الفصل الثامن عشر

ترك «محسن» مسكنه في نزل «زهرة الأكاسيا» واستأجر حجرة في النزل الذي يقطنه صديقه «إيفانوفتش»، وكان الروسي قد اشتدت عليه وطأة المرض؛ فلم يشأ الفتى إزعاجه بكثرة الكلام فلزم هو أيضًا حجرته، لا يخرج منها إلا في الصباح، يقطع شوارع الحي صامتًا، ثم يعطف على باعة المأكولات يوم السوق، فيشتري «كيلوجرامًا» من الأرز وموزة واحدة، يعود بهما إلى حجرته حيث يهيئ غداءه بيده! … ذلك شأنه أكثر الأيام؛ فقد نضبت موارده من طول الإنفاق في المطاعم الجيدة ودور السينما والمشارب، وهو الآن لا يستطيع حتى تناول الأكل في مطعم الحي الحقير! … إنه الآن يدفع ثمن الأسبوعين اللذين قال إنهما «كل زاده وكل كنزه»، واللذين قالت «هي»: «إنهما شيء تتمنى لو يمحى من ذاكرتها وتود أنها لم تعشهما».

ووقف الفتى أمام النار في أحد أركان حجرته، يرقب فوران الماء في آنية الأرز «الألومنيوم»، وهو صامت مفكر شأنه في كل يوم من تلك الأيام التي مضت كأنها أعوام! … يتبخر الماء فيصب غيره في الإناء … ويتبخر فيصب غيره … والأرز لا ينضج؛ فيأكله آخر الأمر شبه حصى! … ما من مرة نضج معه هذا الأرز! … وما من مرة خطر له أن يسأل أحدًا عن طريقة طهيه، أو يغير هذا اللون من الطعام … لماذا يفعل ذلك؟ … ليس للأكل الآن مذاق في فمه؛ وإن «الكيلو» من هذا الأرز الرخيص ليكفيه خمسة أيام.

وكان لحجرة «محسن» الجديدة نافذة لم يفتحها قط منذ مجيئه ولم يدرِ على أي شيء تُشرف! … لا يريد أن يعرف … إن نافذة قلبه قد أُغلقت … وما من شيء يسترعي التفاته الآن، غير أسعار «الأرز» مدونة على البطاقات في الحوانيت، وغير عناوين الكتب القديمة ينظر إليها معروضة في المكاتب، دون أن يمسها … وكان أحيانًا يلمح فوق غلاف بعض الكتب فقرة أو عبارة أو بيتًا من الشعر، وضع على سبيل الاستشهاد، فيجعل منه «نغمة»، يظل فكره يرتب عليها «تقاسيم» طول النهار. وكان يجد في هذا شيئًا من السلوى؛ غير أن بصره وقع ذات يوم على كتاب، جعل في رأسه هذا القول لشاعر ياباني:
إنما يبني الشاعر سعادته على الرمال،
ويسطر أشعاره فوق ماء الجدول الجاري.

نعم … هنا كل البلاء الآدمي! … ألا يمكن للنفس الشاعرة أن تقيم هناءها على دعائم أثبت قليلًا من هذه الرمال، التي تغرق فيها الإبل … وتكتب أغانيها على صفحات أبقى من صفحات هذا الماء، التي تطويها في شبه طرفة العين أنامل الهواء؟

نعم هنالك سبيل واحد؛ لا ينبغي أن نبني شيئًا جميلًا فوق هذه الأرض! … هذه الأرض المتغيرة المتحركة برمالها ومائها وهوائها.

وفطن الفتى إلى أن هنالك حقًّا نوعًا من الهناء، قد عرفه يومًا، هو هناء الصفاء! … هذا الصفاء الذي لا يوجد إلا في الارتفاع.

•••

وأحس الفتى أنه فعلًا؛ كأنه قد خف وزنًا، وكأنه يرتفع، وكأنه يبتعد عن هذه الأرض؛ ليعود إلى السماء، إلى سمائه التي كان قد هبط منها.

ولعل «الأرز» أعانه على ذلك؛ فإن «الزهد» هو سلم «الصعود».

