الفصل الخامس

– «مدموازيل»! … ألم يأتِ بعد؟

– من؟

– ذلك الفتى الذي يضع المعطف الأسود فوق منكبَيه.

– لست أدري يا «كلوتيلد» … لا أظن أني رأيته اليوم.

– إني أراه دائمًا جالسًا في القهوة التي أمامنا يطيل النظر إلى هذا الباب.

– لعله مجنون.

وعندئذٍ أقبل رجل في سن الشباب جميل الهيئة، دخل توًّا على عاملة شباك التذاكر، من ذلك الباب الذي كُتب عليه بخط كبير: «الدخول ممنوع». فما إن رأته «كلوتيلد» العجوز حتى تناولت مكنستها، وهرولت إلى عملها، وهي تهمس: «الرئيس».

– من هو المجنون يا «سوزي»؟

قالها ذلك الرجل، بعد أن ألقى على الفتاة الجميلة نظرة لا يدرك معناها غيرها! … فهزت كتفَيها ولم تجب، فألح الرجل في شدة وغضب: قلت لك أريد أن أعرف من المجنون؟

فرفعت رأسها، ونظرت إليه بعينين متسعتين في لون الفيروز، تزينهما أهداب طويلة شقراء، ثم قالت في صوت لا يدرك معناه إلا هو: لست أنت المقصود على أي حال.

– من إذن؟

– فتًى آخر كنا نتحدث عنه.

– فتًى؟!

– لست أعرف بعد من يكون، اعتاد أن يأتي كل يوم إلى هذا الشباك، فينتظر حتى ينفضَّ الناس ويخلو المكان، فيتقدم إليَّ قائلًا: «بونجور مدموازيل!» فأرد عليه التحية، فيقف يطيل إليَّ النظر صامتًا، ثم يتحرك قائلًا: «أورفوار مدموازيل»، ويمضي لشأنه.

– أحد المعجبين من غير شك.

قالها الرئيس الشاب في نبرة غريبة … فأجابته «سوزي» على الفور: بل مجنون … هذا كل اعتقادي.

– حسبتك تعنيني أنا.

– أنت؟! … لا يا عزيزي «هنري» … أنت العقل بعينه … أنت أعقل مما ينبغي! … آه يا سيدي … لقد تبيَّن لي أنك أعقل مما كنت أتصور … هنيئًا لك.

قالتها «سوزي» في إطراق، وفي شيء من الغضب المكتوم. وأطرق «هنري» أيضًا، وجعلت يده تعبث، بدفتر التذاكر على حافة الشباك، وطال بينهما صمت قطعته «كلوتيلد» حارسة المقاصير، صائحة من جوف مقصورة: مسيو «هنري»! … أنعد مكان الأوركسترا؟

فانتهز «هنري» الفرصة ليخرج من موقفه، وأسرع إلى قاعة المسرح، وتوسَّط صفوف المقاعد وصاح: أيتها الحمقاء «كلوتيلد»! … الليلة رواية «الأرليزيه»! … أتريدين «الأرليزيه» بغير موسيقى؟! … أعدي محل الأوركسترا حالًا أيتها الشمطاء.

وعاد السكون إلى المكان، وأرادت «سوزي» أن تعود إلى تلاوة قصة «لاجارسون» التي كانت تشغل وقتها الخالي بقراءتها كلما خفت وطأة العمل؛ لكن شيئًا في رأسها حال بينها وبين الكتاب، فجعلت تنظر في فضاء المكان دون أن تثبت بصرها في شيء بعينه، وحانت منها نظرة عارضة إلى تمثال «فولتير» الرخامي أمامها في الردهة، وعلى شفتَيه تلك الابتسامة الساخرة المشهورة، فحركت أهدابها قليلًا وكأنما راعها شيء منه، لكنها تمالكت، وهزت كتفَيها، وأخرجت من حقيبة اليد بجانبها علبة أنيقة الشكل ومرآة صغيرة، وجعلت تطلي وجهها الجميل؛ حتى ظهرت «كلوتيلد» تقول في غضب: أسمعت شتائمه؟

فقالت «سوزي» من غير اكتراث: من؟

فأجابت العجوز وقد استندت إلى مكنستها: «الرئيس»! … أما رأيت سوء خلقه اليوم؟! … إنه لا ريب قد حدث بينكما شيء يا مدموازيل «سوزي»؛ إن خلقه لا يسوء إلا يوم يكون الأمر بينكما …

فتنهَّدت «سوزي» تنهدًا خفيفًا، وابتسمت ابتسامة فاترة، ولم تجب.

