مسيرة الحب

تلقيت اتصالًا هاتفيًّا في العمل، وكان من والدي. كان ذلك بعد وقت قصير من طلاقي وبداية عملي في المكتب العقاري. كان ولداي يذهبان إلى المدرسة، وكان يومًا شديد الحرارة من أيام شهر سبتمبر.

كان والدي غاية في التهذيب، حتى مع أفراد العائلة. أخذ بعض الوقت في السؤال عن حالي؛ كعادة أهل الريف. يسألون أولًا عن حال من يحادثونهم في الهاتف، حتى إذا كان سبب المكالمة هو أن يخبروك بأن منزلك يحترق.

أجبت: «بخير … كيف حالك أنت؟»

رد أبي قائلًا بطريقته المعهودة، التي تجمع بين الاعتذار والاعتداد بالنفس: «لا أعتقد أنني على ما يرام تمامًا … أخشى أن تكون أمك قد رحلت.»

أعلم أن «رحلت» تعني «ماتت». أعلم ذلك جيدًا. لكنني للحظة أو نحو ذلك رأيت أمي تعتمر قبعتها السوداء التي من القش وهي تمشي على امتداد الطريق. لم تبدُ كلمة «رحلت» مفعمة بأي شيء، اللهم إلا بإحساس عميق بالراحة، بل وحتى بالإثارة؛ الإثارة التي يشعر المرء بها عندما يغادر أحد ويُغلق الباب، ويعود المنزل مجددًا إلى حالته الطبيعية، ويتحرك في حرية في المساحة الخالية حوله. كان ذلك باديًا في صوت أبي أيضًا؛ وراء النبرة الاعتذارية، كان يُخفي صوتًا غريبًا مثل نفس لاهث. لكن أمي لم تكن عبئًا على أي حال — إذ لم تمرض يومًا — وكان وقع الأمر على أبي قويًّا، ولم يكن يشعر بالراحة إطلاقًا لموتها. قال أبي إنه لم يعتد قط على أن يعيش وحيدًا. فانتقل بإرادته للإقامة في نُزل مقاطعة نترفيلد للمسنين.

أخبرني كيف وجد أمي على الأريكة في المطبخ عندما جاء وقت الظهيرة. كانت قد قطفت بعض ثمار الطماطم، ووضعتها على حافة النافذة حتى تنضج، ثم يبدو أنها شعرت بالوهن، فرقدت. ها هو صوته الآن، وهو يخبرني بهذا، يرتعش — يتموَّج، مثلما قد يتوقع المرء — في دهشته. استرجعت في عقلي صورة الأريكة، اللحاف القديم الذي كان يغطيها، تحت الهاتف مباشرةً.

قال أبي: «لذا وجدت أنه من الأفضل أن أتصل بك.» ثم انتظرني حتى أخبره بما يجب عليه فعله الآن.

•••

كانت أمي تصلي جاثية على ركبتيها في وقت الظهيرة، وفي الليل، وعندما تستيقظ في الصباح. كان كل يوم يهل عليها هو فرصة لتحقيق إرادة الرب فيه. في كل ليلة كانت تُحصي ما فعلته، وما قالته، وما حدَّثت نفسها به، لترى ما إذا كان يرضيه أم لا. هذا نوع كئيب من الحياة، مثلما يظن الناس، لكنهم لا يدركون كنه ذلك. فلا يمكن أن تكون هذه الحياة مملة على الإطلاق. ولا يمكن أن يقع شيء للمرء دون أن يستفيد منه. حتى إذا كانت المتاعب تسحق المرء، وكان مريضًا، وفقيرًا، وقبيحًا، فلديه روحه ليعيش بها خلال الحياة التي هي كنز وُهِبَ إياه دون مجهود. عندما كانت أمي تذهب للصلاة في الدور العلوي بعد وجبة الظهيرة، كانت تمتلئ بالحيوية والآمال، وتبتسم في جدية.

كانت قد خُلِّصت من خطاياها أثناء أحد الاجتماعات الدينية الخارجية عندما كانت تبلغ أربعة عشر عامًا. كان ذلك في الصيف نفسه الذي ماتت أمها — جدتي — فيه. لعدة سنوات قليلة، كانت أمي تذهب إلى الاجتماعات في حضور عدد كبير من الأشخاص الآخرين الذين جرى تخليصهم من خطاياهم، وبعض الأشخاص الذين جرى تخليصهم أكثر من مرة، وخَطَأَة قدامى متحمسين. كانت تروي قصصًا عما كان يجري في تلك الاجتماعات؛ الغناء، والشكوى، والتجاوزات. تحدثت عن رجل شيخ نهض وصاح قائلًا: «انزل، أيها الرب، انزل بين ظهرانينا الآن! انزل عبر السقف وسأدفع من أجل إصلاح ألواح السقف الخشبية!»

كانت أنجليكانية ملتزمة عند زواجها. كانت تبلغ خمسة وعشرين عامًا آنذاك، وكان أبي يبلغ ثمانية وثلاثين عامًا. زوجان طويلان، حسنا المظهر، يجيدان الرقص وألعاب الورق، اجتماعيان. لكنهما شخصان جادان، هكذا سأحاول أن أصفهما. كانا يتمتعان بجدية نادرًا ما تجدها هذه الأيام. لم يكن أبي متدينًا مثلما كانت أمي. كان أنجليكانيًّا، أحد أتباع أخوية أورانج البروتستانتية، محافظًا، فهو تربى لكي يكون هكذا. كان الابن الذي بقي في المزرعة مع والديه ورعاهما حتى ماتا. التقى أمي، انتظرها، وتزوجا؛ كان يظن نفسه محظوظًا آنذاك أن كانت لديه عائلة يرعاها (لدي شقيقان، وشقيقة ماتت وهي طفلة). يراودني شعور أن أبي لم يضاجع أي امرأة قط قبل أمي، ولم يضاجعها هي حتى تزوجا. وكان عليه أن ينتظر؛ لأن أمي لم تكن لتتزوج قبل أن ترد إلى أبيها كل قرش أنفقه عليها منذ موت أمها. كانت قد دوَّنت كل شيء — طاولة الطعام، الكتب، الملابس — حتى تستطيع دفع ما يقابلها له. عندما تزوجت، لم يكن لديها أي أموال مدخرة، مثلما كانت المدرسات يفعلن عادةً، أو صندوق لجهاز العروس، أو ملاءات، أو أطباق. كان أبي يقول عادةً، بوجه عابس مازحًا، إنه كان يأمل في أن يتزوج امرأة لديها مال مدخر في البنك. قال: «لكنك إذا أردت أن تأخذ هذا المال، فعليك أن تتقبل خلقة صاحبة هذا المال … وفي بعض الأحيان لا تكون تلك صفقة رابحة.»

•••

كانت توجد غرف كبيرة وذات سقف عالٍ في المنزل الذي كنا نعيش فيه، وكانت نوافذها مغطاة بستائر داكنة الخضرة. عندما كان يجري فتح الستائر حتى تدخل الشمس، كنت أحب أن أحرك رأسي كي أمسك بالضوء الذي كان يدخل عبر الثقوب والفجوات. كان الشيء الآخر الذي كنت أحب النظر إليه هو البقع الموجودة على المدخنة، سواء القديمة أو الجديدة منها، التي كنت أشكلها في ذهني في صورة حيوانات، ووجوه أشخاص، بل حتى مدن قصية. تحدثت إلى ولديَّ عن ذلك، وكان أبوهما، دان كيسي، يقول: «انظرا كيف كان والدا أمكما فقيرين جدًّا، حتى إنهما لم يكن باستطاعتهما شراء تليفزيون؛ لذا كانت لديهم هذه البقع على السقف، وكانت أمكما مضطرة إلى مشاهدتها!» كان يحب دومًا أن يسخر مني حول فكرة أنه لا يوجد أي ميزة في كون المرء فقيرًا.

•••

عندما تقدم أبي في السن، أدركت أنه كان لا يكترث بقيام الناس بأشياء جديدة — طلاقي، على سبيل المثال — مثلما كان يكترث بالأسباب الجديدة التي دعتهم للقيام بها.

أحمد الرب أنه لم يسمع قط بأمر الكوميون.

كان يقول عادةً: «الرب لم يُردْ هذا قط.» وأثناء جلوسه مع كبار السن الآخرين في النُّزل، في الرواق الطويل، الخافِتِ الإضاءة خلف أجمات السبيريا، كان يتحدث عن كيف أن الرب لم يرد قط أن يتجول الناس في أنحاء البلاد راكبين الدراجات البخارية والمركبات الجليدية. وكيف أن الرب لم يرد قط أن يكون في زي الممرضات بنطال. لم تكن الممرضات يكترثن على الإطلاق بما يقوله أبي. وكن يطلقن عليه «الوسيم»، وكن يخبرنني أنه محبوب جدًّا بينهن، وأنه بحق رجل محترم ومتدين. كن يتعجبن من شعره الأسود الكثيف، الذي ظل كذلك حتى مماته. وكن يغسلن ويمشِّطن شعره على نحو رائع، ويموجنه بأصابعهن.

في بعض الأحيان، وبالرغم من جميع أشكال العناية هذه، لم يكن يشعر بالسعادة. كان يرغب في العودة إلى منزله. كان قلقًا بشأن الأبقار، والسياجات، وبشأن من سينهض لإشعال نار التدفئة. توجد ومضات قليلة من الخسة، قليلة جدًّا. في إحدى المرات، ألقى بنظرة مختلسة، غير ودودة عليَّ عندما دخلت، وقال: «أتعجب أن الجلد في ركبتيك لم يتقرَّح حتى الآن.»

ضحكت. قلت: «من ماذا؟ حك الأرضيات؟»

رد بنبرة ازدراء قائلًا: «الصلاة!»

لم يكن يعلم إلى من يتحدث.

•••

لا أتذكر أن لون شعر أمي كان غير اللون الأبيض. حال لون شعر أمي إلى الأبيض عندما كانت في العشرينيات من عمرها، ولم يتبقَّ أيٌّ من شعر صباها، الذي كان بني اللون. كنت معتادة على أن أسألها أي درجة من البني كان لون شعرها.

«داكنًا.»

«مثل برنت، أم مثل دوللي؟» كان هذان جوادين كنا نمتلكهما ونستخدمهما في أعمال المزرعة، وكانا يعملان معًا كفريق واحد.

«لا أعلم. لم يكن مثل لون شعر الجياد.»

«هل كان في لون الشوكولاتة؟»

«شيئًا يشبه ذلك.»

«ألم تحزني عندما حال لونه إلى الأبيض؟»

«نعم. كنت مسرورة.»

«لمَ؟»

«كنت مسرورة أنني لن يصبح لديَّ شعر لونه مثل لون شعر والدي.»

