الفصل العاشر

شعر «محسن» حوله ببرد الوحدة … وأراد أن يحادث أحدًا، أو يذهب لمقابلة أحد؛ غير أن الوحيد الذي يستطيع أن يفضي إليه بشيء هو «أندريه»! … إنه ليس مجنونًا حتى يخبر «أندريه» اليوم بما حدث، فيسخر من خيبته، ويلقي على مسامعه مرة أخرى: «إن المرأة تُكسَب بالواقع لا بالخيال». آه … الواقع! … الواقع هو … إنه هو الواقع في حب لا أمل فيه، ولا يجد إلى جانبه حتى من يعزيه! … وتذكر «إيفانوفتش» … نعم … لعل ذلك الروسي المنفي مثله في مجاهل «العزلة»، يستطيع أن يسري عنه الساعة؛ بحديثه الغريب، واطلاعه، وتأملاته.

وكان المساء قد أقبل، وأدرك أن صاحبه لا بد قابع في حجرته الحقيرة، تحت سقف ذلك المنزل العتيق، فذهب إليه من فوره فوجده كما توقع أن يراه، جالسًا فوق صندوقه الخشبي، كما يجلس الثراة فوق «الشيزلونج»! … وبين يديه كتاب ضخم ينهل من صفحاته؛ كما ينهل الألماني من كوب «جعة» ذي زبَد!

فما إن رفع رأسه، ورأى الفتى؛ حتى أشرقت أساريره المظلمة وانتعش قليلًا وجهه الذابل، وطرح الكتاب من يده، ونهض يهيئ للزائر مكانًا خليقًا بجلوسه، فمنعه «محسن» بإشارة سريعة، وبادر فقعد مثله على حافة الصندوق، وصمت قليلًا … وبدا عليه أنه يريد أن يقول شيئًا في نفسه، ولم يتردد طويلًا؛ فقد انفجر على الرغم منه: يا مسيو إيفان! … إني لست سعيدًا … ولعلك أيضًا كذلك! … إن سر تعاستنا هو أننا نعيش في هذه الحجرات المغلقة … إننا نجهل الواقع وطرائقه المباشرة … لا شيء يُكتَسب بالخيال في هذه الحياة!

فهز الروسي رأسه، وابتسم ابتسامة ساخرة وقال: من علمك هذا الكلام أيها الشرقي؟!

– هي البداهة، ولكن أعيننا هي التي لا ترى.

– لا … لست أصدقك … ذلك كلام لا ينبغي أن يقوله مثلك.

فمر طيف «أندريه» برأس «محسن» لكنه لم يقل شيئًا، ومضى إيفان يقول: الواقع والطرق العملية المباشرة؟! … تلك بالضبط كل حياة الحيوان! … الفاصل الوحيد بين الإنسان والحيوان هو «الخيال». إن اليوم الذي يستطيع فيه الحيوان أن يحيا دقيقة واحدة، خارج الواقع والمادة … اليوم الذي يلجأ فيه الحيون إلى طرق معنوية غير مباشرة للوصول إلى غاياته … اليوم الذي يستطيع فيه الحيوان أن يمضي الليل «يحلم» في غابته المقمرة بدلًا من مطاردة الفريسة؛ هذا اليوم يكون آخر عهده بالحيوانية … «الحلم» هو العالم العلوي الذي لا يدخله حيوان! … «الخيال» هو تاج السيادة والسمو الذي تميَّز به الإنسان.

وسكت لحظة، فقال «محسن»: نعم … ولكن «الواقع» …

فانطلق الروسي: الواقع؟ … الواقع … إني لا أحترم الآن كثيرًا هذه الكلمة!

