اصطياد الطائر الغريب
٣
كان كاهن سيدرمورتون (التي تبعد عن سيدرماوث تسعة أميال إذا سُلك أقصر الطرق) عالم طيور في الوقت ذاته. وكان لا بد لرجلٍ أعزب في وضعه من اهتمامٍ بمثل الطيور أو النباتات أو الآثار القديمة أو الفولكلور. كما كان مهتمًّا بالهندسة كذلك، واعتاد الكتابة عن بعض المُعضلات الهندسية العصِيَّة على الحل في مجلة «إديوكيشنال تايمز»، بيد أن الطيور كانت شغفه الأوحد. كان قد أضاف نوعَين من الطيور إلى قائمته للطيور التي تزور بريطانيا لِمامًا. كما كان اعتاد قرَّاء دورية «زولوجيست» رؤية اسمه فوق الأعمدة التي تكتب فيها (وإن كان اسمه — الذي كان مألوفًا يومًا ما — قد نُسي الآن مع مرور الزمن). وفي اليوم التالي لظهور الطائر الغريب، تقاطر الناس يؤكدون صحة ما روى المزارع، ويتحدثون عن الوهج الذي ظهر فوق مستنقع سيدرفورد، بدون أن يربطوا بين هذا الطائر وذلك الوهج.
كان لكاهن سيدرمورتون منافسان في مساعيه العلمية؛ جالي، وهو من سكان سيدرتون، ورأى الوهج بنفسه، وأرسل الرسم إلى مجلة «نيتشر»؛ وبورلاند المهتم بالتاريخ الطبيعي، وكان لديه مختبرٌ لفحص الأحياء البحرية في بورتبردوك. رأى الكاهن أن بورلاند كان يجب أن يهتم بكائناته البحرية المجذافية الأرجل دون غيرها، لكنه كان يهوى تحنيط الحيوانات كذلك، واستغلَّ موقعه الساحلي في جَمْع الطيور البحرية النادرة. لم يخفَ على أحدٍ من المهتمين بجمع الحيوانات والطيور أن هذين الرجلَين سيبحثان عن الزائر الغريب في أنحاء البلاد قبل مرور أربع وعشرين ساعة.
كان الكاهن جالسًا في مكتبه، ووقعت عيناه على موسوعة سوندرز للطيور البريطانية، تفقَّدها فوجد فيها في موضعَين ما يلي: «عثر الموقر كيه هيليار، كاهن سيدرمورتون، على الطائر الوحيد الذي وُجد منه في بريطانيا.» ولم يتفوَّق عليه جامعُ طيورٍ آخر، بإدراج اسمه ثلاث مرات في الموسوعة، على حدِّ علمه.
تفقَّد الكاهن ساعته، فوجدها تشير إلى الثانية. كان قد تناول غداءه للتوِّ، وكان معتادًا على الاستراحة في فترة الظهيرة. كان يعلم أن أشعَّة الشمس قد تُزعجه لو خرج في هذا الطقس القائظ، لكنه رجَّح أن يكون جالي الآن في الخارج يتفقَّد الأرجاء، ماذا لو كانت هناك لُقيةٌ فريدةٌ ووجدها قبله؟!
كانت بندقيته في زاوية المكتب (وخاطب نفسه بأن ذلك الشيء كان له جناحان تتغيَّر ألوانهما حسب زاوية النظر، وقدمان ورديَّتان، فأثارت تلك الألوان في نفسه حماسًا شديدًا). أخذ البندقية.
في الظروف الطبيعية، كان يخرج من باب الشرفة الزجاجي، ثم يهبط إلى الحديقة ويعبرها إلى طريق التل، ليتوارى عن أنظار مدبرة منزله؛ إذ كان يعلم أن خروجه حاملًا البندقية يثير الامتعاض، لكنه رأى زوجة الخوري وابنتَيها قادمتَيْن نحوه من الحديقة يحملْنَ مضارب تنس. كانت زوجة الخوري شابةً قوية الإرادة، اعتادت لعب التنس في حديقته وقطف أزهارها، وكانت تختلف معه في بعض المسائل العقائدية، وتنتقد سلوكه في جميع أرجاء الأبرشية. فأصبح يهابها ويحاول استرضاءها، بدون أن يتخلَّى عن ولعه بالطيور.