كانت أمي تقول لي: الكراهية خطيئة في كل الأحوال، تذكَّري ذلك؛ فقطرة واحدة من الكراهية في روحك ستنتشر وتسبغ بلونها كل شيء مثل قطرة حبر أسود في لبن أبيض. أدهشني ذلك وكنت أنوي أن أجرِّب الأمر، لكنني كنت أعلم أنني يجب ألا أهدر اللبن.

•••

أتذكر جميع هذه الأشياء. جميع الأشياء التي أعرفها، أو أُخبرت بها، عن أشخاص لم أرَهم حتى قط. كان اسمي يوفيميا، على غرار اسم جدتي لأمي. اسم رهيب، وهذا ما جعله نادرًا هذه الأيام. في المنزل كانوا ينادونني بفيمي، لكنني عندما بدأت أعمل، أطلقت على نفسي اسم فايم (شهرة). كان زوجي، دان كيسي، يناديني بفايم. ثم في حانة فندق شامروك، بعد سنوات لاحقة، بعد طلاقي، وبينما كنت خارجةً من عملي هناك في إحدى المرات، قال رجل مخاطبًا إياي: «فايم، كنت أود أن أسألك، بم أنت مشهورة؟»

أجبته قائلةً: «لا أعرف … لا أعرف، إلا إذا كنت مشهورة بإهدار وقتي في الحديث إلى حمقى أمثالك.»

بعد ذلك فكَّرت في تغيير اسمي كليةً، إلى جوان مثلًا، لكن إذا لم أكن سأنتقل من هنا، فكيف أستطيع عمل ذلك؟

•••

في صيف عام ١٩٤٧، عندما كنت في الثانية عشرة، ساعدت أمي في تغطية جدران غرفة النوم الموجودة في الطابق السفلي بورق الحائط؛ غرفة الضيوف. كانت خالتي، بيرل، آتية لزيارتنا. لم تَرَ الأختان كلٌّ منهما الأخرى منذ سنوات. وبعد موت أمهما بوقت قليل جدًّا، تزوَّج أبوهما مرة أخرى. وذهب ليعيش في مينيابوليس، ثم في سياتل، مع زوجته الجديدة وابنته الصغرى، بيرل. لم ترغب أمي في الانتقال معهم. مكثت في بلدة رامزي، حيث كانوا يعيشون من قبل. أقامت مع زوجين لم ينجبا، كانا جارين لهم. لم تلتقِ وبيرل إلا مرة واحدة أو مرتين منذ كبرتا. كانت بيرل تعيش في كاليفورنيا.

كان تصميم ورق الحائط عبارة عن أزهار قنطريون عنبري على خلفية بيضاء. كانت أمي قد اشترته بسعر مخفَّض؛ لأنه كان آخر المطروح للبيع من هذه النوعية. كان هذا يعني أننا واجهنا مشكلة إيجاد تصميمات مماثلة، وخلف الباب اضطررنا إلى لصق بعض القصاصات والأشرطة لتغطية الحائط. كان ذلك قبل ظهور ورق الحائط ذاتي اللصق. نصبنا الطاولة ذات الحوامل في الغرفة الأمامية، وخلطنا عليها عجينة اللصق، ووزعناها على ظهر ورق الحائط بفرش عريضة، آخذين في الاعتبار عدم تكتل العجينة في أي مكان. كنا نلصق ورق الحائط بينما كانت النوافذ مفتوحة، والحواجز السلكية موضوعة وراءها، والباب الأمامي مفتوحًا، والباب الخارجي الشفاف مغلقًا. كانت البلدة التي كنا نراها من خلال شبكة الحواجز والزجاج المموج للنوافذ القديمة تبدو غاية في الحرارة والإزهار، الصقلاب والجزر البري في المراعي، والخردل يهتز وسط النفل، وتبدو بعض الحقول كريمية اللون بسبب الحنطة التي كان الناس يزرعونها آنذاك. كانت أمي تغني. كانت تغني أغنية قالت إن أمها كانت معتادة على غنائها عندما كانت هي وبيرل بنتين صغيرتين:

كان لدي حبيب، ولم يعد لي حبيب الآن.
رحل وتركني أنتحب وأنوح.
رحل وتركني، لكنني سأكون سعيدة؛
لأنني سيكون لي حبيب آخر، أفضل منه!

كنت أشعر بالإثارة؛ لأن بيرل آتية، كزائرة، كل هذه المسافة من كاليفورنيا، وأيضًا لأنني كنت قد ذهبت إلى البلدة في أواخر شهر يونيو لأداء اختبارات القبول، وكنت أترقب سماع أنباء عن أنني نجحت بتفوق. كان على كل من نجح في الصف الثامن في مدارس البلدة أن يذهب إلى المدينة لأداء هذه الاختبارات. أحببت ذلك؛ صوت خشخشة ورق الفولسكاب، الصمت المهيب، المبنى الحجري الكبير للمدرسة الثانوية، كل حروف الأسماء الأولى القديمة المحفورة على المقاعد، التي أضفى الطلاء عليها لونًا داكنًا. الموجة الأولى من الصيف خارج البلدة، الضوء الأخضر والأصفر، أشجار الكستناء المميزة للبلدة، وشجيرات سلطان الجبل؛ كل ذلك كان في البلدة نفسها التي أعيش فيها الآن لما يربو عن نصف حياتي. كنت أتعجب من ذلك، وأتعجب من نفسي وأنا أرسم الخرائط في سهولة بالغة وأحل المسائل الحسابية، وأعرف كمًّا هائلًا من الإجابات. كنت أظن أنني غاية في البراعة، لكنني لم أكن بارعة بما يكفي لفهم أبسط شيء؛ لم أفهم حتى أن الاختبارات لم تكن لتصنع أي فارق في حالتي؛ فلم أكن لأذهب إلى المدرسة الثانوية. كيف لي أن أذهب؟ كان ذلك قبل أن توجد الحافلات المدرسية؛ كان على المرء أن يقيم في البلدة. لم يكن أبواي يمتلكان المال لذلك. كانا يحصلان على قدر زهيد جدًّا من المال، مثلما كان الحال مع الكثير من المزارعين آنذاك. كانت الأموال التي يحصلان عليها من العمل في مصنع الجبن هي الأموال الوحيدة التي ترد إليهما بانتظام. ولم يفكرا في أن تمضي حياتي في ذلك الاتجاه، اتجاه الالتحاق بالمدرسة الثانوية. كانا يعتقدان أنني يجب أن أمكث في المنزل وأساعد أمي، وقد أعمل بمقابل لمساعدة النساء المريضات أو اللائي ولدن في الحي. وذلك حتى يحين وقت زواجي. كان ذلك هو ما كانا ينتظران أن يخبراني إياه عندما أحصل على نتائج الاختبارات.

ربما يظن المرء أن أمي ربما كانت تفكر على نحو مختلف؛ حيث إنها كانت هي نفسها مدرسة. لكنها قالت إن الرب لا يعبأ بأي وظيفة يشغلها أيٌّ منا أو بأي مستوًى من التعليم يتلقاه. فالرب لا يكترث البتة حيال ذلك، ولا يهم سوى ما يكترث به هو.

كانت هذه هي المرة الأولى التي فهمت كيف يمكن أن يكون الرب خصمًا حقيقيًّا، وليس محض مصدر للإزعاج أو صورة ذهنية فقط.

•••

كان اسم أمي وهي طفلةٌ ماريتا. ظل هذا اسمها، بالطبع، لكن حتى جاءت بيرل لزيارتنا لم أسمع أحدًا يناديها بهذا الاسم قط. كان أبي دومًا يناديها ﺑ «أمي». كانت لدي فكرة طفولية — كنت أعلم أنها طفولية — أن «أمي» كان يناسبها أكثر مما كان يناسب الأمهات الأخريات. أمي، لا ماما. عندما أكون بعيدةً عن أمي، لم أكن أستطيع أن أتخيل شكل وجهها، وكان هذا يخيفني. عند وجودي في المدرسة، التي كان يفصلها تل عن المنزل، كنت أحاول أن أستجمع في ذهني صورة وجه أمي. في بعض الأحيان كنت أظن أنني إذا لم أستطع أن أفعل ذلك، فربما كان يعني هذا أن أمي ماتت. لكنني كنت أشعر بها طوال الوقت، وكان يذكرني بها أبعد الأشياء احتمالًا؛ بيانو مفتوح، أو قطعة طويلة بيضاء من الخبز. كان هذا سخيفًا، لكنه كان حقيقيًّا.

كانت ماريتا، في ذهني، منفصلة عن أمي الناضجة. كانت ماريتا لا تزال تجري في حرية هنا وهناك في بلدتها رامزي، على ضفاف نهر أوتاوا. في تلك البلدة، كانت الشوارع مليئة بالجياد وبرك المياه الصغيرة الموحلة، وكان يخيِّم عليها جو من الكآبة بسبب الرجال الذين كانوا يأتون إليها من الغابة في عطلات نهاية الأسبوع؛ الحطَّابون. كان يوجد أحد عشر فندقًا في شارع المدينة الرئيسي، حيث كان يمكث الحطابون ويسكرون.

كان المنزل الذي كانت ماريتا تسكنه يقع في منتصف شارع شديد الانحدار يرتفع تدريجيًّا من جهة النهر. كان منزلًا مزدوجًا، له نافذتان مشرفتان في الواجهة، وكانت توجد تعريشة خشبية تفصل بين الشرفتين الأماميتين. كان الزوجان ساتكليف يعيشان في النصف الثاني من المنزل، وهما الزوجان اللذان كانت ماريتا تعيش معهما بعد موت أمها وبعد مغادرة أبيها البلدة. كان السيد ساتكليف رجلًا إنجليزيًّا، عامل تلغراف. وكانت زوجته ألمانية. كانت تصنع القهوة دومًا بدلًا من الشاي. كانت تصنع حلوى السترودل. كانت عجينة السترودل تتدلى من حواف المنضدة مثل مفرش رقيق. كانت تبدو بالنسبة لماريتا في بعض الأحيان مثل الجلد.

كانت السيدة ساتكليف هي من أقنع أم ماريتا بعدم شنق نفسها.

كانت ماريتا في إجازة من المدرسة ذلك اليوم؛ لأنه كان يوم السبت. استيقظت متأخرة وكان الصمت يخيم على المنزل. كانت تشعر بالخوف دومًا من ذلك — المنزل الصامت — وكانت بمجرد أن تفتح الباب بعد الرجوع من المدرسة تنادي قائلةً: «ماما! ماما!» لكن لم تكن أمها تجيب عادةً، غير أنها كانت موجودة. كانت ماريتا تسمع في ارتياح صوت صلصلة شبكة الموقد أو الصوت الرتيب لضربات المكواة.

في ذلك الصباح، لم تسمع أي شيء. نزلت إلى الطابق السفلي، وأخذت شريحة من الخبز، وأضافت عليها الزبد والعسل الأسود، وطوتها وأكلتها. فتحت باب القبو ونادت على أمها. ذهبت إلى الغرفة الأمامية وأطلت عبر النافذة، خلال نباتات السرخس. رأت أختها الصغيرة، بيرل، وبعض أطفال الجيران الآخرين يتدحرجون على المساحة المغطاة بالحشائش المفضية إلى الممشى الجانبي، ثم ينهضون ويتدافعون إلى أعلى نقطة ثم يتدحرجون مجددًا.

