على الجرف

٤٣

استلقى الملاك على قمة الجرف المطل على خليج باندرام، وأخذ يشاهد البحر اللجي أسفل منه بخمسمائة وسبع أقدام. كانت الطيور البحرية تحوم في الأسفل، وكان أعلى الجرف مغطًّى بأحجارٍ خشنةٍ مائلة للخضرة، بينما طغت على ثلثَيه السفليَّين حمرةٌ دافئة وانتشرت فيه مساحاتٌ من الحصى والجصِّ. أخذت دفقاتٌ من المياه تتصاعد من نحو ستة مواضع ثم تهوي من جديد وتستقر على صفحة البحر الذي انفصلت عنه. واصطدم الموج بالشاطئ مكوِّنًا زبَدًا أبيضَ كثيفًا، وظللت صخرةٌ عظيمة على امتداد من المياه التي تلوَّنت بدرجاتٍ كثيرة من الأخضر والقرمزي ورسم الزبد على سطحها خطوطًا وطبقاتٍ عديدة. انتشر ضوء الشمس في الأجواء، وتناهت إلى الأسماع رقرقة المياه في العديد من الشلالات الصغيرة القريبة وهدير بطيء من البحر. وبين الفينة والأخرى كانت فراشةٌ ترفرف أعلى الجرف، في حين أخذت طيورٌ عديدة تحطُّ على الجرف حينًا ثم تطير منه إلى أرجاء السماء.

استلقى الملاك وجناحَاه المهيضَان المنهكَان يعلوان ظهره كالحدب، وأخذ يراقب النوارس والغربان تطوف في ضوء الشمس، تحلق وتدور ثم تهبط نحو المياه حينًا وترتفع إلى عنان السماء الزرقاء حينًا. مكث الملاك طويلًا يشاهدها تُحلِّق ذهابًا وإيابًا بأجنحتها الممتدة. شاهدها وتذكَّر بتوقٍ مرير الأنهار التي يجري فيها ضوء النجوم في الأرض الطيبة التي جاء منها. وبينما هو كذلك ظهر فوقه نورس نشر بياض جناحَيه في أديم السماء الزرقاء وحلَّق في نعومة ويسر، وفجأة سقط ظل النورس على عينَيه فحجب عنهما ضوء الشمس وذكَّره بجناحَيه المهيضَين، فأسند وجهه على ذراعه وأجهش بالبكاء.

وبينما كانت امرأةٌ تمشي في ممرٍّ على الجرف وقعت عيناها على أحدبَ جاثٍ يرتدي ملابس كاهن سيدرمورتون القديمة ويمدُّ ساقَيه على حافة الجرف بعشوائية ويضع جبهته على ذراعه. فتأمَّلته مليًّا ثم قالت: «لقد خلد ذلك الأحمق للنوم.» ورغم أنها كانت تحمل سلةً ثقيلة اقتربت منه تريد إيقاظه، وما إن اقتربت حتى لاحظت حركة كتفَيه وسمعت نشيجه.

وقفت دقيقة بلا حراك، وارتسمت على وجهها ابتسامةٌ غريبة. ثم غيَّرت مسارها واتجهت نحو الممر على مهل مخاطبة نفسها: «لا أعرف ماذا ينبغي أن أقول، مسكين!»

وفجأة انقطع نشيج الملاك وحول وجهه المترع بالدموع إلى الشاطئ القابع في الأسفل وأخذ يحدِّق فيه.

وقال: «هذا العالم يقيدني ويبتلعني، أصبح جناحاي مهترئَين وعديمي النفع، قريبًا سأصبح رجلًا بشريًّا معاقًا لا أكثر، ثم سأشيخ، ويحل بي الألم وفي النهاية أموت، يا ليَ من بائسٍ وحيد.»

ثم أسند ذقنه إلى يديه على حافة الجرف، وطفق يفكر في وجه ديليا والنور المنبعث من عينَيها، وشعر برغبةٍ غريبة في الذهاب إليها وإخبارها بقرب ضمور جناحَيه، وفي ضمها بين ذراعيه وسكْب الدموع السخينات على أرضٍ فقدها، أخذ يُردِّد اسم «ديليا» حتى مرَّت غمامة فحجبت عنه الشمس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