك الذي بدا فيه الحمق مما يُنصح به، غَزُر وابل المقذوفات، ربما تمكنتَ من تخيل هذه اللحظات بوضوح، صبيةٌ صغار متبجِّحون يطاردونه ويطلقون مقذوفاتهم عليه، وآخرون يُهرعون لإمدادهم بالمقذوفات. وأثار المشهد كلب ميلتون سكريفر الهجين، فأخذ يتراقص بالقرب من قدمَي الملاك (ويتخيل للمشهد تفسيراتٍ عديدة).
وعندئذٍ جاء صوتٌ جهوري يصيح: «مرحبًا! لم أتوقع …! أين السيد جيرفيز؟ تأدَّبوا! تأدَّبوا! أيها المشاغبون الصغار!»
تفرق الصغار يمنة ويسرة، وتسلق بعضهم الجدار إلى الملعب، وأسرع بعضهم بطول الشارع.
اقترب منه كرامب قائلًا: «هؤلاء الصغار أصبحوا كالآفة المزعجة! أعتذر عن مضايقتهم إياك.»
بدا على الملاك بعض الانزعاج وقال: «لا أفهم؛ هذه التصرفات البشرية …»
قاطعه كرامب: «نعم أعرف، غريبة عليك بالطبع، كيف أصبحت زوائدك؟»
قال الملاك: «كيف أصبح ماذا؟»
قال كرامب: «الطرفان الزائدان، كيف أصبحا؟ الآن بعد أن نزلت إلى الشارع هكذا، تفضل بالدخول، تفضل ودعني أُلقِ نظرةً أخرى عليهما، يا لهؤلاء الصغار المشاغبين! سأخرج هؤلاء المشاغبين من المنزل. كلهم سواء في هذه القرى، لا يفهمون شيئًا يخرج عما ألفوه، يرون غريبًا ذا هيئةٍ مختلفة، فيقذفونه بالأحجار، لا يتعدَّى خيالهم حدود الأبرشية. سأعطيكم دواءً ملينًا إذا رأيتكم تضايقون الغرباء مرة أخرى! أعتقد أن هذا هو المتوقع، تفضَّل من هنا.»
هُرع الملاك إلى العيادة لتبديل ضمادة جرحه ولم يزل الارتباك يتملَّكه.