•••

لبث «محسن» في مجلسه من المقهى الذي أمام «الأوديون»، يحتسي قدحًا من القهوة ممزوجة باللبن، ويتأمل تلك الأعمدة العظيمة التي يقوم عليها بناء المسرح الفخم … ولا تبرح عيناه الباب؛ كأنما هو باب فردوس، لا يدري أهو من داخليه … أم كتب عليه أن يظل دونه من الضالين! … ولم يقطع عليه تأملاته غير حركة فتًى وفتاة من أهل باريس، يتعانقان خلفه، ويقبل أحدهما الآخر علانية؛ كما اعتاد الباريسيون أن يفعلوا غير حافلين بعاذل أو رقيب! … فازورَّ «محسن» عنهما برأسه؛ غير راضٍ أن تُعرض العواطف هذا العرض، في الشوارع والطرقات؛ فتبتذل وهي التي ينبغي لها أن تحفظ في الصدور كما تحفظ اللآلئ في الأصداف … وبينما «محسن» في تأمله إذا كف قد وضعت على كاهله، فالتفت فرأى «أندريه» يبتسم له ويقول: ماذا تصنع هنا أمام «الأوديون» أيها الفتى الشارد؟!

– أنت؟ … دائمًا أنت ورائي هكذا.

– ماذا تفعل هنا؟ … أجب وأسرع.

فتردد «محسن» قليلًا، ثم أشار إلى المسرح قائلًا: إني أتأمل هيكل الفن.

فغمز «أندريه» بإحدى عينيه وقال: بل قل هيكل الحب.

– كلاهما واحد … أحدهما حالٌّ في الآخر؛ كالنور في المصباح.

– أهي هنا؟

– هي هنا، ورواية «الأرليزيه» هنا … آه! … ما أجملها وما أجمل الرواية، نثرًا وموسيقى! … هنا في هذا الهيكل قد امتزجت صورتها في نفسي بصدى أنغام «الأنتر متزو»، ورقصة «الفراندول».

– ألم تقدم إليها بعد باقة الزهر أو عطر «الهوبيجان»؟

– لا زهر ولا عطر … إنها أعظم قدرًا عندي، وأجل خطرًا من أن أقدم لها شيئًا، أو أن أوجه إليها كلامًا.

فبدا العجب في وجه الفرنسي الشاب، وخيِّل إليه أنه يسمع ألغازًا وطلاسم لا قِبل له بفهمها، فهز كتفَيه مريحًا نفسه: تلك ولا شك فلسفة شرقية.

– وأنت كيف عثرت عليَّ؟ … وما حضورك هنا الساعة، والعمل في المصنع قائم على قدم وساق؟!

– لا مصنع اليوم ولا قدم ولا ساق … ألم تقرأ صحف الظهر؟ … قد أضرب العمال في مصانع «كوربفوا»، أضربنا جميعًا إلى أن يعدوا بالنظر في مطالبنا … وأما العثور عليك، ومعرفة مقرك الآن فليس من المعضلات.

وابتسم «أندريه» في خبث، ثم مد يده إلى صديقه قائلًا: والآن، هلم بنا.

– إلى أين؟

– نحضر اجتماع العمال.

– وما شأني أنا والعمال؟

– نزهة قصيرة.

– نزهة؟ آه يا سيدي! … بعض عطفك وكرمك! … أخبرني بحقك؛ متى ترحمني من هذا الذي تسميه «نزهة قصيرة»؟!

– يسرني دائمًا أن تذهب معي.

– وأنا يسرني دائمًا أن تذهب أنت وحدك … دعني الآن فيما أنا فيه … إني كما تعلم لست من العمال المتعطلين … إنك ترى أن لديَّ عملًا.

– في أي مصنع؟

– هنا.

وأشار الفتى بيده إلى المسرح، فضحك «أندريه» وقال:

– أتسمي هذا عملًا؟! … آه … أيها العاشق الشرقي الذي ينفق أيامه في قهوة يحلم، وحبيبته على بُعد خطوتين!

