حلقة الصلاة

ألقت ترودي بدورق عبر الغرفة. لم يبلغ الجانب المقابل من الجدار؛ لم يؤذِ أحدًا، ولم ينكسر.

كان ذلك هو الدورق الذي بدون يد — ذا اللون الأسمنتي المزين بخطوط بنية، الخشن مثل ورق الصنفرة في ملمسه — الذي صنعه دان أثناء الشتاء الذي كان يتلقى دروس صناعة الفخار فيه. صنع ستة أكواب صغيرة بلا يد كي تصبح هي والدورق طقمًا واحدًا. كان من المفترض أنه صنع هذا الطقم من أجل شراب الساكي الياباني، لكن متجر المشروبات الكحولية المحلي لا يبيع شراب الساكي. ذات مرة، أحضرا بعض الساكي إلى المنزل من إحدى الرحلات، لكنه لم يعجبهما حقيقةً. لذا يوجد الدورق الذي صنعه دان بأعلى رف مفتوح في المطبخ، ويجري الاحتفاظ ببعض الأشياء الغريبة القيمة بداخله: خاتم زواج ترودي، وخاتم خطبتها، والميدالية التي فازت بها روبين لتحقيقها الامتياز في جميع المواد في الصف الثامن، وعقد طويل مزدوج من حبات الكهرمان الذي كانت تمتلكه أم دان ووصت بأن يُعطى لروبين. ولكن لم تكن ترودي تدعها ترتديه.

عادت ترودي إلى المنزل من العمل بعد وقت قليل من منتصف الليل؛ دخلت إلى المنزل في الظلام. كان ضوء الموقد الصغير مضاءً؛ كانت هي وروبين تتركان هذا الضوء دومًا كل للأخرى. لم تكن ترودي في حاجة إلى أي ضوء آخر. وقفت على مقعد دون أن تترك حقيبتها، وأنزلت الدورق، وفتشت بيديها داخله.

اختفى. بالطبع. عرفت أنه سيختفي.

سارت عبر المنزل المظلم إلى حجرة روبين، لا تزال حاملةً حقيبتها فوق ذراعها، والدورق في يدها. أضاءت ضوء السقف. زمجرت روبين وتقلبت على الفراش، وجذبت الوسادة فوق رأسها. تتظاهر.

قالت ترودي: «عقد جدتك … لماذا فعلت ذلك؟ هل فقدت صوابك؟»

تظاهرت روبين بأنها تصدر زمجرة شخص نائم. كانت جميع الملابس التي كانت تمتلكها، فيما يبدو، القديمة والجديدة، النظيفة والقذرة؛ مبعثرةً على الأرض، على المقعد، المكتب، التسريحة، وحتى على الفراش نفسه. عُلِّق على الحائط ملصق ضخم يظهر فرس نهر، كُتبت تحته الكلمات الآتية: «لماذا ولدت جميلًا هكذا؟» وملصق آخر يظهر الرياضي والناشط تيري فوكس وهو يجري على طريق سريع ممطر، ويسير خلفه موكب كبير من السيارات. أكواب قذرة، عبوات زبادي فارغة، كراسات مدرسية، سدادة قطنية تامباكس لامتصاص دم الدورة الشهرية لا تزال في ورقتها، دميتا الثعبان والنمر المحشوتان اللتان كانت روبين تمتلكهما قبل أن تذهب إلى المدرسة، مجموعة ملصقة من الصور لقطتها سوسيدج، التي دهستها سيارة منذ أكثر من عامين. أوشحة حمراء وزرقاء كانت قد فازت بها في مسابقات قفز، أو عدو، أو لعبة تصويب كرة السلة.

قالت ترودي: «أجيبيني! أخبريني لماذا فعلت ذلك!»

ألقت بالدورق. لكنه كان أثقل مما كانت تظن، أو أنها في لحظة إلقائه غيرت رأيها؛ لأنه لم يرتطم بالحائط، بل سقط على البساط إلى جانب التسريحة وتدحرج على الأرض، دون أن يصيبه أي شيء.

•••

قذفتِ دورقًا نحوي في تلك المرة. كان من الممكن أن تقتليني.

ليس تجاهك. لم ألقه نحوك.

كان من الممكن أن تقتليني.

•••

الدليل على أن روبين كانت تتظاهر أنها نائمة أنها قفزت من مكانها في رعب، لكن ذلك لم يكن الرعب المحض لشخص كان نائمًا. بدت مذعورة، لكن تحت هذه النظرة المذعورة، الطفولية كان ثمة نظرة أخرى؛ عنيدة، ماكرة، مزدرية.

«كان في غاية الجمال. وكان نفيسًا. كان ملكًا لجدتك.»

قالت روبين: «كنت أعتقد أنه ملكي أنا.»

«تلك الفتاة لم تكن حتى صديقتك. يا إلهي! لم تتفوهي بكلمة طيبة عنها صباح اليوم.»

«أنت لا تعرفين من صديقتي!» تورد وجه روبين بلون قرنفلي برَّاق وامتلأت عيناها بالدموع، لكن ظل تعبير الازدراء والعناد كما هو لم يتغير. «أعرفها. وتحدثت إليها. هيا قومي إذن!»

