الدكتور كرامب يتدخَّل
٤١
في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي نزل الملاك إلى القرية. تسلَّق السور وخاض في زراعات القصب التي يصل ارتفاعها إلى خصره والتي تحيط بسيدر، كان ذاهبًا إلى خليج باندرام ليشاهد البحر عن قرب، لو كان الطقس صافيًا لتمكن من رؤيته من مناطقَ أعلى في حديقة سيدرمورتون. وفجأة صادف كرامب جالسًا يدخن على جذع شجرة (كان من عادة كرامب أن يخرج إلى الهواء الطلق للتدخين، وأن يأتي على أونصتَين كاملتَين من التبغ في الأسبوع).
قال كرامب في حيوية: «مرحبًا! كيف حال جناحك؟»
قال الملاك: «جيد جدًّا، اختفى الألم.»
قال كرامب: «أتعرف أنك الآن تتعدى على ممتلكات الغير؟»
رد الملاك: «أتعدى؟!»
قال كرامب: «ألا تعرف معنى ذلك؟»
رد الملاك: «كلا، لا أعرف.»
قال الدكتور كرامب: «عليَّ أن أهنئك، لا أعلم إلى أي مدًى ستواصل الادعاء، لكنك بارع فيه حتى الآن، للوهلة الأولى ظننتك مذهونًا، لكنك تواصل تمثيليتك بإتقان، تظاهرك بالجهل التام بالحقائق الأساسية في الحياة مسلٍّ جدًّا، تفوتك بعض الأمور بالطبع، ولو كانت قليلة جدًّا، لكن لا شك أن كلينا يفهم الآخر جيدًا.»
وابتسم للملاك وواصل: «لم يكن شيرلوك هولمز ليتفوق عليك، أتوق لمعرفة هويتك الحقيقية.»
رد الملاك الابتسامة، ورفع حاجبَيه ومدَّ يدَيه وقال: «يستحيل أن تعرف هويتي الحقيقية، عيناك لا تبصران، وأذناك لا تسمعان، وروحك مظلمة، لا تدرك شيئًا مما فيَّ من عجائب، لا جدوى من محاولة إخبارك أني وقعت في عالمك.»
لوح الدكتور بغليونه وقال: «دعك من هذه القصة رجاءً، لا أريد أن أتطفل إذا كانت لديك أسباب للتخفي، كل ما أطلبه منك هو أن تفكر في صحة هيليار العقلية؛ فالرجل يصدق هذه القصة بالفعل.»
هزَّ الملاك جناحَيه الآخذَين في الضمور.
واصل كرامب: «لم تكن تعرفه قبل هذه القصة، تغيَّر كثيرًا، كان فيما مضى مهندمًا ينعم بالراحة، أما في الأسبوعَين الأخيرَين فقد خفَّ عقله، وبدت في عينَيه نظرةٌ غريبة. وقف يقدم العظة يوم الأحد الماضي بدون دبوس بذلته، وكانت رابطة عنقه غير محكمة، وأخذ يقرأ «ما لمْ تَرَ عَينٌ، ولَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ.» يؤمن حقًّا بكل هذا الهراء عن أرض الملائكة، إنه على شفا الإصابة بحالة الهوس الأحادي.»
قال الملاك: «أنت لا ترى الأشياء إلا من وجهة نظرك.»
رد كرامب: «هذا ما على الجميع فعله، على أي حال، أعتقد أنه من المؤسف أن أرى هذا الزميل القديم المسكين في هذه الحالة الشبيهة بالتنويم المغناطيسي، لا بد أنك نوَّمته مغناطيسيًّا. لا أعلم من أين أتيت ولا مَن تكون، لكني أُحذِّرك، لن أقف مكتوف الأيدي بعد الآن وأنا أرى ذلك الزميل القديم مادةً للسخرية والتندر.»
قال الملاك: «لكنه ليس مادةً لسخرية أحد أو تندره، غاية ما في الأمر أنه بدأ يحلم بعالم خارج حدود معرفته.»
