بعد العشاء

١٨

جلس الملاك والكاهن يتناولان العشاء، ثبت الكاهن منديله على رقبته، وراقب الملاك وهو يحاول تناول حسائه بصعوبة، ثم قال: «ستُتقن ذلك قريبًا.» شقَّ على الملاك استخدام السكين والشوكة لكنه تمكن من ذلك في النهاية. أخذ الملاك يختلس النظر إلى ديليا، العاملة التي تقدم الطعام. بعد ذلك جلسا يقشران المكسرات، فوجد فيها الملاك متعةً كبيرة، وكانت الفتاة قد انصرفت، فسأل الملاك: «هل كانت هذه أيضًا سيدة؟»

رد الكاهن (بصوتٍ خفيض): «كلا، ليست سيدة، بل هي خادمة.»

قال الملاك: «كان شكلها أفضل.»

قال الكاهن وهو يخفي إعجابه بما سمع: «لا تقل ذلك للسيدة ميندام.»

تابع الملاك: «لم يكن صدر السيدة ميندام ولا أردافها بارزة بالقدر نفسه، ما بين الصدر والأرداف هو ما كان أكثر امتلاءً، ولم يكن لون ثوبها متمايزًا، بل محايدًا، وكان وجهها …»

لم يرُق الكاهن أن يسمع انتقاصًا من قدر السيدة ميندام، ولو كانت عدوته اللدود، فقاطعه: «السيدة ميندام وبناتها كنَّ يلعبْنَ التنس؛ هل أعجبتك هذه الأشياء؟ المكسرات؟»

رد الملاك (بصوتٍ خفيض): «كثيرًا.»

قال الكاهن (بنبرة ودودة): «اسمع، أنا أومن تمامًا بأنك ملاك.»

قال الملاك: «نعم.»

واصل الكاهن: «أطلقت النار عليك، ورأيتك تُرفرف، لا شك لديَّ، مع اعترافي بأن الأمر غريب عليَّ ويناقض تصوراتي المسبقة، لكن عمليًّا، أنا متأكد — متأكد تمامًا — أني حقًّا رأيت ما رأيت، لكن بعد أن رأيتُ سلوك هذين الشخصَين، (بصوت خفيض) لا أرى لنا سبيلًا إلى إقناع الناس؛ فالناس اليوم يُصرُّون إصرارًا شديدًا على وجود البراهين. أعتقد أن جدلًا طويلًا سيدور حول أسلوب تعاملك مع الناس؛ لذا أرى أنه من الأفضل — ولو بصورةٍ مؤقتة — أن تفعل ما اقترحتَ فعله، أعني أن تتصرف كبشريٍّ بقدر الإمكان. بالطبع لا يمكننا أن نعرف كيف ومتى قد تعود إلى طبيعتك، لكن بعد ما حدث …» (وتوقف الكاهن ليُعيد ملء كأسه)، ثم تابع: «بعد ما حدث، لن أُفاجأ إن رأيت جانب الغرفة ينهار، وملائكة السماء يظهرون لإعادتك من حيث أتيت، ربما يأخذوننا معًا حتى. لقد أصبح خيالي أكثر اتساعًا الآن، طوال السنوات الماضية كنت قد نسيت شأن أرض العجائب، ومع ذلك فالحكمة تقتضي أن نُعلم الناس بالأمر تدريجيًّا.»

قال الملاك: «أخبرني عن حياتكم، لا أعلم عنها شيئًا حتى الآن، كيف تبدأ حياتكم؟»

قال الكاهن: «يا للعجب! لم أتصور أني سأضطر إلى شرح ذلك يومًا، في بداية وجودنا على هذه الأرض يكون المرء منا طفلًا رضيعًا، قطعةَ لحمٍ ورديةً عديمة الحيلة ملتحفة بأغطيةٍ بيضاء، بأعينٍ حائرة ترنو إلى الأفق البعيد، ثم يكبر الأطفال، ويزدادون جمالًا عندما تُغسَل وجوههم، ويأخذون في النمو حتى يبلغوا حجمًا محدَّدًا، يغدو الرُّضَّع صبية وفتيات، ثم شبانًا وعذراوات، (بصوت خفيض) ثم رجالًا وسيدات في ربيع العمر، وهذا أفضل مراحل الحياة حسب رأي الكثيرين، وأكثرها جمالًا، حيث الآمال العظيمة والأحلام الملوَّنة والعواطف الغريبة والأخطار التي لا يُحسب لها حساب.»