نادت ماريتا: «ماما!» سارت عبر المنزل إلى الفناء الخلفي. كان الوقت في نهاية الربيع، وكانت السماء ملبدة بالغيوم، والجو معتدلًا. في بساتين الخضراوات اليانعة، كانت الأرض رطبة، وبدت الأوراق على الأشجار مكتملة فجأة، وأخذت تسقط قطرات من المياه التي تخلَّفت من أمطار الليلة السابقة.

«ماما!» هكذا نادت ماريتا تحت الأشجار، تحت حبل الغسيل.

يوجد في نهاية الفناء مخزن صغير، حيث يحتفظون بخشب التدفئة، وبعض الأدوات والأثاث القديم. يمكن رؤية مقعد، ومقعد خشبي مستقيم الظهر، عبر الباب المفتوح. على المقعد، رأت ماريتا قدمي أمها، وحذاءها ذا الأربطة السوداء، ثم زي الأعمال المنزلية الصيفي القطني المطبوع الطويل، والمريلة، والأكمام المطوية، ثم ذراعي أمها البيضاوين اللامعتين، ورقبتها، ووجهها.

وقفت أمها على المقعد ولم تجب. لم تنظر إلى ماريتا، وإنما ابتسمت وقرعت بقدمها المقعد، كما لو كانت تقول: «ها أنا ذا. ماذا ستفعلين حيال ذلك؟» كانت على غير ما يرام، بخلاف وقوفها على مقعد وابتسامها على هذا النحو الغريب المتحفظ. كانت تقف على مقعد قديم تختفي منه روافده الخلفية، مقعد كانت قد جذبته إلى منتصف أرضية المخزن، حيث كان يتأرجح على الأرض غير المستوية. وكان ثمة ظل على رقبتها.

كان الظل عبارة عن حبل، أنشوطة في نهاية حبل تتدلى من أحد العوارض في الأعلى.

تقول ماريتا في صوت أكثر خفوتًا: «ماما! ماما، انزلي، من فضلك.» كان صوتها واهنًا؛ لأنها تخشى أن يفضي أي نداء أو صراخ إلى تحرُّك أمها فجأة، فتنزلق عن المقعد وتقع بكامل وزنها على الحبل. لكن حتى لو أرادت ماريتا أن تصرخ، لما استطاعت. لم يتبقَّ لها سوى هذا الخيط الواهن المثير للشفقة من الصوت، مثلما في أحد الأحلام عندما يقترب منك بشدة حيوان ضخم أو آلة مخيفة.

«هيا اذهبي وأحضري والدك.»

كان ذلك هو ما أخبرتها به أمها أن تفعله، وأطاعتها ماريتا. كانت تعدو، والرعب بادٍ في رجليها. كانت تعدو، في رداء نومها، في منتصف صبيحة يوم سبت. جرت مارة ببيرل والأطفال الآخرين، الذين كانوا لا يزالون يتدحرجون على الأرض المنحدرة. جرت على الممشى الجانبي، الذي كان في ذلك الوقت ممشى خشبيًّا، ثم على الشارع غير المرصوف، الذي كان ممتلئًا ببرك مياه صغيرة موحلة جراء أمطار الليلة السابقة. كان الطريق يتقاطع مع قضبان سكك حديدية. عند سفح التل، كان الشارع يتقاطع مع الشارع الرئيسي للبلدة. كان يوجد بين الشارع الرئيسي والنهر بعض المخازن ومبانٍ خاصة بشركات تصنيع صغيرة. كان ذلك حيث توجد ورش صناعة العربات التي يعمل بها أبوها. كانت عربات النقل والعربات الصغيرة والزلاجات تُصنع هناك. في حقيقة الأمر، كان والد ماريتا قد ابتكر نوعًا جديدًا من الزلاجات لحمل الأخشاب من الغابة، وحصل على براءة اختراعه. كان لا يزال في بداية حياته العملية في رامزي. (لاحقًا، في الولايات المتحدة، صنع ثروة كبيرة. كان رجلًا مغرمًا بالذهاب إلى حانات الفنادق، ومحلات تصفيف الشعر، وبسباقات عربات الخيول، وبالنساء، لكنه كان يقدس العمل، وهو ما جعله يستحق الثناء.)

لم تجده ماريتا في العمل ذلك اليوم. كان المكتب خاليًا. عدت مسرعةً إلى الفناء حيث كان الرجال يعملون. تعثرت في نشارة الخشب. فضحك الرجال وهزوا رءوسهم قبالتها. لا. ليس هنا. ليس هنا الآن. لا. لماذا لا تحاولين الذهاب إلى نهاية الشارع؟ انتظري. انتظري دقيقة. ألم يكن يجدر بك أن ترتدي بعض الملابس أولًا؟

لم يقصدوا مضايقتها. لم يشعر أيٌّ منهم بأنه لا بد أن هناك مشكلة ما. لكن ماريتا لم تتحمل رؤية الرجال وهم يضحكون. كانت توجد أماكن تكره دومًا المرور عليها، ناهيك عن الدخول إليها، وكان ذلك هو السبب. مجموعة من الرجال يضحكون. لهذا السبب، كانت تكره محلات تصفيف الشعر الخاصة بالرجال، كانت تكره رائحتها. (عندما بدأت في الذهاب إلى حفلات رقص لاحقًا مع أبي، كانت تطلب منه ألا يضع أي شيء على رأسه؛ لأن الرائحة كانت تذكرها بهذا.) كانت مجموعة من الرجال تقف في الشارع، خارج فندق، تبدو لها مثل كتلة من السم. يحاول المرء ألا يسمع ما يقولون، لكنه يكون متأكدًا من أنهم يقولون أشياء خسيسة. إذا لم يقولوا أي شيء، فإنهم يضحكون والخسة تفوح منهم — السم — بنفس الطريقة. لم تستطع ماريتا أن تمر عليهم إلا بعد تخلصها من خطاياها. مسلحة بحماية الرب، كانت تسير وسطهم ولم يكن شيء يؤذيها، أو يزعجها؛ كانت آمنة مثل النبي دانيال.

استدارت وعَدَت، في نفس المسار الذي جاءت منه؛ أعلى التل، وصولًا إلى المنزل. كانت تعتقد أنها ارتكبت خطأً لأنها تركت أمها. لماذا طلبت منها أمها أن تذهب؟ لماذا كانت تريد أباها؟ من الجائز جدًّا حتى تستقبله بمشهد جسدها الدافئ المتأرجح في طرف الحبل. كان ينبغي على ماريتا البقاء. كان ينبغي عليها البقاء وإقناع أمها بالعدول عن ذلك. كان ينبغي عليها أن تعدو إلى السيدة ساتكليف، أو إلى أي جار، وألا تهدر الوقت على هذا النحو. لم تكن قد فكَّرت فيمن يستطيع أن يقدِّم المساعدة، من يستطيع حتى تصديق ما كانت تتحدث عنه. كانت تعتقد أن جميع العائلات باستثناء عائلتها كانت تعيش في سلام، وأن هذه المخاطر والمصائب لم تكن موجودة في منازل الآخرين، ولم يكن من الممكن شرحها لهم.

كان يوجد قطار قادم إلى البلدة. اضطرت ماريتا إلى الانتظار. كان الركاب ينظرون إليها من نوافذ القطار. انفجرت صارخةً في وجه هؤلاء الغرباء. عندما مر القطار، واصلت طريقها أعلى التل، يا له من مشهد! بنت بشعرها غير الممشَّط، وقدميها العاريتين، المتسختين، مرتديةً لباس النوم، ووجهها مهوَّش ومبتل. عند بلوغها فناء منزلها، على مرمى البصر من المخزن، كانت تصرخ قائلةً: «ماما! ماما!»

لم يكن هناك أحد. كان المقعد موجودًا مثلما كان من قبل تمامًا. كان الحبل متدليًّا خلف المقعد. كانت ماريتا متأكدة أن أمها مضت في تنفيذ ما كانت عازمة عليه. ماتت أمها بالفعل، تم إنزالها وحُملت للداخل.

لكنَّ يدين بدينتين دافئتين استقرتا على كتفيها، وقالت لها السيدة ساتكليف: «ماريتا. كفي عن هذا الضجيج. ماريتا. طفلتي. توقفي عن البكاء. هيا ادخلي. إنها بخير يا ماريتا. ادخلي وسترين بنفسك.»

نطقت السيدة ساتكليف اسم ماريتا «ماريتشا»، مضفية على الاسم ثراء وأهمية أكبر. تصرفت بشكل متعاطف قدر ما استطاعت. وعندما عاشت ماريتا مع آل ساتكليف لاحقًا، كانوا يعاملونها باعتبارها ابنة في المنزل، وكان المنزل هادئًا ومريحًا مثلما كانت تتخيل المنازل الأخرى. لكنها لم تشعر أنها ابنة هناك قط.

في مطبخ السيدة ساتكليف، جلست بيرل على الأرض تأكل كعكة محلاة بالزبيب وتلعب مع القط ذي اللونين الأسود والأبيض، الذي كان يسمى ديكي. جلست أم ماريتا إلى المائدة، أمامها قدح من القهوة.

قالت السيدة ساتكليف: «كانت سخيفة.» هل كانت تعني أم ماريتا أم ماريتا نفسها؟ لم تكن تعرف الكثير من الكلمات الإنجليزية لتصف الأمور.

ضحكت أم ماريتا، وسقطت ماريتا مغشيًّا عليها؛ فقدت الوعي، بعد العدو كل تلك المسافة أعلى التل، في الصباح الدافئ الرطب. كان الشيء التالي الذي أدركته بعد أن استردت وعيها أن السيدة ساتكليف كانت تسقيها بالملعقة قهوة سوداء مُحلاة. حملت بيرل ديكي إلى أعلى عن طريق رجليه الأماميتين وقدمته إليها كهدية لإسعادها. كانت أم ماريتا لا تزال تجلس إلى المائدة.

•••

كان قلبها محطمًا. كان هذا هو ما سمعت أمي تقوله دومًا. كان هذا هو نهاية الأمر. أسدلت تلك الكلمات الستار على القصة ولم تفتح ثانيةً. لم أسأل قط، من حطمه؟ لم أسأل قط، ماذا كان حديث الرجال المسموم؟ ماذا كانت كلمة «خسيس» تعني؟

ضحكت أم ماريتا بعد أن شارفت على شنق نفسها. جلست إلى مائدة مطبخ السيدة ساتكليف وضحكت. كان قلبها محطمًا.

