الفصل الخامس عشر

قبع «محسن» في حجرته، مهيض النفس، جريح القلب، وجعل ينظر إلى كل شيء حوله؛ كمن ينظر إلى شيء غريب! … نعم، لقد فقد المسكن معناه، وهذه النافذة، ما عادت تشرف الآن على ذلك الهناء … وإن صوت الغناء العذب المتصاعد من النافذة السفلى، ليس الآن غير طعنة طويلة، تنفذ إلى سويداء فؤاده! … فهي إنما تغني دائمًا للآخر … إنه ما زال يسمع في الصباح عين الأغنية من «كارمن»:
«الحب طفل بوهيمي لا يعرف أبدًا قانونًا.»

هذا صحيح! … وهو الآن يلقى جزاء اللعب مع ذلك الطفل البوهيمي! … إنه لم يعد يسمع حتى صوت ندائها للببغاء الصغير! … إن اسم «محسن» قد اختفى من فمها على الإطلاق، وخطر للفتى أن ينظر إلى قفص الببغاء فوق نافذتها، فأطل من نافذته فأخذه الروع! … لم يجد قفصًا ولا ببغاء، أين العصفور؟ … أين «محسن» الآخر؟ … لا يدري مصيره هو أيضًا، لعلها قذفت به كذلك إلى عرض الطريق، وحزن الفتى لتلك الفكرة!

ومرت ساعات … ومرت أيام … و«محسن» يعيش في ألمه: كما يعيش الجريح في دمه! … وخطرت له خواطر، وطافت به هواجس! … وانتهى من تأملاته الطويلة إلى عزم: أن يراها ويحادثها مرة أخيرة … آه للمحبين المدحورين! … كم يعلقون الآمال على ما يسمونه «المحادثة الأخيرة»؟! … إنهم لا يريدون أن يفهموا أن الشرح والمنطق والتفسير والإيضاح، وكل وسائل الفكر والعقل؛ أشياء لا تفيد في مسائل القلب، وأن النعيم والجحيم إنما تفتح أبوابها، وتوصد على شبه ألفاظ سحرية، لا معنى لها: «افتح يا سمسم! … أغلق يا سمسم!»

وسمع الفتى ذات عصر صوت غنائها، وعلم أنها في حجرتها، فتجلَّد وذهب إلى بابها، وطرق طرقة خفيفة خجلة … ففتحت … وما إن رأته حتى عادت، فأغلقت في وجهه الباب في هدوء، بغير أن تلفظ كلمة.

فرجع الفتى أدراجه أحمر الوجه؛ من أثر تلك الصفعة، وجلس إلى مكتبه، وأخفى رأسه بين كفيه.

ومرت عليه ساعات أخرى، وفكر مرة أخرى: لو أنه استطاع فقط أن يكلمها ويُفهمها.

وحاول في اليوم التالي أن يعيد الكرة، فطرق بابها مرة ومرة … فلم تفتح له! … وتوسل إليها أخيرًا، من خلف الباب أن تصغي إليه خمس دقائق، يخرج بعدها ولا يعود، بل إنه يعدها بترك النزل كله، والمضي بأمتعته إلى حيث لا تعلم، لكنه لم يتلقَّ جوابًا … فهي سماءٌ صمَّاء، لا يصل إليها دعاء، وهو عبد طريح على أرض الشقاء، قد ارتكب خطيئة لا غفران لها، ولا يدري ما هي!

وحدثته نفسه أحيانًا بالثورة، وود لو تنقلب كل ذرة من ذرات حبه إلى قنابل، تتساقط محطمة ذلك الشيء الجميل، الذي كان يسميه «سوزي»! … ولكن، رباعية من رباعيات الخيام، وقعت فجأة تحت بصره، وهو يقلب الكتاب بين يديه، لاهيًا حالمًا:
«إذا أردت أن تسلك
طريق السلام الدائم
فابتسم للقدر إذا بطش بك،
ولا تبطش بأحد.»

نعم، فليبسم، على الرغم من كل شيء! … حسبه أن قد ظفر بلحظة من هذا النعيم الذي كان يجهله! … نعم، إن تلك المرأة استطاعت أن تكشف له عن جانب من جوانب الجنة المجهولة في كيانه! … فليكن من أمرها ما يكون، فهو الآن يعلم بفضلها ما لم يعلم! … «جنة الأرض» هي التي أعطته مفاتيحها، وأذاقته رحيقها، ووضعت شفتَيها إلى جوار شفتَيه على حافة ذلك الكوب البلوري، من الكوثر الأرضي.

لكنها قد طردته؟ … فما مصيره؟ … أيعود إلى السماء؟!

وترك مجلسه، واقترب من نافذته، وأطل منها على نافذتها السفلى، فوجدها موصدة، ولكن الضوء ظاهر من زجاجها؛ فهي في حجرتها ذلك المساء … لكن، كيف السبيل إليها؟ … إن بابها المغلق في وجهه لا تخترقه صلاة، ولا يفتحه بخور! … إنها الآن في حجرتها كإله في سمائه، وقد احتجب بالسحب، واعتصم بالشهب؛ فلا يدري أحد كيف يدنو منه! … وتأمل «محسن» السماء طويلًا من نافذة حجرته العالية وقال متنهدًا:
«آه! … أيتها السماء السابعة!
إني أراك وأحادثك!
هنا من الطابق الخامس!
أما فاتنتي، التي كانت دانية مني …
فهي نائية … نائية الآن عني!
آه! … لو أنها كانت فقط
في السماء السابعة!
لكنها … في الطابق الرابع!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