أشار الملاك إلى الباب الذي خرجت منه ديليا وقال: «كانت تلك عذراء؟»

قال الكاهن: «نعم، كان تلك عذراء.»

سأل الملاك: «وماذا يحدث بعد ذلك؟»

قال الكاهن: «بعد ذلك يخبو ذلك الألق شيئًا فشيئًا، وتشتد ضراوة معترك الحياة، يأتي إليَّ معظم الرجال والسيدات وقد ائتلفوا في ثنائيات، خجولين مهتزين، يرفلون في ملابسَ رسميةٍ قبيحة، فأُزوِّجهم، ثم يُرزقون بأطفالٍ صغار ورديِّي اللون، يصبح بعض أولئك الشبان والعذراوات بُدناء سليطي اللسان، ويصبح آخرون نُحفاء حادِّي الطباع، يذوي جمال بشرتهم، ويتملَّكهم وهمٌ غريب أنهم أرفع شأنًا ممن يصغرونهم، وتفقد حياتهم كل ما كان فيها من بهجة ومجد، فيُسَمُّون ما في حياة من يصغرونهم من بهجة ومجد وهمًا، ثم يأخذون في التداعي.»

قال الملاك: «التداعي! يا للغرابة!»

تابع الكاهن: «يتساقط شعرهم ويبهت لونه أو يستحيل شيبًا رماديًّا، انظر إليَّ كمثال …» انحنى الكاهن إلى الأمام ليَظهر في وسط رأسه مساحةٌ دائريةٌ لامعة كعملةٍ معدنية، ثم واصل: «ويفقدون أسنانهم، وتنكمش وجوههم وتصبح مجعَّدة أو «محزَّزة» كما وصفتَ وجهي. ويزداد اهتمامهم بما سيأكلون أو يشربون، في حين يقل اهتمامهم بأي مباهجَ أخرى في الحياة، تضعف مفاصلهم فتهتز أطرافهم، ويتباطأ خفقان قلوبهم، أو يسعلون فيلفظون نتفًا من رئاتهم، ويحل الألم …»

هنا صاح الملاك: «آهٍ!» عندما ذُكر الألم.

واصل الكاهن: «يحلُّ الألم ضيفًا ثقيلًا على حياتهم، ثم يرحلون — ليس برضاهم، بل رغمًا عنهم — من هذا العالم، يتمسكون بألمه بكل ما يتبقَّى لديهم من قوة؛ لكيلا يفلتوا منه إلى …»

قال الملاك: «إلى أين يرحلون؟»

رد الكاهن: «كنت أظن يومًا ما أني أعرف، لكن بعد أن بلغتُ هذا العمر لا أعرف. لدينا اعتقاد — وربما كان أكثر من مجرد اعتقاد — بأنه يمكن للمرء أن يكون من رجال الكنيسة وغير مؤمن في الوقت ذاته، يقول ستوكس أن لا شيء في ذلك.» وهزَّ رأسه نحو الموز.

سأل الملاك: «وأنت، هل كنتَ رضيعًا ورديًّا صغيرًا؟»

رد الكاهن: «كنت رضيعًا ورديًّا صغيرًا في وقت ليس بالبعيد.»

قال الملاك: «وهل كنت حينها ترتدي ملابس مثل التي ترتديها الآن؟»

رد الكاهن: «بالطبع لا، يا للعجب! يا لها من فكرة غريبة! كنت أرتدي ملابسَ بيضاءَ طويلة على ما أفترض، مثل الرضَّع الورديين الآخرين.»

سأل الملاك: «ثم تحولت إلى فتًى صغير؟»

قال الكاهن: «فتًى صغير، نعم.»

سأل الملاك: «ثم شابٍّ مفعم بالقوة؟»

رد الكاهن: «يؤسفني أني لم أكن شابًّا مفعمًا بالقوة، بل كنت أمرض كثيرًا، وسلبني فقري العنفوان والجسارة. كنت أدرس باجتهاد، وانكببت على البحث في أفكارٍ موشكة على الزوال وضعها رجالٌ ماتوا منذ زمنٍ بعيد، فاتني عنفوان الشباب، ولم تأتني العذراء، ودهمتني كآبة الحياة قبل الأوان.»

