مغامرات أخرى للملاك في القرية

٢٩

قال كرامب بعد تبديل الضمادة: «كل شيء على ما يُرام، لا شك أن ذاكرتي تخدعني فتصور لي أن زائدتَيك تبدوان أصغر مما كانتا بالأمس، أعتقد أني كنت متفاجئًا بهما بالأمس، فلتتناول الغداء معي قبل أن تنصرف من هنا، وجبة منتصف اليوم أقصد، سيعود الصغار إلى المدرسة مجددًا بعد الظهر.»

وواصل وهما في الطريق إلى غرفة الطعام: «لم أرَ جرحًا يندمل بهذه السرعة قط، لا بد أن دمك ولحمك نقيان لأقصى درجة.» وأضاف بصوت حاول خفضه: «بصرف النظر عما قد تظن.»

على مائدة الغداء راقب كرامب الملاك عن كثب، وأخذ يستدرجه للانفتاح في الحديث.

فقال فجأة: «هل أتعبتك الرحلة بالأمس؟»

رد الملاك: «الرحلة؟! نعم شعرت ببعض التيبس في جناحيَّ.»

خاطب كرامب نفسه: «لا تنخدع! أعتقد أني سأضطر إلى الدخول في صلب الموضوع.»

وقال للملاك: «طرت المسافة كلها إلى هنا؟ لم تستخدم أي مركبة؟»

رد الملاك وهو يضع بعض الخردل: «لم يكن ثمة وسيلةٌ أخرى، كنت أطير في تناغم مع بعض كائنات الجريفين والكاروبيم الناري، ثم حل ظلامٌ دامس ووجدت نفسي في عالمكم هذا.»

قال كرامب: «يا للعجب! لذلك لم تكن معك أي أمتعة.» ومسح فمه بمنديل المائدة، في حين بدت في عينَيه ابتسامة خفيفة.

وواصل: «أفترض أنكم تعرفون عالمنا هذا جيدًا؟ تراقبوننا من فوق الجدران العالية الصلبة أو شيء من هذا القبيل، صحيح؟»

رد الملاك: «لا نعرفه جيدًا، نحلم به أحيانًا تحت ضوء القمر، عندما تداهمنا الكوابيس.»

قال كرامب: «بالطبع، تصور شاعري للغاية، أتود شرب بعض البورجوندي؟ إنه بجوارك مباشرة.»

ثم واصل: «هناك اقتناع في عالمنا هذا بأن زيارات الملائكة ليست نادرة أبدًا، ربما سبق لبعض من أصدقائك الترحال؟ من المفترض أن يتنزلوا على المسجونين الذين يستحقون الزيارة، ويؤدوا بعض الرقصات المتناغمة أو شيئًا من هذا القبيل، مثلما يرد في رواية فاوست.»

رد الملاك: «لم أسمع قط بأي شيء مثل ذلك.»

قال كرامب: «منذ أيامٍ قليلة أكدت لي سيدة كنت أعالج رضيعها من عسر الهضم أن تعبيراتٍ معينة ترتسم على وجه الرضيع تدل على أنه يحلم بالملائكة، تعتبر السيدة هينري وود في رواياتها ذلك نذيرًا أكيدًا للموت المبكر، ألا يمكنك تقديم أي إيضاحات عن هذا العَرَض الغامض؟»

قال الملاك متحيرًا لا يفهم ما يقصده الطبيب: «لا أفهم ذلك على الإطلاق.»

خاطب كرامب نفسه: «بدأ يمتعض، يظن أني أسخر منه.»

ثم خاطب الملاك: «شيءٌ واحد يثير فضولي؛ هل يشكو الوافدون الجدد كثيرًا ممن يقدمون لهم الرعاية الطبية؟ لطالما تخيلت أن هناك الكثير من الحديث عن العلاج باستخدام الماء في البداية، كنت أشاهد صورة في الأكاديمية في شهر يونيو الماضي …»

قال الملاك: «وافدون جدد؟! لا أفهمك على الإطلاق.»

حدق فيه الطبيب وقال: «ألا يفدون إليكم؟»

قال الملاك: «يفدون؟ من؟»

رد الطبيب: «الناس الذين يموتون هنا.»

