الفصل السابع

أسرع «محسن» وارتدى ثيابه، ووقف بباب الفندق ينتظر خروجها؛ فهو قد أدرك أنها لا بد خارجة بعد قليل! … وهو يعلم أن شباك تذاكر «الأوديون» يفتح في الساعة الحادية عشرة. ولم يخب ظنه؛ فقد سمع صوتها بعد لحظة وهي تنزل السلم سائلة صاحبة النزل عن بريد الصباح، فاستعد وضبط أعصابه، وما كادت تدنو منه حتى تقدم إليها، ورفع قبعته السوداء، فرفعت أهدابها الجميلة وسددت إليه عينيها الفاروزيتين، فأرتج عليه، ولم يعرف كيف يبدأ الكلام! … وخيِّل إلى الفتاة أنها رأت هذا المعطف، وهذه القبعة السوداء من قبل، وبدا على وجهها أنها تذكرته! … فما إن رأى «محسن» منها ذلك حتى قال من فوره: نعم، أنا هو.

فابتسمت قليلًا؛ غير أنها قالت: هو من؟

فخجل الفتى وارتبك، ورأت الفتاة خشونة ردها عليه فاستدركت: إن لم أخطئ الظن، فأنت يا سيدي «زبوني».

– نعم، أنا هو «زبونك» الدائم! … ولي الشرف أن أكون كذلك.

– وما جاء بك إلى هذا الحي الذي لا يعرفه الأجانب؟ … معذرة من فضولي.

– فضولك يا سيدتي هو كل ما أرجو وما أحب … جاء بي إلى هذا الحي … الفضول.

فابتسمت وقالت: أيضًا!

– بل شيء أكبر جدًّا من هذا.

واحمر وجهه قليلًا، وخشي أن يكون الموقف قد طال، وأنه قد قطع عليها السير، فأبدى لها أسفه سريعًا … وتنحَّى عن طريقها واستأذنها في أن يسير إلى جانبها قليلًا حتى يتم حديثه … فأذنت له ومشيا إلى محطة «المترو» وهو يقول: إني جئت إليك أحجز محلًّا لمشاهدة قصة هذا المساء.

– شباك التذاكر ليس هنا! … إنه هناك في المسرح.

– وما يمنع أن يكون في أي مكان تحلين فيه؟! … هو الذي يجب أن يتبعك! … ككل شيء وكل إنسان.

فالتفتت إليه تستجلي أمره؛ وكأنما أدركت قليلًا حقيقة غرضه: وكيف عرفت أني أقطن هذا الحي، وهذا الفندق؟

– عجبًا! … أتقطنين هذا الحي، وهذا الفندق؟! … إذن أنت تقطنين هذا الحي وهذا الفندق.

فنظرت إليه فاحصة؛ كمن ينظر إلى مخلوق عجيب، ولكنه مضى يقول: وافرحتاه! … أنا أيضًا أقطن هذا الحي، وهذا الفندق.

فقالت في لهجة المستريب: منذ زمن طويل؟!

– منذ … لست أدري … نعم، منذ زمن طويل.

فلم تنبس الفتاة، وساد بينهما صمت عميق … وشعر «محسن» ببرد يكتنف الموقف ورأى محطة «المترو» وقد أصبحت منهما على قيد خطوات، وخشي أن تضطره هي فجأة إلى الافتراق عنها، ولم يقل بعد شيئًا يثبت إلى الأرض هذه الصلة الطائرة … فاندفع يقول في غير تبصر: ما أجمل هذا الصباح! … لقد استيقظت على أغنية «كارمن» تتصاعد من نافذة تحت نافذتي … ولكن … بأي صوت وأي غناء!

وكأن الفتاة لم تسمع شيئًا؛ فقد لزمت الصمت، وكانت قد دنت من سلم «المترو» الأرضي فالتفتت إلى «محسن» ومدت يدها إليه قائلة، في صوت كله تحفظ، كأنما تخاطب شخصًا لا تعرفه، ولا تحرص على أن تعرفه: عم صباحًا يا سيدي.

وهبطت السلم، واختفت في لمح البصر، تاركة الفتى في مكانه، كتمثال من الرخام قد غطاه الجليد.

•••

ثاب «محسن» إلى رشده ولكن الدهش لم يفارقه، لماذا تركته على هذا النحو؟! … أكان مسرفًا في حديثه؟ … ولكن لماذا؟ … وماذا كان يجب عليه إذن أن يقول؟!

واسترسل في التفكير برهة، يقلب الأمر على وجهه … إلى أن انتهى به حديث النفس إلى شاطئ هادئ: الرجاء، والرضا بما حدث حتى اليوم، فإن حياته منذ اليوم إلى جوارها شيء ليس بالقليل، بل إنه الآن يستطيع أن يعرف عنها الكثير … يستطيع أن يعرف اسمها على الأقل، وأن يعرف مع مَن تعيش هنا.

ولم يفكر «محسن» أكثر من ذلك، فقد جرى لساعته إلى الفندق، وصعد إلى الطابق الرابع، وبحث عن الحجرة التي تقع أسفل حجرته، وقرأ رقمها: «٣٨» … ثم نزل في الحال إلى صاحبة الفندق، فحيَّاها في ابتسامة رقيقة، وحرك شفتيه مترددًا لا يدري بعد، كيف يصل إلى غرضه دون أن يبدو عليه شيء، ولكن المرأة ابتدرته: أراضٍ عن حجرتك يا سيدي؟

ففتح هذا السؤال الطريق للفتى، وقال: لا بأس بها … وإن كنت أفضل الحجرة السفلى.

