الكاهن والملاك

٦

بعض الأشياء مستحيلة فحسب، وهذا الموقف أحدها، لا يتطلب إدراك ذلك الكثير من الذكاء. أغلب الظن أن محرِّري مجلة «ذا أثينيام» سيكونون من هذا الرأي إذا اعتزموا الكتابة عن ذلك الموقف. قد يقبل العقل سقوط أشعة الشمس على أوراق السرخس، أو أشجار الزان المنتشرة، أو حتى الكاهن وبندقيته، لكن ذلك الملاك شأنٌ آخر. يندر أن يواصل الشخص المتعقِّل العادي قراءة مثل هذه الغرائب. أدرك الكاهن ذلك، ولكنه أحجم عن اتخاذ القرار في أول الأمر، ثم حزم أمره بعد ذلك كما ستكشف السطور التالية. كان الجو حارًّا، ومضى وقت تناول العشاء، ولم يكن في مزاج يسمح له بالتفكير المتأني. حينما حدث ما حدث كان الملاك فارضًا سطوته عليه، كما أبهره بالألوان المبهرجة والرفرفة المضطربة، فلم يتسنَّ للكاهن أن يُسائل نفسه عما إذا كان ما يراه في حدود الممكن أم ضربًا من المستحيل، بل أرغمه اضطراب اللحظة على التعامل معه فحسب؛ فأطلق النار. فليضع محرِّرو مجلة «ذا أثينيام» أنفسهم مكانه؛ يخرج للصيد، فيصيب شيئًا — وهذا وحده يكفي لإثارة الاضطراب في النفس — ثم يكتشف أنه أصاب ملاكًا، يتلوَّى الملاك من الألم لدقيقةٍ تقريبًا، ثم يجلس الملاك ويخاطبك، كما لو لم يكن في كل ذلك شيءٌ غريب يُذكَر. بل أيضًا يجعلك أنت — لا هو — محور الحديث، بأن يقول متعجبًا: «رجل! رجل بملابسَ سوداءَ غريبةٍ لا تكسو جسمه ريشةٌ واحدة، إذن فعيناي لا تخدعانني، لا بد أني في أرض الأحلام بالفعل!» لا يمكنك حينئذٍ — إن لم تلُذْ بالفرار — إلا الرد عليه، أو أن تحسم الجدل كله بأن تطلق النار مرةً ثانية، فتفجِّر دماغه.

ردَّ الكاهن: «أرض الأحلام! أخشى أنك خرجت منها لتوك.»

قال الملاك: «كيف ذلك؟»

رد الكاهن: «جناحك، إنه ينزف، هلَّا منحتني شرف تضميده؟ أعتذر لك من صميم قلبي …» مد الملاك يده خلف ظهره وقطَّب.

ساعد الكاهن ضحيته على القيام، في حين التفت الملاك نحوه. أخذ الكاهن يتفحص الجناحَين المصابَين ويصدر الكثير من الأصوات تأثرًا بمنظر الإصابة (لاحظ أن الإصابة طالت حُقًّا إضافيًّا على الطرف العلوي الخارجي للوح الكتف. أما الجناح الأيسر فقد سقط بعض ريشه فحسب، كما طالت المقذوفات جزءًا طرفيًّا منه، وتهشَّم العضد الأيمن). أوقف الكاهن النزيف قدر استطاعته بمنديل جيبه ووشاح رقبته الذي كانت مدبرة منزله تحثه على أن يحمله معه مهما كانت حالة الطقس.

قال الكاهن وهو يتحسَّس العظمة: «يؤسفني أن أخبرك بأنك لن تتمكن من الطيران لبعض الوقت!»

قال الملاك: «لا أحب هذا الإحساس الجديد.»

رد الكاهن: «أتقصد الألم الذي تشعر به عندما ألمس عظمتك؟»

قال الملاك: «ماذا تدعوه؟»

قال الكاهن: «الألم.»