قال الملاك: «وهل لديك أطفالٌ ورديُّون صغار؟»

رد الكاهن: «كلا.» وتوقف لوهلة ثم تابع: «على أي حال، يمكنك أن تلاحظ أني بدأت في التداعي، قريبًا سينحني ظهري كساق زهرةٍ ذابلة، وبعد بضعة آلاف من الأيام سينتهي أمري، وسأغادر عالمي هذا، لا أعلم إلى أين!»

سأل الملاك: «وعليك أن تأكل هكذا كل يوم؟»

رد الكاهن: «عليَّ أن آكل وأشتري ملابسي وأحافظ على هذا السقف الذي يحميني، يوجد في هذا العالم شيئان كريهان يسمَّيان البرد والمطر. الآخرون هنا — لأسباب يطول شرحها، وبطريقة لا متسع لذكرها الآن — جعلوا لي دورًا هامًّا في حياتهم؛ يأتونني بأطفالهم الورديِّين الصغار فأقرأ على كلٍّ منهم اسمًا وبعض الأشياء الأخرى، وعندما يكبر هؤلاء الأطفال ويصبحون شبابًا وعذراوات يأتون مجددًا لتأكيد تعميدهم، ستفهم ذلك بدقةٍ أكبر لاحقًا. وقبل أن يأتلفوا في ثنائيات وينجبوا أطفالًا ورديِّين صغارًا عليهم أن يأتوا ويستمعوا إليَّ أتلو عليهم مقاطع من كتاب. ثم يُنبذون، فلا تتحدث عذراء أخرى إلى من أنجبت طفلًا ورديًّا صغيرًا قبل أن أقرأ عليها من كتابي لعشرين دقيقة. هذا ضروري، كما سيتضح لك، مهما كان غريبًا عليك الآن. وفي وقتٍ لاحق، عندما يبدءون في التداعي، أحاول إقناعهم بعالمٍ غريب لا أكاد أومن أنا نفسي به، فيه حياةٌ مختلفة تمامًا عن حياتهم التي عاشوها أو التي يرغبون فيها. وفي النهاية أدفنهم، وأقرأ من كتابي على آخرين لن يلبثوا أن يلحقوا بهم في الأرض المجهولة. أكون معهم في بداية حياتهم، وفي أوجها، وفي نهايتها. وكل سبعة أيام، أحدثهم — وأنا البشري الذي لا أرى شيئًا أكثر مما يرونه — عن حياةٍ آتية، حياة لا نعرف شيئًا عنها، إذا كان لها وجود، ثم أتداعى وأنا لم أزل أحدثهم بنبوءاتي تلك.»

قال الملاك: «يا لها من حياةٍ غريبة!»

رد الكاهن: «نعم، يا لها من حياةٍ غريبة! لكن ما يجعلها غريبة بالنسبة إليَّ شيءٌ جديد؛ فقد كنت أعتبرها تسلسلًا لا حيد عنه حتى ظهرتَ أنت في حياتي.»

استطرد الكاهن: «حياتنا هذه عنيدة، تقيد أرواحنا بحبال متعها المؤقتة، (بصوت خفيض) فعندما أُحدث شعب الكنيسة عن حياةٍ أخرى، أجد بعضهم يشبعون نهمهم بأكل الحلويات، وأرى شيوخًا يغطُّون في النوم، وشبابًا يختلسون النظر إلى العذراوات، ورجالًا بالغين يتباهى كلٌّ منهم بصديريٍّ أبيض اللون تتدلَّى منه سلسلةٌ ذهبية، أجسادٌ بشريةٌ عاديةٌ مغلَّفة بغطاء من البذخ والأبهة، وزوجاتهم يستعرضْنَ قبعاتهن المبهرجة، في حين أواصل أنا كلامي الرتيب عن أشياء لا تُرى ولا تُدرَك، أتلو عليهم: «ما لمْ تَرَ عَينٌ، ولَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ.» ثم أنظر فأرى رجلًا بالغًا فانيًا يتأمل بعين الإعجاب قفازَين ثمنهما ثلاثة شلنات وستة بنسات. إيماني يضعف عامًا بعد عام، عندما كنت أمرض وأنا شاب كنت شبه متأكد من أن وراء هذا العالم الخيالي المؤقت يوجد العالم الحقيقي، عالم الأبدية، أما الآن …»

ونظر إلى يده السمينة البيضاء تعبث بساق الكأس، ثم قال: «فازداد وزني عما كان عليه تلك الأيام.»