كان يراودني دومًا شعور، من خلال حديث أمي وقصصها، بوجود شيء كبير وراءها. مثل سحابة لا يستطيع المرء الرؤية عبرها، أو يبلغ نهايتها. كانت ثمة سحابة، سم، قد لامست حياة أمي. وعندما كنت أغضبها، أصير جزءًا من هذا الشيء. ثم كنت ألقي برأسي على بطن أمي وصدرها، وجسدها الممشوق، سائلةً إياها الغفران. كانت أمي تخبرني أن أسأل الرب الغفران. لكن لم يكن الرب، بل أمي التي كان يجب أن أصلح أموري معها. بدا الأمر كما لو كانت تعرف شيئًا عني أكثر سوءًا، أكثر سوءًا بكثير، من الأكاذيب، والخدع، والأخطاء العادية؛ كان هذا الشيء هو عارًا مثيرًا للغثيان. كنت ألقي برأسي على جسد أمي لأجعلها تنسى ذلك.

لم يكن أخواي ينزعجان لكل هذا. لا أعتقد هذا. بدوَا لي مثل شخصين همجيين مرحين، يلهوان في حرية، دون أن يكون عليهما معرفة الكثير. وعندما رزقت بولدين أنا الأخرى، دون البنات، شعرتُ كما لو أن شيئًا ما يمكن أن يتوقف الآن، القصص، الأحزان، الألغاز القديمة التي لا يستطيع المرء مقاومة عدم التفكير فيها أو حلها.

•••

طلبت الخالة بيرل ألا يناديها أحد بخالتي. «لست معتادة على أن أكون خالة أحد يا حبيبتي. لست حتى أمًّا لأحد. أنا كما أنا. ناديني بيرل.»

كانت بيرل قد بدأت حياتها كاتبة اختزال، ثم صار لها عملها الخاص في مجال الكتابة على الآلة الكاتبة ومسك الحسابات، وكانت توظِّف لديها الكثير من الفتيات. كانت قد جاءت بصحبة صديق، اسمه السيد فلورنس. كان خطابها قد أشار إلى أنها ستأتي بصحبة أحد الأصدقاء، لكنها لم تذكر هل كان الصديق سيمكث أم لا. لم تذكر حتى هل كان الصديق رجلًا أو امرأة.

كان السيد فلورنس سيمكث بمنزلنا. كان رجلًا طويلًا، نحيفًا، وجهه طويل مائل إلى السمرة، عيناه لونهما فاتح جدًّا، وثمة ارتعاشة عصبية في جانب فمه ربما تكون ابتسامة.

كان هو من نام في الغرفة التي وضعنا أنا وأمي ورق حائط فيها؛ لأنه كان الغريب، وكان رجلًا فاضطرت بيرل إلى النوم معي. في البداية، كنا نظن السيد فلورنس فظًّا جدًّا؛ لأنه لم يكن معتادًا على طريقة حديثنا ولم نكن نحن معتادين على طريقة حديثه. في صباح اليوم الأول، قال أبي للسيد فلورنس: «حسنًا، آمل أن تكون قد نعمت ببعض النوم على ذلك الفراش القديم هناك؟» (كان فراش غرفة الضيوف رائعًا، بغطاء من الريش.) كانت هذا الإشارة التي دفعت السيد فلورنس إلى القول بأنه لم ينم قط أفضل من ذلك من قبل.

ارتعش وجه السيد فلورنس كعادته، وقال: «نمتُ على ما هو أسوأ من ذلك.»

كان المكان المفضل لديه هو سيارته. كانت سيارته ماركة كرايسلر لونها أزرق أرجواني، واحدة من ضمن أولى السيارات التي أنتجت بعد الحرب. داخلها، كان غطاء التنجيد والأرضية وبطانة السقف والأبواب جميعها باللون الرمادي اللؤلئي. احتفظ السيد فلورنس بأسماء تلك الألوان في ذهنه، وكان يصحح من يقول «أزرق» أو «رمادي» فقط.

قالت بيرل ضاجةً: «يبدو اللون لي مثل لون الفأر … أقول له إنه مثل لون الفأر!»

كانت السيارة منتظرة إلى جانب المنزل، تحت أشجار الخرنوب. كان السيد فلورنس يجلس في الداخل والنوافذ مغلقة، يدخن، وسط الرائحة الفخمة للسيارة الجديدة.

قالت أمي: «أخشى أننا ليس لدينا الكثير لنقدمه حتى نرحب بصديقك.»

قالت بيرل: «لا تقلقي بشأنه.» كانت دائمًا ما تتحدث عن السيد فلورنس كما لو كان ثمة مزحة عنه لا يفهم معناها إلا هي. تساءلتُ بعد ذلك بكثير إذا كان يحتفظ بزجاجة خمر في التابلوه ويتناول رشفة من وقت إلى آخر حتى يظل في حالة معنوية مرتفعة. كان يعتمر قبعته طوال الوقت.

تسلَّت بيرل بما يكفي للترفيه عن شخصين. فبدلًا من أن تمكث في المنزل وتتحدث إلى أمي، مثلما تفعل عادةً السيدات الزائرات، كانت تطلب أن ترى كل شيء يمكن رؤيته في المزرعة. كانت تقول إن عليَّ اصطحابها لرؤية الأشياء في المزرعة وتقديم شرح وافٍ لها، وأن أحاول أن أجعلها لا تسقط في أي كومة روث.

لم أكن أعرف ما الذي أريها إياه. اصطحبت بيرل إلى مخزن الثلج، حيث كانت ترقد وسط نشارة الخشب كتل من الثلج في حجم أدراج التسريحة، أو أكبر. كل بضعة أيام، كان أبي يقطع قطعة من الثلج ويحملها إلى المطبخ؛ حيث كانت تذوب في صندوق من الصفيح وكانت تُستخدم في تبريد اللبن والزبد.

قالت بيرل إنها لم تكن تعرف أن الثلج يجئ في صورة قطع بمثل هذا الحجم الكبير. بدت مصممة على أن ترى الأشياء غريبة، أو مريعة، أو مضحكة.

«من أي مكان تحصلون على قطع بهذا الحجم من الثلج؟»

لم أستطع أن أحدد ما إذا كانت هذه مزحة أم لا.

قلتُ: «من البحيرة.»

«من البحيرة! هل لديكم بحيرات هنا يوجد بها ثلج طوال الصيف؟»

أخبرتها كيف يقطع أبي الثلج من البحيرة كل شتاء ويحمله إلى المنزل، ويدفنه وسط نشارة الخشب، وهو ما كان يحفظه من الذوبان.

قالت بيرل: «هذا مدهش!»

قلتُ: «حسنًا، لكن الثلج يذوب قليلًا.» كنت أشعر بخيبة أمل كبيرة في بيرل.

«هذا مدهش حقًّا.»

جاءت بيرل معي عندما ذهبت لجلب الأبقار. خيال مآتة في بنطال فضفاض أبيض (هكذا كان أبي يصفها بعد ذلك)، تعتمر قبعة بيضاء مربوطة تحت ذقنها عن طريق شريط أحمر زاهٍ. كانت أظافر يديها وقدميها — كانت ترتدي صندلًا — مطلية بنفس لون الشريط. كانت ترتدي نظارة شمسية صغيرة داكنة، كان الناس يرتدونها في ذلك الوقت. (ليس الناس الذين أعرفهم؛ فهؤلاء لم يكونوا يمتلكون نظارات شمسية.) كانت تمتلك فمًا أحمر كبيرًا، ضحكتها رنانة، شعرها بلون غير طبيعي ذي لمعة عالية، مثل لون خشب شجر الكرز. كانت صاخبة ومتألقة أكثر مما ينبغي، وكانت ترتدي ملابس فاتنة جدًّا، حتى كان من الصعب تحديد ما إذا كانت جميلة، أم سعيدة، أم أي شيء آخر.

لم نتبادل أي حديث أثناء السير على ممر سير الأبقار؛ نظرًا لأن بيرل كانت تمشي بعيدًا عن الأبقار وكانت منشغلة بالانتباه إلى خطواتها. وبمجرد أن قيِّدتُ جميع الأبقار في مرابطها، اقتربَت أكثر. أشعلَت سيجارة. لم يكن أحد يدخن هنا. كان أبي والمزارعون الآخرون يمضغون التبغ هنا بدلًا من ذلك. لم أعرف كيف أطلب من بيرل أن تمضغ التبغ.

قالت بيرل: «هل تستطيعين حلبها أم يجب على أبيك أن يفعل ذلك؟ … هل هذا أمر صعب؟»

حلبت بعض اللبن من درع البقرة. جاءت إحدى القطط وانتظرت. ضخخت سيلًا رفيعًا من اللبن في فمها. كنتُ والقطة نستعرض قدراتنا.

قالت بيرل: «ألا يؤلم ذلك؟ فكِّري لو أنك كنت مكانها.»

لم أفكر قط في أن يكون درع البقرة مناظرًا لأي جزء من جسدي، وصُدمت لعدم لياقة الإشارة إلى ذلك. في حقيقة الأمر، لم أستطع أن أمسك بدرع دافئ، وملئ بالبثور على هذا النحو من القوة والعفوية مرة أخرى.

•••

كانت بيرل تنام في ثوب نوم من الرايون، مشمشي اللون ومطرز بزخارف بأربطة باللون البيج. كان لديها روب يتماشى مع هذا الثوب. كانت حريصة في الإشارة إلى اللون «البيج» مثلما كان السيد فلورنس حريصًا في الإشارة إلى اللونين الأزرق الأرجواني والرمادي اللؤلئي.

استطعت خلع ملابسي وارتداء ثوب نومي دون أن يتعرى أي جزء من جسدي. مسألة مزعجة. لم أخلع سروالي الداخلي، وأملتُ أن تكون بيرل قد فعلت المثل. كانت فكرة مشاركتي الفراش مع شخص بالغ مسألة صعبة بالنسبة لي. لكني استطعت أن أرى محتويات ما كانت بيرل تطلق عليه أدوات تجميلها. دوارق زجاجية مطلية يدويًّا تحتوي على قطع من القطن الطبي، وبودرة تَلك، وغسول لبني، ومستحضر قابض بلون أزرق ثلجي. أوعية صغيرة من طلاء الشفاه الأحمر والموف، يبدو دهنيًّا نوعًا ما. أقلام زرقاء وسوداء. مبرد أظافر، حجر خفاف، طلاء أظافر له رائحة موز نفَّاذة، بودرة وجه في صندوق من السليولويد على شكل صدفة، باسم أحد أنواع الحلوى، أبريكوت ديلايت.

كنت قد سخنت بعض المياه على موقد الكيروسين الذي كنا نستخدمه في وقت الصيف. أزالت بيرل المكياج من على وجهها حتى صار نظيفًا، وكان ثمة تغيير هائل لدرجة أني توقعت أن أجد بعض آثار المكياج تظهر في الحوض في صورة كتل، مثل ورق الحائط القديم الذي كنا قد غمرناه بالماء وقشَّرناه. صار لون بشرة بيرل شاحبًا الآن، تغطيها بعض الشقوق الدقيقة، تشبه نوعًا ما الطين اللامع في قاع برك المياه الصغيرة التي تجف في أوائل الصيف.