رد الملاك: «تدعونه الألم إذن، لا يعجبني على الإطلاق، هل لديكم الكثير منه في أرض الأحلام؟»

قال الكاهن: «لدينا قدرٌ كافٍ منه، أهو جديد عليك؟»

رد الملاك: «جديدٌ تمامًا، ولا يعجبني.»

قال الكاهن: «غريب!» وعضَّ على طرف شريط من الكتان لربط عقدة. وقال: «لا بد أن هذه الضِّمادة تَفِي بالغرض في الوقت الراهن، سبق أن درستُ أعمال الإسعاف، لكن لم يسبق لي تضميد جرح جناح. هل بدأ الألم يخف؟»

رد الملاك: «أصبح ثابتًا الآن، كان يخفق كالنبض قبل ذلك.»

قال الكاهن وهو لم يزل يعتني بالجرح: «سيظل هكذا لبعض الوقت مع الأسف!»

هزَّ الملاك جناحه، والتفت ينظر إلى الكاهن مجدَّدًا. كان يحاول متابعة الكاهن بنظره خلال حديثهما. راقبه من رأسه إلى أخمص قدمَيه رافعًا حاجبَيه وراسمًا على وجهه الجميل ذي الملامح الهادئة ابتسامةً خفيفة. وقال: «غريبٌ للغاية أن أتحدَّث إلى إنسان!»

رد الكاهن: «أتعلم؟ عندما أفكِّر في الأمر، أجد تحدُّثي مع ملاك على القدر نفسه من الغرابة؛ فأنا شخصٌ واقعي إلى حدٍّ ما، هكذا ينبغي للكاهن أن يكون، ولطالما اعتبرت الملائكة مجرد تصور فني.»

قال الملاك: «هذه بالضبط فكرتنا عن البشر.»

رد الكاهن: «لكن لا بد أنك رأيت الكثير من البشر.»

قال الملاك: «لم يسبق أن رأيتهم قبل اليوم، رأيتهم كثيرًا في الصور والكتب فقط، لكني رأيت الكثير منهم منذ شروق الشمس، رجالًا بشريِّين حقيقيين، وحصانًا واحدًا على الأقل، لدينا شبيه له لكنْ له قَرن، وعددًا كبيرًا من هذه الأشياء الضخمة السمينة التي تُدعى أبقارًا. انتابني بعض الخوف لرؤية كل هذه الوحوش الخرافية، وجئت أختبئ هنا حتى حلول الظلام. أفترض أن الظلام سيحلُّ مجدَّدًا بعد قليل كما كان الجو مظلمًا قبل ذلك. يا للعجب! هذا الشيء الذي تسمونه الألم مزعجٌ حقًّا. أتمنى أن أستيقظ من هذا الحلم قريبًا.»

عقد الكاهن حاجبَيه وضرب جبينه براحة يده وقال: «لا أفهمك جيدًا، وحوش خرافية؟!» وحتى ذلك الحين كان أسوأ ما نُعت به الكاهن (من جانب أحد دعاة فصل الكنيسة عن الدولة) أنه رجل من العصور الوسطى. تابع الكاهن: «هل معنى ذلك أنك تعتبرني جزءًا من حلم؟»

رد الملاك مبتسمًا: «بالتأكيد.»

قال الكاهن: «ماذا عن العالم من حولي؟ بأشجاره الباسقة ونباتاته المنتشرة؟»

رد الملاك: «كل هذا يبدو كالحلم، هذا بالضبط ما قد يحلم به أحدنا، أو ما ينسجه خيال الفنانين.»

قال الكاهن: «لديكم فنانون إذن بين الملائكة؟»

رد الملاك: «في كل ألوان الفنون، وهناك فنانون ذوو خيالٍ واسع يبتكرون البشر والأبقار والنسور والكثير من المخلوقات الأسطورية.»

قال الكاهن: «المخلوقات الأسطورية؟!»