ثم استأنف كلامه: «تغيرتُ وتطورت كثيرًا، لم أعد أهتم بصراع الروح والجسد كما كنت، يومًا بعد يوم يهتز إيماني بمعتقداتي ويزداد إيماني بالرب، أعيش حياةً خاملة، لا أؤدي واجباتي على أكمل وجه، وأهتم بالطيور والشطرنج بعض الشيء، محض تفاهات، عمري بيده …» (وصمت قليلًا.)

تنهد الكاهن وظل يتفكر، في حين راقبه الملاك متحيرًا، وأعاد الكاهن ملء كأسه.

١٩

تعشى الملاك مع الكاهن وتسامرا، ثم حلَّ الليل، فتثاءب.

قال الملاك فجأة: «يا للعجب! يبدو أن قوة عُلْيا فتحت فمي فجأةً ثم تدفَّقت في حلقي دفعةٌ كبيرة من الهواء.»

قال الكاهن: «أنت تثاءبت، ألا تتثاءبون في بلدك الملائكي؟»

رد الملاك: «لا نتثاءب أبدًا.»

قال الكاهن: «ومع ذلك، أنتم خالدون، أعتقد أنك تريد الذهاب للسرير.»

رد الملاك: «سرير؟! أين هذا المكان؟»

شرح الكاهن له ما هو الظلام وعرَّفه فن الخلود إلى النوم (يبدو أن الملائكة لا ينامون إلا ليحلموا، يحلمون وهم يضعون جباههم على ركبهم كالإنسان البدائي، وينامون في مروجٍ تغطيها زهور الخشخاش، في حر النهار). ووجد الملاك ترتيب غرفة النوم غريبًا.

فقال: «لماذا كل شيء مرفوع على قوائمَ خشبيةٍ كبيرة؟ لماذا تتركون الأرض وترفعون كل شيء على أربع قوائمَ خشبية؟» فقدم له الكاهن تفسيرًا فلسفيًّا غامضًا. حرق الملاك إصبعه بلهب الشمعة، وأبدى جهلًا تامًّا بمبادئ الاحتراق. طال اللهب الستائر، فلم يكن من الملاك إلا أن راقبه منبهرًا، وبعد أن أُخمِد الحريق اضطُر الكاهن أن يلقي عليه محاضرةً عن النار. ولم يكن ذلك الشرح الوحيد الذي اضطر الكاهن لتقديمه، حتى الصابون كان يتطلَّب شرحًا. مرت ساعة تقريبًا قبل أن يخلد الملاك إلى النوم.

قال الكاهن وهو يهبط الدرج منهكًا: «إنه جميلٌ جدًّا، ملاكٌ حقيقي، لا شك في ذلك، لكن أخشى أنه سيكون مصدر قلقٍ دائم حتى يتعلَّم كيفية سير الأمور هنا على الأرض.»

بدا عليه القلق، فصبَّ لنفسه كأسًا إضافية، ثم أعاد النبيذ إلى القبو.

٢٠

وقف الخوري أمام المرآة وخلع ياقته متفكرًا، خاطبته السيدة ميندام من الكرسي المصنوع من الخيزران.

قالت: «لم أسمع قط قصةً أغرب من هذه، لا بد أن هذا الرجل فقد عقله، هل أنت متأكد …»

رد الخوري: «متأكد تمامًا عزيزتي، أخبرتك بكل كلمة وفعل.»

قالت السيدة ميندام وهي تشير بيديها: «أمر لا يقبله العقل.»

وافقها الخوري: «بالضبط يا عزيزتي.»

قالت السيدة ميندام: «لا شك أن الكاهن مجنون.»

وضع الخوري دبوسي بدلته بعناية على منضدة الزينة وقال: «وهذا الأحدب من أغرب من رأت عيناي منذ وقتٍ طويل بالتأكيد؛ شكله غريب، له وجهٌ كبير فاتح اللون، وشعرٌ بُنِّي طويل لا بد أنه لم يُقصَّ منذ أشهر! هذا بالإضافة إلى تحديقه الدائم الغريب، وابتسامته المتكلَّفة، هيئته سخيفة كالمخنَّثين.»