قال كرامب: «لن أقف مكتوف الأيدي، لست مغفلًا، لستَ سوى مجنون فرَّ من مصحة (وهو ما لا أصدقه)، أو محتالًا، ما من احتمالٍ آخر، أعتقد أني أعرف القليل عن هذا العالم، بصرف النظر عن رأيي في عالمك أنت. إن لم تدع هيليار وشأنه فسأبلغ الشرطة، وعندئذٍ إما أن يكون مصيرك السجن إذا عدلت عن قصتك، أو المصحة العقلية إذا لم تعدل عنها. أقسم أني سأثبت جنونك غدًا إن اقتضى الأمر لطردك من القرية. ليس الأمر كله في يد الكاهن، أتمنى أن يكون كلامي واضحًا، والآن ما قولك فيما سمعت؟»
ثم أخرج الدكتور سكينه في هدوءٍ مفتعل، وأخذ يحفر بنصله في غليونه الذي كان قد انطفأ خلال ذلك الخطاب الأخير.
وقف الاثنان لحظة بدون أن ينبس أحدهما بكلمة، ونظر الملاك حوله بوجهٍ شاحب، في حين أخرج الدكتور كتلة من التبغ من غليونه ورماها بعيدًا، ثم أغمد سكينه ووضعه في جيب الصديري الذي يرتديه. لم يتعمد أن يخرج كلامه بتلك اللهجة الحازمة، ولكنه كان دائمًا مغرمًا بالخُطب العصماء.
قال الملاك: «السجن؟! المصحة العقلية؟!» ثم تذكر شرح الكاهن فقال: «لا أريد ذلك!» واقترب من كرامب وقد اتسعت حدقتاه ومدَّ يديه.
قال كرامب: «كنت أعرف أنك تعرف ماهية هذين المكانَين، على أي حال، اجلس.» وأشار إلى جذع شجرة بجانبه بإيماءة برأسه.
جلس الملاك مرتعشًا على جذع الشجرة وحدَّق في الطبيب.
كان كرامب يخرج كيسه من جيبه، وقال له الملاك: «أنت رجلٌ غريب، معتقداتك راسخة لا تتزعزع.»
قال كرامب مختالًا: «هذا صحيح.»
قال الملاك: «لكن أؤكد لك، أؤكد لك صحة ما أقول، لا أعرف شيئًا، أو على الأقل لا أتذكر شيئًا عن أي شيء كنت أعرفه عن هذا العالم قبل أن أجد نفسي في ظلام تلك الليلة عند مستنقع سيدرفورد.»
قال كرامب: «وأين تعلمتَ لغتنا إذن؟»
قال الملاك: «لا أعرف، أصدقك القول، لكن ليس لديَّ أدنى دليل أقنعك به.»
التفت له كرامب فجأة ونظر في عينيه وقال: «وحقًّا تعتقد أنك كنت قبل ذلك في جنةٍ عظيمة خالدًا فيها؟»
قال الملاك: «نعم.»
أصدر كرامب صوتًا ينم عن عدم التصديق، وأشعل غليونه، وجلس يدخن واضعًا كوعه على ركبته لبعض الوقت، في حين جلس الملاك يراقبه، ثم هدأت تعبيرات وجهه.
ثم قال لنفسه: «هذا محتمل.» ثم عمَّ الصمت مجددًا.
ثم قال: «اسمع، هناك شيء يسمى ازدواج الشخصية، أحيانًا ينسى الرجل من هو ويعتقد أنه شخصٌ آخر. ثم يترك منزله وأصدقاءه وكل شيء، ويعيش حياةً مزدوجة. كتبت مجلة «نيتشر» عن حالة مشابهة منذ شهر تقريبًا. كان الرجل إنجليزيًّا أيمن تارة، وويلزيًّا أعسر تارة. وعندما يكون إنجليزيًّا لا يتمكن من التحدث بالويلزية، وعندما يكون ويلزيًّا لا يتمكن من التحدث بالإنجليزية.»