•••

تعمل ترودي في دار رعاية ذوي الإعاقة العقلية البالغين. يطلق عليه القليل من الناس ذلك. لا يزال الأشخاص الأكبر سنًّا في البلدة يطلقون عليها «دار السيدة وير»، ويطلق عليها آخرون — بما في ذلك روبين، وربما معظم من هم في عمرها — دار أصحاب أنصاف العقول.

يوجد في الدار الآن ممر منحدر للمقاعد المتحركة، نظرًا لأن بعض أصحاب الإعاقة العقلية ربما يكونون من أصحاب الإعاقة الجسدية أيضًا، وهناك مسبح في الفناء الخلفي، وهو ما أثار وجوده بعض الخلاف عندما جرى إنشاؤه من أموال دافعي الضرائب. بخلاف ذلك تبدو الدار تمامًا مثلما كانت دومًا؛ الجدران الخشبية البيضاء، والزخارف داكنة الخضرة في الجمالونات، السقف شديد الانحدار والشرفة الخارجية الجانبية المسيجة بسلك داكن، والحشائش الخفيضة في الواجهة التي تظللها أشجار قيقب ناعمة.

هذا الشهر، تعمل ترودي في النوبة التي تستمر من الرابعة مساءً إلى منتصف الليل. في فترة ما بعد الظهيرة أمس، تركت سيارتها أمام الدار، وسارت على الممر وهي تتأمل كيف تبدو الدار جميلة وهادئة مثلما كانت أيام السيدة وير، التي لا بد أنها كانت تقدِّم شايًا مثلجًا، وكانت تقرأ كتبًا من المكتبة، أو تلعب الكروكيه، أو أيًّا ما كان يفعل الناس آنذاك.

دومًا أخبار جديدة، شجار أو موقف مثير، بمجرد دخول المرء إلى هناك. كان الرجال قد أتوا لإصلاح المسبح لكنهم لم يفعلوا. رحلوا مرة أخرى. المسبح غير جاهز بعد.

قالت جوزفين: «نحن بحاجة إليه، سرعان ما سينتهي الصيف.»

قال كلفن: «لم نصل إلى منتصف شهر يونيو بعد، تقولين إن الصيف سينتهي … فكري قبل أن تتحدثي.» ثم قال مخاطبًا ترودي: «هل سمعت عن الفتاة الصغيرة التي قُتلت في الريف؟»

كانت ترودي قد بدأت في خلط كميتين من عصير الليمون المجمد، إحداهما قرنفلية اللون والأخرى عادية. عندما قال ذلك، ضغطت بالملعقة على الكتلة المجمدة بقوة جدًّا حتى إن بعض العصير انسكب.

«كيف يا كلفن؟»

كانت تخشى أن تسمع أن فتاة جرى اختطافها من على طريق ريفي، اغتُصبت في الغابة، وجرى خنقها، وضُربت، ثم تُركت هناك. تجري روبين على الطرق الريفية وهي ترتدي بنطالًا قصيرًا وتي-شيرت أبيض، واضعةً عصابة رأس حول شعرها المتطاير. شعر روبين ذهبي اللون، وهكذا كانت رجلاها وذراعاها. كان خداها وأطرافها ناعمة لكنها غير لامعة؛ لن يندهش المرء إذا رأى سحابة من حبوب اللقاح تتطاير وتستقر خلفها عندما تعدو. تُطلق السيارات أبواقها كي تفسح الطريق ولكنها لا تأبه. تهديدات بذيئة تقال لها، وترد عليها بتهديدات مماثلة.

قال كلفن: «وهي تقود شاحنة.»

شعرت ترودي بالراحة. لا تعرف روبين قيادة السيارات بعد.

قال كلفن: «أربعة عشر عامًا، لم تكن تعرف كيف تقود … صعدت إلى الشاحنة، وفجأة اصطدمت بشجرة. أين كان والداها؟ هذا ما أود أن أعرفه. لم يكونا يراقبان تصرفاتها. ركبت الشاحنة بينما لم تكن تعرف كيف تقود واصطدمت بشجرة. أربعة عشر عامًا. هذه سن صغيرة جدًّا.»

يذهب كلفن إلى الجزء الراقي من البلدة بمفرده، ويسمع كل الأخبار. يبلغ من العمر اثنين وخمسين عامًا، لا يزال نحيفًا، ويبدو مثل صبي، حليق، ذي شعر ناعم، قصير، أسود خالص. يذهب إلى الحلاق يوميًّا؛ لأنه لا يستطيع الحلاقة وحده. صرع، ثم جراحة، تلوث أثناء فتح الجمجمة، مزيد من الجراحات، صعوبة دائمة خفيفة في تحريك القدمين وأصابع اليدين، تشتت ذهني بسيط لا يطمس حقائق الأشياء، فقط الدوافع. ربما يجب ألا يظل في دار الرعاية على الإطلاق، لكن إلى أين يذهب؟ على أي حال، هو يحب هذه الدار. يقول إنه يحبها. يقول للآخرين إنهم يجب ألا يتذمروا؛ فهم يجب أن يكونوا أكثر حرصًا، ويجب أن يراقبوا تصرفاتهم. يجمع عبوات المشروبات الغازية وزجاجات البيرة التي يلقيها الناس في الفناء الأمامي؛ على الرغم من أن ذلك لا يقع في نطاق عمله على الإطلاق.

عندما جاءت جانيت قبل منتصف الليل لتحل محل ترودي في نوبة العمل، كانت تريد أن تروي لها نفس القصة.

