الفصل الثاني عشر

كانت كل حياة «محسن» في الأربع والعشرين ساعة التالية: ترقب الموعد، وإعداد نفسه، وترويض لسانه، وضبط أعصابه لمواجهة الموقف! … وجاء العصر فارتدى ثيابه في عناية، وهمَّ بالخروج، ولكن الباب طُرق عليه، وظهرت خادم النزل تقدم إليه رسالة وردت ﺑ «البريد السريع»، ففض الفتى غلافها بيد ترتجف، وقرأ في لمحة واحدة:

صديقي

أرجو منك ألا تنتظرني هذا المساء، في المكان المعروف؛ فإني سأبقى في العمل إلى ساعة متأخرة، لم تكن في الحساب! … إذا كنت مع ذلك في مسكنك، فإني أمر بك عند منتصف العاشرة، لأقول لك «بونسوار».

سوزي

عاد الدم يجري إلى وجه الفتى وهدأ تنفسه، وانتظمت دقات قلبه، ثم خلع سترته، وجلس إلى مكتبه يفكر باسمًا، ويتلو خطابها على مهل … ووقف عند كلمة «صديقي»، ثم عند قولها: «فإني أمر بك» فأحس أطراف أجنحة السعادة تمر به، ورفع عينيه إلى ما حوله؛ إنها ستأتي هنا بعد قليل … ما كل هذه الكتب المكدسة في غير ترتيب؟ … ينبغي أن يقر في الحال النظام محل الفوضى، وقام من فوره إلى حجرته، يهيئها للاستقبال العظيم.

•••

وجاء الليل وانتشر الظلام في سماء شبه صافية، تؤذن بانتهاء الشتاء، ووقف «محسن» قرب النافذة ينظر إلى النجوم المتألقة بأشعتها الزرقاء، وسمعه مرهف إلى الباب في قلق ونفاد صبر، وخيِّل إليه مرات أنه يسمع نقرًا خفيفًا على بابه، فكان يسرع إلى فتحه فلا يجد أحدًا! … لقد اختلط في رأسه الوهم بالحقيقة من طول التأمل والانتظار. وسمع أخيرًا طرقة هزت قلبه قبل أن تبلغ رأسه، فأيقن أنها هي … فأصلح من شأنه على عجل، وفتح الباب … نعم … إنها هي هذه المرة … بقبعتها ومعطفها وبقية ثياب الخروج ودخلت مبتسمة كأنها زنبقة: لقد جئت توًّا كما ترى، قبل أن أمر بحجرتي … آه! … أهذه حجرتك؟ … إنها جميلة.

– الآن فقط، أرى أنها جميلة.

– ما كل هذه الكتب؟ … إنك تقرأ كثيرًا … أتلذ لك بهذا المقدار الحياة في …

– وأنت؟

– إني أفضل الحياة في … الحياة!

– أنت أيضًا؟!

– لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

– أصبت … أرى الآن أني على خطأ … ما الذي يعنيني من أمر حياتك أنت؟ … ما أنت إلا «حلم» يحيا فيه … الآخرون.

– ومن هم الآخرون؟

قالتها في ابتسامة ذات معنًى، وأناملها تعبث بصفحات كتاب فوق الكتب … وأرخى الفتى بصره، ولم يجرؤ على المضي في الكلام.

ونظرت إليه لحظة، ثم قالت في صوت خافت رقيق: إني مصغية إليك.

فتذكر «محسن» البارحة، وفطن إلى مرادها … فرفع رأسه، وقال: أتسمحين لي أن أقدم إليك من يستطيع أن يتكلم باسمي؟

– ذلك الشاعر الإغريقي الذي قلت لي عنه؟ … ما اسمه؟

– «أناكريون».

– نعم … نعم … أين هو؟

فأشار بأصبعه إلى الكتاب الذي تعبث به: إنه بين يديك.

فضحكت ضحكة ساخرة، ورفعت الكتاب تنظر فيه، وبادر «محسن» فدلَّها على إحدى صفحاته، وقال لها: اقرئي هذا.

فقرأت:
«إني أريد … أريد أن أحب.
ولقد زين لي «الحب» أن أحب،
فأبيت من جهلي أن أصغي إليه،
فقبض من فوره على قوس من ذهب،
ودعاني إلى القتال … فلبست له الحديد،
وأمسكت بالرمح والدرع،
ونهضت؛ كأني «أخيل»
أنازل «الحب»، فسدد إليَّ سهامًا
حدت عنها فطاشت، ونفدت سهامه.
فتقدم إليَّ يتقد غضبًا
وهجم عليَّ فاخترق جسمي
ونفذ إلى قلبي! … فانهزمت،
يا لها من حماقة أن أتقي بدروع!
أي سلاح خارجي ينتصر على «الحب»
إذا كانت المعركة قائمة داخل نفسي؟!»

وفرغت الفتاة من القراءة، ولكن بصرها بقي جامدًا على السطور، وكان الفتى قد دنا منها، يقرأ معها من صفحة واحدة، فأحس شعرها المعطر قد انتثرت خصلاته الذهبية على وجهه؛ كما تنتثر أشعة القمر على الكائنات، ولم يذكر الفتى شيئًا عندئذٍ، ولم يفطن إلا إلى وجه «سوزي» الناعم الحار، قد لاصق وجهه؛ وكأنها تقبله! … نعم، إنها بين ذراعيه تقبله، هذا لا ريب فيه الآن، وهي حقيقة واقعة الآن، لا وهم فيها ولا غموض، ولم يدرِ الفتى كيف حدث ذلك، ولا ما يصنع بعد ذلك!

آه لأولئك الخياليين، عندما يعطون فجأة: «الحقيقة» … نعم، فجأة؛ أي قبل أن يترك لهم زمن، يسبغون فيه على تلك «الحقيقة» أردية الخيال الموشاة! … إنهم يتلقون جسمًا غريبًا ومادة عارية، لا يعرفون ماذا يراد بها … إن «الحقيقة» عملة لا تجوز في مملكة «الأحلام».

لم ينم «محسن» تلك الليلة؛ فقد كان وقع ما حدث ذا دوي في نفسه … وجاء الصباح فأسرع إلى صديقه «أندريه» يقص عليه كل شيء.

وابتسم الفرنسي لرواية الفتى، وقال له: أرأيت؟ … إنها فتاة ككل الفتيات! … وعاملة كآلاف العاملات … تلك التي أسكنتها قصرًا من قصور ألف ليلة وليلة، وجعلتها تنظر من عليائها، إلى مواكب الناس المتدفقة تحت شباكها. آه أيها الصديق! … اقتنعت الآن أن الأمر أقل خطرًا مما كنت تتصور، وأن وقوع امرأة بين ذراعيك مسألة بسيطة، لا تحتاج إلى كل هذا الوقت، إلى كل هذه الخيالات والتأملات؟!

فأحس الفتى إحساس من يهوي إلى الأرض؛ وكأن قيم الأشياء في نظره قد تضاءلت، وكأن الحياة نفسها قد تجردت من غطائها؛ فبدت عارية كتمثال مصبوب من السخف! … وشعر «محسن» بفراغ من مادة نفسه، لا يدري بعد اليوم بماذا يملؤه.

وترك الفتى صاحبه، وانصرف مطرقًا؛ دون أن ينبس بحرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