الفصل الثامن

أنفق الفتى ما تبقَّى من ذلك الضحى هائمًا على وجهه في طرقات ذلك الحي، جاعلًا من شأنه البحث عن مطعم رخيص، يلجأ إليه في أيام الضنك، وهي كل الأيام، عدا اليوم الأول والثاني من كل شهر … وقد وجد ضالته في شارع «مونيلمونتان»! … إنها شبه «حانة» توسم فيها النظافة مع قلة النفقة؛ فقد قرأ في لوحة من ورق «الكرتون» معلقة على بابها، أن ثمن الأكلة الكاملة مع زجاجة من النبيذ خمسة فرنكات بالتمام. وكان الظهر قد أقبل؛ وأحس «محسن» الجوع، فدخل ذلك المطعم، واتخذ له مجلسًا في أحد الأركان؛ وجاء الغلام، فطلب إليه شريحة من لحم الثور، مشوية مع البطاطس، واعتدل في جلسته مطمئنًا يفحص وجوه الحاضرين … إنهم جميعًا من طبقة العمال، أولئك الذين ينبذون الشوكة والسكين ويقطعون الخبز واللحم بمدية الجيب.

ولكن الفتى لم يأنف من تلك السواعد العارية، والجباه المتصببة عرقًا، والثياب التي تقطر بؤسًا. ﻓ «محسن» لا يشعر دائمًا أنه في مكانه، إلا بين أمثال هؤلاء، وهو يوم يدفعه الرخاء إلى مطعم فاخر؛ فإنه يدخله دائمًا خائفًا كالغريب. وجعل الفتى يقطم رغيفه قطمًا خفيفًا في انتظار الغداء، ويصغي في أعماق نفسه إلى تلك الرباعية من رباعيات «عمر الخيام»:

إذا أردت أن تعرف الصفاء والسلام … فاحدب على تعساء الحياة، أولئك الضعفاء الفقراء الذين يرتعدون في شقائهم، عندئذٍ تظفر بالسعادة.

نعم إنه فعلًا يجد في نفسه الآن شيئًا من تلك السعادة الهادئة الصافية، في هذا المكان المتواضع. وسمع حوارًا على مقربة منه؛ بين صاحب المطعم البدين وبين عامل من العمال شاحب الوجه حاد النظرات: لن أتناول اليوم لحمك؛ إني مريض.

فقال صاحب الحان مشفقًا: نعم! … أرى ذلك … إنك تعيش وحدك فيما أعلم يا مسيو «إيفان».

– إني دائمًا وحدي في الحياة.

هذه العبارة الأخيرة استرعت التفات «محسن»، لا لأنها ذات نغم حزين، بل لأن الفتى كان يتصور أنه، هو وحده، الذي يحيا دائمًا وحده في الحياة … إنه يعلم أن المعتزلة اليوم قليل؛ ولكم يشعر بحب وتقدير لأولئك الذين لا تطيب لهم السكنى إلا داخل أنفسهم؛ ذلك أن قليلًا من الناس من يملك نفسًا رحبة غنية يستطيع أن يعيش فيها وأن يستغني بها عن العالم الخارجي … إنه يعتقد دائمًا أن الزاهدين الحقيقيين ليسوا إلا أناسًا، لهم نفوس كالفراديس، تشقها الأنهار، وتنيرها الشموس، وتتلألأ فيها الكنوز؛ فهي عالم من الفتنة والسحر، لا نهاية لبدائعه وأسراره.

وأبطأ طبق الحساء على جاره العامل المريض، فأبصره قد أخرج من جيبه كتابًا، جعل يلتهم صفحاته بدل الطعام، وود «محسن» لو عرف عنوان الكتاب! … دفعه حب الاستطلاع إلى أن يميل بجسمه ويختلس النظر، ففاجأته عين الرجل، فارتبك الفتى وأشار إلى الكتاب: معذرة هذا الفضول مني! … إني أحب الكتب، لا شك في أنه كتاب لذيذ.

فأرسل إليه الرجل نظرات عميقة، ولم يقل شيئًا، لكنه مد يده، ورأى الفتى العنوان على الغلاف، فاستطاع «محسن» أن يقرأ:

«رأس المال»: كارل ماركس.