«أظن أنك سمعت عن الفتاة التي تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا؟»

عندما تبدأ جانيت في إخبارك بشيء كهذا، تبدأ دائمًا بعبارة «أظن أنك سمعت.» «أظن أنك سمعت عن انفصال ويلما وتيد.» «أظن أنك سمعت أن ألفين ستيد أصيب بنوبة قلبية.»

قالت ترودي: «أخبرني كلفن بقصتها … لكنه قال إنها في الرابعة عشرة من عمرها.»

قالت جانيت: «خمسة عشر عامًا … لا بد أنها في صف روبين نفسه في المدرسة. لم تكن تعرف كيف تقود. لم تخرج حتى من الحارة التي كانت تقود السيارة فيها.»

قالت ترودي: «هل كانت ثملة؟» لم تكن روبين لتقترب من المشروبات الكحولية، أو المنشطات، أو السجائر، أو حتى القهوة، لديها هوس شديد لما تدخله بجسدها.

«لا أعتقد ذلك. ربما كانت واقعة تحت تأثير المخدرات. كان الوقت مبكرًا في المساء. كانت في المنزل مع أختها. كان أبواها في الخارج. جاء رفيق أختها؛ كانت شاحنته التي ركبتها، وقد أعطاها مفاتيح الشاحنة أو أنها أخذتها منه. تسمعين روايات مختلفة. تسمعين أنهما أرسلاها لتجلب لهما شيئًا، كانا يريدان التخلص منها، وتسمعين أنها أخذت المفاتيح وذهبت. على أي حال، اصطدمت بشجرة في الحارة.»

قالت ترودي: «يا إلهي!»

«أعرف. هذا غباء شديد. يبلغ الأمر حدًّا يجعل المرء معه يكره تصور فكرة نضوج الأبناء. هل تناول الجميع أدويتهم؟ ماذا يشاهد كلفن؟»

كان كلفن لا يزال مستيقظًا، جالسًا في غرفة المعيشة يشاهد التليفزيون.

قالت ترودي لجانيت: «هناك لقاء مع أحد الأشخاص. كتب كتابًا عن مرضى الانفصام في الشخصية.»

أي شيء يصادفه حول المشكلات العقلية، كان كلفن يشاهده، أو يحاول أن يقرأه.

قالت جانيت: «أعتقد أن هذا يحبطه، كلما شاهد هذه الأشياء … هل تعرفين أنني عرفت اليوم أن عليَّ عمل خمسمائة وردة من المناديل الورقية القرنفلية من أجل زفاف ابنة أخي لوريل؟ لتزيين السيارة. قالت إنني وعدت أنني سأصنع ورودًا للسيارة. حسنًا، لم أفعل. لا أتذكر أنني وعدت بشيء كهذا. هل ستأتين وتساعدينني؟»

قالت ترودي: «بالتأكيد.»

قالت جانيت: «أظن أن السبب الحقيقي وراء رغبتي في جعله يترك مشاهدة الحوار الخاص بمرضى الانفصام في الشخصية هو أن أشاهد مسلسل «دالاس» القديم.» تختلف هي وترودي حول ذلك. لا تستطيع ترودي تحمل مشاهدة هذه الإعادات لمسلسل «دالاس»؛ مشاهدة الشخصيات، ذات الوجوه الشابة، الممتلئة، وهي تخوض المحن وتقع في شرك التعقيدات الرومانسية التي نسيت هي والجمهور كل شيء عنها الآن. تقول جانيت إن هذا هو المضحك جدًّا حقًّا؛ هذا غير قابل للتصديق تمامًا إلى درجة أنه رائع. كل هذا يحدث ثم تنسيان الأمر برمته ثم تواصلان حياتهما. لكن بالنسبة لترودي يبدو من المستعصي على التصديق أن تنتقل الشخصيات من حالة إلى أخرى؛ هذه القدرة على النسيان، والتحلي بالأمل، والتألق، وتغيير الملابس باستمرار. وهذا الاستعصاء على التصديق هو ما لا تستطيع تحمله حقًّا.

•••

في صباح اليوم التالي، قالت روبين: «أوه، ربما. كل أولئك الأشخاص الذين تتسكع معهم يشربون الخمر. يقيمون حفلات طوال الوقت. يدمرون أنفسهم بأنفسهم. هذا خطؤها. حتى إذا طلبت منها أختها أن تذهب، لم يكن عليها أن تذهب. لم يكن يجب أن تكون بهذا الغباء.»

قالت ترودي: «ماذا كان اسمها؟»

قالت روبين في نفور: «تريسي لي.» خطت على دواسة صفيحة القمامة، وألقت فيها عبوة الزبادي التي أفرغتها توًّا بدلًا من أن تضعها في رفق. كانت ترتدي سروالًا تحتيًّا وتي-شيرت مكتوبًا عليه: «إذا كان عليَّ أن أستمع إلى شخص أحمق، فسيكون أنت».

قالت ترودي: «ما يزال هذا التي-شيرت يضايقني. بعض الأشياء تكون مقززة لكنها مضحكة وبعض الأشياء تكون مقززة أكثر منها مضحكة.»

قالت روبين: «ما المشكلة؟ … أنام وحدي.»