– السفلى! … في الطابق الرابع؟ … إنها مشغولة يا سيدي.

– تشغلها أسرة؟

– كلا يا سيدي … بل آنسة بمفردها.

فأخفى الفتى سرورًا كاد يشرق به وجهه: بمفردها؟

ثم استطرد في الحال:

– نعم! … إن الحرب الكبرى قد جعلت الفتاة هنا كالشاب، تسعى وراء رزقها بمفردها! … نعم! … هذه الآنسة، إن صدق ظني؛ فهي عاملة شباك التذاكر بمسرح «الأوديون».

– صدق ظنك يا سيدي.

– نعم! … إني أختلف إلى «الأوديون» كثيرًا … هي، إن صدقت ذاكرتي: «مدموازيل … ماري»؟

فابتسمت المرأة ابتسامة، لا أحد يدري؛ إن كانت تنم عن خبث ومكر وإدراك، أم أنها لا تنم إلا عن بساطة وملاطفة: خانتك ذاكرتك هذه المرة يا سيدي؛ إنها تدعى «مدموازيل سوزي ديبون».

– «سوزي»؟

انزلق هذا اللفظ من بين شفتيه، وهو في نشوة من فرح داخلي يشبه الذهول! وتنبه من فوره، وضبط نفسه، والتفت إلى المرأة وقال: أشكرك يا سيدتي على هذا الوقت الذي أضعته عليك … أشكرك.

ثم تركها وخرج إلى الطريق سريعًا يهمس: «سوزي».

قضى «محسن» بقية الصباح جالسًا على مقعد في حديقة «لوكسمبرج» سارحًا في أحلامه الكثيرة … لقد كان يأتي إلى هذا المكان بعد ظهر الأيام الأولى من مجيئه إلى باريس، وكان يصحبه مواطن أكبر منه سنًّا … وكان هذا شيخًا يدرس في الأزهر، وقد جاء «باريس» ليكمل دراسته العليا، ليس كما كان «محسن» يدرس الحقوق والآداب، ولكن لدراسة الدين المقارن.

لقد كان حرًّا طليقًا … يحب في باريس النساء، وكان عقله لا يتفتح لأي أدب، ما عدا النصوص الدينية في الكتب المقدسة، وحتى هذه ما كان يدرك كل معانيها الخفية.

وكان من عاداته أن يتنزه في حدائق «لوكسمبرج» للتطلع إلى سيقان السيدات الجميلات.

وفي الليلة التي كان يزمع فيها العودة إلى مصر، قص على «محسن» قصة مسلية، قال: تعرفت يومًا على شيخ ذي لحية بيضاء في الحديقة، جاء مثلي يتأمل السيقان الجميلة، وكان اسمه «أناتول» … وكنا نتقابل عصر كل يوم على نفس المقعد، ونتفرج معًا على نفس الشيء، وقد جمع بيننا غرض واحد، وظروف واحدة.

وفي عصر يوم التقيت بصديقي «أناتول» في شارع «سان ميشيل»، فسرنا معًا، وقد تشابكت الأذرع بيننا في صداقة ومحبة، ثم اتجهنا إلى الحدائق … وكان في ذلك الوقت ينعقد مؤتمر الصلح في «فرساي»، وكانت مصر قد أرسلت وفدها الوطني إلى باريس ليسمع صوتها، ومطالبتها بالاستقلال.

وما إن وصل الوفد إلى باريس حتى وجد كل الأبواب موصدة في وجهه، ولم تقبل أي جريدة أن تكتب سطرًا واحدًا عن مهمة الوفد، وكاد يفشل في مهمته.

وبينما كان واحد من رجال الوفد يتمشَّى صدفة في شارع «سان ميشيل» حتى رآني وأنا ممسك بذراع الشيخ، فعرفني على التو، وكانت فرحته لا تقاس، وكأني هبطت عليه من السماء.

قال: أتعرف جيدًا هذا السيد؟

قلت: أي سيد … هذا العجوز الذي يصاحبني؟!

قال: نعم … هذا أكبر كاتب في باريس.

قلت: هذا المخرف؟!

– إنه «أناتول فرانس» بعينه … بلحمه ودمه … ألم تسمع قط الناس يتكلمون عن «أناتول فرانس»؟

– نعم.

– يا غبي! يكفينا منه سطران وننجح في مهمتنا.

– ماذا؟! … من ذلك العجوز أناتول؟

– حاول أن تقدمني إليه، فإنك بذلك تقدم خدمة للوطن.

ولبثت لحظة دهِشًا فاغر الفم … ثم أخذت أبحث عن صديقي «أناتول» … وأخيرًا عثرت عليه في مقعده المعتاد، واقتربت منه، ولأول مرة تكلمت معه في شيء من الاحتشام قائلًا: سيدي … أنت رجل عظيم … أنت أكبر كاتب في فرنسا … اغفر لي غباوتي.

دهش «أناتول فرانس» في بادئ الأمر، ثم قال، وعلامات الحزن بادية عليه … لقد كشف سره ذلك الدخيل الذي التقى بنا في الطريق. ثم مدَّ لي يده قائلًا: يا للخسارة! … لقد انتهت صداقتنا.

وتركني لأسير وحيدًا.

ولم تمضِ بضعة شهور حتى كان «أناتول فرانس» يكتب مقدمة لكتاب «صوت مصر» نشره «فيكتور مرجيت» يدافع فيها عن مصر واستقلالها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