قالت: «انظري ماذا حدث لبشرتي. إنها الحمية الغذائية. كنت أزن مائة وتسعة وستين رطلًا، ثم تخلصت من هذا الوزن سريعًا، فتأثرت بشرتي بشدة. لكني حصلت على هذا الكريم. إنه مصنوع من تركيبة سرية، ولا تستطيعين حتى شراءه من أي مكان. تشمميه. أترين، ليست رائحته عطرية، بل حادة جدًّا.»

كانت توزع في خفة الكريم على وجهها باستخدام قطع القطن الطبي، حتى تختفي أي آثار له على بشرتها.

قلتُ: «تبدو رائحته مثل شحم الخنزير.»

«يا إلهي، آمل ألا أكون قد دفعت كل هذا المال حتى أضع شحم خنزير على وجهي. رجاءً لا تخبري أمك.»

صبَّت ماءً نظيفًا في كوب الشرب وبللت مشطها، ثم مشَّطت شعرها وعقصت كل جديلة بأصبعها، شابكةً الجديلة المعقوصة في رأسها عن طريق دبوسي شعر متشابكين. فعلتُ مثلها، لكن بعد ذلك بعامين.

قالت بيرل: «دائمًا مشِّطي شعرك وهو مبلل، وإلا فلن يجدي تمشيطه على الإطلاق. ولفيه إلى أسفل دومًا حتى لو كنت تريدين أن يصفف إلى أعلى. أترين؟»

عندما كنت أمشط شعري لأعلى — مثلما كنت أفعل لسنوات — كنت أفكِّر في ذلك في بعض الأحيان، وكنت أعتقد أن من بين جميع النصائح التي تلقيتها من الآخرين، كانت هذه النصيحة هي النصيحة الوحيدة التي كنت أتبعها تمامًا.

أطفأنا المصباح وخلدنا إلى الفراش، وقالت بيرل: «لم أكن أعرف أن الظلام سيسود على هذا النحو. لم أرَ ظلامًا على هذا النحو من قبل.» كانت تتحدث همسًا. فهمت في بطء أنها كانت تقارن بين ليالي الريف وليالي المدينة، وكنت أتساءل عما إذا كان الظلام في مقاطعة نترفيلد يمكن أن يكون أفضل مما عليه في كاليفورنيا.

همست بيرل قائلةً: «حبيبتي؟ هل توجد أي حيوانات في الخارج؟»

قلت: «أبقار.»

«حسنًا، لكنني أعني هل توجد أي حيوانات متوحشة؟ هل توجد دببة؟»

قلتُ: «نعم.» كان أبي قد وجد ذات مرة آثار أقدام وروث دببة في الغابة، وكان التفاح قد انتُزع من شجرة تفاح برية. كان ذلك منذ سنوات مضت، عندما كان شابًّا.

تنهدت بيرل ثم ضحكت بصوت عالٍ قائلة: «تصوري لو أن السيد فلورنس ذهب إلى الخارج ليلًا ووجد دبًّا فجأة!»

•••

كان اليوم التالي يوم أحد. أوصل السيد فلورنس وبيرل أخويَّ وإيَّاي إلى مدرسة الأحد في السيارة الكرايسلر. كان ذلك في الساعة العاشرة صباحًا. ثم رجعا في الساعة الحادية عشرة لاصطحاب والديَّ إلى الكنيسة.

قالت بيرل لي: «هيا اركبي.» وللصبيين: «وأنتما أيضًا. سنذهب في نزهة.»

كانت بيرل مرتديةً ثوبًا لامعًا عاجي اللون عليه نقاط حمراء، وكان ثمة ثنيات باللون الأحمر عند منطقة ردفيها، وكانت ترتدي حذاء أحمر اللون، مرتفع الكعب. كان السيد فلورنس يرتدي بدلة صيفية بلون أزرق فاتح.

قلتُ: «ألن تذهبا إلى الكنيسة؟» كان ذلك هو السبب الذي من أجله يرتدي الناس أفضل الثياب، حسبما كنت أعرف.

ضحكت بيرل. «حبيبتي، السيد فلورنس ليس من هذا النوع من الناس.»

كنت معتادة على الذهاب مباشرةً من مدرسة الأحد إلى الكنيسة، وكنت أمكث فيها ساعة ونصف. في الصيف، كانت النوافذ المفتوحة تسمح بدخول رائحة أشجار الأرز الآتية من الجبانة والصوت المزعج لسيارة مندفعة في الطريق في بعض الأحيان. في ذلك اليوم، قضينا هذا الوقت نجوب الأنحاء التي لم أكن قد رأيتها من قبل قط. لم أكن قد رأيتها من قبل، على الرغم من أنها كانت تبعد أقل من عشرين ميلًا عن المنزل. كانت شاحنتنا تذهب إلى مصنع الجبن، وإلى الكنيسة، وإلى البلدة في ليالي السبت. كانت أطول مسافة تقطعها هي حين كانت تذهب إلى المستودع. كنت قد رأيتُ الطرف القريب من بحيرة بيل؛ نظرًا لأن ذلك كان المكان الذي يقطع أبي منه الثلج في الشتاء. لم يكن ممكنًا الاقتراب من البحيرة في الصيف؛ إذ كان شاطئ البحيرة ممتلئًا بنباتات الديس. كنت أظن أن الطرف الآخر من البحيرة سيبدو جميلًا بالمثل، لكننا عندما ذهبنا إلى هناك اليوم، رأيت أكواخًا، وأحواض قوارب، وقوارب، ومياهًا داكنة تعكس صورة الأشجار. كل هذا لم أكن أعرف عنه شيئًا من قبل. كانت هذه، أيضًا، بحيرة بيل. كنت مسرورة أنني رأيتها أخيرًا، لكنني لم أكن مسرورة تمامًا للمفاجأة.

أخيرًا، ظهر مبنًى أبيض، به شرفات وزهور في أصص زرع، وبعض أشجار الحور المتلألئة في الواجهة. فندق وايلدوود. اليوم، غُطي المبنى بالجص وتمت إعادة بنائه على دعامات على طراز تيودور، وأصبح يُطلق عليه هايداواي. وقد قُطعت أشجار الحور لعمل مكان لانتظار السيارات.

عندما ذهبنا لاصطحاب والديَّ، اتجه السيد فلورنس إلى المزرعة المجاورة لنا، التي كان يملكها آل ماكالستر. كان آل ماكالستر كاثوليكيين. كانت العائلتان تتوادان لكن ليس على نحو حميم.

قالت بيرل لأخويَّ: «هيا، أيها الصبيان، انزلا.» ووجهت حديثها إليَّ قائلة: «ليس أنتِ. امكثي حيث أنت.» ساقت الصبيين الصغيرين إلى الشرفة الخارجية، حيث كان بعض أفراد عائلة ماكالستر يرقبون. كانوا يرتدون ثياب المنزل البالية؛ لأن كنيستهم، أو القدَّاس، أو أيًّا ما كان، انتهى مبكرًا. خرجت السيدة ماكالستر ووقفت تستمع، مشدوهة جدًّا، إلى حديث بيرل المضحك.

عادت بيرل إلى السيارة بمفردها. قالت: «ها هم، سيلعبون مع أطفال الجيران.»

يلعبان مع آل ماكالستر؟ فضلًا عن كونهم كاثوليكيين، جميع الأطفال بخلاف الطفل الرضيع كانوا فتيات.

قلتُ: «لا يزالون يرتدون ملابسهم المهندمة.»

«وماذا في هذا؟ ألا يستطيعون قضاء وقت طيب وهم يرتدون ملابس مهندمة؟ إنني أفعل ذلك!»

أصابت الدهشة والديَّ أيضًا. خرجت بيرل من السيارة وطلبت من أبي أن يركب في المقعد الأمامي؛ نظرًا لوجود مساحة كافية يستطيع وضع قدميه فيها. انتقلتْ إلى الخلف، مع أمي ومعي. توجه السيد فلورنس مرة أخرى إلى طريق بحيرة بيل، وأعلنت بيرل أننا جميعًا ذاهبون إلى فندق وايلدوود لتناول الغداء.

قالت: «ترتدون جميعًا أجمل الثياب، لم لا ننتهز هذه الفرصة؟» ثم قالت مؤكدةً على أن ذلك بمنزلة مصدر متعة لهما دائمًا، هي والسيد فلورنس: «أوصلنا الصبيين إلى منزل جيرانكم. أعتقد أنهما أصغر من أن يستمتعا بوقتهما معنا. كان الجيران سعداء بوجودهما معهم.»

قال أبي: «حسنًا، لكن،» ربما لم يكن يملك خمسة دولارات في جيبه. «حسنًا، لكن، هل يسمحون بدخول المزارعين هناك أم لا؟»

أطلق عدة نكات في هذا الاتجاه. في غرفة الطعام في الفندق، التي كان كل شيء فيها باللون الأبيض — مفارش مائدة بيضاء، مقاعد مطلية باللون الأبيض — وتحتوي على أباريق مياه زجاجية، ومراوح عالية تُحدث طنينًا، تناول أبي فوطة مائدة بحجم حفَّاضة وتحدث إليَّ في صوت هامس مرتفع: «هل يمكن أن تخبريني ماذا يفعل المرء بهذا الشيء؟ هل أستطيع أن أضعها على رأسي حتى أتجنب تيار الهواء؟»

بالطبع، كان قد تناول الطعام في قاعات طعام فنادق من قبل. كان يعلم كيفية استخدام فوط المائدة وشوك الحلوى. وكانت أمي تعلم؛ فلم تكن أصلًا امرأة ريفية. لكن هذه كانت مناسبة كبيرة. لم تكن متعة ترفيهية تمامًا — مثلما كانت بيرل تقصد — لكنها كانت مناسبة كبيرة، مزعجة. فالطعام يقدم في مكان عام، على مسافة أميال قليلة من المنزل، وفي قاعة كبيرة ممتلئة بالناس الذين لا يعرفهم المرء، ويقدِّم الطعام شخص غريب، فتاة تبدو فظة؛ ربما لأنها طالبة جامعية تعمل في وظيفة صيفية.

قال أبي: «أرغب في تناول لحم الديك. كم من الوقت يظل الديك في القدر؟» كان من قبيل الأسلوب المهذب، مثلما كان يعرف ذلك، أن يمزح مع الأشخاص الذين كانوا يقدمون له الطعام.

قالت الفتاة: «أستميحك عذرًا!»

قالت بيرل: «دجاج مشوي. هل يناسب هذا الجميع؟»

كان السيد فلورنس يبدو واجمًا. ربما لم يكن يأبه بالنكات عندما كان ماله هو الذي يُنفق. ربما كان ينتظر أن تملأ الأكواب بشيء أفضل من مياه مثلجة.