سمع الفتى ذلك من صديقه الفرنسي، فانتفض قائمًا، وقد لمعت في رأسه كالبرق صورة من الماضي؛ فرأى قهوة «الحاج شحاتة» في حي السيدة زينب بالقاهرة. وذكر جلوس عمه اليوزباشي «سليم» الساعات الطويلة ببابها، شاخصًا إلى دار محبوبته «سنية»، آملًا أن يلمح لون ثوبها الحريري الأخضر خلف «المشربية». وأدرك «محسن» لفوره أنه يصنع الآن في شارع «الأوديون» عين الذي كان سليم يصنع في شارع سلامة منذ سنوات … أهي المصادفة؟ … أم أن هذا شيء في دمه؟ … لا يدري؛ غير أنه يحس قوة ترغمه على الجلوس قرب مكانها، وأنه يحب هذا القرب لذاته.

وعاد «محسن» فجلس، واتسعت حدقتا الفرنسي دهشة وصاح: ألا تستطيع أن تبرح هذا المكان؟!

– إنك ترى بعينيك أني لا أستطيع.

فأشار «أندريه» إلى «التياترو» بأصبعه: ولماذا لا تذهب إليها فتفاتحها بما في نفسك؟

– أأنت مجنون؟!

– أنا المجنون؟!

لفظها الفرنسي وهو ينظر إلى «محسن»، ولا يجد كلمات يصفه بها، ومضى الفتى يقول: يا عزيزي «أندريه»! … ما زال في رأسي قليل من الإدراك، يكفي لإفهامي على الأقل أن مثل هذا الجمال، في شباك مفتوح للجمهور، لا يمكن أن يبقى حتى الآن في انتظار قدوم هذا الصعلوك الشارد الذي هو أنا!

– تريد أن تقول إن لها عشاقًا؟

– ألف عاشق وعاشق، وقد لا يحصون عدًّا … كل من حولها يحبها؛ ذرات الهواء، وهوام الفضاء، ونجوم السماء!

– كفى خيالًا وشعرًا … تكلم في الواقع … هل أخبروك أنها تحب أحدًا بعينه؟

– إنها يا سيدي محبة محبوبة.

– كيف علمت؟!

– بالفراسة.

فنضب معين الصبر من صدر الفرنسي وصاح: الفراسة أيها اللكع؟! … وهذا بابها، وهذه هي جالسة، أكاد أراها من هنا! … أقسم إني لم أرَ مثل هذا في حياتي!

فلم يحفل «محسن» لصياحه، ولم يبدِ حراكًا؛ غير أنه أرسل نظرة إلى باب المسرح، وخطر له طيف «سليم» مرة أخرى، وهو اليوم زوج لإحدى قريباته، وأب لولدين صغيرين. وقد شغل وظيفة عسكرية في مصلحة خفر السواحل، وأصبح ذا جسم ممتلئ و«كرش محترم» … أما شارباه القائمان فقد هوت بهما الأيام، واتخذت حياة ذلك الرجل الشكل المألوف في حياة «الملايين» من هذا النمل البشري، وقد ذهبت ساعات جلوسه في قهوة شحاتة ولم يبقَ لها أثر ظاهر في حياته! … طغى الزمن ببحره الطامي على أحلام الماضي، واختفت صورة «سنية» من رأس «سليم»؛ ومع ذلك فهو إن بحث اليوم في أغوار قلبه عن خير ساعات حياته، لما وجد أحلى ولا أشهى من تلك اللحظات، التي كانت تطير هباءً في جلوس طويل، بين اليأس والرجاء؛ شاخص الأبصار إلى نافذة سنية! … ذلك الانتظار الحلو المر، انتظار شيء جميل يرجو أن يحدث ولن يحدث؛ هو كل ما ظفر به قلب «سليم»، وكل قلب على هذه الأرض، من إحساسات عليا … ماذا يهم ما يتم من لقاء بعد ذلك بين حبيبين؟!

إن خفقة القلب التي كانت تهز كل كيان «سليم»، كلما خطف بصره خيال امرأة خلف المشربية، وذلك الصبر الطويل على القهوة في انتظار هذا الخيال؛ هو كل جمال الحب.

واسترسل «محسن» في تصوراته وتذكاراته، فنسي «أندريه»، وأدرك القنوط الفرنسي، فرفع يده في حركة عصبية: لا! … حقيقة لا! … إني لا أستطيع أن أنفق عمري جالسًا هكذا … إن الزمن شيء لا تعرفونه أنتم معشر الشرقيين، ولا يعنيكم أمره!

– لقد تحررنا منه.

فحملق «أندريه» في «محسن» مليًّا، ثم صاح: آه، أيها الشرقيون! … أأنتم بلهاء، أم أنتم حكماء؟ … هذا ما يحير!

– تلك عبقريتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