الفصل التاسع

خرج «أندريه» من العمل في استراحة الغداء، فوجد رسالة من «محسن» تنتظره، فلم يدهش؛ إن رسائل «محسن» إليه قد كثرت، منذ أن غادر منزل الأسرة في «كوربفوار» جاريًا خلف قلبه … فض «أندريه» الرسالة، وقرأ:

عزيزي «أندريه»

لم أزل أستيقظ على غنائها، لكن هذا الصباح قد حدث أمر جلل. بينما أنا قرب النافذة، أصغي إليها خفية، إذا بالباب يطرق، وإذا «الغسالة» قد حملت إليَّ ثيابي النظيفة، وقدمت إليَّ ورقة الحساب: عشرة فرنكات، فلمعت في ذهني عند ذاك فكرة أعجبتني، وأرجو أن تعجبك؛ ذلك أني تناولت الورقة وسطرت في ذيلها: «سيدتي! … لا أجد معي الساعة نقودًا، فإذا تفضلت وأديت عني الحساب؛ فإني لا أنسى لك هذه اليد، ولك جزيل الشكر سلفًا مع احترام المخلص: جارك رقم ٤٨.» ودفعت الورقة إلى الغسالة، وأحلتها على الحجرة السفلى، التي تقطنها جارتي «مودموازيل، س».

ومضت الغسالة بالفعل، وبقيت أنا أرتجف قلقًا … أتراها تؤدي عني؟ … وا خجلتاه إذا رفضت! … وإذا قبلت فما يكون معنى هذا؟ … ينبغي أن أبادر فأبشرك؛ لقد عادت الغسالة إليَّ بعد هنيهة، تقول في ابتسام: إن «مدموازيل س، جارتي، قد دفعت في الحال دون أن تنبس بلفظ.»

ماذا تقول في كل ذلك؟

محسن
ابتسم «أندريه» وطوى الرسالة، وأشعل لفافة تبغ ودخن قليلًا، ثم أخرج ورقة وكتب:

عزيزي «محسن»

ماذا أقول في كل ذلك؟ … أقول: إن عهدي بالمحبين أن يظهروا دائمًا أمام الفتيات، بمظهر النعمة واليسر والرخاء، وأن يكونوا هم على الأقل الدائنين وقت الاقتضاء، ولكنك قد عكست الوضع، وأصبحت مدينًا لفاتنتك بكل شيء؛ أي: «بالقلب وبفاتورة الحساب» … إن مسألة التجائك في الاقتراض إلى «مدموازيل س»، ولما تتوثق بينكما المعرفة؛ لغاية في الجرأة! … وإني لأعجب جدًّا من هذا الحادث، وأرى فيه فجر عهد جديد في تاريخ الغرام.

أندريه

مرت أيام بعد ذلك، والفتاة تصادف الفتى، تارة بباب الفندق وتارة في المصعد، ولا غرابة في ذلك، فهما متحدان في المسكن. إنما الغريب في الأمر أنه منذ أن أدت عنه الحساب لم يعد يقبل عليها؛ ذلك الإقبال الذي كانت تراه منه، ولم يعد يحييها إلا تحية مختصرة. وإذا جمعهما المصعد، فهو مطرق لا يريد أن يتكلم، ولا أن يشير بحركة تنم عن اهتمام لأمرها، هو الذي كان ينتظر منه أن يبادر فيشكرها على عطفها الكريم … إنه لم يشكرها، بل إنه لم يشر قط إلى ما حدث بذكر أو تلميح. وانفردت «سوزي» في حجرتها ذات مساء، وجعلت تفكر قليلًا في أمر هذا الفتى الغريب: أهو شرقي، متوحش، لا يعرف الأدب واللياقة؟! … لكن الأمر في ذاته أبسط من أن يحتاج إلى معرفة بالأدب أو اللياقة، ولا يمكن أن يكون ذلك الفتى جاهلًا، إنما هو تصرُّف مقصود، لماذا؟ … هذا ما لم تهتدِ إليه الفتاة … إن هذا الفتى غريب الأطوار … هذا كل ما تستطيع أن تفهمه.

•••

لم يكد الأسبوع ينتهي، حتى تلقَّى «أندريه» هذه الرسالة:

عزيزي «أندريه»

الآن، آن الآوان أن أفي بديني، ولا يليق أن أرد إليها عشرة فرنكات، إنما يحسن بي أن أقدم إليها هدية … ماذا ترى أن تكون هديتي إليها؟ … أشِر عليَّ سريعًا.

محسن
فأسرع الفرنسي وأرسل الجواب:

عزيزي «محسن»

إن «باريس»‏‏‏‏‏ كلها لم تخلق إلا للنساء، وكل تجارة باريس هي في الهدايا التي تقدم إلى النساء … ما عليك يا صاحبي إلا أن تمشي قليلًا في أي شارع من شوارع باريس؛ فإنك واجد عشرات الحوانيت، التي تعرض ما تشتهي لصاحبتك من حقائب اليد، وصناديق «البودرة» والقبعات والجوارب والعطور والأزهار. وقد مضى أن نصحنا لك من هذا القبيل ولم تقبل النصح.