وضعت النادلة طبقًا من الكرفس والزيتون، وقالت أمي: «دقيقة واحدة حتى أؤدي صلاة ما قبل الأكل.» أحنت رأسها وقالت في هدوء لكن بصوت مسموع: «بارك يا رب هذا الطعام الموضوع على هذه المائدة، وامنح خلاصًا ونعمة وبركة وطهرًا لكل المتناولين منه، نعمله لمجد اسمك القدوس، آمين.» منتشيةً، استقامت في جلستها ومررت الطبق إليَّ، قائلةً: «احذري من الزيتون؛ يوجد به نوًى.»

كانت بيرل توزع ابتساماتها في القاعة.

عادت النادلة معها سلة من اللفائف.

«باركر هاوس!» مالت بيرل إلى الأمام وشمت رائحة اللفائف. «كلوها وهي لا تزال ساخنة بما يكفي حتي يذوب الزبد!»

ارتعش وجه السيد فلورنس، ونظر إلى طبق الزبد وقال: «هل هذا الذي أراه زبدًا؟ كنت أظن أن ذلك تموجات شعر شيرلي تيمبل.»

كان وجهه بالكاد أقل تجهمًا مما كان من قبل، لكنها كانت مزحة، وبدا إطلاقه إياها كما لو كان يوصل لنا تجسيدًا للشيء الذي جرت الصلاة من أجله، وهي البركة.

قالت بيرل، التي كانت عادةً تشير إلى السيد فلورنس بضمير الغائب حتى لو كان موجودًا: «عندما يقول شيئًا مضحكًا، تلاحظون كيف يحافظ على خلو وجهه من أي تعبير. يذكرني ذلك بأمي؛ أعني أمنا؛ أمي أنا وماريتا. أما أبي، فعندما كان يطلق مزحة كان المرء يستطيع ملاحظتها حتى قبل اكتمالها تمامًا — لم يكن يستطيع أن يخفي الضحك عن ملامح وجهه — لكن أمي كانت مختلفة تمامًا. كان من الممكن أن تبدو متجهمة جدًّا. لكنها كانت تستطيع المزاح حتى على فراش موتها. في حقيقة الأمر، فعلت ذلك بالضبط. ماريتا، هل تتذكرين عندما كانت ترقد في الفراش في الغرفة الأمامية في الربيع قبل أن تموت؟»

قالت أمي: «أتذكر أنها كانت ترقد في الفراش في تلك الغرفة. نعم.»

«حسنًا، دخل أبي وكانت ترقد هناك في ثوب نومها النظيف، غير مُغطاة؛ لأن المرأة الألمانية جارتها ساعدتها توًّا في الاغتسال، وكانت لا تزال ترتب الفراش. لذا، أراد أبي أن يُضفي جوًّا من السرور، وقال: «لا بد أن الربيع آت؛ رأيت غرابًا اليوم.» كان ذلك لا شك في مارس. ردَّت أمي بسرعة شديدة: «حسنًا، من الأفضل أن تغطيني إذن، قبل أن ينظر عبر النافذة ويفكر في فعل شيء ما!» — قال أبي إن السيدة الألمانية أسقطت وعاء الاستحمام. كان هذا صحيحًا. أصبحت أمي هزيلة جدًّا؛ كانت تحتضر. لكنها كانت تستطيع المزاح.»

قال السيد فلورنس: «ربما يصح هذا الأمر أيضًا في حال عدم وجود طائل من البكاء.»

«لكن أمي كانت تستطيع أن تمضي في المزاح إلى أبعد الحدود، كانت بالفعل تستطيع ذلك. في إحدى المرات، كانت تريد أن تخيف أبي. كان من المُفترض أنه مولع بفتاة كانت تأتي باستمرار في منطقة الورش. حسنًا، كان رجلًا ضخمًا، ووسيمًا. لذا، قالت أمي: «حسنًا، سأنتحر، ويمكنك أن تعيش معها وترى كيف ستسير الأمور عندما أعود وتطاردك روحي.» طلب منها ألا تكون غبية هكذا، ثم ذهب إلى وسط البلدة. وذهبت أمي إلى المخزن وصعدت إلى مقعد ووضعت حبلًا حول عنقها. ألم تفعل ذلك يا ماريتا؟ ذهبت ماريتا تبحث عنها ووجدتها على هذا الوضع!»

أحنت أمي رأسها ووضعت يديها في حجرها، كما لو كانت تستعد لتلاوة صلاة أخرى.

«أخبرني أبي عن الأمر برمته، لكنني أستطيع تذكره على أي حال. أتذكر ماريتا وهي تعدو بأقصى سرعة عبر التل مرتديةً ثياب نومها، وأعتقد أن المرأة الألمانية رأتها، وخرجت تبحث عن أمي، وعلى نحو ما انتهى بنا المطاف جميعًا في المخزن — أنا، أيضًا، وبعض الأطفال الذين كنت ألعب معهم — وها هي أمي كانت واقفة على مقعد تستعد لمفاجأة أبي مفاجأة لم يعهدها في حياته. كانت قد أرسلت ماريتا في أثره. وبدأت السيدة الألمانية في النحيب قائلةً: «أوه، سيدتي، انزلي يا سيدتي، فكِّري في أطفالك الصغار … فكِّري في أطفالك … إلخ» حتى جئت أنا ووقفت هناك. كنت طفلة ضئيلة الحجم، لكنني كنت الوحيدة التي لاحظت جيدًا ذلك الحبل. تتبعتْ عيناي ذلك الحبل، ورأيتُ أنه كان موضوعًا فقط على أحد عوارض السقف، لم يكن مربوطًا على الإطلاق! لم تلاحظ ماريتا ذلك، ولم تلاحظه أيضًا السيدة الألمانية. لكنني تحدثت قائلةً: «أمي، كيف يمكن أن تشنقي نفسك دون أن يكون ذلك الحبل مربوطًا حول العارضة؟!»»

قال السيد فلورنس: «كان ذلك مزاحًا ثقيلًا.»

«أفسدت لعبتها. صنعت السيدة الألمانية القهوة وذهبنا إليها وتناولنا بعض الحلوى، ولم تستطع ماريتا العثور على أبي على أي حال، أليس كذلك يا ماريتا؟ كان المرء يستطيع سماع ماريتا تصرخ، صاعدة التل، على مسافة مربع سكني كامل.»

قال والدي: «كان من الطبيعي أن تكون منزعجة.»

«بالطبع. مضت أمي في ذلك إلى أبعد الحدود.»

قالت أمي: «كانت أمي جادة في تنفيذ هذا الأمر. كانت أكثر جدية مما تنقلينه عنها.»

«كانت تقصد أن تغضبه. كانت تلك هي حياتهما معًا. كان يقول دومًا إنها امرأة سيئة العشرة، لكنها كانت تتمتع بمميزات أخرى كثيرة. أظن أنه كان يفتقد ذلك، مع جلاديس.»

قالت أمي، في ذلك الصوت الرتيب الذي كانت تتحدث به دومًا عن أبيها: «لم أكن لأعلم … ما قال أو ما لم يقل.»

قال أبي: «إنهما ميتان الآن. ليس لنا أن نحكم عليهما.»

قالت بيرل: «أعلم … أعلم أن ماريتا كانت لديها دومًا وجهة نظر مختلفة.»

نظرت أمي إلى السيد فلورنس وابتسمت في يسر بالغ ابتسامة عريضة: «أنا متأكدة أنك لا تعرف كيف تفسِّر جميع هذه الأمور العائلية.»

في المرة الوحيدة التي زرت بيرل فيها، عندما كانت بيرل سيدة عجوزًا، عندما كانت البثور تنتشر في جسدها وكانت محنية جراء إصابتها بالتهاب المفاصل، قالت بيرل: «كانت ماريتا تشبه تمامًا أبي في كل ملامحه. ولم تكن تفعل شيئًا قط بنفسها. أتذكرينها وهي ترتدي ذلك الثوب القديم من الكريب ذي اللون الأزرق الداكن عندما ذهبنا إلى الفندق في تلك المرة؟ بالطبع، أعلم أن ذلك الثوب ربما كان كل ما تملك، لكن أكان يجب أن يكون هو كل ما تملك؟ مثلما تعلمين، كنت خائفة منها بطريقة أو بأخرى. لم أستطع البقاء معها وحدي في الغرفة. لكنها كانت تتمتع بجمال لافت.» في محاولة لتذكر مرة لاحظتُ فيها شكل أمي، تذكَّرت تلك المرة في الفندق؛ بشرة أمي الشاحبة وشعرها الأبيض الملتف الكثيف، ووجهها الجميل، البشوش يبتسم في وجه السيد فلورنس، كما لو كان هو الشخص الذي يجب الصفح عنه.

•••

لم تكن لدي أي مشكلة مباشرة مع رواية بيرل. أحد أسباب ذلك هو أنني كنت جائعة ونهمة، وكان جُل انتباهي متوجهًا إلى الدجاج المشوي والبطاطس المهروسة، المسقية بالمرق، الموضوعة على طبق، إلى جانب قطعة آيس كريم، والخضراوات المقطعة الزاهية المعلبة، التي ظننت أنها أفضل كثيرًا من الخضراوات الطازجة في الحديقة. تناولت للتحلية آيس كريم من الزبد والسكر البني، وهو خيار صعب إزاء الشوكولاتة. تناول الآخرون آيس كريم من الفانيليا السادة.

لماذا لا تختلف رواية بيرل للحادثة نفسها عن رواية أمي؟ كان كل شيء عجيبًا في بيرل؛ كان كل شيء يتعلق بها مختلفًا، يُرى من زاوية جديدة. كانت رواية أمي هي التي استقرت، بعض الوقت. ابتلعتُ رواية بيرل، أطبقت عليها. لكن رواية بيرل لم تختفِ، بل ظلت مخفية لسنوات، لكنها لم تختف. كانت مثل معرفة ذلك الفندق وقاعة الطعام تلك. كنت أعرف الفندق، مع أنني لم أرَ فيه مكانًا يرتاده المرء مرة أخرى. وحقيقةً، دون مال بيرل أو السيد فلورنس، لم أكن لأستطيع أن أذهب. لكنني كنت أعلم أن الفندق كان موجودًا.

كانت المرة التالية التي ذهبتُ فيها إلى فندق وايلدوود، في حقيقة الأمر، بعد زواجي. كان نادي الليونز يقيم مأدبة وحفلًا راقصًا هناك. كان الرجل الذي تزوجته، دان كيسي، عضوًا في نادي الليونز. كان باستطاعة المرء تناول شراب في ذلك الفندق في ذلك الوقت. لم يكن دان كيسي ليذهب إلى أي مكان لا يستطيع المرء الذهاب إليه. ثم جُدد المكان فأصبح يحمل اسم هايداواي، والآن لديهم راقصات تعرٍّ كل ليلة إلا ليالي الآحاد. في ليالي الخميس، يوجد راقص تعرٍّ. أذهب إلى هناك مع زملاء من المكتب العقاري للاحتفال بأعياد الميلاد أو الأحداث المهمة الأخرى.