ومر طيف «أندريه» مرة أخرى برأس الفتى … حقيقة أن صديقه الفرنسي هو الذي يذكر دائمًا هذه «الكلمة»؛ ولكن هذا الروسي الثائر، الواقف في منتصف الطريق بين الشرق والغرب! … من يضمن ﻟ «محسن» أنه على حق في كل هذه التصورات؟ … وبدا الشك على وجه الفتى … وقرأ إيفان ما يجول بخاطره، فصاح به وهو يهزه من كتفيه: آه! … «الخيال» … هو ليل الحياة الجميل! … هو حصننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل … إن عالم «الواقع» لا يكفي وحده لحياة البشر! … إنه أضيق من أن يتسع لحياة إنسانية كاملة! … نعم … مرة أخرى أقول لك إني شديد الإعجاب بأنبياء الشرق! … إن المعجزة الحقيقية التي جاءوا بها: هي أنهم قدموا للناس عالمًا آخر عامرًا بسكان من ملائكة ذوات أجنحة جميلة بيضاء، زاخرًا بجنات فيها أنهار من التبر، وأشجار من الزمرد، راعدًا بنيران تتأجج بلهب؛ زرقاء كألسنة الأبالسة، الهائمة كالخفافيش.

في هذا «العالم» استطاعت البشرية أن تعيش حياة أغنى وأحفل من حياة الواقع! … «الغرب» أيضًا حاول ذات يوم أن يخلق للناس مثل هذه العوالم؛ فظهرت فيه أنبياء الخيال، منشئو «اليوتوبيا»، فصنع «توماس مور»: «جزيرة الخيال»، و«كامبانيلا»: «مدينة الشمس»، و«موريللي»: «قانون الطبيعة» … و«كابيه»: «رحلة إلى إيكاري»! ألعاب صبيانية؛ كتلك القصور والقلاع والجنان، التي يقيمها الأطفال على شاطئ البحر من الرمال! … نعم خيال «مرتب بيد المنطق» مزين بنظرات العلم والفلسفة؛ كما تزين قصور الصبية بأوراق الحلوى الفضية الذهبية! … لكن … كم من البشر عاش في هذه «العوالم» التي صنعتها أيدي «العلماء» أنبياء الغرب؟! … آه يا صديق، إن الغرب إنما عاش أجمل حياته في ذلك الحلم السماوي، وذلك العالم العلوي الذي صنعه الشرق، وإن ضياع الغرب لم يبدأ إلا يوم أفاق من هذا الحلم، ونزل إلى عالم واقعه، يدب في هضابه المتحجرة ووديانه الجافة؛ كما تدب الحشرات.

وسكت الروسي لحظة، ثم عاد يقول: آه! … السماء … الجنة … الجحيم! … جرد عالمنا الأرضي من هذه الكلمات الثلاث التي بنيت في الشرق، تنهار في الحال أروع أعمالنا الفنية! … كل ما استطعنا أن نخلق من جمال، إنما صُنع تحت نور شعاع من أشعة مملكة السماء، إني أعرف أن «الغرب» اليوم موضع تقدير وإكبار لعلمه واستكشافاته وإنتاجه واختراعاته! … لكن ما قيمة هذا إلى جانب ذلك الاستكشاف الأعظم الذي ظهر في الشرق؟! … إن الغرب يستكشف الأرض، والشرق يستكشف السماء! … إن الذي استطاع أن يغمر البشرية كلها في حلم يدوم الأحقاب … إن الذي استطاع أن يصنع مثل هذا «الحلم»؛ لهو حقيقة فوق مستوى البشر … إنما نمجد ذلك الذي أوجد للإنسانية وأسكن الإنسانية «قارة جديدة» … لكنا لا نرى مجد ذلك الذي أصعد الإنسانية، وأسكن الإنسانية: «السماء».

وتأمل «محسن» مليًّا قول الروسي وهو ينظر إلى وجهه المعذب الغاضب … إنه يريد بحجته القوية أن يخلق إيمانًا للمحبة … ثم لم يلبث أن راح في تأملاته وهو يقول في نفسه: إن الإيمان لا يُصنع، فهو قد يكون عند الإنسان، وقد لا يكون، وحينما نفقده لا يعود ثانية، أو قد يعود على صورته الأولى. وأنا أيضًا — تحت تأثير التعاليم الحديثة — أحس أن إيماني يضطرب كما تضطرب الوردة في مهب الريح.