رد الملاك: «نعم، مخلوقاتٌ أسطورية، خرافات.»

قال الكاهن: «لكني حقيقيٌّ، أؤكد لك.»

رفع الملاك جناحَيه وقطَّب ثم ابتسم وقال: «يمكنني أن أُميِّز أحلامي عن الواقع دائمًا.»

قال الكاهن: «أنت تحلم!» ثم نظر حوله.

وكرر وقد ارتبك عقله: «أنت تحلم!»

مدَّ يده وحرَّك أصابعه ثم قال: «وجدتها! بدأت أفهم!» خطرت له فكرةٌ رائعة، لم تذهب دراسته للرياضيات في كامبريدج هباءً، تابع الكاهن: «أخبرني إذن بأسماء بعض الحيوانات من عالمك أنت، العالم الحقيقي، حيوانات حقيقية تعرفها.»

رد الملاك مبتسمًا: «حيواناتٌ حقيقية؟ هناك حيوانات الجريفين والتنانين والجابرووك والتشيروبيم وأبو الهول والهيبوجريف وحوريات البحر والساتير و…»

قاطعه الكاهن قائلًا: «شكرًا لك، هذا يكفي، بدأت أفهم الأمر.» وبدا أن الملاك قد بدأ ينفتح معه في الحديث.

صمت لبرهة وبدا عليه التفكير ثم قال: «نعم، بدأتُ أفهم الأمر حقًّا.»

قال الملاك: «بدأتَ تفهم ماذا؟»

رد الكاهن: «حيوانات الجريفين والساتير وهذه الحيوانات الأخرى، الأمر واضح …»

قال الملاك: «لا أفهم.»

قال الكاهن: «الأمر أنها لا يمكن أن تُرى في هذا العالم، لكن أصحاب الخيال الواسع من جنسنا أخبرونا بكل شيء عنها، حتى أنا في بعض الأحيان، هناك أماكن في هذه القرية لا يسعك إلا أن تأخذ ما تجده فيها؛ كي لا تثير حفيظة أحد. لقد رأيت حيوانات الجابرووك في أحلامي، ووحوش البوجل، ونباتات الماندريك … تعتبر هذه الأحياء من وجهة نظرنا من مخلوقات الأحلام.»

قال الملاك: «مخلوقات الأحلام! يا للغرابة! يا له من حلمٍ عجيب! حلم معكوس! تعتبر البشر حقيقيين والملائكة خرافة. هذا يجعلني أتخيل أنه لا بد أن يكون هناك عالمان …»

رد الكاهن: «عالَمان على الأقل.»

تابع الملاك: «عالَمان متقاربان، ولا يكاد أحد فيهما يدرك ذلك.»

قال الكاهن: «متقاربان كوجهَي ورقة في كتاب.»

رد الملاك: «عالَمان يخترق كلٌّ منهما الآخر، ويعيش كلٌّ منهما حياةً منفصلة، يا له من حلم عجيب!»

قال الكاهن: «ولا يحلم أحد في أيهما بالعالم الآخر.»

رد الملاك: «إلا عندما يتعمَّد البشر الحُلم.»

وتابع متفكرًا: «نعم، لا بد أن هذه هي الحقيقة. وهذا يذكرني بأني عندما يغلبني النعاس في بعض الأحيان أغفو تحت حر شمس الظهيرة، أشاهد أشكال وجوهٍ محزَّزة كوجهك تمر بالقرب مني، وأشجارًا ذات أوراقٍ خضراء، وأرضًا غريبة غير مستوية كهذه الأرض، لا بد أني وقعت في عالمٍ آخر.»

