في منزل الكاهن

١٠

كانت زوجة الخوري وابنتاها والسيدة جيهورام يلعبْنَ التنس بحماسٍ في الحديقة خلف مكتب الكاهن، ويتهامسْنَ عن أنماط حياكة القمصان. نسي الكاهن أمرهن، فجاء من اتجاههن.

رأَيْن قبعة الكاهن تبرز فوق شجر الورد، وبجانبها رأس بدون غطاء. قالت زوجة الخوري: «عليَّ أن أسأله عن سوزان ويجين.» وكانت حينئذٍ تمسك بمضرب التنس بيدٍ وبالكرة بالأخرى، وتستعد لضربة الإرسال، وتابعت: «كان يجدر به أن يذهب لزيارتها، فهو الكاهن، وليس جورج.»

مر الكاهن والملاك بمنعطفٍ في الطريق فأصبحا في مرمى البصر.

كان وجه الملاك موجهًا نحو زوجة الخوري، وجناحاه مضمومَين خلفه فلم ترَ منهما شيئًا. لم ترَ إلا وجهًا ذا جمال لا مثيلَ له على الأرض، تُحيطه هالة من شعرٍ كستنائي؛ وجسمًا رشيقًا يرفل في قميص بلون الزعفران لا يكاد يصل إلى ركبتَيه. تذكر الكاهن الركبتَين ففزع، وفزعت الفتاتان والسيدة جيهورام. حدَّق الملاك مذهولًا فيهم جميعًا ولاحظ فزعهم؛ إذ لم يسبق له أن رأى أشخاصًا مفزوعين.

قالت زوجة الخوري: «السيد هيليار! هذا غير ملائم!» ثم وقفت صامتة لحظة.

ثم توجهت نحو الفتاتين وقالت لهما: «تعالين!» فتح الكاهن فمه ثم أغلقه دون أن ينبس بكلمة، ودار العالم من حوله. وهُرِعت السيدتان والفتاتان نحو باب الممر الذي امتد بطول منزل الكاهن، وشعر الكاهن بحرجٍ شديد.

صاح الكاهن وهو يسرع الخطى: «سيدة ميندام، سيدة ميندام، لم تفهمي الأمر!»

بيد أنه لم يجد ردًّا سوى همهمات الامتعاض.

اختفت السيدتان والفتاتان في الممر، ومر الكاهن متعثرًا في الحديقة ولم تزل أمارات الحرج تعلو وجهه، ثم سمع زوجة الخوري تقول في الممر: «هذا ما يحدث عندما يكون كاهن البلدة غير متزوج!» واهتزَّ قائم المظلة، ثم أُغلق باب منزل الكاهن بقوة مُصدِرًا ضجيجًا كإطلاق النار من بندقيةٍ صغيرة. وعمَّ الصمت لبعض الوقت.

ثم قال الكاهن: «متسرعةٌ كعهدي بها دائمًا.»

أمسك ذقنه كعادته، ثم التفت إلى رفيقه الذي بدا عليه التهذيب، كان يمسك بمظلة السيدة جيهورام التي تركتها على الكرسي المصنوع من الخيزران، ويفحصها باهتمامٍ بالغ ثم فتحها وقال: «يا لها من آلية عمل غريبة! ما فائدة هذا الشيء؟»

لم يُجبه الكاهن، ذكَّره الزي الملائكي بعبارةٍ فرنسية لم تسعفه الذاكرة بها؛ إذ إنه لا يستخدم الفرنسية إلا نادرًا، وليست عبارة de trop (وتعني بالعربية أكثر من اللازم)، تذكَّرها أخيرًا، إنها عبارة Sans culotte (التي تعني بالعربية بدون سروال داخلي).

تفحَّص الكاهن زائره بعينٍ ناقدة للمرة الأولى فخاطب نفسه قائلًا: «سيكون من الصعب تفسير مظهره.»

غرس الملاك المظلة في الحشائش ثم ذهب يستنشق نسيم شجيرات الورد البري. سقط ضوء الشمس على شعره البُني فأضفى عليه مظهرًا يشبه الهالة. أصابت شوكةٌ إصبعه فقال: «غريب! الألم مجددًا.»

خاطب الكاهن نفسه قائلًا: «إنه جميل وفضولي بطبيعته، من المفترض أن يعجبني ذلك، لكن لا بد أن أتدخل.»

فاقترب من الملاك وسعل في حرج.

١١

قال الكاهن: «هؤلاء كنَّ سيدات.»

قال الملاك وهو يبتسم ويستنشق شجيرة الورد: «شيءٌ عجيب! أشكال غريبة!»