سأل الملاك: «بعد أن يتداعوا هنا؟»

رد الطبيب: «هذا هو الاعتقاد الشائع.»

قال الملاك: «تقصد أشباه المرأة التي وقفت تصرخ أمام الباب، أو الرجل ذا الوجه الأسود الذي كان يتلوَّى على الجسر، أو الصغار البغيضين الذين كانوا يقذفون القشور، كلا، لم أرَ مثل هذه المخلوقات قط قبل أن أقع في هذا العالم.»

رد الطبيب: «عجيب! ستقول لي بعد ذلك إن زيَّك الرسمي ليس أبيض اللون وإنك لا تجيد العزف على القيثارة.»

قال الملاك: «لا يوجد ما يسمى بالأبيض في أرض الملائكة، ما لدينا هو ذلك اللون الخالي الذي ينتج عن مزج كل الألوان الأخرى.»

غيَّر الطبيب نبرة صوته فجأة وقال: «سيدي العزيز! يبدو أنك لا تعرف شيئًا عن الأرض التي تأتي منها؛ فالأبيض أساسها.»

حدق الملاك فيه ليحاول التأكد من أنه لا يمزح، فوجد ملامحه جادةً تمامًا.

قال كرامب: «انظر!» وتوجَّه إلى طاولة كانت عليها نسخة من مجلة الأبرشية، فأحضرها إلى الملاك، وفتحها على الملحق الملون وواصل: «يمكنك أن ترى أن الأجنحة ليست وحدها ما يميز الملائكة، فهناك اللون الأبيض، والرداء المجعد الذي يطير في السماء مع ضربات الأجنحة، هؤلاء ملائكة وفقًا لأكثر المصادر موثوقية. انظر إلى شعرهم الهيدروكسيلي، أحدهم يُمسك بقيثارة، وآخر يساعد سيدةً ملائكيةً صغيرة لم تنبت أجنحتها بعدُ، يساعدها على الطيران.»

قال الملاك: «لكن، في الحقيقة، هؤلاء ليسوا ملائكة على الإطلاق.»

قال كرامب: «بل هم كذلك.» وأعاد وضع المجلة على الطاولة وجلس مفعمًا بالرضا وواصل: «أؤكد لك أني أعرف ذلك من أكثر المصادر موثوقية …»

«أؤكد لك …»

مطَّ كرامب جانبي فمه وهز رأسه كما فعل مع الكاهن وخاطب نفسه: «لا فائدة! لا يمكننا تغيير أفكارنا بسبب زائر غير مسئول.»

قال الملاك: «إذا كان هؤلاء ملائكة، فهذا يعني أني لم أكن في أرض الملائكة قط.»

قال كرامب وقد أحسَّ بنشوة الانتصار: «بالضبط، هذا ما أعنيه.»

حدق الملاك فيه منبهرًا لدقيقة، ثم تملكته — للمرة الثانية — حالة من الضحك البشري.

وانتقلت عدوى الضحك إلى كرامب وقال: «كنت أعرف أنك لست مجنونًا إلى الحد الذي كان يبدو عليك.»

وظلا حتى فرغا من الغداء في حالة من الابتهاج، لسببَين مختلفَين تمامًا، وأصرَّ كرامب على معاملة الملاك باعتباره سلالة أنقى من كائن «الدورج» الخرافي الشبيه بالكلب.

٣٠

بعد أن غادر الملاك منزل كرامب صعد التل مجددًا نحو منزل الكاهن، ولكنه — بإيعاز من رغبته في تجنب السيدة جاستيك على الأرجح — انعطف من عند البوابة وسلك طريقًا فرعيًّا من جانب حقل لارك ومزرعة برادلي.

صادف مشرَّدًا يغفو في سلامٍ بين الزهور البرية، فتوقف يراقبه منبهرًا بالسكينة التامة التي بدت على وجهه. وبينما هو كذلك استيقظ المشرَّد ونهض، وكان شاحب الوجه متشحًا بملابسَ سوداء حال لونها، يعتمر قبعةً قابلة للطي تضفي على مظهره بعض الانكسار وتميل على إحدى عينَيه. قال المشرد بود: «طاب عصرك، كيف حالك؟»

كان الملاك قد أتقن كيفية الرد على هذا السؤال، فاستحضره من فوره: «أنا بخير، شكرًا لك.»

