الفصل السادس

يروي الجاحظ: أن رجلًا دميمًا، تزوَّج أعرابية حسناء، هامت به، فسئل في ذلك فقال: «قرب الوساد، وطول السواد.»

ذكر «محسن» تلك الكلمة، وهو جالس يرمق أعمدة «الأوديون» من مكانه بالقهوة ذات صباح، فاهتز في كرسيه ولمعت عيناه فرحًا؛ فقد وجد السبيل الذي يسلكه مثله … إنه يعرف نفسه؛ فهو كصندوق مقفل غير مطعم بذهب ولا بفضة، وغير موشًى بألوان ولا برسوم، ولا تبهر هيئته ولا تغر … ولكن طول الجوار قد يحمل الصادف عنه، على النظر إليه واستطلاع ما فيه، وهو إن فعل فلا شك واجد في قلبه بعض تلك اللآلئ، التي يبحث عنها الناس، ولكن كيف يدنو منها دنوًّا متصلًا، وهو غير قدير على أن يذهب إليها الآن، ليقرئها السلام، وكيف يجد «قرب الوساد وطول السواد» مع هذه؟ … وهو لا يستطيع أن يظفر من وقتها بخمس دقائق؟ … وتذكر — عند ذاك — شارع سلامة بالقاهرة؛ حيث كان يقطن منذ أعوام إلى جوار «سنية» … حقًّا لو لم تكن يد القدر قد وضعت مسكنه إلى جانب مسكنها، لما كان لتلك الفتاة مكان في حياته يومًا ما! … نعم، لا شيء اليوم يستطيع أن يخرجه من هذا اليأس غير قرب السكن والجوار «طول سواد الليل، وبياض النهار»! … ولكنه لا يعرف أين تسكن؟ … وكيف تسكن؟ … أبمفردها؟ … هذا هو الحلم الذهبي! … لا، هذا مستحيل؛ إن القدر لأقسى من أن يظفره بهذا الحلم … إنها لا شك تقطن مع أهلها! … ومع ذلك، ماذا يعنيه من هذا الأمر؟ … إنه راضٍ بالقليل؛ يكفيه منها مجرد الشعور في كل حين أنها هي جارته! … بقي عليه أن يعرف مقر سكنها، وهذا ميسور؛ ما عليه إلا أن يتبع خطاها، وهي خارجة من المسرح في المساء.

هنا وثب «محسن» وكأن الأزمة قد انفرجت؛ فهو منذ اليوم، لن يتخذ القهوة مطارًا لخيالاته المحلقة، بلا جدوى، فوق هذا المسرح! … ولكنه سينشط، ويسير في طريق الأمل، على هدًى من أمره! … وفرك يديه ليدفئهما من البرد، ومسح معطفه وقبعته من رذاذ المطر الذي أصابهما، وقام يمشي في الطرقات، يقتل النهار في انتظار المساء، متصفحًا: تارة وجوه حوانيت الكتب، وتارة «إعلانات» المسارح الغنائية على الحيطان، وحفلات «الموسيقى السيمفونية». إنه حتى اليوم لم يكن قد عرف موسيقى «بتهوفن» معرفة كاملة؛ فإن الحفلات السيمفونية القليلة التي حضرها لم تعقد بعد أسباب الألفة بينه وبين ذلك القلب الكبير. ولم يقنط الفتى! … فهو يعلم أن الآلهة لا تكشف سرها لأول قادم، وأن الملوك والعظماء لا يظهرون لكل من طرق أبوابهم، إنما ينبغي الصبر الطويل على الجلوس بأعتاب الهياكل وأبواب القصور، والتوسُّل بالرغبة الصادقة في الوصول؛ فإن الصبر في الفن وفي الحب هو مفتاح الطريق! … ووقع نظر «محسن» على برنامج حفلة موسيقية تعزف فيها السيمفونية الخامسة «لبتهوفن»، تبتدئ بعد الظهر، وتنتهي في المساء الباكر؛ فما تردد وأزمع الذهاب.