•••

بيعت المزرعة مقابل خمسة آلاف دولار في عام ١٩٦٥. اشتراها رجل من تورونتو، كمزرعة لأغراض ترفيهية أو ربما كاستثمار. بعد عامين، أجرها ككوميون. عاش هناك أناس مختلفون، يجيئون ويروحون، مدة اثنتي عشرة سنة أو ما يقرب من ذلك. كانوا يربون الماعز ويبيعون اللبن لمتجر الطعام الصحي الذي فتح أبوابه في البلدة. رسموا قوس قزح على جانب المخزن الذي كان في مواجهة الطريق. كانوا يعلقون ملاءات ذات ألوان زاهية جدًّا على النوافذ، ويتركون الحشائش الطويلة والأعشاب الضارة تنتشر في الفناء. كان والداي قد استطاعا حينئذ إدخال الكهرباء للمنزل، لكن هؤلاء الأشخاص لم يستخدموها. كانوا يفضلون المصابيح الزيتية والموقد المعتمد على قطع الخشب، وكانوا يغسلون ملابسهم القذرة في البلدة. كان الناس يقولون إنهم لم يكونوا يعرفون كيف يشعلون المصابيح أو يشعلون النيران في الأخشاب، وإنهم سيحرقون المكان بأكمله. لكن الأمر لم يكن كذلك. في حقيقة الأمر، لم يسيئوا التصرف. أجروا بعض الإصلاحات على المنزل والمخزن وعملوا على زرع حديقة كبيرة. كانوا يرشون البطاطس التي كانوا يزرعونها وقاية لها من الآفات، مع أنني سمعت أنه كان يوجد نوع من الخلاف حول هذا وهو ما جعل البعض الأكثر تشددًا يرحل. بدت المزرعة أفضل حالًا كثيرًا من كثير من المزارع حولها التي كانت لا تزال في يد العائلات الأصلية المالكة لها. كان ابن آل ماكالستر قد بدأ عملًا فاشلًا في مزرعتهم. كان أخواي قد رحلا منذ وقت طويل.

كنت أعرف أنني لست عقلانية في ذلك، لكن راودني شعور أنني كنت أفضل أن أرى المزرعة تعاني من إهمال واضح — كنت أفضل أن أراها تقع في أيدي مجرمين وأفاقين — بدلًا من أن أرى قوس قزح مرسومًا على المخزن، وبعض الأحرف التي كانت تبدو فرعونية مرسومة على جدار المنزل. بدا ذلك كنوع من السخرية. كنت حتى لا أحب رؤية أولئك الأشخاص عندما كانوا يأتون إلى البلدة؛ الرجال يعقصون شعورهم في صورة ذيل حصان، وتوجد فتحات في ملابسهم كنت أظنها مقطوعة عمدًا، وكانت شعور النساء طويلة، ولم يكُنَّ يضعن مكياجًا، وكانت ترتسم على ملامحهن تعبيرات وداعة، وترفُّع. ماذا تعرفون عن الحياة؟ هكذا كنت أرغب في سؤالهم. ما الذي يجعلكم تظنون أنكم تستطيعون المجيء إلى هنا والسخرية من أبي وأمي وحياتهما وفقرهما؟ لكنني عندما تذكرت قوس قزح وتلك الأحرف، كنت أعلم أنهم لم يكونوا يحاولون السخرية من حياة والدي أو تقليدها. كانوا قد استبدلوا بتلك الحياة حياتهم، لا يكادون يعرفون أنها كانت موجودة. كانوا قد وضعوا مكانها معتقداتهم وعاداتهم تلك، التي كنت آمل أن تخذلهم يومًا ما.

حدث ذلك، نوعًا ما. تفكك الكوميون. اختفت الماعز. انتقلت بعض النساء إلى البلدة، قصصن شعورهن، ووضعن مكياجًا، وحصلن على وظائف كنادلات أو صرَّافات لإعاشة أطفالهن. عرض الرجل الذي من تورونتو المكان للبيع، وبعد عام تقريبًا بيع بقيمة تزيد عشر مرات عما كان قد دفع فيه. اشتراه زوجان شابان من أوتاوا. دَهَنَا الواجهة الخارجية بلون رمادي فاتح بزخارف محارية، ووضعا كوَّات في السقف وبابًا أماميًّا جميلًا على جانبيه مصابيح عربات عتيقة. في الداخل، أجريا تعديلات كثيرة حتى قيل لي إنني لن أستطيع أن أتعرف على المكان.

دخلت ذات مرة، قبل أن يحدث ذلك، خلال العام الذي كان المنزل خاليًا فيه ومعروضًا للبيع. كانت الشركة التي أعمل بها تدير عملية البيع، وكان لديَّ مفتاح، مع أن المنزل كان يعرضه وكيل عقاري آخر. دخلت في وقت ما بعد الظهيرة في يوم أحد. كان معي رجل، ليس عميلًا بل صديقٌ، بوب ماركس، الذي كنت أواعده كثيرًا في ذلك الوقت.

قال بوب ماركس عندما أوقفت السيارة: «هذا هو مكان الهيبيز. مررت بهذا المكان من قبل.»

كان محاميًا، كاثوليكيًّا، منفصلًا عن زوجته. كان يعتقد أنه يريد أن يستقر ويفتح مكتب محاماة هنا في البلدة. لكن كان يوجد محام كاثوليكي بالفعل. وكان سير الأعمال بطيئًا. كان بوب ماركس يصير ثملًا تمامًا قبل العشاء، مرتين في الأسبوع.

قلتُ: «هو أكثر من ذلك؛ لقد ولدتُ هنا، ونشأت هنا.» سرنا عبر الأعشاب، وفتحت الباب.

قال إنه يظن، من خلال طريقة حديثي، أن المكان كان أبعد كثيرًا.

«بدت المسافة أبعد كثيرًا آنذاك.»

كانت جميع الغرف خالية، وكانت الأرضيات منظَّفة جيدًا. كانت الأجزاء الخشبية مطلية حديثًا؛ وكنت مندهشة لعدم وجود أي بقع على الزجاج. ألواح زجاجية جديدة، وأخرى قديمة مموجة. كان ورق الحائط قد أُزيل عن بعض الجدران وتم طلاؤها. طُلي جدار في المطبخ بلون أزرق داكن، مرسوم عليه يمامة كبيرة. على أحد الجدران في الغرفة الأمامية، كانت توجد زهور عباد شمس ضخمة، وفراشة بالحجم نفسه.

أطلق بوب ماركس صافرة، وقال: «كان أحدهم فنانًا.»

قلتُ: «ذلك إن كنت تطلق على هذا اسم فن.» ثم استدرتُ إلى المطبخ. كان الموقد الخشبي لا يزال هناك. قلتُ: «أحرقت أمي في إحدى المرات ثلاثة آلاف دولار. أحرقت ثلاثة آلاف دولار في ذلك الموقد.»

أطلق صافرة مرة أخرى، لكن على نحو مختلف. «ماذا تعنين؟ هل ألقت بشيك في النار؟»

«لا، لا. كانت أوراقًا نقدية. فعلت ذلك عمدًا. ذهبت إلى البنك بالبلدة وجعلتهم يعطونها المبلغ كله، في صندوق أحذية. عادت بالمبلغ إلى المنزل ووضعته في الموقد. كانت تضع مجموعة من الأوراق النقدية على دفعات، حتى لا تصنع لهبًا كبيرًا. وقف أبي وظل يراقبها.»

سأل بوب ماركس قائلًا: «عم تتحدثين؟ كنتُ أظن أنكم فقراء جدًّا.»

«كنا كذلك. كنا فقراء جدًّا.»

«إذن، كيف كانت تمتلك ثلاثة آلاف دولار؟ يساوي ذلك ثلاثين ألف دولار اليوم. دون شك. أكثر من ثلاثين ألفًا اليوم.»

قلتُ: «كان هذا ميراثها كان ذلك ما حصلت عليه من أبيها. مات أبوها في سياتل وترك لها ثلاثة آلاف دولار، وأحرقتها لأنها كانت تكرهه. لم تكن تريد ماله. كانت تكرهه.»

قال بوب ماركس: «هذه كراهية متناهية.»

«ليست هذه هي المسألة. ليس كراهيتها له، أو ما إذا كان سيئًا بما يكفي بحيث يكون لها الحق في كراهيته. على الأرجح لم يكن كذلك. ليست هذه هي المسألة.»

قال: «المال. المال هو جوهر الأشياء دومًا.»

«لا. كان ترْك أبي لها القيام بالأمر هو جوهر المسألة. بالنسبة إليَّ كان الأمر كذلك. كان أبي واقفًا، وكان يراقبها، ولم يعترض قط. لو كان أحد قد حاول أن يوقفها، لكان سيحميها. أعتبرُ ذلك حبًّا.»

«سيعتبر البعض ذلك جنونًا.»

أتذكر أن ذلك كان رأي بيرل، تمامًا.

ذهبتُ إلى الغرفة الأمامية وحدَّقت في الفراشة، ذات الأجنحة الوردية والبرتقالية. ثم ذهبت إلى غرفة النوم الأمامية ووجدت صورة شخصين مرسومين على الحائط، رجل وامرأة يمسك أحدهما بيد الآخر ويطلان على الناظر مباشرةً. كانا عاريين، وكانا حجمهما أكبر من الحجم الطبيعي.

قلت لبوب ماركس، الذي كان قد دخل خلفي: «تذكرني هذه الصورة بصورة جون لينون ويوكو أونو، غلاف الألبوم الغنائي الخاص بهما، ألم يكن كذلك؟» لم أرِدْه أن يظن أن أي شيء قاله في المطبخ أزعجني.

قال بوب ماركس: «لون شعر مختلف.»

كان ذلك صحيحًا. كان الشخصان يمتلكان شعرًا أصفر مصبوغًا في كتل متماسكة، مثلما تُلون الشعور في الرسوم الهزلية. كان ذيل الحصان من الشعر الأصفر يتدلى فوق كتفيهما وكانت ضفائر الشعر الأصفر تزيِّن عورتيهما. كان لون جلدهما بيج مائلًا إلى القرنفلي، وكانت عيونهما بلون أزرق باهر، بنفس درجة الزُّرقة الموجودة على حائط المطبخ.

لاحظتُ أنهم لم يزيلوا ورق الحائط تمامًا قبل الرسم. في الركن، كان ثمة بعض ورق الحائط في نفس لون الورق وطرازه على الجدران الأخرى، طراز حداثي من الفقاعات القرنفلية، والرمادية، والموف المتقاطعة. يبدو أن الرجل من تورونتو استخدم ورق الحائط هذا. لم يكن ورق الحائط القديم قد أُزيل عندما ألصق ورق الحائط الجديد هذا. كنت أستطيع أن أرى حوافه، زهور القنطريون العنبري على خلفية بيضاء.

