الفصل السادس عشر

سيدتي

لم يكن بد من أن أكتب إليك هذا الخطاب … اطمئني، لن أطلب فيه شيئًا، ولن أرجو منه شيئًا … إني لست أخدع نفسي؛ ولست أجهل حقيقة الأمر! … إني منذ دخل المطعم مسيو «هنري»، ولحظت كيف تغير وجهك، فهمت في الحال أن ساعاتي عندك أمست معدودة، ولعل كلماتي التي وجهتها إليك ذلك المساء لم تكن إلا صيحات التشبث بالحياة؛ فإن كنت قد جرت في القول، وانطلقت بكلام غاضب، فإني أطمع دائمًا في أنك تصفحين؛ كما صفحَت ولا ريب، الملكة الجميلة «سميراميس» عن زلات لسان «أسيرها» يوم دعته إلى ليلة من ليالي النعيم، مهدت فيها الفرش وأقيمت الموائد، وقدمت «أطباق البفتيك»، وتلاقت الشفاه على الأكواب، وفاح عطر اﻟ «هوبيجان» من أعطاف الثياب، وانتثرت خصلات الذهب على الوجوه، إلى أن لاح الصباح؛ فتغير وجه الملكة الجميل، ووضع الأسير في الأغلال، ومشى به إلى الموت، وهو ذاهل ما زالت في رأسه بقية من نشوة الليل.

إن الذي كان يُلطِّف من غير شك، وقع الأمر على ذلك الأسير أنه كان يعلم أن الملكة تلهو، وأن الجلاد سيستقبله على باب مخدعها في الصباح؛ فهو لم يغتر، ولم يغب عن عينه السكرى سيف المنية، يبرق خلف الكئوس.

ولكن ملكات العصر الحديث يفعلن بأسراهن غير ذلك؛ كل شيء عندهن مستتر مقنَّع، «فهي» تضع على وجهها ذلك القناع الحريري الأسود، الذي يلبس في «المساخر»، وتجر خلفها أسيرها وهو مسحور بجمال عينيها الفاروزيتين، تزهران في السواد؛ كأنهما نجمان بازغان في صدر الليل! … وتسير به إلى خلوة يقرآن فيها صفحات الحب منفردين ويلتصق فيها الوجه الحار على الوجه المورد، ثم تجذبه إلى ضجيج الناس والطرقات، وقد خيِّل إليه في هذا الحلم أنهما في «فينسيا» أيام «الكرنفال»؛ وكأن كل شيء حولهما راقص، وكأن على رأسيهما تلك التيجان من «الكرتون» الفضي الذهبي … وكأن حبال الورق «السربنتان» الخضراء الحمراء تشد جسميهما؛ أحدهما إلى الآخر في رباط، وخيِّل إلى الأسير، وهو غارق في أحلامه أنه وثيق لن ينقطع! … ولبثنا هكذا مرتبطين بتلك «الحبال» يذهبان بها في كل مكان؛ في المطاعم: حيث «البورجوني» المعتق، وفي السينيما؛ حيث القبلات في الظلام! … عجبًا! … أكل هذا لم يكن حبًّا؟! … من قال ذلك؟ … ومن أذن للأسير في أن يشك؟ … حقيقة إنه لم يرَ كل ما خفي من وجه «الجميلة» فهي لم تخلع بعد قناعها! … لكن ماذا يهم؟ إنه يؤمن بصدق هاتين الفاروزتين اللامعتين.

وجاء الصباح؛ وطلعت الشمس، وغارت النجوم، وأفاق ذلك الحالم؛ فلم يجد حوله أحدًا، غير كنَّاسي الطرق يكنسون بقايا الكئوس المحطمة والتيجان الممزقة، وأكوام «حبال» الورق ذي الألوان … التي كان يحسبها قديرة على أن تربط الأجسام طول الأعوام … أين ذهبت «الملكة»؟ … لا يدري! … كل ما بقي منها هو قناعها الحريري الأسود ملقًى تحت أقدام المائدة.