قال الكاهن: «هل لاحظت كيف تصرَّفْنَ؟»

رد الملاك: «انصرفْنَ، أو هكذا بدا لي، ربما كنَّ خائفات؟ فأنا نفسي أخاف من الأشياء التي ليس لها أجنحة. أتمنى ألَّا يكون جناحاي ما أفزعهن.»

قال الكاهن: «بل مظهرك العام.» ورمق قدمَيه الورديتَين بلا تفكير.

قال الملاك: «يا للعجب! لم يخطر ذلك ببالي، أفترض أن مظهري بدا غريبًا بالنسبة إليهن كما بدا مظهرك بالنسبة إليَّ.» ثم نظر إلى الأسفل وقال: «كما أن قدمَيْك بهما حوافر مثل الهيبوجريف.»

صححه الكاهن: «بل حذاء.»

قال الملاك: «حذاء؟ هكذا تسمُّونه؟ على أي حال، أعتذر عن إزعاج …»

قال الكاهن: «اسمع، لدى نسائنا آراء خاصة حول الملابس، بعيدة عن الحس الفني ربما. وأخشى أن ملبسك هذا — رغم جمال شكله — سيجعلك منعزلًا عن المجتمع. لدينا هنا مَثل يقول: «إذا كنت في روما، فعليك أن تفعل ما يفعل الرومان.» أؤكد لك أنك إذا أردت أن تختلط بنا خلال زيارتك غير المقصودة فعليك …»

وكان الكاهن أثناء حديثه يتنحنح بين كلماته، فتراجع الملاك خطوة أو أكثر في حين كان الكاهن يقترب منه ليُسمعه حديثه دون أن تتناهى الكلمات إلى سَمْع أي شخصٍ آخر. بدت على وجه الملاك الجميل الحيرة وقال: «لا أفهم لماذا تصدر هذه الأصوات من حلقك؟ أهو «الموت» أم «الجوع» أم …»

قاطعه الكاهن: «بوصفي مضيفك …»

ردد الملاك: «بوصفك مضيفي …»

تابع الكاهن: «هل تمانع في ارتداء بذلة؟ أعني بذلة جديدة تمامًا، كهذه التي ألبسها.»

تراجع الملاك وألقى نظرة على هيئة الكاهن ثم قال: «أأرتدي ملابس كملابسك؟!» وكان متحيِّرًا ومتحمِّسًا في الوقت ذاته. واتسعت عيناه والتمعتا وتبسَّم وجهه.

وقال: «رائع!» وأخذ يُصفِّق وتابع: «يا له من حلمٍ غريبٍ جنوني!» ثم أمسك بلياقة قميصه الزعفراني وقال: «أين الملابس؟»

رد الكاهن: «بالداخل! من هنا، ستبدِّل ملابسك بالداخل.»

١٢

ارتدى الملاك على نصفه السفلي قطعتَين من ملابس الكاهن، وارتدى على نصفه العلوي قميصًا مشقوقًا من الخلف (ليناسب الجناحَين). ثم ارتدى جوربَين، وحذاءً من أحذية الكاهن، ولياقة، ورابطة عنق، ومعطفًا خفيفًا، لكن شعر ببعض الألم وهو يرتدي المعطف، وتذكر الكاهن أن الضمادات التي كانت على جناحَي الملاك مؤقتة. قال الكاهن: «سأطلب الشاي الآن، وسأرسل جراميت في طلب كرامب، سنتناول العشاء قبل موعده.» وحينما كان الكاهن يصدر أوامره، تأمل الملاك مظهره في المرآة في زهو؛ إذ لم يكن إحساس التفرد الممتع غريبًا عليه كما كان إحساس الألم.

احتسيا الشاي في غرفة الاستقبال. جلس الملاك على كرسي الموسيقى (كرسي الموسيقى بسبب جناحيه)؛ إذ كان مناسبًا لجناحَيه، وكان في أول الأمر سيستلقي أمام الموقد. بدا مظهره بملابس الكاهن أقل إبهارًا بكثير من مظهره عندما كان يرتدي القميص الزعفراني عند المستنقع، لكن وجهه ظل متألِّقًا، وبدا في لون شعره ووجنتيه سطوعٌ غريب، كما الْتمعت عيناه بلون لا يألفه البشر. ومع كل هذا الجمال فقد أظهره بروز معطفه بفعل جناحيه المختبئين بمظهر الأحدب. قربت الملابس شكله لمظهر أهل الأرض، وإن كان بنطاله مجعَّدًا، والحذاء واسعًا عليه.