نظر المشرد إلى الملاك بعينٍ فاحصة، وقال: «أتقصد مكانًا ما مشيًا على الأقدام مثلي يا صديقي؟»

تحير الملاك منه، ثم سأله: «لماذا تنام هكذا بدلًا من النوم على سرير؟»

رد المشرد: «يا للعجب! لماذا لا أنام على سرير؟ الأمر أنهم يطلون حوائط قصر ساندرينجام، وهناك مشكلة في الصرف في قلعة ويندسور، وليس لديَّ بيتٌ آخر أقصده، أليس في جيبك ثمن كأس من الجعة؟»

رد الملاك: «ليس في جيبي شيء.»

سأل المشرد وهو ينهض بصعوبة ويشير إلى أسطح المنازل المتكتلة أسفل التل: «هل هذه قرية سيدرمورتون؟»

رد الملاك: «نعم، هكذا يسمونها.»

قال المشرد متحمسًا: «كنت متأكدًا من ذلك، قريةٌ صغيرةٌ جميلة.» وتمطَّى وتثاءب، ووقف يشاهد المكان متفكرًا ثم قال: «المنازل، والمزروعات …» وأشار إلى حقول الذرة والبساتين، ثم تابع: «تبدو مريحةً، أليس كذلك؟»

قال الملاك: «لها جمالها الخاص.»

قال المشرد: «جمالها الخاص؟! يا للعجب! أريد أن أترك هذا المكان المقيت، وُلدتُ هنا.»

قال الملاك: «يا للهول!»

قال المشرد: «نعم، وُلدتُ هنا، هل سمعت عن الضفادع المنزوعة الدماغ؟»

رد الملاك: «ضفادع منزوعة الدماغ؟! كلا!»

قال المشرد: «هذا ما يفعله مشرحو الحيوانات هنا، يأخذون ضفدعًا وينزعون دماغه، ويدسون مكانه حشوة أخرى، هذا ما أقصده بالضفادع المنزوعة الدماغ. هذه القرية مليئة بالبشر المنزوعي الدماغ.»

أخذ الملاك كلام المشرد على محمل الجد وقال: «أجادٌّ أنت فيما تقول؟»

رد المشرد: «نعم، صدقني، ما من أحد فيها إلا وقد انتزع دماغه ودُست بدلًا منه حشوة من الحطب المتعفِّن، هل ترى ذلك المكان الأحمر الصغير هنالك؟»

قال الملاك: «هذه هي المدرسة الوطنية.»

قال المشرد في ترفُّع: «نعم، هناك يُجرون العملية.»

قال الملاك: «حقًّا؟! هذا مثير جدًّا.»

أضاف المشرد: «الأمر منطقي، لو كانت لديهم أدمغة لكانت لديهم أفكار، ولو كانت لديهم أفكار لتمكنوا من التفكير المستقل، وإذا جُبتَ هذه القرية من أقصاها إلى أقصاها فلن تجد واحدًا منهم يفكر باستقلالية، منزوعو الدماغ، أعرف هذه القرية؛ فقد ولدتُ بها، لولا أني قاومت محاولتهم انتزاع دماغي لكنت فيها الآن أكدُّ في العمل أجيرًا لمن يفوقونني قدرًا.»