حينئذٍ خرج الكاهن من الباب الأمامي.
٤
لولا هواة جمع الطيور والحيوانات والنباتات لَزخرَتْ إنجلترا بالطيور النادرة والفراشات المتألِّقة والزهور البديعة والكثير من الأشياء الجميلة، لكن الجامعين حالوا دون ذلك بقتل هذه الكائنات بأيديهم أو شرائها ببذخ، أو تكليف أبناء الطبقات الاجتماعية الدنيا بقَتْلها حال ظهورها. فكان جمع تلك الكائنات عملًا يمتهنه البعض رغم حظر البرلمان له. وهكذا كانوا يُسهمون في انقراض الغراب الأعصم في كورنوول، وفراشات باث البيضاء، والفراشات الملكية الإسبانية، ويتباهَوْن بتسبُّبهم في انقراض طائر الأوك العظيم، والمئات من الطيور والنباتات والحشرات النادرة الأخرى، لا لسببٍ إلا ليرضي هؤلاء الجامعون غرورهم باسم العلم. الحقيقة — كما ينبغي أن تكون — أن الخروج عن المألوف يؤدِّي إلى الخلود، فكِّر في الأمر مجددًا إن لم توافق على هذا الرأي الآن، كما أن الخروج عن المألوف من الأفكار جنونٌ (وأتحداك أن تجد تعريفًا أنسب لأيهما من الآخر) فإذا كان النوع النباتي أو الحيواني نادرًا، فهذا يعني أنه غير مهيأ للبقاء؛ فالجامعون — في نهاية المطاف — كجنود المشاة الذين يترجَّلون عن المدرعات لجزِّ أعناق من يسقط من جند العدو عن مركبته. بحيث يمكن للمرء أن يجوب أنحاء إنجلترا من أقصاها إلى أقصاها في يومٍ صيفيٍّ صحو فلا يصادف إلا ثمانية أو عشرة أصناف من الزهور البرية والفراشات الشائعة، وحوالي اثني عشر من الطيور المعتادة، بدون أن يخرج شيءٌ عن الرتابة المعتادة، فلا لون لزهرةٍ غريبة، ولا رفرفة لجناح طيرٍ مجهول. فكل ذلك قد «جُمع» منذ سنوات مضت؛ لذا يجدر بنا جميعًا أن نحبَّ هؤلاء الجامعين، وأن نقرَّ بأننا مدينون لهم عندما يَعرِضون ما جمعوه. فأدراجهم المشبعة بالكافور، وعلبهم الزجاجية، وكتبهم المصنوعة من الورق النشاف، هي قبور النادر والجميل من الكائنات، ورموز الانتصار (وقضاء وقت الفراغ في التلذُّذ المشروع) بمتع الحياة (ربما لاحظ قارئ هذه السطور أن كل ذلك لا علاقة له بذلك الطائر الغريب).
٥
ثمة بقعة في المستنقع تلتمع فيها المياه السوداء بين النباتات الحزازية الخضراء الناضرة، وتفتح فيها النباتات الندية الآكلة للحشرات الهائمة أيديها الحمراء كما لو كانت تتضرع إلى الرب، الذي قضى أن يكون بعض مخلوقاته طعامًا للبعض الآخر، أن يرسل إليها فريسة تسدُّ جوعها. وتقوم على أحد امتدادات تلك البقعة أشجار البتولا ذات اللحاء الفضي، ويتداخل اللون الأخضر الفاتح لأوراق شجر اللاركس مع الأخضر الداكن لشجر التنوب. مرَّ الكاهن بين أشجار الخَلَنْج المحاطة بنحل العسل في قيظ الظهيرة حاملًا بندقيته تحت ذراعه محشوَّةً بطلقات أعدَّها لاصطياد الطائر الغريب، وفي يده الأخرى منديل جيب ظل يمسح به بين الفينة والأخرى العرق الذي ينسال على وجهه.