رد الكاهن: «في بعض الأحيان، عندما أكون بين الصحوة والنوم، أرى وجوهًا بجمال وجهك، وصورًا مُبهرةً غريبة من مشاهدَ عجيبةٍ أكبر، أرى هذه الصور تطفو بجواري، وأرى كائناتٍ مجنحة، وأشكالًا رائعة، وأخرى كريهة، تغدو وتروح، حتى إنني سمعت أنغام موسيقى جميلة، يبدو أننا عندما نصرف انتباهنا عن العالم المحيط بنا الذي تدركه حواسنا، عندما نستسلم للراحة التامة، تظهر عوالمُ أخرى، كتلك التي نتخيَّلها عندما نراقب النجوم، بعد أن ينحسر ضوء النهار. والحالمون أصحاب الحسِّ الفني هم من يرون هذه العوالم بوضوح يفوق غيرهم.»

نظر كلٌّ منهما إلى الآخر.

وقال الملاك: «وعلى نحوٍ غير مفهوم، خرجت أنا من عالمي ووقعت أنا في عالمك هذا! عالم الأحلام، وقد أصبح حقيقة.»

ثم نظر حوله وكرر: «عالم أحلامي!»

قال الكاهن: «الأمر مُحيِّر، هذا يجعل المرء يعتقد في وجود (احم) أربعة أبعاد في نهاية المطاف، وفي هذه الحالة …» وواصل كلامه بحماس عن التأملات الهندسية التي يحبها ويفتخر بدرايته بها: «قد توجد أكوانٌ ثلاثية الأبعاد لا نعلم لها عددًا، متراصَّة بعضها بجانب بعض، يحلم أهل كل عالم منها بالعوالم الأخرى. قد يكون هناك عالمٌ فوق عالم، وكون فوق كون. هذا ممكنٌ تمامًا، فالممكن هو أقصى درجات اللامعقول، لكن أتساءل كيف يمكن أن تخرج من عالمك لتقع هنا في عالمي؟»

قال الملاك: «يا للعجب! غزلان وأيائل! إنها متطابقة تمامًا مع شكلها الذي يرسمونه على شعارات النبالة. كل شيء غريب للغاية! هل يُعقل أن أكون مستيقظًا حقًّا؟»

ودعَك عينَيه بأصابعه.

مرَّت ستة غزلان مرقطة في صفٍّ واحد بين الأشجار ثم توقفت. شاهدها الملاك فقال: «ليس هذا حلمًا. أنا ملاكٌ حقيقي تمامًا، في أرض الأحلام.» ثم ضحك. ووقف الكاهن الموقَّر يراقبه، في حين أخذ يمطُّ شفتَيه ويعبث بذقنه على عادته. كان يُسائل نفسَه عمَّا إذا كان هو الآخر في أرض الأحلام.

٧

علم الكاهن في المحادثات العديدة التي تلت أن في أرض الملائكة لا وجود للألم أو المؤرقات أو الموت، ولا زواج ولا تزويج، ولا ميلاد ولا نسيان. هناك، تظهر أشياءُ جديدة بين الفينة والأخرى. أرضٌ مستويةٌ رائعة بلا نهاد ولا وهاد، تنتشر فيها مبانٍ غريبة، وتتناوب عليها أشعة الشمس وضوء القمر الرقراق فلا تعدمهما أبدًا. ولا ينقطع عنها النسيم العليل الذي يتغلغل ثنايا الأشجار. أرضٌ مذهلة، فيها بحارٌ معلَّقة في جو السماء، تمخر عبابها أساطيلُ غريبة لا يعلم أحد من أين جاءت أو أيَّ وجهة تقصد. هناك، تلتمع الأزهار في الجِنان، وتتوهج النجوم بين الأقدام، ويحلو طعم الحياة. هناك، تمتد حدود الأرض بلا نهاية، فلا نظام شمسي، ولا فضاء خالٍ بين النجوم كما هو الحال في كوننا. هناك، يرتفع الهواء حتى يتخطَّى حدود الشمس ويصل إلى أبعد أركان سمائهم لتتنفس الحياة. لا شيء هناك سوى الجمال. كل جمال فنوننا بألوانها العديدة لا يضاهي نفحة مما أوتي عالمهم ذاك من روعة. ليس مُلحِّنونا سوى نخبةٍ قليلة ممن ساقت رياح ذلك العالم إلى أسماعهم همساتٍ خافتة من ألحان عالمهم. عالمٌ يجوبه ملائكة ووحوشٌ غريبة يتداخل في تكوينها البرونز والبلور.