نعم … إن «محسن» ليشعر دائمًا أنه لا يسكن الأرض وحدها، إن حياته ممتدة أيضًا إلى السماء، وإن له أصدقاء وأحباء وحماة من القديسين أهل السماء … إنه لن ينسى «السيدة زينب» الطاهرة وفضلها عليه في الملمات … إن لها وجودًا حقيقيًّا في حياته! … ما من مرة وقع في شدة، إلا وجد العزاء عند باب ضريحها ذي القضبان الذهبية. كل نجاح ظفر به في الحياة، هو دفعة من يدها، وكل عطف هو نظرة من عينيها، وكل ابتسامة من الحظ إنما هي ابتسامة من شفتيها! … إنه يتخيل هيئتها ووجهها وملامحها! … ويعتقد أنها في السماء بردائها الأبيض إنما تنظر إليه دائمًا وترعاه وتجعله من شأنها … كأن هذا هو كل عملها.

لكن هنالك ساعات تتجهم له فيها الحياة، وتقسو عليه الظروف ويرى كأن «السيدة» قد نسيته، فيفطن ويذكر لوقته أنه في تلك الساعات وتلك الظروف، إنما هو الذي كان قد نسيها! … نعم، إنها لا تنسى إلا من ينساها … إننا — أهل الأرض — لنشغل أحيانًا بما نصادف من فوز أو لذة أو متعة، فنقع في غشية من غرورنا … ننسى معها أنفسنا وننسى السماء وأهلها … عند ذلك تتركنا السماء في حقارتنا الأرضية ووحدتنا الباردة؛ فلا نستيقظ، ونرى ما صرنا إليه؛ إلا يوم نحتاج إلى حرارة العزاء وإلى العطف العلوي … ذكر الفتى كل ذلك … لقد كان مسجد «السيدة زينب» هو المكان الذي يقضي فيه نهاره أيام الدرس.

وكانت «السيدة» هي التي تقلب له صفحات الكتب، فيما خيِّل إليه، وكانت هي التي تصبره وتشد عزيمته، وهي التي كانت تجفف — بأناملها الرقيقة النقية — دموع حبه الأولى، وآلامه الأولى … إنه لم يكن وحيدًا … آه … ما أقوى الإنسان الذي يعتقد أن له صديقًا ونصيرًا من أهل السماء! … إنه كان يحملها نصيبها من التبعات … إذا أخفق في خطوة فإن «السيدة» هي التي تخلت عنه، ولعلها أرادت هذا الإخفاق لحكمة لا يعلمها هو، وإذا وضع أمله في شيء اتجه إليها ضارعًا، أن تقف إلى جانبه، وتضم همسها إلى همسه، وصوتها إلى صوته في رجاء «الله»! … إن هذا الإحساس جميل، وهذا الاعتقاد مريح! … نعم، لو شعر «محسن» لحظة أنه في وحدة مطلقة، وأن السماء ليس لها وجود وأنها جرداء جدباء، غير عامرة بكائنات عليا تتصل حياته بحياتها، وأنه قد خُلِّي بينه وبين هذه الأرض وحدها إلى الأبد؛ لما عرف كيف يستطيع تحمل الحياة يومًا واحدًا.

وعندئذٍ لمعت في رأس الفتى — كسنا البرق — صورة من حياته في الغرب. وللمرة الأولى تنبه إلى أمر مخيف: أنه لم يذكر «السيدة» في حرارة إلا الآن، بعد حديث «إيفان»! … لقد مرت الأيام تلو الأيام، وهو يطالع أفكارًا مختلفة من الإغريق إلى «فولتير»، ويشاهد وقائع مضطربة، من أزمات القرن الماضي إلى انقلابات ما بعد الحرب! … إنها الحمى تعصف بكل رأسه، وإن رأسه قد أصبح كبقية ما حوله من رءوس؛ فقاعة بين فقاقيع تملؤها الأفكار والحوادث وتتدافع في شبه إناء من خمر مغلي! … ليس في حياته اليوم إذن مكان تهبط فيه «السيدة» بردائها الأبيض! … وإن روح الحق … قد غار؛ كما يغور النجم تحت شمس رأسه المحترق! … شمس الحق المحترق الذي كان يتزعمه «فولتير» و«نيتشه»، وتحت ضوء هذه الشمس كان يرى بوضوح حقائق وأشياء جديدة … ولكن وجوهًا جميلة كانت قد اختفت إلى الأبد.

آه … إنه قد نسي حاميته التي في السماء! … لو أنه أحس يدها على كتفه لما تعثر في خطاه أمام صورة «سوزي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