•••

جلست ترودي في الخارج، في روبها الفضفاض، تحتسي القهوة بينما كان اليوم يزداد حرارة. ثمة مساحة صغيرة مرصوفة بالطوب إلى جانب الباب الجانبي كانت هي ودان يطلقان عليها دائمًا الفناء المرصوف. جلست هناك. هذا منزل تجري تدفئته بالطاقة الشمسية، ذو ألواح شمسية كبيرة من الزجاج على السطح المائل جهة الجنوب؛ أغرب منزل في البلدة. منزل غريب من الداخل، أيضًا، ذو أرفف مفتوحة في المطبخ بدلًا من الخزائن، وغرفة معيشة أعلى يتم الصعود إليها ببعض الدرجات، وهي تُطل على الحقول خلف المنزل. أطلقت هي ودان، كنوع من المزاح، على أجزاء من المنزل أكثر الأسماء تقليدية، وارتباطًا بالضواحي، مثل الفناء المرصوف، دورة المياه، غرفة النوم الرئيسية. كان دان يمزح دومًا حول الطريقة التي كان يعيش بها. شيَّد المنزل بنفسه — قامت ترودي بالكثير من أعمال الطلاء والنقاشة — وكان عملًا ناجحًا. لم تكن الأمطار تتسرب إلى الألواح الشمسية، وكان ثمة جزء من الطاقة التي تدفئ المنزل يأتي حقًّا من الشمس. ليس معظم الأشخاص الذين يمتلكون الأفكار، أو المُثل العليا، التي يمتلكها دان عمليين جدًّا. لا يستطيعون إصلاح أو صنع الأشياء؛ لا يفهمون في الأعمال الكهربية أو النجارة، أو أيٍّ مما يحتاجون إلى فهمه. دان بارع في كل شيء؛ في أعمال الحديقة، وقطع الأخشاب، وبناء المنازل. هو بارع بوجه خاص في إصلاح المحركات. كان معتادًا على السفر من مكان إلى آخر للحصول على وظيفة ميكانيكي سيارات، فني محركات صغيرة. هكذا انتهى به المطاف هنا. أتى إلى هنا لزيارة مارلين، وحصل على وظيفة ميكانيكي، وصار شريكًا في شركة إصلاح سيارات، وسريعًا جدًّا — بعد أن تزوج من ترودي، لا مارلين — وجد نفسه رجل أعمال في بلدة صغيرة، عضوًا في مؤسسة كينزمنز للأعمال الخيرية. كل هذا دون أن يحلق لحيته التي ترجع في شكلها إلى الستينيات أو يهذِّب شعره أكثر مما كان يرغب. كانت البلدة صغيرة جدًّا وكان دان أكثر ذكاءً من أن يرى أيًّا من ذلك ضروريًّا.

يعيش دان حاليًّا في منزل في ريتشموند هيل مع فتاة تُدعى جينفيف. وهي تدرس القانون. تزوجت عندما كانت صغيرة جدًّا، ولديها ثلاثة أطفال. التقاها دان منذ ثلاث سنوات عندما تعطلت سيارة التخييم التي كانت تتنقل بها على بعد أميال قليلة خارج البلدة. تحدث إلى ترودي عنها تلك الليلة؛ سيارة التخييم المؤجرة، الأطفال الثلاثة الصغار جدًّا في السن، الأم المطلقة الصغيرة المفعمة بالنشاط ذات الشعر المجدول؛ شجاعتها، وفقرها، وخططها للالتحاق بكلية القانون. إذا لم يجر إصلاح سيارة التخييم بسرعة، كان سيدعوها وأطفالها لقضاء تلك الليلة عنده. كانت في طريقها إلى المنزل الصيفي لأبويها في بوينت أو باريل.

قالت ترودي: «إذن لا يمكن أن تكون فقيرة جدًّا.»

قال دان: «يمكن أن يكون المرء فقيرًا وأبواه ثريان.»

«لا، لا يمكن.»

في الصيف الماضي، ذهبت روبين إلى ريتشموند هيل لتقضي شهرًا مع أبيها في منزله. عادت قبل ذلك. قالت إن المنزل كان أشبه بمستشفى مجانين. يجب على الطفل الأكبر الذهاب إلى عيادة متخصصة لمن لديهم صعوبات في القراءة، وكان الطفل الأوسط يبلل الفراش. جينفيف تقضي وقتها كله في مكتبة الكتب القانونية، تذاكر. لا عجب في ذلك. يذهب دان يبحث عن عروض مخفضة، ويطهو، ويعتني بالأطفال، ويزرع الخضراوات، ويقود سيارة أجرة في أيام السبت والأحد. يريد أن يؤسس شركة لإصلاح الدراجات البخارية في الجراج، لكنه لا يستطيع الحصول على ترخيص بذلك؛ يعارض الجيران ذلك.

أخبر روبين أنه سعيد. قال إنه لم يكن قط أسعد من ذلك. عادت روبين إلى المنزل ناضجةً تمامًا؛ قاسية، ساخرة، حازمة. كانت لديها ضغينة بسيطة، مستمرة لم تكن لديها من قبل. لم تستطع ترودي اقتلاعها منها، لم تستطع استخلاصها منها؛ كان قد فات الوقت الذي كانت تستطيع فيه عمل ذلك.