وأقبل الفتى بعدئذٍ على غذائه الحقير الضئيل في لذة روحية، وبسمة راضية وضاءة، أنارت له مسالك نفسه المظلمة، وذكرته بسروره في صباه يوم كان يقتات ﺑ «الفول النابت»، ويجلس بكتابه كل يوم إلى جوار ضريح «السيدة زينب».

لم يكن شيء يعكر عليه صفاءه الروحي يومئذٍ غير حارس المسجد، ذلك الشيخ المتأنق، في عباءته الثمينة، وشعره المخضب بالحناء، وعيونه الكحيلة، ينظر بها إلى صندوق «النذور» بين يديه، وغير سجاجيد المسجد الغالية وثرياته الكبيرة. لماذا كل هذا؟! … إن الفتى لم يكن قط يخالجه شعور اللذة العليا إلا وهو فوق الحصير، حيث كان يتخذ مكانه دائمًا، لا في قاعة الضريح ذاتها حيث الفرش والرياش، وبقية تلك المظاهر الحمقاء لذلك الاحترام الكاذب، والخشوع الزائف … إنما في تلك الردهة الخارجية، التي طرح الحصير على بعض أرضها، وترك البعض الآخر عاريًا نظيفًا، كالنفس النظيفة العارية! … كان الفتى يحس هنالك أنه أقرب إلى روح السيدة الطاهرة.

وجعل «محسن» طول يومه هذا يقلب مثل هذه الأفكار، وعاوده شوق وحنين إلى المسجد، أو إلى بيت من بيوت الله. وتذكر الكنيسة التي دخلها يوم تشييع جنازة زوج ابنة مدام «شارل»! … نعم، إن فيها أيضًا قد أحس يومئذٍ عين إحساس الصعود، لكن، تلك المراسيم والطقوس سرعان ما جذبته إلى الأرض، لتوقعه في ذلك الحرج، الذي وقع فيه ذلك اليوم.

نعم، كلما همَّت روح الإنسان نحو الأعالي كبلتها أكاذيب الإنسان، وأنزلتها إلى التراب. كل شقاء الإنسانية أنها لا تستطيع أن تترك شيئًا عظيمًا، ذا قداسة، بغير أن تلبسه ثيابًا مبتذلة مضحكة؛ من حمقها وزيفها وغرورها.

لماذا أراد الناس أن يجعلوا «الله» في حاجة إلى السجاجيد الفارسية يفرش بها بيوته؟! … و«السيدة» في حاجة إلى «النذور» والنجف والشمع؛ كأنها لا تستطيع النوم في الظلام، ثم ذلك «القمقم» الفضي في الكنيسة، وتلك الإشارات والعلامات، لماذا كل هذا؟! … حتى «الموسيقى العظيمة»، التي استطاعت أن ترفع الإنسان إلى بعض القمم، سرعان ما جعلوا لها ثياب سهرة؛ تُرتَدَى من أجلها، وقواعد وتقاليد؛ لا بد من مراعاتها! … وتنقلب الأمور على مر الزمن، فينسى الناس الأصل والجوهر، ويذكرون الفرع والعرَض … فإذا كل التفاتهم إلى ثياب السهرة دون «الموسيقى»، وإذا كل عنايتهم بالمظاهر والمجاملات دون الإيمان والعبادات. ولا يستثنى من بين هؤلاء إلا الفقراء التعساء الذين جاءوا حقيقة للصلاة، ومن بين أولئك — إلا الهواة — زبائن أعلى «التياترو»، الذين حضروا حقيقة من أجل الموسيقى.

إن «الإخلاص» للدين والفن، يستوجب «التجرد».

وذكر «محسن» «بتهوفن»، وتلك «السيمفونية الخامسة»، التي كان قد سمعها، وذكر ذلك الجو العلوي الذي عاش فيه ذلك اليوم؛ فحدثته النفس بالذهاب إلى «الكونسير».

نعم، فليذهب ولو أدى ذلك إلى حرمانه أكل الموز شهرًا بأكمله! … لا لزوم للفاكهة؛ إنه يستطيع أن يكتفى بالأرز أسبوعًا … وأشرق وجه الفتى لهذه الفكرة، وأحس كأن بردًا وسلامًا يهبطان قلبه؛ ويضمدان جروحه! … إنه الآن يشعر ببعض القوة، ولم يعد يخشى شيئًا! … هو الذي كان قد حرَّم على نفسه، خوف الضعف، ذكر الجميلة قاطنة نزل زهرة «الأكاسيا»! تلك التي أجهزت على أمله ذبحًا، بخطاب رقيق رقة حد السكين المسنون.