أندريه

قرأ «محسن» هذه العبارة، وردد كالمخاطب، في غير اقتناع: حقائب يد، وصناديق «بودرة»، وأزهار وعطور؟! … أشياء لا معنى لها؛ إنك أحمق يا مسيو «أندريه».

ثم مزَّق الرسالة، ووضع القبعة السوداء على رأسه، ونزل إلى الطريق هائمًا على وجهه، طول يومه، في شوارع باريس؛ يفكر ويبحث عن الهدية، دون أن يدخل حانوتًا، أو يرسل عينيه إلى وجه متجر، فهو لم يعتد النظر إلا إلى وجهات حوانيت الكتب! … وقادته قدمه مصادفة، آخر الأمر، إلى سوق الطيور في الضفة اليمنى من نهر السين! … وقرع سمعه صوت ببغاء صغير، ينادي المارة بصفيره وكلماته الملقنة، فرفع «محسن» بصره، وتفكَّر هنيهة، ثم دخل الحانوت لوقته وابتاع الببغاء، وخرج حاملًا قفصًا، ينبعث منه صفير وضجيج، ومشى به مشية المنتصر الذي ظفر بضالته! … ولكنه لم يسِرْ خطوات في الطريق، حتى وجد القفص الذي في يده قد تبعته القطط والكلاب الضالة؛ وإذا منظره، وهو حامل الببغاء، وكلاب الحي خلفه؛ قد بدأ يستلفت أنظار المارة! … وخشي أن يجتمع حوله العالطون والصغار، فاستأجر سيارة حملته مع الهدية إلى الفندق.

وما إن أوى «محسن» إلى حجرته حتى خلع ثيابه على عجل، وجلس إلى ببغائه طول الليل ساهرًا، يلقنه كلمات وعبارات … إلى أن رضي عن هذا التلميذ الصغير، فوضع في عنق قفصه حبلًا رقيقًا، وفتح نافذته، وأدلى بالقفص في الفضاء إلى أن حط على حاجز الفتاة، ثم جعل يناجيه؛ مناجاة «حافظ الشيرازي» للببغاء في قصيدته التي قال فيها:

«أيها الببغاء! … أيها الناطق بالأحاجي! … احرص إلى الأبد على ريشك زاهيًا في لون الياقوت، وعلى قلبك فياضًا بالمرح! … آه أيها الحظ! … اسكب على وجوهنا ماء الورد ولا تبُحْ للصاحي بأسرار النشوة! … نعم … إن الحكمة هي الثراء الحقيقي، ولكن … كم تساوي إلى جانب نظرة الحب؟!»

•••

استيقظت «سوزي» في الصباح، واتجهت إلى نافذتها مترنمة كعادتها، وما كادت تفتحها حتى رأت نفسها أمام ببغاء في قفص، فدهشت! … ثم أبصرت الحبل المدلى، فأدركت من أين هبط، فرفعت عينيها إلى الطابق العلوي، وإذا الفتى في نافذته يبسم لها؛ كأنما كان في الانتظار، وحيَّاها تحية الصباح فردت التحية باسمة، ثم أشارت إلى القفص قائلة: لمن هذا؟

– لك!

– لي أنا؟ … شكرًا لك يا سيدي … ولكن لماذا؟

– هذا ما استطعت أن أقدمه إليك، اعترافًا بجميلك؛ فأرجو أن تقبليه مني.

– ما أجمل هذا الببغاء! … ما اسمه؟

– اسمه … «محسن».

– «محسن»؟

وما كادت الفتاة تنطق هذا الاسم حتى صفر الببغاء وصاح: أحبك … أحبك … أحبك!

فضحكت «سوزي» وقالت: عجبًا! … من لقنه هذه الكلمات.

فأجاب الفتى لفوره: لا أحد … «في عينيه نظر» … هذا كل ما في الأمر.

فابتسمت الفتاة لهذا الجواب وقالت: أكرر لك شكري يا … مسيو …

– أتسمحين أن أقدم إليك نفسي … ولو أن التقدم من هذه النافذة العالية لا يسمَّى تقدمًا … فالأصح أن أقول: أن ألقي إليك بنفسي.

فضحكت الفتاة وقالت: يسرني بالطبع ذلك؛ غير أني لا أضمن لك الوصول سالمًا إلى نافذتي، فألقِ باسمك وحده الآن، فهو يكفي.

فقال الفتى: اسمي «محسن».

فنظرت إليه نظرة استغراب وقالت: كالببغاء؟!

– نعم! … لي الشرف أن يكون اسمي كاسم ببغائك.

فابتسمت ولم تجب. وظن «محسن» أنه تحدث إليها أكثر مما ينبغي، وخيِّل إليه أنه ربما أثقل عليها، وخشي أن يزيد في الكلام، فتبدر بادرة تمحو من شفتيها هذا الابتسام، فحياها سريعًا بإشارة خفيفة، وابتعد عن النافذة مختفيًا لفوره عن أنظارها … ثم جلس إلى مكتبه يتأمل الأمر … عجبًا! … ما معنى الجلوس؟ … وفيمَ التأمل؟! … لقد كانت أمامه، وكان بينهما حديث … لماذا تركها؟ … ألا يجدر به أن ينهض من مقعده ويعود إليها؟

ولكن نافذتها كانت قد أغلقت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