وجاء الظهر فتغدَّى في مطعم صغير، ثم أسرع إلى مسرح «شاتليه»؛ ليصغي إلى ذلك الرجل الذي أصغت إليه أجيال من البشر! … هنالك وجد الفتى المسرح يعج بالناس، فاتخذ له مجلسًا متواضعًا في أعلى المكان، وجعل يشاهد، من عَلٍ، ذلك البحر العجاج من نساء ورجال في القاعة والشرفات! … ولم يمضِ قليل حتى ظهر الموسيقي «جابرييل بيرنيه» رئيس الفرقة؛ بعصاه الصغيرة، ولحيته البيضاء القصيرة! … فسكت الضجيج فجأة، وارتفعت الأيدي بالتصفيق، ثم خيَّم على المكان سكون قدسي كسكون المعابد. وشعر «محسن» بالخشوع الذي خامره في الكنيسة ذلك اليوم، وتحركت يد الأستاذ بالعصا، فإذا «بتهوفن» يتكلم بلغته السماوية، قوية أول الأمر في ذلك اﻟ «أليجرو» الجليل حلوة بعد ذلك، كأنها أصوات الملائكة الصافية في ذلك اﻟ «أندانت» الهادئ، ثم فياضة بالسرور الداخلي؛ مع ذلك اﻟ «سكرتزو» المشرق، إلى أن تنتهي منه إلى ذلك الفرح المتفجر؛ من أضواء أنغام اﻟ «برستو» الأخير.

نعم، إن هو إلا وحي السماء يتكلم، بمختلف المشاعر العظيمة التي رفعت الإنسانية إلى هذه المرتبة! … لقد بدأ «محسن» يدرك ويحس حقيقة تلك الكلمة التي قرأها في «نيتشه»: «كل عواطف البشرية السامية في السيمفونية الخامسة.»

وترك «محسن» المسرح وهو شارد القلب شأنه شأن بقية الناس! … ما زالت نفسه هائمة في ذلك الجو العلوي! … وخرج إلى الطريق، فاستقبله الهواء البارد ضاربًا وجهه، فعادت في الحال إليه نفسه، ونظر حوله فإذا الظلام ينبئه أن الموعد قد قرب، فأسرع في المشي إلى «الأوديون»، ووقف ببابه مستخفيًا وراء العمود يرقب خروج الحسناء.

دقت الساعة العاشرة، فأقفل شباك التذاكر، وخرجت الفاتنة تتهادى؛ كالغزال الذي وصفه إسحاق الموصلي بقوله:
شادن لم ير العراق وفيه
مع ظرف العراق دلُّ الحجاز

وعرف محسن هذا الشادن من مشيته ذات الدل، قبل أن يرى الظلام وجهه؛ فاختلج قلبه ولم يتحرك، وابتعدت صاحبته … وهمست إليه نفسه: أن انطلق؛ خشية أن تختفي عن نظرك! … فأسرع خلفها وهو كالخائف، إلى أن بلغت سلم المترو الأرضي، فنزلت إلى المحطة بعد أن أبرزت لعامل الباب تذكرة من دفتر معها، وما إن وصل «محسن» واتجه إلى شباك التذاكر، وابتاع تذكرة، ودفع قطعة فضية، واسترجع بقيتها؛ حتى كان القطار قد أقبل ومضى بالفتاة، وهو ينظر فاغرًا فاه خائب الأمل! … وثاب إلى رشده بعد قليل، فقال لنفسه: «لم أحسب حساب دفتر التذاكر الذي معها! … بالطبع ينبغي أن يكون مع مثلها هذا الدفتر، وهي التي تقطع عين الطريق، آتية غادية مرتين في اليوم! … لا بأس! … لا فائدة من الحزن والندم؛ غدًا أعيد الكرَّة بعد أن أعدَّ عدتي.»

وجاء الغد، فحصل على دفتر تذاكر من الدرجة الثانية، وانتظرها ثم اقتفى أثرها حتى المحطة، وجاء قطار «المترو»، فاندفع هو إلى عربة في الدرجة الثانية، ونظر خلفه فإذا هي تصعد إلى عربة في الدرجة الأولى … وسار القطار ولا اتصال بين العربات … والمحطات كثيرة ولم يعرف في أيتها نزلت الفتاة! … وضاع أثرها أيضًا منه في هذه المرة، فسخط وثار على نفسه صائحًا: إنها الخيبة والبله بعينه! … ألا أستطيع أن أقتفي أثر إنسان عشرة أمتار؟! … ثم هدأ وابتسم وقال كالحالم: «ما كنت أعتقد أن مهنة البوليس السري بهذه الصعوبة.»

غير أن هذه التجارب الخائبة قد نفعت الفتى في اليوم الثالث، فقد احتاط للأمر من كل جانب، ولم يغفل عن الفتاة طرفة عين، وصعد معها في عربة واحدة، وجعل يراقبها عن كثب دون أن يظهر لعينيها حتى بلغ «المترو» محطة «بورت دي ليلاس» فنزلت، فأسرع ونزل خلفها! … وسارت في طريق طويل، تنبت على جانبيه أشجار الزيزفون والكستناء، فتبعها متواريًا، بين لحظة وأخرى، خلف جذوع الأشجار، إلى أن بلغت فندقًا يدعى «فندق زهرة الأكاسيا» فدخلت.