نعم، الآن … بقليل من الموسيقى يستطيع أن يعتصم بالسحب، ضد هذا الحب الأرضي، الذي وضع أنفه في الرغام.

وذهب «محسن» إلى مسرح «شاتليه» فوجد من حسن حظه «برنامجًا» موسيقيًّا حافلًا: «بارسيفال» و«سحر يوم الجمعة الحزينة»؛ لريتشارد فاجنر، و«السيمفونية التاسعة» ﻟ «بتهوفن»!

وكانت نقوده لا تسمح له بأكثر من مكان للوقوف بأعلى المسرح، فما تردد! وكان حريصًا دائمًا على اقتناء ذلك الكتيب الصغير الذي يباع في الردهة؛ فإن فيه تحليلًا دقيقًا في أكثر الأحيان للقطع التي تعزف، وبيانًا عن ظروف وضعها، ونبذًا من تاريخ مؤلفيها؛ فما أحجم عن شراء نسخة، وأسرع يتخذ له مكانًا، تحت مصباح من مصابيح الكهرباء، وجعل يطالع على عجل هذه السطور:

«لقد أراد «فاجنر» أن يصور بموسيقاه، قصة المسيح؛ إذ جاء يحمل إلى الإنسانية، التي نخرت فيها «الأنانية» ناموس «الحب»، الذي يخلصها من الخطيئة! … ولقد جاء في خطاب خاص أرسله «فاجنر» إلى صديقه الموسيقي «لست»: كيف نبتت في خاطره فكرة تأليف هذه القطعة؟! ووصف المشاعر التي أثارتها في نفسه ذكرى الجمعة الحزينة في يوم من أيام الربيع، حيث كان في مدينة «زوريخ»: «لأول مرة استيقظت يوم الجمعة المقدس على شمس مشرقة، فنظرت إلى الحديقة حولي فألفيتها خضراء، تصدح فيها العصافير، فجلست على عتبة البيت أنعم بهذا السلام، الذي انتظرته طويلًا! … وأثر في نفسي هذا الصفاء الذي يكتنف الأشياء، فتذكرت من فوري، أن اليوم هو يوم الجمعة المقدس! … وعند ذاك، خطر لي أن أضع هذه القطعة!»

وانقطع «محسن» فجأة عن القراءة، فقد أطفئت الأنوار، ووقف «المايسترو»، ينقر بعصاه الرفيعة نقرًا خفيفًا على قمة مصباحه الأخضر؛ تنبيهًا للعازفين، وبدأت «الأوركسترا» تعزف مقدمة «بارسيفال»:

نغمة ترتفع منفردة أول الأمر، لا يصحبها شيء؛ كأنما هو صوت واحد يتكلم، وسط سكون السكون! … صوت، في عين الوقت، إلهي وبشري! … وتمضي تلك النغمة حاملة في أعماقها بذور الألحان الدينية، التي تتركب منها القطعة، إلى أن تقابلها تلك الأقوال المقدسة: خذوا، وكلوا؛ هذا هو جسدي! … خذوا، واشربوا، هذا هو دمي! … ثم يسمع من «الكواتيور» شبه رعدة مبهمة، بين عديد من الأنغام السريعة المتعاقبة، ورنين الصناجات المكبوتة؛ كأنما هو صوت طليق ممتد، يخفت شيئًا فشيئًا تحت قباب كتدرائية عظيمة.

واستمر الأداء، و«محسن» ليس على هذه الأرض، إلى أن أشار «الأستاذ» بعصاه إشارة الانتهاء، وانطلقت الأيدي بتصفيق كأنه الرعد، فتنبه الفتى، وقام الناس يدخنون في فترة الاستراحة ويتحادثون … وبقي «محسن» واجمًا في مكانه، ولمح على المسرح حركة دخول أفراد مجموعة المنشدين «الكورس» من سيدات ورجال … ينتظمون في أماكنهم، فرفع الكتيب إلى عينيه، ليقرأ ما قيل عن قطعة «بتهوفن» ويهيئ نفسه للمثول بين هذا القلب العظيم، كي يسمع منه، ويفهم عنه! … وقرأ الفتى هذه الصفحة؛ وبلغ فن «بتهوفن» في «السيمفونية التاسعة» غاية ما يستطيعه بشر في عالم البناء الصوتي. ولقد أخرج هذا العمل في تلك المرحلة من حياته — التي ابتُلي فيها بالصمم — كارثة جاء ذكرها في وصيته التي كتبها في أكتوبر سنة ١٨٨٢م، على أثر أزمة قوية من أزمات اليأس، تبدو من هذه الأسطر:

«إلى شقيقيَّ «كارل» و«جوهان» بتهوفن: أنتما يا من كنتما تحسبان أني إنسان حقود عنيد أكره الناس … ما أظلمكما! … إنكما لتجهلان السبب الخفي لكل هذا الذي ظهر لكما من أمري! … إني، منذ الطفولة؛ كنت أحس أن نفسي وقلبي يتجهان بطبعهما إلى الخير! … إني كنت دائمًا على استعداد للقيام بأعمال عظيمة، ولكن … لا تنسيا أني، منذ أعوام ستة، أصبت بداء قاسٍ، زاده خطرًا عجز الأطباء! … وأني ألفيت نفسي مرغمًا على العزلة قبل الأوان، وعليَّ إنفاق بقية حياتي بعيدًا عن العالم! … ولقد حاولت أن أتجاهل أحيانًا ما نزل بي، ولكن التجربة المؤلمة كانت تذكرني دائمًا بأني قد فقدت السمع، ومع ذلك فإني لم أستطع أن أتجرأ مرة وأقول للناس: تكلموا بصوت عالٍ! … صيحوا … «إني أصم!» … آه، كيف أعترف بهذا وأعلن للناس ضعف حاسة كان ينبغي أن تكون عندي أقوى مما عند جميع الناس؟! حاسة كنت أملكها — فيما مضى — على أكمل نمو، وأدق تركيب، وأرهف شعور؛ مما لم يتيسر مثله إلا لقليل غيري من الموسيقيين! … كلا! … لا أستطيع؛ لهذا أرجو أن تصفحا عني إذا كنت اليوم أهجر — كما تريان — هذا العالم، الذي كنت فيما سبق أمرح فيه بكل نفس راضية! … إني لشديد الإحساس بمصيبتي، وإني من أجلها ينكرني الجميع! … لم يعد الآن من حقي أن أنشد الراحة في صحبة إخواني الآدميين! … انتهت مسرات المحادثات اللطيفة، ولذات المناقشات الرفيعة … انتهت المصارحات القوية، وتبادل المناجاة الحارة؛ حالي الآن لا تسمح لي بارتياد المجتمع إلا بالقدر الذي تحتمه الضرورة القصوى! … ينبغي إذن أن أعيش مطرودًا منبوذًا! … أي إذلال يجرح نفسي أحيانًا، إذ أرى إلى جانبي أحد الناس، يصغي إلى أنغام مزمار يُعزَف عن بُعد، لا أستطيع أنا أن أسمعها، أو أناشيد راعٍ، لا أستطيع أن أسمعها كذلك؟!»

يروي أحد أصدقاء «بتهوفن» أنه في صباح صيف ١٨٠٢م، استرعى التفات صديقه إلى راعٍ في الغابة يعزف على ناي من قصب ألحانًا شجية، فأبدى «بتهوفن» جهدًا مرهفًا، ليسمع شيئًا، فلم يستطع، ورفق به صديقه، فكذب عليه، وزعم له أنه هو أيضًا لا يسمع شيئًا، لبُعد الصوت عنهما، ولكن «بتهوفن» فهم الحقيقة وغرق في حزن عميق!