التفت إلى الملاك فجأة وقال: «الوطن!» معتقدًا أنه سيتمكن من أن ينعش في ذهن الملاك ذكرى قديمة عن شبابه الضائع، ثم واصل محاولته متفوِّهًا بكلمات من قبيل: «أبي، بابا، أمي، الأم، الحاكم، الولد، الأم، والدتي.» ثم قال: «لا فائدة؟ علام تضحك؟»
قال الملاك: «لا شيء، فاجأتني بعض الشيء، هذا ما في الأمر، منذ أسبوع كانت هذه الكلمات غريبة عليَّ.»
ظل كرامب ينظر إلى الملاك شزرًا لدقيقة بعد ذلك.
ثم قال: «وجهك مقنع جدًّا، تكاد تجعلني أصدقك، لا شك أنك لست بمجنونٍ عادي، يبدو عقلك متزنًا بالقدر الكافي لولا انفصالك التام عن الماضي. أتمنى أن يتمكن نوردو أو لومبورسو أو أحد رجال مصحة سولتبيتريير من فحصك. فلا فرصة حقيقية هنا ليتدرب المرء على التعامل مع الحالات العقلية. في القرية معتوهٌ واحد، وحالته متقدمة جدًّا، أما باقي أهل القرية فهم عقلاء تمامًا.»
قال الملاك متفكرًا: «ربما هذا هو تفسير تصرفاتهم.»
تجاهل كرامب تعليقه وقال: «فكِّر في وضعك العام هنا، لك تأثيرٌ سيئ على الآخرين هنا حقًّا، فهذه الخيالات مُعْدية. ليست المشكلة في الكاهن فحسب، فثمة رجلٌ يُدعى شاين بدأ يتأثر بهذه الموجة، مرَّ أسبوع لم يخرج فيه من الماء إلا قليلًا، ويريد أن يتعارك مع أي شخص ينكر أنك ملاك، وسمعت أيضًا برجل في سيدرفورد أصيب بنوع من الهوس الديني، هذه الأشياء تنتشر، يجب عزل الأفكار الضارة، وقد سمعت بقصة أخرى …»
قال الملاك: «لكن ماذا عليَّ أن أفعل؟ بافتراض أني حقًّا (وبغير قصد) أسبب ضررًا ما.»
قال كرامب: «يمكنك مغادرة القرية.»
قال الملاك: «عندها سأذهب إلى قريةٍ أخرى.»
قال كرامب: «هذا لا يعنيني، اذهب إلى حيث تشاء، المهم أن ترحل عن هنا، اترك هؤلاء الثلاثة — أعني الكاهن وشاين والخادمة الصغيرة — الذين أصبحت رءوسهم ممتلئة بأفكارٍ غريبة عن الملائكة …»
قال الملاك: «لكن، سأضطر إلى مواجهة عالمكم؟ هذا ما لا أستطيع، وأتركُ ديليا؟ لا أفهم، لا أعرف كيف يمكنني العمل والحصول على الطعام والشراب، لقد بدأت أشعر بالخوف من البشر.»
قال كرامب وهو يراقبه: «خيالات وجنون.»
ثم خاطبه: «لن أستفيد شيئًا من إصراري على إزعاجك، لكن الموقف يستحيل أن يستمر كما هو الآن.» وهبَّ واقفًا بسرعة.
وواصل: «طاب صباحك يا سيد آنجيل، خلاصة الأمر — وأقولها لك بصفتي المستشار الطبي لهذه الأبرشية — إن لك تأثيرًا ضارًّا، ولا يمكننا تركك بيننا، لا بد أن ترحل.»
استدار الدكتور كرامب، وأسرع بين العشب متوجهًا نحو الطريق، وترك الملاك جالسًا في وجوم على جذع الشجرة يخاطب نفسه ببطء: «تأثيرٌ ضار!» ويحدِّق إلى الأمام محاولًا فهم معنى ذلك.