سأل الملاك: «وهل هذه العملية مؤلمة؟»

أجابه المشرد: «نوعًا ما، لكنها لا تؤلم الرأس نفسه، يدوم مفعول العملية طويلًا، يأخذون الناس في صغرهم إلى المدرسة ويقولون لهم تعالوا نطوِّر عقولكم، فينصاع الصغار بكل بساطة؛ ومن ثم يبدأ القائمون على المدرسة في عملية الحشو، شيئًا فشيئًا ينزعون أدمغتهم اللزجة الطازجة، ويدسون مكانها الحشوة الصلبة الجافة من التواريخ والقوائم وما شابه، فيخرجون من المدرسة وقد انتُزعت أدمغتهم، ويصيرون طيِّعين لطفاء، يلمسون قبعاتهم تحيةً لأي شخص ينظر إليهم، حيَّاني أحدهم بلمس قبعته لي بالأمس، ثم ينطلقون في الأرجاء نشطين مستعدين للقيام بأرذل الأعمال، ويشعرون بالامتنان فقط لأن أحدًا سمح لهم بمواصلة العيش، حتى إنهم يفخرون بالعمل الشاق، أليس ذلك دليلًا على انتزاع أدمغتهم؟ أترى ذلك الذي يحرث هناك؟»

قال الملاك: «نعم، هل هو منزوع الدماغ؟»

قال المشرد: «نعم، وإلا انطلق في الأرض مثلي ومثل الحواريين المباركين.»

قال الملاك مرتابًا: «بدأت أفهم.»

قال المشرد المتفلسف: «كنت أعلم أنك ستفهم؛ فقد أدركت أنك من الصنف الصحيح. أليس الأمر سخيفًا؟ بعد قرون من الحضارة، انظر إلى هذا الخنزير المسكين هناك، يكد في العمل والحرث على جانب التل حتى يتصبَّب عرقًا غزيرًا هكذا، وهو إنجليزي، أي أنه ينتمي إلى أسمى عرق في الخليقة، إنه أحد الحكام، شيء يُضحك حتى أمثالي من الزنوج. العَلَم الذي ظل مرفوعًا ألف سنة من المعارك والعواصف علمُه. ولم يكن في العالم بلدٌ أكبر عظمة وأرفع مجدًا من بلده قط، وهذا ما يكون حالنا عليه في نهاية المطاف؟ سأخبرك بقصةٍ ربما لم تسمع بها لأنك غريب عن هنا على ما يبدو. هناك رجلٌ يُدعى جوتش، السيد جون جوتش، عندما كان شابًّا يافعًا في أوكسفورد، كنت أنا طفلًا في الثامنة، وكانت أختي في السابعة عشرة. كانت أختي خادمة في منزله، ولكن … يا إلهي! سمع الجميع بهذه القصة، فهي شائعةٌ جدًّا، وتتكرر كثيرًا مع أمثاله.»

قال الملاك: «لم أسمع بها.»

قال المشرد: «كل ما في الفتيات من جمال وحيوية يقضون عليه، وكل رجل به بعض الشجاعة أو روح المغامرة يرفض شرب ما ترسله إليه زوجة الخوري بدلًا من الجعة ويلمس قبعته صاغرًا، أو يكف يده عن الأرانب والطيور؛ يُطرد من القرية منبوذًا، ثم يتحدثون عن تحسين النسل! أما من يمكثون بعد ذلك فليسوا خليقين برفع عيونهم في وجه زنجي، بل إن ذوي الأصول الصينية لَينظرون لهم شزرًا.»

قال الملاك: «لكن، لم أفهم قصدك.»

وعندئذٍ أوضح المشرد المتفلسف قصده، وقصَّ على الملاك القصة البسيطة للسيد جون كوتش وعاملة المطبخ. ليس من الضروري تكرار تلك القصة، لكن لا بد أن القارئ يفهم أنها أثارت حيرة الملاك، استخدم المشرد كلماتٍ كثيرة لم يفهمها الملاك؛ إذ كان التجديف وسيلة المشرد الوحيدة في التعبير عن مشاعره. وعلى الرغم من ذلك العائق اللغوي، تمكن المشرد من إخبار الملاك بقناعته (التي لا أساس لها على الأرجح) بظلم الحياة وقسوتها، ودناءة السيد جون كوتش الشديدة.

وكان آخر ما رأى الملاك من المشرد ظهره الأسود المترب يبتعد في اتجاه إبينج هانجر. وظهر طائر الذيال على جانب الطريق، فالتقط المشرد المتفلسف حجرًا من فوره وقذف به الطائر فأصابه وانطلق الطائر مبتعدًا يقرقر، ثم سلك المشرد منعطفًا وغاب عن النظر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