لم يمضِ النهار حتى نشأت صداقة وديعة بين «محسن» وذلك العامل الفقير، وقد أنس أحدهما إلى الآخر؛ كما يأنس الغريب إلى الغريب، وهو الواقع … فهذا الرجل روسي، ترك بلاده منذ بضعة أعوام، وهو أيضًا من أولئك الذين يعيشون على القراءة والتفكير والوحدة، وقد دعا الفتى إلى حجرته الصغيرة التي يقطنها في إحدى دور العمال، فرأى «محسن» الكتب مكدسة في كل مكان، ولم يستطلع «محسن» شيئًا عن دخيلة الرجل، لكنه أحس أن الرجل قد فرح بمعرفته فرحًا عميقًا؛ فقد قال وهو يعد له الشاي، على موقد في أحد الأركان: لكم أشعر أن وطأة مرضي قد خفت قليلًا منذ لقائنا، لست أدري لماذا.

وقدم للفتى قدح الشاي، وجلس هو على صندوق قديم من الخشب الأبيض؛ فقد أكرم ضيفه بالكرسي الوحيد في الحجرة، ورشف «محسن» رشفة وهو يقول: وأنت يا مسيو «إيفانوفتش» ألا تحب الشاي؟

– إني أفضل جرعة من «الفودكا» … آه … إن هذا الشراب مع «تولستوي» هما كل ما أحب الآن من الروسيا.

ولمح «محسن» بعض المرارة في كلام الرجل، فقال له في سذاجة: كيف ذلك؟ … إن الروسيا الآن هي جنة الفقراء.

فأجابه الرجل كالمخاطب لنفسه: أتظن؟ … إن جنة الفقراء لن تكون على هذه الأرض.

وصمت الرجل قليلًا، ثم قام إلى زجاجة «الفودكا» فتناول منها جرعة وهو يقول: أنت أيضًا ممن يعتقدون في هذه الخرافة؛ جنة الفقراء؟! … إني فكرت في أمرها كثيرًا، ومن ذا الذي لم يفكر فيها؟ … تلك مشكلة الدنيا التي لم تحل؛ «وجود أغنياء وفقراء وسعداء وتعساء على هذه الأرض»! … من أجل هذه المشكلة وحدها ظهرت الرسل والأنبياء.

– يا مسيو «إيفان» … لست أرى رأيك في أن المشكلة لم تحل! … إن الأنبياء قد جاءوا من السماء بخير الحلول.

فتفكر الرجل قليلًا، ثم قال كالمخاطب نفسه: أنبياؤكم أنتم؟! … نعم هذا من الجائز! … إن الشرق قد حل المعضلة يومًا ما … هذا لا ريب فيه؛ إن أنبياء الشرق قد فهموا أن المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض، وأنه ليس في مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء؛ فأدخلوا في القسمة «مملكة السماء»، وجعلوا أساس التوزيع بين الناس «الأرض والسماء» معًا، فمن حُرم الحظ في جنة الأرض، فحقه محفوظ في جنة السماء! … هذا جميل! … ولو استمرت هذه المبادئ، وبقيت هذه العقائد حتى اليوم، لما غلى العالم كله في هذا الأتون المضطرم. ولكن «الغرب» أراد هو أيضًا أن يكون له أنبياؤه «الذين يعالجون المشكلة على ضوء جديد»، وكان هذا الضوء منبعثًا هذه المرة، من باطن الأرض، لا آتيًا من أعالي السماء … هو ضوء العلم الحديث؛ فجاء نبينا «كارل ماركس»، ومعه إنجيله الأرضي: «رأس المال»، وأراد أن يحقق العدل على هذه الأرض، فقسَّم «الأرض» وحدها بين الناس، ونسي «السماء»، فماذا حدث؟ … حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض، ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتًا على «هذه الأرض».

تأمل «محسن» قليلًا هذا الكلام، ثم قال كالمخاطب لنفسه: كمن يلقي تفاحة بين أطفال يتلمظون.

– لقد ألقى قنبلة «المادية والبغضاء واللهفة والعجلة» بين الناس، يوم أفهم الناس أن ليس هنالك غير «الأرض»، يوم أخرج «السماء» من الحساب؛ لأن علم الاقتصاد الحديث لا يعرف السماء! … أما أنبياء الشرق فقد ألقوا زهرة «الصبر» والأمل في النفوس، يوم قالوا للناس: «لا تتهالكوا على الأرض؛ ليست الأرض كل شيء! … إن هنالك شيئًا آخر غير «الأرض» سيكون لكم شيء آخر يدخل في «التوزيع»! … إن الإنسان لا يحيا من أجل الخبز، كما أنه لا يعيش من أجل الخبز وحده … آه! … إن أنبياء الشرق هم العباقرة حقًّا!»