آه يا سيدتي! … لماذا فعلت ذلك؟ … ولماذا لم تخبريني «بشروط» اللعب من أول الأمر؟ … لو أني عرفت هذا الوضع للأشياء، لهان كل هذا، ولكن المروع في الأمر أني أخذت كل شيء على سبيل الجد!

إن من السهل على عقليتي الشرقية البسيطة، أن تعيش في الأحلام كما تعيش في الحقائق، وإنها لتأبى أن تؤمن بانهيار الأشياء بمثل هذه السرعة.

لقد كنت أنت، من غير شك، تعلمين أن هذا كله ليس سوى عبث لن يدوم طويلًا. ويوم كنت أنا أعتقد أني أحيا في جنة الأرض الجميلة، كنت تعرفين أني إنما أحيا في مهزلة مبتذلة سخيفة.

لقد هبطت الأرض، صافي النفس، نقي القلب؛ كما هبطها ذلك الإله الهندي «ماهادوفا» الذي تروي خبره الأساطير الهندية؛ لقد نزل الأرض؛ كرجل من الرجال، يرقب أعمال البشر بين البشر، فقابل فتاة جميلة حياها وسألها عن أمرها، فقالت إنها راقصة من راقصات المعابد، ورفعت «صفاقاتها» (صنجاتها) بين أصابعها، ورقصت له ألف رقصة ورقصة … ثم ركعت أمامه وقدمت له أزهارًا، وقادته إلى مسكنها! … وهناك جعلت تُعنى به، جاهلة حقيقة أمره، وتكشف له عن قلب نادر نبيل، على الرغم مما يحيط به من أدران. وعاشا في سعادة الأرض، الزمن الذي تسمح به سعادة الأرض! … وذات صباح استيقظت الفتاة فوجدت حبيبها إلى جانبها ميتًا، فبكته بكاءً مرًّا، وجاء الناس والكهنة، وأحرقوه؛ كما يفعل الهنود بموتاهم، فأسرعت الفتاة، وألقت بنفسها إلى جانبه في اللهب، فأصعدها معه إلى السماء.

تلك قصة الفتاة الهندية، أما الفتاة الأوروبية اليوم، فإنها تفعل غير ذلك! … إنها أعقل من أن تلقي بنفسها في اللهب، من أجل الذي تحب … أما من لا تحب، فهي تعرف كيف تجعله هو اللهب، وهو الحطب الذي يلقى في المدفأة؛ كي ينشر الحرارة في مسكنها المغطى بالجليد.

خيِّل إليَّ يا سيدتي، حقيقة، أن ريحًا باردة قد هبت على ما كان بينك وبين مسيو «هنري» في يوم من الأيام، وكان ينبغي أن أدرك أن قلبك يومئذٍ، كان في حاجة إلى الدفء، وكان ينبغي أن أعلم أن المكان المعدُّ لي إنما هو «الموقد»! … وأن هذا الوقود «الحي»، ينبغي أن يبقى حتى يحترق بأكمله، ويصبح رمادًا، وتنتهي مهمته؛ فتكنس ذراته، وتطرح في الهواء.

لست أحب يا سيدتي أن أتهمك ﺑ «الأنانية»، ولكن عتبي عليك لا يعدو أمرًا واحدًا صغيرًا: كان يحسن بك أن تخبريني بمهمتي؛ حتى أحترق على علم، وأفيد الغير عن رضا، ولكنك شئت أن تسخري بي من تحت «قناعك» حتى تكون لك المتعتان.

