الفصل الثالث

فرغوا من الغداء، وانصرفت المرأة إلى الأواني والأطباق تغسلها في المطبخ وتتأهب للعشاء، وجلس زوجها على مقربة منها يدخن ويطالع جريدة «الأومانيتيه» — الإنسانية — المنتشرة في طبقة العمال وأهل الفاقة … وخلا «جانو» إلى لعبه ومدافعه وحربه الضروس، وأغلق «محسن» حجرته عليه، ووضع كتابه أمامه وقرأ صفحتين، ثم جمدت عيناه على الكتاب، ولم يعد يقرأ أو يبصر شيئًا؛ فقد ترك الحجرة، وغادر الأرض وضل في بحار التأملات.

وأقبل المساء أخيرًا، ورن جرس باب الحديقة، فترك «جانو» لعبه وأسرع نحوه، ثم لم يلبث أن صاح في فرح: «ماما حضرت! … بابا حضر!»

وظهرت امرأة في مقتبل العمل، جذابة الوجه، تعلق بها «جانو»، وهي تدفعه عنها في رفق، وخلفها زوجها «أندريه»، وعليهما — هما الاثنان — مظاهر التعب والقوى المنهكة. ومسحت العجوز يديها في «فوطة» المطبخ التي ترتديها، وأقبلت على زوج ابنها تعانقها، وتتأمل وجهها وتقول في حسرة متصنعة إنك متعبة منهوكة القوى يا «جرمين».

فأجابت الزوجة، وهي تنظر إلى زوجها الشاب: إننا لم نخرج من المصنع إلا الساعة.

واتجهت العجوز إلى ابنها تعانقه، وتصيح في حرارة حقيقية: وأنت أيضًا يا «أندريه»! … ما كل هذا الشحوب؟!

– إننا يا أماه نعمل ثماني ساعات في النهار.

قالها «أندريه» وهو ينظر إلى أبيه، وكان أبوه قد طرح الصحيفة من يده، واتجه إلى «جرمين» و«جانو» يباسطهما. فلما سمع قول «أندريه» صاح في حدة: يا لها من وحشية! … إن هذا لم يعد يسمى عملًا، إنما هو الاسترقاق … الرق لم يذهب من الوجود … لقد اتخذ شكلًا آخر يناسب القرن العشرين … ها هي ذي جيوش من العبيد يسخِّرها أفراد معدودون من السادة الرأسماليين.

ورفع «جانو» بصره إلى جده، ولم يدرك سببًا لحدته.

وحانت من «أندريه» التفاتة إلى الصحيفة الملقاة على الأرض، فابتسم وقال: أهذا ما قرأته اليوم في «الأومانيتيه» يا أبتاه؟

فأجاب الرجل في جِد وحدة: نعم، أوَليس هذا هو الحق؟!

– من غير شك هذا هو الحق، ولكن ماذا نصنع نحن الفقراء؟

– ينبغي أن تنقص ساعات العمل على الأقل، حتى تستردوا بعض حريتكم، وبعض وقتكم، وحتى تنقذوا ما بقي لكم من صحتكم، وحتى نجد لنا — نحن العاطلين — عملًا وكسبًا نسد به الرمق.

– إنك تجهد نفسك في الكلام يا أبتاه! … لقد قلت الحقيقة؛ نحن عبيد القرن العشرين، ومتى كان للعبيد حق الاعتراض أو حق الاقتراح؟!

وأراد الشيخ أن يجيب، ولكن «جانو» تململ ونظر إلى والديه، وإلى جدته وصاح: لماذا أبطأت «جيزيل»؟

وجعل الطفل يجذب ثياب أمه ملحًّا في السؤال، فضربت الأم على يده الصغيرة في لطف، وخلَّصت ثيابها منه. وأرادت جدته أن تقصيه، فقالت له: اذهب وجئ بمسيو «محسن»؛ فقد أزف ميعاد العشاء.

وتنبه «أندريه»، فسأل على الفور: أين عصفور الشرق؟ … لقد فاتني أن أسأل عنه ساعة دخولي؟!

– في حجرته.

فاتجه «أندريه» نحو سلم الدار، ثم عاد يقول: لستُ أرى نورًا في حجرته.

فأجابت الأم العجوز، وهي تقطع رغيفًا طويلًا من الخبز: إنه في حجرته … جالس إلى مكتبه. وطالما يفاجئه المساء، وهو أمام كتابه بلا حراك، وكثيرًا ما أدخل حجرته فأجد الظلام مخيَّمًا عليه، وهو جالس جامد كالتمثال؛ فأدير له مفتاح الكهرباء.