لم يفعل «محسن» شيئًا بعد ذلك، غير أن عاد أدراجه وهو لا يمشي على الأرض … ولكنه يطير راقص القلب؛ فقد عرف منزلها.

وفي صباح الغد نهض «محسن» مبكرًا، وفتح حقائبه، وحشر فيها ثيابه وكتبه حشرًا، وودع العجوز الدهِشة على عجل! … وأعطاها رسالة سريعة؛ كي تسلمها إلى «أندريه» وزوجته، ووضع أمتعته في «تاكسي»، وهو يقول للمرأة العجوز: قبِّلي عني الصغير «جانو»! … غدًا يخبرك «أندريه» عن سر هذا كله … إلى اللقاء.

والتفت إلى سائق السيارة وهمس: «إلى بورت دي ليلاس» فندق «زهرة الأكاسيا».

وما كادت السيارة تختفي حتى ثابت العجوز إلى رشدها، وقالت متنهدة: هذا الذي كنا نحسبه عاقلًا!

•••

كانت السيارة تسابق الريح، وقلب «محسن» يسابق السيارة وهو كأنه قد ظفر بإيوان كسرى! … ما كل هذا الفرح؟ … ألأنه رآها تدخل فندقًا؟! … وإذا ظهر بعد هذا كله أنها لا تقطن هذا النزل، وأنها ذهبت زائرة؛ أما كان ينبغي له أن يتريث، ويستوثق من الأمر، قبل هذا الركض الجنوني بأمتعته؟!

هنا اصفر وجهه قليلًا، وخشي أن يكون قد فقد أثرها أيضًا هذه المرة؛ غير أنه لم يرَ إلا أن يمعن في السير، وأن ينزل هذا الفندق؛ فقد فات أوان الرجوع، ووقفت السيارة بباب الفندق وأنزلت الأمتعة، وقادته المديرة إلى الحجرة رقم ٤٨ في الطابق الخامس.

وكان كل ما يطمع فيه «محسن» وقتئذٍ، أن يعرف هل تقطن هنا حقًّا صاحبته؟ … وفي أي طابق وأي حجرة؟ … ولكن كيف يوجه السؤال وهو لا يعرف اسمها؟ … ودخل الفتى حجرته، فألفها صغيرة نظيفة، ذات نافذة تطل على فضاء، فهذا الحي هو طرف قصي من أطراف باريس، باب من أبوابها، كما ألفى مطبخًا صغيرًا ملحقًا بالحجرة، معدًّا بأحدث معدات تهيئة الطعام، من موقد وفرن صغير، يشعل بغاز يأتي في أنابيب، إلى أدوات لشواء اللحم، وخزائن لوضع الأواني، وحوض ماء؛ فهذا الفندق معد لسكن الأسر الفقيرة، كل حجرة بملحقها معدة؛ كأنه مسكن مستقل.

ولبث «محسن» في حجرته ذلك اليوم، يشتغل بإخراج أمتعته وكتبه، وتنظيم أمره في تلك الحجرة، وهو يقول فرحًا: «لقد أصبح لي مطبخ، إني سأحتاج إليه من غير شك أيام العسر والإفلاس؛ فإن أكلة في المطعم تنفق على هذا المطبخ البسيط ثلاثة أيام.»

•••

نام «محسن» ليلته الأولى في ذلك المقر الجديد نومًا ثقيلًا؛ فلقد قرأ البارحة كثيرًا وتأمل كثيرًا … وهو — إذ يفعل ذلك — لا يستيقظ دائمًا قبل التاسعة، ولكنه في هذا الصباح نهض قبل السادسة وثبًا من فراشه على صوت فاتن، يغني كأنه طائر جميل هذه الأغنية المشهورة في رواية «كارمن»:
«الحب طفل بوهيمي! …
لا يعرف أبدًا قانونًا.»
فأسرع إلى النافذة، وبحث عن الصوت؛ فإذا فتاته في «روب دي شامبر» نسائي من الحرير الأبيض، تنظم «أزهار البنفسج» في أصص على حافة النافذة التي تحت نافذته! … هي؟ … هنا؟ … تعيش في حجرة أسفل حجرته؟! … وثب قلب «محسن»، ونبض نبضات؛ خيِّل إليه أنها سمعتها ولكنها مضت في غنائها:
«إذا لم تحبني فأنا أحبك،
وإذا أحببتك فالويل لك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