كان ودودًا وبشوشًا، وجاهلًا تمامًا بأساسيات الحضارة. تعلم الأكل بدون صعوبة تُذكر، واستمتع الكاهن بتعليمه كيفية احتساء الشاي. قال الملاك: «يا لهذه الفوضى! ويا له من عالمٍ قبيح غير متناسق عالمكم هذا! تضعون أشياء في أفواهكم، أما نحن فلا نستخدمها إلا للحديث أو الغناء. في عالمنا جمال لا يخبو، لا يعكره من القبح إلا أقل القليل، لدرجة أني أجد كل هذا … مسليًا.»

نظرت السيدة هينيجر — مدبرة منزل الكاهن — إلى الملاك بعين الارتياب عندما أتت بالشاي، ظنَّته شخصًا غريب الأطوار. لو كانت رأته بزيِّه الزعفراني لظنَّت أكثر من ذلك.

تجول الملاك في الغرفة وهو يحمل قدح الشاي في إحدى يدَيه، والخبز والزبد في الأخرى، وتفقَّد أثاث الكاهن. نثرت الشمس دفئها على زهور الأضاليا ودوار الشمس في الحديقة التي أطلت عليها النافذة الفرنسية الطراز، ولم تزل مظلة السيدة جيهورام قابعة هناك كلسان من اللهب. استغرب الملاك صورة الكاهن المعلَّقة على رفِّ المدفأة، ولم يعرف الغرض من وجودها في ذلك المكان، فعلَّق عليها بقوله: «لماذا تريد نسخة مسطحة من نفسك إذا كان لديك بالفعل الأصل الدائري؟» وجذب انتباهه حاجز المدفأة الزجاجي، كما استغرب الكراسي المصنوعة من خشب البَلُّوط، وخاطب الكاهن قائلًا: «أجسادكم ليست مربعة الشكل، صحيح؟ نحن لا نثني أجسادنا هكذا أبدًا، بل نستلقي على الزنابق عندما نرغب في الراحة.»

رد الكاهن موضحًا: «أصدقك القول، لطالما حيَّرني الكرسي أنا أيضًا. يرجع أصله إلى أيامٍ كانت فيها الأرضيات باردة ومتَّسخة للغاية، ثم ولَّت تلك الأيام وبقيت الكراسي، وأصبح الجلوس على الكراسي طبيعةً راسخة فينا. لو ذهبتُ اليوم لزيارة إحدى بنات الأبرشية ثم استلقيتُ على الأرض فجأة على الطريقة الطبيعية، فلا أعرف ما قد تفعل، سيُتداول الخبر في جميع أنحاء الأبرشية على الفور، ولو بدا أن الاستلقاء هو الطريقة الطبيعة لأخذ قسط من الراحة، الإغريق والرومان أيضًا …»

قاطعه الملاك فجأة وسأل: «ما هذا؟»

رد الكاهن: «هذا طيرٌ محنَّط، من فصيلة الرفرافيات، أنا من قتله.»

قال الملاك: «قتلته؟»

رد الكاهن: «أطلقت عليه الرصاص من بندقية.»

قال الملاك: «أطلقتَ عليه الرصاص؟ كما فعلتَ بي؟»

رد الكاهن: «لكني لم أقتلك، لحسن الحظ.»

قال الملاك: «هل هذا ما يحدث لك إذا تعرضت للقتل؟»

رد الكاهن: «تقريبًا.»

قال الملاك: «يا للهول! وكنت تريد أن تجعلني هكذا؟ أن تضع في محجريَّ عينَين زجاجيتَين وتربطني في علبةٍ زجاجيةٍ مليئة بشيء أخضر وبُنيٍّ قذر هكذا؟»

قال الكاهن: «اسمع، أنا لم أفهم تمامًا …»

قاطعه الملاك: «هل هذا هو الموت؟»

رد الكاهن: «نعم، هذا الطائر «ميت»، لقد مات.»

قال الملاك: «مسكين! عليَّ إذن أن آكل كثيرًا. تقول إنك قتلته، لم فعلت ذلك؟»

رد الكاهن: «عندي ولع بالطيور، أنا أجمعها، أردت اقتناء هذا النوع …»

حدق الملاك فيه للحظة مُتحيِّرًا، ثم قال: «تَقتَني طيرًا جميلًا كهذا؟! فقط لأنك شعرت برغبة في ذلك؟ أردت اقتناء النوع؟!»

فكَّر الملاك للحظة ثم سأل الكاهن: «هل تقتل كثيرًا؟!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