قالت السيدة ميندام: «ولكن من عساه أن يكون؟»

رد الخوري: «لا يمكنني تصور ذلك يا عزيزتي، ولا أعرف حتى من أين جاء، ربما كان منشدًا في جوقة أو شيئًا من هذا القبيل.»

سألت السيدة ميندام: «لكن لماذا كان عند الشجيرات؟ وبهذا الزي الفظيع؟»

رد الخوري: «لا أعرف، لم يعطني الكاهن تفسيرًا، لم يقل لي إلا: «ميندام، هذا ملاك».»

قالت السيدة ميندام متفكرة: «أتساءل لو كان يعاقر الخمر، ربما كانا يستحمان عند النبع، هذا وارد بالطبع، ولكني لم ألاحظ أي ملابس أخرى على ذراعه.»

جلس الخوري على السرير، وفك رباط حذائه.

قال: «الأمر كله لغزٌ مستغلق عليَّ يا عزيزتي، (يُسمع صوت فك الرباط) الهلوسة هي التفسير الوحيد اﻟ…»

سألت السيدة ميندام: «هل أنت متأكد يا جورج أنها لم تكن امرأة؟»

رد الخوري: «متأكد تمامًا.»

«يمكنني تمييز الرجال بالتأكيد.»

«وهذا كان شابًّا في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره.»

قالت السيدة ميندام: «لا أفهم، هل قلت إن هذا الشيء سيقيم في منزل الكاهن؟»

قال الخوري: «هيليار مجنون، هذا هو الأمر ببساطة.» ونهض من السرير واتجه نحو الباب ليضع حذاءه في مكانه، ثم واصل: «طريقته كانت توحي بأنه كان يصدق أن ذلك المشوَّه ملاك بالفعل.» ثم سأل السيدة ميندام: «هل حذاؤكِ في الخارج عزيزتي؟»

ردَّت: «بل بجانب الخزانة بالضبط.» ثم واصلت: «لطالما كان غريب الأطوار، فيه شيء من الطفولة، ملاك؟! يا للعجب!»

توجه الخوري إلى المدفأة التي كانت السيدة ميندام تُفضِّل إشعالها حتى في الصيف، ووقف بجوارها يعبث بحمالتَيه وقال: «يُهمل كل المشكلات الملحَّة في الحياة، وينشغل كل حين بشكلٍ جديد من أشكال العبث، ملاك!» ثم انفجر بالضحك وواصل: «لا بد أن هيليار مجنون.»

انتقلت عدوى الضحك إلى السيدة ميندام وقالت: «حتى لو كان كذلك، لا تفسير للأحدب بعدُ.»

قال الخوري: «لا بد أن الأحدب أيضًا مجنون.»

قالت السيدة ميندام: «هذا هو التفسير المنطقي الوحيد.» (وصمتت برهة.)

ثم واصلت: «سواء أكان ملاكًا أم غير ذلك، لا يهمني إلا ما يعنيني، حتى لو كان الرجل يظن أنه بصحبة ملاك، ما من سبب يسوغ عدم تصرفه بلياقة.»

رد الخوري: «صحيح تمامًا.»

قالت السيدة ميندام وهي تسعل: «ستكتب إلى الأسقف، أليس كذلك؟»

رد الخوري: «نعم، لن أكتب إلى الأسقف، لو فعلت لبدا في ذلك شيء من الغدر، كما أنه لم يهتم بخطابي الأخير.»

قالت: «لكن بالتأكيد …»

قال الخوري: «سأكتب إلى أوستن سرًّا، وهو سيخبر الأسقف لا محالة، عليكِ أن تتذكري يا عزيزتي أن …»

قاطعته: «إن هيليار يمكنه عزلك؟ هذا ما كنت ستقول؟ عزيزي، الرجل أضعف من أن يفعلها! أعرف ذلك، كما أنك تتولى كل أعماله نيابة عنه، فنحن من نُدير الأبرشية من أقصاها إلى أقصاها، لا أعرف ماذا قد يحدث لفقراء الأبرشية لولاي، غدًا سيؤويهم منزل الكاهن مجانًا، جودي أنسيل مثلًا …»

قال الخوري وهو يخلع ملابسه: «أعلم يا عزيزتي، حدثتْني عنها بعد ظهر اليوم.»

٢١

وهكذا، في غرفة النوم الصغيرة هذه، نصل إلى استراحتنا الأولى في هذه القصة، بذلنا جهدًا في سردها للقارئ الكريم، وقد حان الوقت الآن لتلخيص ما سبق ذكره.