أرضٌ يسود فيها القانون، فلا شاردة ولا واردة إلا وتحتكم بأمره، لكن قوانينه تختلف عن قوانيننا. حتى هندستهم تختلف عن هندستنا؛ إذ إن في فضائهم منحنًى يجعل كل سهولهم منحنيةً هي الأخرى. وقانون الجاذبية لديهم لا يخضع لقانون التربيع العكسي. الألوان الأولية عندهم أربعة وعشرون لونًا وليست ثلاثة فقط كما هي عندنا. معظم ما نعتبره نحن من معجزات العلم هي عندهم أمور معتادة. أغلبُ ما يعتبره علمُنا منجزاتٍ مبهرة شائعٌ واعتياديٌّ لديهم، وكل العلم الأرضي يبدو لهم أحلامًا جنونية، كما أن نُوَّار حقولهم من نار. قد يبدو هذا للمرء محض ترهات تُجافي العقل. وبالفعل لم يستوعب الكاهن معظم ما أخبره به الملاك، لأن تجارب الكاهن كلها كانت من هذا العالم المادي؛ فحالت تجاربُه تلك دون فهمه لما قصَّه الملاك من غريب الحكايات. كانت قصصًا أغرب من الخيال بحق.

لم يعرف الملاك ولا الكاهن ما جذب أحد هذين الكونَين إلى الآخر؛ فأدى إلى سقوط الملاك فجأة في سيدرفورد. استغلق ذلك حتى على كاتب هذه القصة، فهو لا يُعنى إلا بتفاصيل الواقعة، ولا رغبة لديه في تفسير تلك التفاصيل، ولا يثق في فهمه لها من الأساس. التفسيرات مغالطة عصر العلم. الحقيقة الأهم هي أن ملاكًا جميلًا ومبهرًا وقف في حديقة سيدرمورتون في الرابع من أغسطس عام ١٨٩٥ ولم تزل عالقةً به آثار عالمٍ عجيب لا حزن فيه ولا نحيب. وهناك تحدَّث مع كاهن سيدرمورتون عن وجود عوالم متعددة، لو اضطُر كاتب هذه السطور إلى أن يقسم بظهور ذلك الملاك لفعل بلا تردد. وهذا غاية ما في الأمر.

٨

قال الملاك: «لديَّ إحساسٌ غريب للغاية هنا، أشعر به منذ شروق الشمس، لا أتذكر أن انتابني أيُّ شعور هنا قبل الآن.»

قال الكاهن: «أتمنى ألَّا يكون الألم.»

رد الملاك: «كلا، إنه شعور مختلف، شعور يشبه الفراغ.»

قال الكاهن وهو يتحسس ذقنه: «ربما كان تأثير اختلاف الضغط الجوي.»

قال الملاك: «ولديَّ أيضًا إحساسٌ غريب في فمي، كما لو أني — أمر سخيف للغاية — كما لو أني أريد دسَّ أشياء فيه.»

قال الكاهن: «يا إلهي! بالطبع! أنت جائع!»

رد الملاك: «جائع؟! ماذا يعني ذلك؟»

قال الكاهن: «ألا تأكل؟»

رد الملاك: «آكل؟ هذه كلمةٌ غريبة عليَّ!»

قال الكاهن: «أي تضع طعامًا في فمك، على المرء أن يفعل ذلك هنا. ستتعلم ذلك سريعًا. إذا لم تأكل فسيُصيبك الهُزال والضعف، وستعاني الكثير من «الألم»، وبعد ذلك تموت.»