•••

عادت روبين إلى المنزل في الظهيرة وبدلت ملابسها. ارتدت بلوزة قطنية خفيفة، عليها ورود وكوت تنورة قطنية بلون أزرق فاتح. قالت إن بعض الفتيات في الصف ربما يذهبن إلى الجنازة بعد انتهاء اليوم الدراسي.

قالت ترودي: «نسيت أن لديك تلك التنورة.» إذا كانت تظن أن ذلك سيؤدي إلى بدء حديث، فقد كانت مخطئة.

•••

في المرة الأولى التي التقت فيها ترودي دان، كانت ثملة. كانت تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، طويلة ونحيفة (ولا تزال)، ذات شعر أسود مهوَّش متموج (قصير الآن ويبدو رماديًّا مثلما كان يبدو أسود). كانت مسمرة جدًّا، ترتدي بنطال جينز وتي-شيرت ذا ألوان زاهية جدًّا. لم تكن ترتدي صديرية ولم يكن ثمة حاجة إليها. كان هذا في ماسكوكا في شهر أغسطس، في مشرَب أحد الفنادق حيث كان ثمة فرقة موسيقية. كانت تعسكر مع صديقات لها. كان هناك مع خطيبته، مارلين. كان قد اصطحب مارلين إلى منزله للقاء أمه، التي كانت تعيش في ماسكوكا في جزيرة في فندق خالٍ. عندما كانت ترودي في التاسعة عشرة، كان هو في الثامنة والعشرين. كانت ترقص وحدها، دائخة وثملة، أمام المائدة التي كان يجلس هو ومارلين عليها، التي كانت شقراء وديعة ذات صديرية قرنفلية كبيرة مطرزة بحبات لؤلؤ صغيرة صناعية. رقصت ترودي أمامه حتى نهض وانضم إليها. في نهاية الرقصة، سأل عن اسمها، وأخذها وقدمها إلى مارلين.

قال: «هذه جودي.» سقطت ترودي، وهي تضحك، في المقعد المجاور لمارلين. جعل دان مارلين تقوم وترقص معه. أتت ترودي على جعة مارلين وذهبت تبحث عن أصدقائها.

قالت لهن: «كيف حالكن؟ أنا جودي!»

لحق بها عند باب المشرَب. كان قد ترك مارلين عند رؤية ترودي ترحل. رجل يستطيع تغيير مساره بسرعة، يرى الاحتمالات، يشتعل بحماس جديد. أخبر الناس لاحقًا أنه وقع في حب ترودي قبل أن يعرف اسمها الحقيقي. لكنه أخبر ترودي أنه بكى عندما افترق هو ومارلين.

قال: «لدي مشاعر … لا أخجل من التعبير عنها.»

لم تكنْ ترودي تكنُّ أي مشاعر تجاه مارلين على الإطلاق. تخطت مارلين سن الثلاثين؛ ماذا كانت تتوقع؟ لا تزال مارلين تعيش في البلدة، تعمل في شركة هايدرو، وهي غير متزوجة. عندما كانت ترودي ودان يتحدثان حول جينفيف، قالت ترودي: «لا بد أن مارلين تظن أنني نلت جزاء ما فعلته.»

قال دان إنه كان قد عرف أن مارلين انضمت إلى زمالة أتباع الكتاب المقدس التي لم يكن يُسمح للنساء فيها بوضع المكياج وكان عليهن ارتداء نوع من القلنسوات في الكنيسة أيام الآحاد.

قال دان: «لن تستطيع أن تحمل ضغينة ضد أي أحد الآن.»

قالت ترودي: «أراهن على ذلك.»

•••

هذا هو ما حدث في مكان الجنازة، مثلما سمعت ترودي القصة من كلفن وجانيت.

ذهبت إلى هناك جميع الفتيات في صف تريسي لي جميعًا معًا بعد انتهاء اليوم الدراسي. كان هذا خلال ما كان يُسمى بزيارة الوداع، عندما كانت العائلة توجد إلى جانب تابوت تريسي لي لاستقبال أصدقائها. كان أبواها موجودين، وكذلك كان أخوها المتزوج وزوجته، وأختها، بل حتى رفيق أختها، الذي كان يملك الشاحنة. وقفوا في صف وتراص الحاضرون في صف لتعزيتهم. أتى الكثير من الناس. يأتون دومًا، في ظروف كهذه. كانت جدة تريسي لي تجلس في نهاية الصف في مقعد مغطًّى بقماش مطرز. لم تكن قادرةً على الوقوف فترات طويلة.

كانت جميع المقاعد في مكان الجنازة مُنجدة بهذا القماش المطرز باللونين الأبيض والذهبي. كانت الستائر مطرزة على النحو نفسه، ويكاد ورق الحائط يطابقها. هناك مصابيح جدارية صغيرة خلف الزجاج القرنفلي المعتم. ذهبت ترودي إلى هناك عدة مرات وتعرف كيف يبدو المكان. لكن لم تكن روبين ومعظم هؤلاء الفتيات قد دخلن المكان من قبل. لم يكن يعرفن ماذا سيجدن. بدأ بعضهن في البكاء بمجرد دخولهن من الباب.