عَبَر البركة الكبيرة ثم كومة من الأوراق البُنِّية، ومضى في طريقه (الذي كان جزء منه رمليًّا وجزءٌ آخر مكسوًّا بالحصى) حتى وصل إلى البوابة الصغيرة التي تؤدي إلى الحديقة. ثمة خمس درجات تصعد إلى البوابة، وست درجات تهبط منها على الجهة الأخرى، هكذا صُنعت لتمنع هروب الغِزْلان. فعندما وصل الكاهن إلى البوابة كان رأسه يرتفع عن الأرض بعشر أقدام ونيف. نظر نحو تجمع من أوراق السرخس تملأ فجوةً بين مجموعتَين من شجر الزان، فوقعت عيناه على شيءٍ متعدد الألوان اضطرب للحظة ثم اختفى. فارتسمت ملامح التأهُّب على وجهه وتحفزت عضلاته، وأخفض رأسه وأمسك ببندقيته بكلتا يديه ووقف ساكنًا في مكانه. وبينما اتسعت حدقتاه تراقبان المكان، نزل الدرج المؤدي إلى الحديقة ممسكًا ببندقيته لم يزل، ثم تحرك نحو أوراق السرخس متسللًا.
لم تصدر أي حركة، فظن أن عينَيه خدعتاه، حتى وصل إلى السرخس ووقف هنالك متحفِّزًا. وفجأة تحرك شيء ذو ألوانٍ متألقة على بُعد عشرين ياردةً على الأكثر، وأخذ يضرب الهواء. وسرعان ما طار فوق أوراق السرخس باسطًا جناحَيه على اتساعهما. رأى الكاهن ذلك فاضطرب بشدة وفي غمرة المفاجأة وبحكم العادة أطلق الرصاص.
انطلقت صرخة ألم غريبة، وضرب الجناحان الهواء مرتَين، ومال الطائر الجريح بجسمه في طريق سقوطه حتى ارتطم بالأرض، ثم تكوَّم على الأرض وظل يتلوَّى على المنحدر المغطَّى بالعشب بجناحٍ مَهِيض وريشٍ دامٍ.
وقف الكاهن مشدوهًا ينبعث من فوَّهة بندقيته الدخان. لم يكن ما أصابه طائرًا من أي نوع، بل شابًّا ذا وجهٍ بالغ الجمال، يرتدي ثوبًا من الزعفران وله جناحان متعددا الألوان؛ القرمزي والأرجواني والأخضر المائل للون الذهب والأزرق الصريح. وأخذت هذه الألوان تتغيَّر وتتمايز وهو يتلوَّى من الألم. لم يسبق للكاهن رؤية شلال الألوان المتألق هذا، لا على زجاج النوافذ المبتلِّ، ولا على أجنحة الفراشات، ولا حتى في المنشور البلوري، ليس على الأرض ألوانٌ تضاهي هذه الألوان. قام الملاك عن الأرض على مرتَين، ثم سقط مجددًا. خبت رفرفة جناحَيه، وشحب وجهه المذعور، وهدأ شلال الألوان، ثم شهق وخرَّ على الأرض مستسلمًا، واستحالت درجات الألوان المتغيرة تلك لونًا واحدًا رماديًّا كئيبًا.
صاح الملاك المصاب: «يا للهول! ماذا حدث لي؟» وظل يرتعد بقوة، ويداه ممدودتان تتشبثان بالأرض، ثم تمدَّد على الأرض خامدًا.
صاح الكاهن: «يا إلهي! لم أكن أعلم.» ثم تقدَّم بحرصٍ وأعلن ما كان واضحًا: «أستميحك عذرًا، يؤسفني أنني أصبتك.»
بدا أن الملاك ينتبه إلى وجود الكاهن للمرة الأولى، ثم قام مستندًا إلى يدٍ واحدة، وحدق بعينَيه البُنِّيتَين إلى عينَي الكاهن. ثم شهق وعضَّ على شفته السفلى محاولًا الاعتدال إلى وضع الجلوس، وأخذ يفحص الكاهن بنظره من رأسه إلى أخمص قدمَيه.
أمسك الملاك بجبينه وصاح: «رجل! رجل بملابسَ سوداءَ غريبةٍ لا تكسو جسمَه ريشةٌ واحدة، إذن فعيناي لا تخدعانني، لا بد أني في أرض الأحلام بالفعل!»