قال الملاك: «أموت؟! هذه كلمةٌ غريبةٌ أخرى!»

قال الكاهن: «ليست غريبة هنا، إنها تعني الرحيل.»

رد الملاك: «نحن لا نرحل أبدًا.»

قال الكاهن متفكرًا: «أنت لا تعرف ما قد يحدث لك في هذا العالم، إذا كنت تشعر بالجوع والألم وانكسر جناحاك، فهذا يعني أنك قد تموت قبل أن تغادره مرةً أخرى. على أي حال، يُستحسن أن تأكل. أما أنا فأعرف أشياءَ كثيرة أسوأ.»

قال الملاك: «أعتقد أنه يُستحسن أن آكل بالفعل، إذا لم يكن ذلك صعبًا، لا يعجبني ذلك الذي تسميه «الألم»، ولا يعجبني شعور «الجائع» هذا، وإذا كان شعوري وأنا «أموت» يشبه شعوري وأنا «جائع» فلا أريد ذلك، أُفضِّل أن «آكل» إذن، يا لغرابة هذا العالم!»

قال الكاهن: «يعتبر الموت شيئًا أسوأ من الألم أو الجوع … حسب الظروف.»

قال الملاك: «عليك أن تشرح لي كل ذلك فيما بعدُ، إلا إذا استيقظتُ. أما الآن فهلَّا أريتني كيف آكل؟ من فضلك. أشعر أن ذلك مُلحٌّ.»

مدَّ الكاهن ساعده إلى الملاك وقال: «معذرةً! هلَّا منحتني شرف استضافتك؟ منزلي قريب، يبعد عن هنا أميالًا قليلة.»

قال الملاك متحيِّرًا: «منزلك أنت؟!» ولكنه استند إلى ساعد الكاهن بودٍّ، ومضيا في طريقهما وهما لم يزالا يتحدَّثان، فخاضا أوراق السرخس الكثيفة ببطء، في حين سقط عليهما ما انسلَّ من بين فروع الشجر من أشعة الشمس على هيئة بُقعٍ متفرقة، وعبرا سياج الحديقة عبر درج البوابة، ومرَّا بشجرة الخَلَنْج التي احتشد حولها النحل، سارا لميل أو أكثر من ذلك، وهبطا التل في طريقهما إلى المنزل.

لو رأيتهما معًا حينئذٍ لتعجبت من منظرهما؛ كان الملاك نحيلًا لا يتجاوز طوله خمس أقدام، له وجهٌ جميل تجنح قسماته إلى الأنوثة، كما قد يُصوِّره أبرز الرسامين الإيطاليين (وفي الحقيقة توجد رسمة له في المعرض الوطني باسم «توباياس والملاك» بريشة فنانٍ مجهول، لا تختلف كثيرًا عن شكله وطبعه)، يرتدي قميصًا بلون الزعفران تتخلَّل نسيجه خيوطٌ أرجوانية، وكانت ركبتاه وقدماه مكشوفة، وجناحاه (اللذان انكسرا) رماديَّين شاحبَين ومضمومَين خلفه. وكان الكاهن قصيرًا قويَّ البنية، في وجنتَيه شيء من الحمرة، وشعره أيضًا أحمر، حليق اللحية، بُني العينَين، يرتدي قبعةً من القش اجتمع فيها أكثر من لون، وميَّزها شريطٌ أسود، وأتمَّ هندامه برابطة عنق بيضاءَ أنيقة، وسلسلة من الذهب الخالص تدلَّتْ من طرفها ساعة. جذب رفيقه اهتمامه بشدة، حتى إنه لم يتذكَّر أنه ترك بندقيته حيث سقطت منه بين أوراق السرخس إلا عندما كان منزله في مرمى بصره.

سعد كثيرًا عندما عرف أن حدة ألم الجناح الذي ضمَّده خفَّت سريعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