لا تحسي أني حانق عليك! … على النقيض … إن من حقك أن تصنعي الذي صنعت؛ فالحياة عندك متاع! … وإني أحب لك السرور من أعماق قلبي، وإني لست نادمًا على ذلك القلب، الذي قدمته إليك في احترام؛ فألقيت به في المدفأة! … إنه لك على كل حال … إنه كان لك، تفعلين به ما تشائين، وقد فعلت به ما شئت! … إنما الذي يؤلمني الآن هو حياتي بعد ذلك! … لقد أسرفت في الخيال، فجعلت منك كل جنتي، وعشت هذا الخيال، وليس من الهين عليَّ أن أعيش من فوري في شيء آخر! … إني مثل ذلك «الملحد»، الذي طُرد حديثًا من حظيرة «الإيمان» فتشرد بعد ذلك ﺑ «قلبه»، لا يدري أين يسكنه! … مثله مثل صعلوك من صعاليك الحياة، إذا طلع النهار انساق إلى ترَّهات العقل، حتى يجن الليل، فأوى ﺑ «قلبه» إلى حيطان «العقيدة» ينطرح فوق الأفاريز.

شأني الآن هكذا … أعلم أنك الآن شيء بعيد عني بُعد النجوم … ومع ذلك ما زلت أعيش معك.

منذ تلك الليلة الحاسمة في المطعم إلى اليوم، وأنا لا أنام قبل أن أسمع صوت المصعد، يقف عند «طابقك الرابع» وأصغي إلى صوت قدميك الصغيرتين، تخطوان في ذلك الممر الطويل، إلى أن يفتح بابك ويغلق؛ فأعلم أنك قد عدت، فأسرع إلى نافذتي أنظر إلى الضوء المنبعث من زجاج حجرتك، وأظل على تلك الحال ساهرًا؛ حتى تطفأ أنوارك وتنامين، وعندئذٍ تنام عيناي؛ كأنما أنت التي تأذنين لهما في النوم! … لا تحسبي ما أقول مبالغة مني.

لا، إن كثرة الترقب واعتياد التربص، قد أكسبا أذني مرانًا غريبًا، على سماع أصوات المصعد، والخطوات والأبواب، مهما دقت ومهما اختلطت! … إني بأذني أستطيع الآن أن أميز وقع خطواتك من بين مئات … إني لم أرَ وجهك منذ تلك الليلة المشئومة؛ لأني لم أجرؤ على النظر إليك، ولكني أقنع بعالم الأصوات التي تصدر عنك، وتصلني بحياتك اليومية … العجيب في الأمر أني أعلم أن كل هذا حمق غير مجدٍ، ومع ذلك أفعله! … وأعجب منه أني أحصي عليك خفية كل حركاتك؛ فأعلم أنك تلك الليلة سهرت أكثر مما ينبغي! … لست أدري أين؟ … والليلة التالية عدت مبكرة على غير عادتك! … لست أدري لماذا؟

معذرة، هذا السلوك المعيب مني، إنما أنا رجل شريد، طُرد من قصر «الحب» السحري، فهو يلجأ في يأسه إذا جن الليل إلى الحيطان والأفاريز! … ولقد فكرت بالفعل في ترك هذا النزل والانصراف إلى شأني، وربما فعلت ذلك في يوم قريب! … لكني حتى الآن لم أقوَ على ذلك.

إني أفهم الآن موقف آدم عقب إخراجه من جنة السماء … إني أتخيله وقد لبث — بغير حراك — في الموضع الذي هبط فيه، ومرت به ليالٍ وأيام وهو ينظر إلى السماء، يرقب كل حركة فيها؛ إذا رعدت؛ فهو صوت أبوابها، تفتح لتناديه من جديد، وإذا لمع البرق؛ فهي ابتسامة رضا قد يعقبها انفراج المحنة … وإذا تساقطت الشهب؛ فهي همسات غضب ما زال قائمًا، وإذا استدار البدر؛ فهو شفيع وبشير بعودة الهناء القديم! … وكر الزمن، وآدم يتمرغ في مكانه بين اليأس والرجاء عند ذلك المهبط من الأرض، يمسح وجهه بأعتاب النعيم، إلى أن انتزعته غريزة «الحياة» من هذا القنوط الطويل، وأرغمته على النهوض، فقام يدب في الأرض ويعيش كما تعيش الأحياء من المخلوقات.