كانت الستائر مسدلة. كانت هناك موسيقى هادئة مسموعة؛ ليست موسيقى كنسية تمامًا، لكنها كانت تبدو مثل ذلك. كان تابوت تريسي لي أبيض ذا حواف ذهبية، متوافقًا في لونه مع كل التطريز في المكان وورق الحائط. كانت به بطانة من الساتان القرنفلي المكشكش. وسادة من الساتان القرنفلي. لم يكن ثمة أي علامة على وجه تريسي لي. لم تكن تبدو في صورتها المعتادة؛ لأن الحانوتي كان قد زينها بنفسه. لكنها كانت ترتدي أقراطها المفضلة، المثلثة ذات اللون الفيروزي والهلالية الصفراء، قرطين في كل أذن. (لم يعجب ذلك بعض الأشخاص.) في الجزء من التابوت الذي كان يمتد من وسطها إلى أسفل، كان ثمة وسادة كبيرة على شكل قلب من الورود القرنفلية.

تراصت الفتيات في صف للتحدث إلى العائلة. صافحنهم، وعزينهم، مثلما كان يفعل الجميع. عندما فرغن من ذلك، عندما تركن جميعًا الجدة تضغط بشدة على أياديهن الباردة بين يديها الدافئة، المنتفخة، المنمَّشة، تراصصن مرة أخرى، على نحو غير مرتب إلى حد ما، وبدأن في المرور بجانب التابوت. كان العديد منهن يبكين الآن، ويرتجفن. ماذا يمكن أن يتوقع المرء في ظرف كهذا؟ فهن في نهاية الأمر فتيات صغيرات.

لكنهن بدأن في الغناء عند مرورهن بجانب التابوت. في صعوبة في البداية، في خجل، لكن في ثقة متزايدة بأصواتهن الحزينة، العذبة، كن يغنين:

الآن، بينما لا تزال الزهرة تتعلق بالكرمة،
سأتذوق حبات الفراولة الخاصة بك، سأشرب خمرك العذب …

كن قد خطَّطن للأمر بأسره، بالطبع، مسبقًا؛ كن قد استمعن إلى هذه الأغنية من أسطوانة. كن يعتقدن أنها ترنيمة قديمة.

لذا، مررن الواحدة تلو الأخرى، يغنين وينظرن إلى أسفل إلى تريسي لي، ولوحظ أنهن كن يلقين بأشياء في التابوت. كن يخلعن الخواتم من أصابعهن والأساور من أيديهن، والأقراط من آذانهن. كن يخلعن العقود، وينحنين لجذب السلاسل وخيوط الخرز الطويلة فوق رءوسهن. وضعت كلٌّ منهن شيئًا. كانت كل هذه الجواهر تومض وتتلألأ على جسد الفتاة الميتة، وترقد إلى جانبها في تابوتها. جذبت إحدى الفتيات دبابيس الشعر البراقة من شعرها، وألقت بها.

لم يتحرك أحد لإيقاف ذلك. كيف يمكن أن يقاطع أحد ذلك؟ كان الأمر بمنزلة طقس ديني. تصرفت الفتيات كما لو كن قد قيل لهن أن يتصرفن على هذا النحو، كما لو كان هذا هو ما يحدث دائمًا في مناسبات كهذه. غنين، وانتحبن، وألقين بمجوهراتهن. جعل الشعور بممارسة هذه الطقوس كل واحدة منهن متألقة.

لم تكن العائلة لتوقف هذا. كانوا يعتقدون أن الأمر جميل.

قالت أم تريسي لي: «كان المكان أشبه بالكنيسة»، وقالت جدتها: «كل تلك الفتيات الصغيرات الجميلات أحببن تريسي لي. إذا كن يردن أن يهبن جواهرهن حتى يظهرن مدى حبهن لها، فهذا شأنهن. ليس هذا شأن أحد آخر. أعتقد أن الأمر كان جميلًا.»

انهارت أخت تريسي لي وبكت. كانت هذه هي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك.

•••

قال دان: «هذا اختبار محبة.»

كان يقصد محبة ترودي. بدأت ترودي تغني: «رجاء حررني، دعني أنصرف …»

ضمت يديها إلى صدرها، ورقصت في حركات مفاجئة حول الغرفة، وهي تغني. كان دان بين أن يضحك، وأن يبكي. لم يستطع منع نفسه؛ اقترب منها، واحتضنها، ورقصا معًا، وتمايلا. كانا ثملين جدًّا. طوال شهر يونيو ذاك (كان هذا منذ عامين)، كانا يشربان الجين، أثناء لقاءاتهما معًا وفي غيرها من الأوقات. كانا يشربان، ينتحبان، يتجادلان، يفسران الأمور، وكان على ترودي أن تذهب كثيرًا إلى متجر المشروبات الكحولية. لكنها لا تستطيع أن تتذكر على الإطلاق أنها كانت تشعر بأنها ثملة أو أنها كانت تعاني من الصداع بسبب آثار الخمر. فيما عدا أنها كانت تشعر بأنها مرهقة جدًّا طوال الوقت، كما لو كان ثمة قطع خشبية مقيدة إلى كعبيها.

ظلت تمزح. أطلقت على جينفيف اسم «جيني الهزيلة».

قالت: «يشبه الأمر الرغبة في التخلي عن الشركة والعمل كخزاف … ربما كان عليك أن تفعل ذلك. لم أكن حقيقةً أعارض الأمر. أنت استسلمت ولم تتم الأمر. ويشبه أيضًا عندما أردت أن تذهب إلى بيرو. لا يزال بإمكاننا أن نفعل ذلك.»