– إنه غريب الأطوار! … إني أعرفه حق المعرفة.

وعندئذٍ دق جرس الباب الحديدي، فمرق «جانو» من بين الجميع إلى الباب، وهو يصيح كالعصفور «جيزيل».

•••

اجتمع الكل حول المائدة، وكانوا قد انتهوا من العشاء منذ قليل، ولبثوا في مقاعدهم يتحدثون عن الاشتراكية، وقد فشا أمرها في باريس، وأمست بدعة من البدع يتبعها الناس مقلدين … إن الحياة أمست عسيرة، وإن سعر الفرنك هوى إلى الحضيض؛ وإن فرنسا الآن فريسة أصحاب المال الأمريكيين، وإن هؤلاء الأمريكان قد بلغ من عتوهم واعتدادهم بثرائهم أن الواحد منهم لا يوقد «سيكارة» إلا بورقة مالية مشتعلة، تحت أنظار الشعب الفرنسي الفقير! … هنالك صاح زوجها الشيخ في غيظ: يا لهم من أنذال!

ثم استطردت العجوز فجأة؛ وكأنها استكشفت شيئًا: لا ريب في أنهم السبب في غلاء أسعار الخضر واللحم والفاكهة.

وألقت نظرة استفهام على الحاضرين، فإذا هي ترى «جانو» وابنة عمه «جيزيل» قد جلسا متلاصقين يأكلان «الجاتوه» ولا يكفَّان عن الكلام.

ونفد نصيب «جانو»، فجعل ينظر إلى «جيزيل» التي تكبره بعامين، وهي تأكل في تؤدة وكياسة. وفطنت الطفلة إلى فمه العاطل، وإلى نظراته الطامعة، فما ترددت وقدمت إلى صديقها بكل ما بقي لها … ولم يأبَ عليها «جانو»، وقَبِل منها هديتها، وطفق يلتهم ما أعطته إياه، وهو ينظر إليها بعينين باسمتين، كلها اعتراف بالجميل، لكنه لم يقل شيئًا … هنالك تجهَّمت له جدته وصاحت به: «جانو»! … ألا تقول لها شيئًا؟!

فالتفت الطفل إلى جدته في سذاجة: أقول ماذا؟

– تقول ماذا؟ … تقول ما يقوله الناس، عندما يتقبلون شيئًا من الغير.

– ماذا يقول الناس؟

– يقولون: «شكرًا»، ولقد علمتك ذلك ألف مرة.

ثم التفت إلى والدي الطفل في قنوط: لم يبقَ لي جلد على تهذيب هذا الغلام، وإني أصارحكما القول: هذا ليس من عملي، إنما هو من عمل الأبوين، وما دمتما تتركان لي ابنكما طول النهار، وتنصرفان إلى المصنع، فلا أمل أن ينشأ ولدكما على الخلق القويم.

فأجاب «أندريه» من غير اكتراث: وهل تظنين يا أماه أن هذا من عملنا نحن؟ … هذا من عمل المدرسة، وسندخله المدرسة؛ أما نحن فلدينا عمل كما تعلمين.

– نعم … المصنع.

فقال الشيخ في تهكم: بالطبع … المصنع!

فهزت «جرمين» كتفَيها، فقالت العجوز في حدة: لا تهزي كتفَيك يا «جرمين»! … إياك أن تنسي لحظةً أهمية تأثير البيت … في زمننا كان البيت هو كل شيء! … آه، لقد ذهب كل شيء طيب بذهاب زمننا.

فقال «أندريه» وأخوه مارسيل في وقت واحد: أين هو البيت اليوم يا أماه؟

فتأملت العجوز قليلًا هذا القول منهما ثم أجابت: صدقتما، لم يعد هنالك بيت وا أسفاه! ولم تعد هنالك أسرة … الرجل والمرأة في المصنع طوال النهار! … يا له من زمن عجيب.

فقال الشيخ في قوة واقتناع: قلت لكم هذا عصر العبيد قد عاد من جديد.

وانتبه «محسن» لهذه العبارة، فلمعت عيناه ببريق غريب، ثم لم يلبث أن استأذن من الحاضرين في الصعود إلى حجرته، فأذنوا له باسمين، فصعد وجلس إلى مكتبه في الظلام، وهو يهمس: «نعم، لن يذهب الرق من الوجود … لكل عصر رقه وعبيده!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