إني لست أعرف كم لبث آدم في الفردوس من زمن، وإني لأتوق إلى معرفة ذلك، ولكن الذي أعرفه على التحقيق أن جنتي أنا دامت أسبوعين، حسبتهما حسابًا دقيقًا، بالساعة والدقيقة! … منذ الليلة التي ذهبنا فيها معًا إلى مطعم «يو كاردي»، إلى الليلة التي خرجت فيها وحدي من مطعم «الأوديون»، أسبوعان من النعيم، هما كل زادي، وكنزي.

وبعد … فإني قد أطلت عليك كثيرًا، وليس من حقي أن أسلبك كل هذا الوقت؛ لتطالعي حماقاتي! … وليس من حقي كذلك، أن أنتظر منك ردًّا على هذا الخطاب الطويل؛ فحسبي منك — برًّا وكرمًا — أن تقرئيه في ساعة فراغ! … إنه على أي حال نوع من اللهو، وهو على كل حال صائر إلى «المدفأة»! … وإن كنت أرى أن «الشتاء» قد انقضى؛ فقد ظهرت عندك بشائر الربيع! … أمس رأيت على نافذتك آنية، يبسم فيها زهر «الكرز» في أغصانه الرفيعة الأرجوانية! … فذكرت أغنية «سان سانس»:
الربيع جاء
يحمل الرجاء
إلى قلوب العشاق.
ما أكذب هذا الشعر! … هذا الربيع، على غير أمل الناس فيه إنما هو الذي جاء ينتزع الرجاء … ومع ذلك، فإني أستقبل بوجهي نسماته العاطرة، ولا أرجو منه شيئًا كما يفعل الآخرون. إني أخشاه كما خشيه «حافظ الشيرازي»:
حبي نسيم الربيع،
قادني إلى الصحراء.
لقد حمل إليَّ النسيم عطره،
لكنه أخذ مني راحتي.
إلهي! … إن هذا الجمال
الذي لا قلب له …
ليفعم بالأسى قلوب عشاقه
لقد جثوت في الطريق الذي
عفرته أقدامها!
لكنها لم تدنُ مني؛
لقد ارتفعت توسلاتي وتنهداتي،
فأزعجت نوم الطيور والأزهار!
لكنها لم تفتح عينيها.
بالأمس مسَّ الكوب شفتيها،
وقال: إنه يعطي الحياة!
فقلت: لا بل هي التي أعارته الحياة
ومع ذلك، لو أني أمامها
مت محترقًا!
لما أطفأت لهبي بأنفاس شفتيها!

ما أصدق هذا الشعر! … كل كلمة فيه؛ كأنها عاشت حياة آدمية.

أخيرًا أستأذنك في طرح القلم، فإن الفجر قد بدا من النافذة، وأخشى أن تغضبي لمجرد أني اختلست طيفك ليلة! … أرجو مرة أخرى أن تغفري لي هذه الثرثرة … فأنا لست خيرًا من «محسن» الآخر في شيء! … أعني «الببغاء الصغير»! … إني لم أعد أرى قفصه في نافذتك، فلعله حي يرزق! إني أيضًا حي أرزق … لقد تحققت أمنيتي، وتساوينا في عين الحظ والنصيب … «الببغاء الكبير» و«الببغاء الصغير»! … ألا تذكرين؟ … كل ما يحزنني من أمر «محسن» الصغير أنه هو أيضًا، وقد أصبح بعيدًا عنك، لا يستطيع هو أيضًا أن يحييك كل صباح بذلك الصفير المعتاد مرددًا: «أحبك! … أحبك! … أحبك!»

«محسن»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