قال دان: «كل تلك الأشياء لم تكن إلا إشارات لأشياء مستقبلية.»

قالت ترودي: «كان عليَّ أن أعرف ذلك عندما بدأت مشاهدة ديوان المظالم في التليفزيون … كانت الزاوية القانونية، أليس كذلك؟ لم تكن مهتمًّا بأمور كهذه من قبل.»

قال دان: «سيفتح هذا الحياة أمامك، أيضًا، على مصاريعها … ستصبحين أكثر من مجرد زوجتي.»

«بالتأكيد. أظن أنني سأصبح جراحة مخ وأعصاب.»

«أنت ذكية جدًّا. أنت امرأة رائعة. أنت شجاعة.»

«بالتأكيد أنت لا تتحدث عن جيني الهزيلة.»

«لا، أنت. أنت يا ترودي. لا أزال أحبك. لا تستطيعين أن تفهمي أني لا أزال أحبك.»

لم يتحدث منذ فترة طويلة هكذا عن مقدار حبه لها. كان يحب نحافتها، شعرها المتموج، بشرتها الآخذة في الخشونة، طريقتها في دخول الغرفة في خطوة واسعة كانت تهز النوافذ، نكاتها، حركاتها البهلوانية، حديثها الفظ. كان يحب عقلها وروحها. كان سيحبهما دومًا. لكن كان الجزء من حياته الذي كان مرتبطًا بالعيش معها قد انتهى.

قالت ترودي: «هذا مجرد كلام. هذه طريقة حديث تشبه طريقة حديث البلهاء! … روبين، عودي إلى فراشك!» كانت روبين تقف أعلى السلالم مرتديةً ثوب نومها القصير.

قالت روبين: «أستطيع سماعكما تصيحان وتصرخان.»

قالت ترودي: «لم نكن نصيح ونصرخ … كنا نحاول أن نتحدث عن موضوع خاص.»

«ماذا؟»

«قلت لك، موضوع خاص.»

عندما عادت روبين متذمرة إلى الفراش، قال دان: «أظن أننا يجب أن نخبرها. من الأفضل أن يعرف الأبناء. لا تخفي جينفيف أي أسرار عن أطفالها. تبلغ جوسي خمسة أعوام، وجاءت إلى غرفة النوم ذات مرة فيما بعد وقت الظهيرة …»

ثم بدأت ترودي في الصياح والصراخ بالفعل. نشبت يديها في غطاء وسادة. «توقف عن التحدث معي عن حبيبتك جينفيف اللعينة وعن غرفة نومها اللعينة وأطفالها الملعونين. اخرس، توقف عن الكلام! لست إلا فمًا ثرثارًا كبيرًا دون أي عقل. لا آبه بما تفعل، فقط اخرس!»

•••

رحل دان. حزم حقيبته، ورحل إلى ريتشموند هيل. عاد في غضون خمسة أيام. خارج البلدة، كان قد توقف بالسيارة لشراء باقة ورود برية لترودي. قال لها إنه عائد بصفة نهائية، انتهى الأمر.

قالت ترودي: «لست أنت الذي تقرر ذلك؟»

لكنها وضعت الورود في الماء. ورود صقلاب قرنفلية متربة رائحتها مثل بودرة الوجه، زهور سوزان ذات عيون سوداء، بازلاء عطرية برية، وزنابق برتقالية لا بد أنها أخذت من حدائق قديمة لم تعد موجودة.

قالت: «إذن، ألم تستطع تحمل إيقاع الحياة هناك؟»

قال دان: «كنت أعلم أنك لن ترتمي في أحضاني تمامًا … لن تكوني أنت لو فعلت ذلك. ولم آت إلا من أجلك أنت.»

ذهبت إلى متجر المشروبات الكحولية، واشترت هذه المرة شامبانيا. لمدة شهر — كان الوقت لا يزال صيفًا — عاد كلٌّ منهما إلى الآخر وكانا سعيدين جدًّا. لم تعرف قط حقيقةً ماذا جرى في منزل جينفيف. قال دان إنه كان يمر بأزمة منتصف العمر، هذا كل ما في الأمر. ثاب إلى رشده. كانت حياته هنا، معها ومع روبين.

قالت ترودي: «تتحدث مثلما في عمود النصائح الزوجية.»

«حسنًا. انسَي الأمر برمته.»

قالت: «يُستحسن هذا.» كانت تستطيع تخيل الأطفال، الفوضى، الأصدقاء — الرفقاء القدامى، ربما — الذين لم يكن مستعدًّا للتعامل معهم. نكات وآراء لا يمكنه فهمها. كان هذا ممكنًا. الموسيقى التي كان يحبها، الطريقة التي كان يتحدث بها — حتى شعره ولحيته — ربما لا تساير الجو العام هناك.

كانا يذهبان في رحلات عائلية، نزهات. كانا يرقدان على الحشائش خلف المنزل ليلًا، يتطلعان إلى النجوم. كانت النجوم موضع اهتمام جديد لدان، كان لديه خريطة لها. كانا يتحاضنان، ويقبل أحدهما الآخر، كثيرًا، وجربا أشياء جديدة — أو أشياء لم يفعلاها منذ وقت طويل — عندما كانا يتضاجعان.