وصمت الرجل قليلًا، ثم مضى يقول: إن روح «المسيحية»، كما نبعت في الشرق، هي: المحبة، والمثل الأعلى. وروح «الإسلام»: الإيمان والنظام. ومسيحية اليوم الجديد في الغرب، هي: «الماركسية»، وهي كذلك لها مثلها الأعلى، لا في محبة الناس بعضهم بعضًا، وتبشير الفقراء ﺑ «مملكة السماء» وحضهم على إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؛ بل بإغرائهم بمملكة، تقام على أنقاض طبقة، وأشلاء طبقة، ونصحهم بالهجوم على قيصر، وأخذ ما لقيصر! … وإن «إنجيل» هذا الدين: كتاب «رأس المال» تجد أيضًا في بعض صفحاته تنبؤات مخيفة؛ كتنبؤات «يوحنا» في رؤياه؛ ففيه توعد بانهيار هذا العالم، وحلول عالم آخر قوامه العمال وحدهم! … أيُّ أجسام تسير بغير رءوس فوق المناكب؟! … يا له من حلم مخيف!

أما «إسلام» العصر الحديث في الغرب: فهي «الفاشية»، وهي كذلك لها طابع الإيمان والنظام! … إيمان لا بالله، بل «بزعيم» من البشر ونظام لا يؤدي إلى التوازن الاجتماعي بالتواضع والزكاة؛ إنما هو نظام فرضته يد الإرهاب؛ ليؤدي إلى مطامع الاستعمار، والوثوب على الضعيف من الشعوب! … ولهذا الدين أيضًا «كتابه» وخطبه «المنبرية» الملتهبة، لا بحرارة عقيدة سماوية، ولكن بحرارة قوة حيوانية، وشراهة دموية! … آه أيها الصديق … تلك هي الديانات التي استطاع الغرب أن يخرجها للناس، يوم أراد أن يزاحم الشرق ويخرج للعالم أديانًا!

فرفع «محسن» رأسه بعد إطراق طويل، ثم قال: يدهشني منك هذا القول يا مسيو «إيفان»، وأنت من العمال!

– نعم؛ أنا من العمال، ومن الفقراء … لكن، لي من سوء الحظ رأس يفكر؛ إني أعرف أن وعود أديان «الغرب» الجديد كلها … إن هي إلا تغرير بالعمال والفقراء … إن «الماركسية» و«الفاشستية» قد أخذتا عن أديان «الشرق» طرقها وأساليبها، وفهمتا جيدًا أن كل خطة النبي هي استمالة الساخطين والمتذمرين والمعوزين، وهم الكثرة الغالبة! … هكذا فعل «عيسى» و«محمد»! … هل تبعهما، أول الأمر غير العبيد والأرقاء والفقراء والضعفاء؟ … ذلك أن طبقة الراضين والموسرين ليست في حاجة إلى أن تتبع أحدًا! … وهي مع ذلك قلة نادرة، وسط خضم الدهماء؛ فالدهماء هم سند الدين، وهم القوة في كف النبي! … لقد أدرك ذلك جيدًا أنبياء أوروبا في العصر الحديث ودرسوا Technique النبوة على أيدي الأساتذة الشرقيين، فبنوا كل شيء على أساس واحد: «الدهماء»! … وجعلوا يتنافسون في إرضاء هذه الكتل الآدمية بالوعود: وعود واقعية قريبة الأجل، وهنا كل غباء هؤلاء «الأنبياء»! … إن التنافس بين الدينين لييبدو لي شديد الخطر! … وإني لأتنبأ لك، منذ الآن، بوقوع نوع من «الحروب» بين «الماركسية» و«الفاشستية» تحشد فيها الدهماء ضد الدهماء، وتتناثر فيها الجثث … وتتطاير الأشلاء … هذا كل مكسبنا … إنهم لن يبقوا لنا حتى على ذلك الوهم اللذيذ، والعزاء الجميل الذي غمرنا فيه أنبياء الشرق الحقيقيون.

– أي وهم وأي عزاء؟!

– جنة السماء، ومملكة السماء.

– أتسمي هذا وهمًا؟!

– آه … معذرة … معذرة! … إنك مؤمن! … ما أسعدك أنت! … وما أحسن حظك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