بالنظر إلى ما سلف ذكره يتضح للقارئ الكريم أن الكثير قد جرى، بدأنا بوهج من الضوء (كشعاعٍ ذهبي يلمع في ظلمة الليل في منحنياتٍ تظهر وتختفي كالْتماع أنصال سيوفٍ مصلتة)، وصوت قيثارة، وظهور ملاكٍ ذي جناحَين متعددي الألوان.

ثم قُص الجناحان سريعًا، واختفت الهالة المحيطة بالملاك، وانطمس بهاؤه تحت المعطف والبنطال، وبدأ الملاك يتصرف كالإنسان خوفًا من اتهامه بالجنون أو الانتحال. وقد رأى القارئ الكريم أيضًا آراء الكاهن والطبيب وزوجة الخوري في الوافد الغريب أو خمَّن تلك الآراء، وسترد فيما يلي آراءٌ مثيرة أخرى.

استحال غسق تلك الأمسية الصيفية ليلًا مظلمًا، وخلد الملاك إلى النوم، فرأى فيما يرى النائم عالمه الرائع، حيث الضوء دائم، والجميع سعداء، والنار لا تحرق، والثلج لا يقرص، والنجوم تنثر ضوءها الفضي على غدرانٍ تتخلَّل مروجًا يغطيها عشبٌ كالزغب الناعم وتصب في أبحر من سلام. يرى جناحَيه وقد استعادا ألوانهما الكثيرة، يرفرف بهما في هواءٍ نقي كالبلور يملأ العالم الذي جاء منه.

وبينما كان الملاك مستغرقًا في أحلامه، ظل الكاهن مستيقظًا تكتنفه الحيرة. ساوره قلق مما قد تُقدِم عليه السيدة ميندام، لكن أحاديث ذلك المساء فتحت نافذة في عقله، رأى منها بعين الخيال عالمًا سحريًّا لم يخطر ببال أحد، عالمًا ظل حتى ذلك الحين متواريًا عن أعين عالمه. لعشرين عامًا عاش حياته اليومية كسائر أهل قريته، تعصمه معتقداته العادية وكفاح الحياة المرهق من الغرق في الأحلام الغريبة، أما الآن فقد دهمه إحساس بحلول شيءٍ غريب لم يعهده، خالط انزعاجه المعتاد من جاره الفظِّ.

شعر بنذر شرٍّ قادم طغَت من فورها على كل اعتباراته؛ فقام من سريره متخبطًا، واصطدمت ساقاه بالأثاث أكثر من مرة، حتى عثر على أعواد الثقاب أخيرًا، فأشعل شمعة ليتأكد أن عالمه الذي يعرفه لم يزل كما هو. كانت المتاعب التي سيجرُّها عليه آل ميندام أكثرَ ما يشغله، تخيَّل لسان السيدة ميندام معلقًا فوقه كسيف ديموقليس، هل ستهدأ ثائرتها قبل أن تملأ الدنيا ضجيجًا عن هذه الواقعة؟

وعندما نام صائد الطائر الغريب أخيرًا نومه المضطرب، كان جالي — ابن سيدرتون — يفرغ بندقيته بحذر بعد يومٍ مرهق لم يُدرَّ عليه شيئًا، وكان ساندي برايت راكعًا يصلي وقد أحكم غلق نافذته. وبعد أن تحادثتا طويلًا عن الصوت والوهج غطَّت آني درغان في نومٍ عميق وفمها مفتوح، وكانت أم آموري تحلم بالغسيل. وجلس لامبي درغان في سريره يدندن بجزء من لحن سمعه مرةً ويرهف السمع لعله يسمعه مرةً أخرى. أما كاتب المحامي في إبينج هانجر، فكان يحاول كتابة أبيات من الشعر عن ابنة تاجر الحلويات في بورتبردوك وقد نسي أمر الطائر الغريب تمامًا. وبالنسبة إلى المزارع الذي رأى الطائر على تخوم حديقة سيدرمورتون فقد لحقت بعينه إصابة نجمت عن مشادةٍ صغيرة حول أرجل الطيور على متن «السفينة». كان علينا أن نُشير إلى هؤلاء في عجالة، إذ لم يسبِّب مَلَاك قبل ذلك قط مثل هذه السلسلة من الأحداث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