قال بوب ماركس في نبرة مألوفة لديَّ: «أظن أنهم كانوا يمارسون الجنس هنا.» تلك النبرة المتوترة، الحزينة، غير المريحة، لكن الواثقة. الشهوة غير الودودة تمامًا للرجال الوقورين الذين هم في منتصف العمر.

لم أقل شيئًا. نظرت في بعض ورق الحائط المغطى بالفقاعات لأرى المزيد من زهور القنطريون العنبري. فجأة، لمحت جزءًا مفكوكًا من ورق الحائط، ومزقت جزءًا كبيرًا منه. لكن ها هي زهور القنطريون العنبري تظهر، أيضًا، وكم من عجينة اللصق الجافة.

قلتُ له: «لماذا؟ قل لي لماذا لا يستطيع أي رجل أن يذكر مكانًا كهذا دون أن يشير إلى موضوع الجنس في أقل من ثانيتين؟ ليس على المرء إلا ذكر كلمتي «هيبيز» أو «كوميون»، ثم سرعان ما يفكِّر الرجال في المضاجعة! كما لو كان لا يوجد وراء الإشارة إلى ذلك إلا العربدة واختلاط الأجساد والمضاجعة بلا توقف! أشعر بالغثيان من ذلك؛ إن الأمر برمته غاية في الغباء لدرجة تجعلني أشعر بالغثيان!»

•••

في السيارة، في الطريق إلى المنزل من الفندق، جلسنا مثلما كنا نجلس من قبل؛ الرجال في المقاعد الأمامية، والنساء في الخلف. كنت أجلس في المنتصف، بيرل وأمي تجلسان على جانبي. كان جسداهما الدافئان يضغطان على جسدي، وكانت رائحتهما تطغى على روائح أشجار الأرز التي كنا نمر عبرها، والمستنقعات، حيثُ تعجبت من وجود زنابق الماء هناك. كانت تفوح من بيرل جميع روائح تلك الأشياء الموجودة في أوعية وزجاجات المكياج. كانت تفوح من أمي رائحة الدقيق والصابون والكريب الدافئ لثوبها الجميل والكيروسين الذي كانت تستخدمه لإزالة البقع.

قالت أمي: «وجبة رائعة، شكرًا بيرل. شكرًا، سيد فلورنس.»

قال أبي: «لا أعرف من سيصلح لحلب اللبن، بعد أن أكلنا على هذا النحو الفخم.»

قالت بيرل، على الرغم من أن أحدًا لم يذكر ذلك: «على ذكر المال، هل تمانعين في أن تخبريني ماذا فعلت بأموالك؟ أنا استثمرت أموالي في العقارات. بالاستثمار في العقارات في كاليفورنيا لا يمكن للمرء أن يخسر. أعتقد أن بإمكانك شراء موقد كهربي؛ حتى لا تزعجك عملية إشعال النيران في الصيف أو تتعبي نفسك في استخدام موقد الكيروسين.»

ضحك جميع من كان في السيارة، حتى السيد فلورنس.

قال أبي: «هذه فكرة جيدة يا بيرل. يمكن أن نستخدمه لوضع الأشياء عليه حتى تتوفر لدينا الكهرباء.»

قالت بيرل: «أوه، يا إلهي. كم أنا غبية!»

قالت أمي في ابتهاج، كما لو كانت تُكمل المزحة: «ولا نملك المال أيضًا.»

لكن بيرل تحدثت في حدة. «كتبتِ إليَّ أنكِ حصلتِ على المال. حصلت على نفس المبلغ الذي حصلتُ عليه.»

استدار أبي نصف استدارة في مقعده. وقال: «أي مال تتحدثين عنه؟ ما هذا المال؟»

قالت بيرل: «من تركة أبي، المبلغ الذي حصلت عليه العام الماضي. انظر، ربما لم يكن يجدر بي أن أسأل. إذا كان عليك تسديد أي ديون، فلا يزال ذلك استخدامًا جيدًا للمال، أليس كذلك؟ لا يهم. كلنا عائلة واحدة هنا، تقريبًا.»

قالت أمي: «لم نكن مضطرين لاستخدام المال في تسديد أي ديون. لقد أحرقته.»

ثم ذكرت كيف ذهبت إلى البلدة في الشاحنة، في أحد الأيام قبل عام مضى، وطلبت منهم أن يضعوا لها المال في صندوق كانت قد أحضرته لهذا الغرض. عادت بالصندوق إلى المنزل، ووضعت المال في الموقد، وأحرقته.

استدار أبي ونظر إلى الطريق أمامه.

كنتُ أستطيع الشعور بتلوي جسد بيرل إلى جانبي بينما كانت أمي تتحدث. كانت تتلوى، وتتأوه قليلًا، كما لو كانت تتألم بشكل لم تستطع إخفاءه. في نهاية القصة، عبرت عن دهشتها ومعاناتها، من خلال زمجرة غاضبة.

قالت: «إذن أحرقتِ المال! أحرقتِ المال في الموقد!»

كانت أمي لا تزال تشعر بالابتهاج: «تتحدثين كما لو كنت قد أحرقت أحد أبنائي.»

«لقد أحرقتِ فرصهم. أحرقتِ كل شيء كان هذا المال يستطيع أن يجلبه لهم.»

«آخر ما يحتاج إليه أبنائي هو المال. لا يحتاج أيٌّ منا ماله.»

قالت بيرل في غلظة: «هذه جريمة.» ورفعت صوتها تجاه المقعد الأمامي قائلةً: «لماذا تركتَها تفعل ذلك؟»

قالت أمي: «لم يكن هناك، لم يكن أحد معي.»

قال أبي: «هذا مالها يا بيرل.»

قالت بيرل: «مهما كان الأمر، هذه جريمة.»

قال السيد فلورنس: «الجريمة هي ما يستدعي أن تُطلب الشرطة لأجله.» وكما هو الحال بالنسبة للأشياء الأخرى التي تفوه بها ذلك اليوم، أفضى قوله هذا إلى خلق حالة من الدهشة والعرفان.

عرفان لم يشعر به الجميع.

صرخت بيرل في المقعد الأمامي قائلةً: «لا تتظاهر بأن ذلك ليس أكثر الأشياء التي سمعت بها جنونًا. لا تتظاهر بأنك لا تعتقد ذلك! لأن الأمر كذلك، وأنت تعتقد أنه كذلك. تعتقد تمامًا مثلما أعتقد!»

•••

لم يقف أبي في المطبخ يشاهد أمي تضع المال وسط ألسنة اللهب. لم يكن الأمر ليبدو هكذا. لم يكن يعرف بالأمر؛ يبدو الأمر واضحًا تمامًا الآن، إنْ كنت أتذكر كل شيء، فأبي لم يكن يعرف بالأمر حتى ذلك الوقت من بعد ظهيرة يوم الأحد في سيارة السيد فلورنس الكرايسلر، عندما أخبرت أمي الجميع بالقصة كلها. لماذا إذن أرى المشهد واضحًا تمامًا، مثلما وصفته لبوب ماركس (ولآخرين؛ فلم يكن هو أول من يعرف)؟ أرى أبي واقفًا بجوار المائدة في وسط الغرفة — المنضدة التي تحتوي على درج للسكاكين والشوك، والمغطى بمشمع نظيف — وثمة صندوق من المال على المائدة. تضع أمي الأوراق النقدية بحذر في النيران. ترفع غطاء الموقد عن طريق السيخ المسوَد بيد واحدة. ويبدو والدي، الذي يقف على مقربة منها، كما لو كان لا يمنعها من عمل ذلك فحسب، بل يحميها. منظر مهيب، لكنه لا يتسم بالشطط. يصنع الناس أشياء تبدو بالنسبة لهم طبيعية وضرورية. على الأقل، يصنع أحدهم ما يبدو له طبيعيًّا وضروريًّا، ويعتقد الآخر أن أهم شيء على الإطلاق بالنسبة لهذا الشخص هو أن يفعل ما يريد، أن يمضي قدمًا فيما يفعل. يدركون أن الآخرين ربما لا يعتقدون كذلك. لكنهم لا يأبهون.

كم من الصعب عليَّ أن أصدِّق أنني اختلقتُ الأمر برمته. يبدو الأمر أنه الحقيقة، إنه الحقيقة، إنه ما أعتقد أن الأمر كان عليه. لم أتوقف عن الاعتقاد في ذلك، لكنني توقفت عن سرد تلك القصة. لم أروِ هذه القصة مرة أخرى قط بعد سردها لبوب ماركس. لا أعتقد ذلك. لم أتوقف عن ذلك لأن القصة، على وجه التحديد، لم تكن صحيحة. توقفت لأنني رأيتُ أن علي ألا أتوقع أن يراها الآخرون على النحو الذي أراها. كان علي ألا أتوقع منهم أن يستسيغوا أي جزء مما حدث. كيف أستطيع حتى أن أقول إنني أستسيغ الأمر؟ إذا كنتُ من هذا النوع من الأشخاص الذين يستسيغون مثل هذا، الذين يستطيعون عمل ذلك، فلم أكن لأفعل كل ما فعلت؛ أهرب من المنزل لأعمل في مطعم في البلدة عندما كنت أبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وألتحق بمدرسة ليلية لتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة ومسك الحسابات، وألتحق بالمكتب العقاري، وأن أصبح أخيرًا وكيلًا عقاريًّا معتمدًا. لم أكن لأطلق من زوجي. لم يكن أبي ليموت في نُزل المقاطعة. كان شعري سيصبح أبيض، كما كان بصورة طبيعية لعدة سنوات، بدلًا من لون يُطلق عليه نحاسي بلون الشروق. ولم أكن لأغير أيًّا من هذه الأشياء، حتى إذا كنت أستطيع.

كان بوب ماركس رجلًا مهذبًا، طيب القلب، في بعض الأحيان يتمتع بخيال واسع. بعد أن هاجمته على ذلك النحو، قال: «لست بحاجة إلى أن تتصرفي بغلظة.» وبعدها بدقيقة، قال: «هل كانت هذه غرفتك عندما كنت فتاة صغيرة؟» كان يظن أن ذلك كان السبب في أن ذكر ممارسة الجنس أزعجني.

رأيت أن من الأفضل أن أدعه يظن ذلك. قلت: نعم، نعم، كانت غرفتي عندما كنت فتاة صغيرة. كان من الأفضل اختلاق الأمر في الحال. تستحق لحظات العطف والتصالح الشعور بها، حتى إذا كان الفراق سيحدث عاجلًا أم آجلًا. أتساءل عما إذا كانت تلك اللحظات لا تحظى بالتقدير الكافي، أو يجري السعي وراءها، في العلاقات التي ينخرط بها بعض الأشخاص مثلي الآن، مثلما كانت عليه في الزيجات القديمة، التي كان يمكن فيها للحب والضغينة أن ينموا تحت السطح، في صورة مشوشة وعنيدة، حتى ليبدو أنهما موجودان طوال الوقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