«مثل هذه الحوادث كانت تلقي بي على أعتاب اليأس، وكادت تغريني بأن أضع حدًّا لأيامي! … ولكنه الفن وحده، هو الذي أبقى على حياتي … آه! … إنه ليشق عليَّ ترك هذا العالم، قبل أن أعطي كل ما أحس داخل نفسي من مخلوقات، لم تزل بعد في طور التكوين! … آه أيتها القدرة الإلهية! … إنك لترين من عليائك ذلك القناع السحيق، في أعماق قلبي! … إنك لتعرفين أنه عامر بحب الإنسانية والرغبة في عمل الخير … يا شقيقيَّ «كارل» و«جوهان» … إذا انتهت أيامي، وكان طبيبي الأستاذ «شميث» لم يزل حيًّا، فالتمسا منه باسمي، أن يصف دائي وأن يرفق ذلك بصفحاتي هذه، فلعل الناس بعد موتي يصفحون عني على الأقل … أما إساءتكما لي، فأنتما تعلمان أني قد صفحت عنها منذ أمد بعيد … وكل ما أتمنى الآن، أن تكون حياتكما أيسر من حياتي، وأن تُعفيا مما رزئت أنا به من متاعب! … وأوصيكما أن تعلما أطفالكما «الفضيلة»؛ فهي وحدها — لا «المال» — السبيل الحقيقي للسعادة! … وإني أتكلم عن تجربة، ﻓ «الفضيلة» هي التي كانت كل سندي في محنتي، وإليها وإلى «فني» يرجع كل الفضل في أني لم ألجأ إلى الانتحار … وداعًا! … وليحب أحدكما الآخر.»

لقد كان «بتهوفن» يعيش إذن في ظلام السكون، عندما أخرج «سيمفونيته التاسعة»، ولقد احتمل كل ذلك في جلد — كما قال في وصيته — ولقد خضع لحكم القدر في شجاعة؛ كما يقول في مذكرات أخرى:

«الإذعان»، الاستسلام، الاستسلام … فلنعرف كيف نستخرج الدرس الخلقي النافع من أفدح المصائب والكوارث … بذلك نجعل أنفسنا جديرين بمغفرة الله.»

لم يبقَ إذن ﻟ «بتهوفن» من الحياة، غير متعة «البصر»: عيناه وحدهما أمستا كل صلته بالطبيعة، وقد انحصر كل فرحه في إرسال النظر إلى وديان «فينرفالد» الخضراء، يهيم في غاباتها ملتمسًا من الطبيعة العزاء، آملًا أن يجد في صدرها كل قوى الحياة والخلق، صائحًا في فضائها من أعماق قلبه تلك الصيحات التي وجدت مدونة في أوراقه:

«يا رب الغابات! … يا ربي القدير على كل شيء، إني أحس البركات وأشعر بالسعادة في هذه الغابات، هنا كل شجرة من هذه الأشجار تسمعني صوتك! … يا لها من روعة أيها المولى العظيم! … هذه الأحراش، وهذه الوديان، تفوح برائحة الهدوء والسلام! … هذا السلام الذي لا بد لنا منه؛ لنستطيع أن نتفانى في خدمتك.»

ووقف «محسن» عن القراءة في عجب وتأثر شديدين! … لكأن عبيرًا يعرفه، يهب من طيات هذه الكلمات … إن هي إلا كلمات صادرة من النبع الذي صدرت منه كلمات أنبياء الشرق.

وأُطفئت الأنوار، وتكلم «بتهوفن» … إنه لا يتكلم كبقية الناس؛ لكنه يقيم من الأصوات عالمًا، لا تدخله ولا تسكنه غير الأرواح الخيرة المهذبة! … وتحددت أركان تلك «السيمفونية» ووضحت للآذان والأرواح: هيكلًا عظيمًا، مشيدًا على أعمدة نورانية؛ من أنغام آلية، وأصوات آدمية.

ولم يتمالك «محسن»، وأخذته رجفة، وتصبب من جبينه العرق، نشوة عليا؛ عندما ارتفعت الأبواق النحاسية إلى جانب صيحة «الكورس»:
«قفوا متعانقين
أيتها الملايين؛ من البشر
أيها الإخوة؛
إن فوق النجوم أبًا
حبيبًا إلى كل القلوب.»

ولبث الفتى مشدود الأعصاب، متفصِّد الجبين؛ في شبه ذهول حتى عزف اﻟ «أليجرو» الختامي، والتقت أصوات الرجال والنساء بصوت «الأوركسترا»! … فكأنما أستار السماء قد انفرجت ليصل إلى آذاننا غناء الحور والملائكة، مجتمعين في جنة الخلود يلقون نشيد الفرح، ذلك القبس الإلهي، فرح الأنفس التي تعيش في «الله».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