في هذا الوقت، كان الطريق أمام منزل يُرصف. كانا قد شيَّدا منزلهما على جانب تل على حافة البلدة، وراء المنازل الأخرى، لكن الشاحنات كانت تستخدم هذا الطريق كثيرًا، متجنبةً الشوارع الرئيسية؛ لذا كانت البلدة تتولى رصفه. اعتادت ترودي جدًّا على الضوضاء والاهتزاز المستمر، حتى إنها كانت تقول إنها كانت تشعر بنفسها تهتز طوال الليل، حتى عندما يكون كل شيء ساكنًا. كان العمل يبدأ في الساعة السابعة صباحًا. كانا ينهضان وسط كم كبير من الضوضاء. كان دان يجر نفسه جرًّا من الفراش آنذاك، مفتقدًا ساعة النوم التي كان يحبها أكثر من أي ساعة أخرى. كان ثمة رائحة وقود ديزل في الهواء.

استيقظت ذات ليلة لتجده غير موجود في الفراش. أنصتت لتسمع ما إذا كان هناك صوت ضوضاء في المطبخ أو غرفة النوم، لكنها لم تستطع أن تسمع شيئًا. نهضت وتجولت عبر المنزل. لم يكن ثمة أي ضوء مضاء. وجدته جالسًا في الخارج، خارج باب المنزل، لا يتناول شرابًا أو كوبًا من اللبن أو قهوة، جالسًا وظهره إلى الشارع.

نظرت ترودي إلى الأرض المكسرة وإلى الآلات الكبيرة المنتظرة. وقالت: «أليس الهدوء رائعًا؟»

لم يقل أي شيء.

أوه. أوه.

أدركت ما كانت تفكر فيه عندما وجدت مكانه في الفراش خاليًا ولم تستطع سماعه في أي مكان في المنزل. ليس الأمر أنه تركها، لكنه فعل ما هو أسوأ. كانت تظن أنه تخلص من نفسه. من كل سعادتهما، وأحضانهما، وقبلاتهما، ونجومهما، ونزهاتهما.

قالت: «أنت لا تستطيع أن تنساها … أنت تحبها.»

«لا أعرف ماذا أفعل.»

كانت مسرورة أنها فقط تستطيع سماعه يتحدث. قالت: «عليك أن تذهب وتحاول مرة أخرى.»

قال: «لا يوجد ما يضمن أنني سأستطيع البقاء هناك … لا أستطيع أن أطلب منك أن تنتظريني.»

قالت ترودي: «لا … إذا رحلتَ، فهذه هي نهاية الأمر.»

«إذا رحلتُ، فهذه هي نهاية الأمر.»

بدا مشلولًا. شعرت أنه ربما سيبقى جالسًا في مكانه، يكرر ما قالت، ولن يستطيع أن يتحرك أو ينطق أبدًا بشيء آخر.

قالت: «إذا كان شعورك هكذا، فهذا هو كل ما في الأمر … لست مضطرًّا إلى الاختيار. لقد اخترت بالفعل.»

نجح ذلك. نهض متصلبًا، جاء إليها، وطوقها بذراعيه. مرر يده برفق على ظهرها.

قال: «هيا نعُدْ إلى الفراش … يمكننا أن نستريح قليلًا.»

«لا. عليك أن تكون قد رحلت عندما تستيقظ روبين. إذا عدنا إلى الفراش، فسيبدأ الجدال بيننا من جديد.»

صنعت له ترمسًا من القهوة. حزم الحقيبة التي كان قد أخذها معه قبل ذلك. بدت جميع حركات ترودي ماهرة ورائعة، مثلما لم تكن من قبل، في الغالب. كانت تشعر بهدوء نفسي. كانت تشعر كما لو كانا زوجين هرمين يتحركان في تناغم، في حب صامت، متجاوزين الألم، متجاوزين الغفران. لم يكن وداعهما صعبًا. ذهبت معه إلى الخارج. كانت الساعة بين الرابعة والنصف والخامسة؛ كانت السماء تبدأ في الإشراق، والطيور في الاستيقاظ، وكان كل شيء غارقًا في الندى. كانت الآلات المسالمة الكبيرة تقف هناك، عالقة في أخاديد الطريق.

قالت: «لعل ما هو طيب في الأمر أنك لم تخرج في الليلة السابقة؛ لم تكن ستستطيع أن ترحل.» كانت تعني أن السير في الطريق كان مستحيلًا. مهَّدوا أمس فقط مسارًا ضيقًا لسير المرور المحلي عليه.

قال: «أمر طيب.»

وداعًا.

•••

«كل ما أريد أن أعرفه هو لماذا فعلت ذلك. هل فعلتِ ذلك فقط من أجل التباهي؟ مثل أبيك؛ من أجل التباهي؟ لا يتعلق الأمر بالعقد كثيرًا. لكنه كان جميلًا، أحب العقود المصنوعة من الكهرمان. كان الشيء الوحيد الذي نملكه من جدتك. صحيح أنه من حقك، لكنك ليس لديك الحق في أن تفاجئيني هكذا. أستحق منك أن تقدمي لي تفسيرًا للأمر. أفضل دومًا هذا النوع من العقود. لماذا؟»

•••

تقول جانيت: «أُلقِي باللائمة على العائلة … كان من المفترض أن يوقفوا الأمر. كانت بعض الأشياء مصنوعة من البلاستيك — تلك الأقراط والأساور المقلدة — أما بخصوص ما ألقته روبين، فكان ذلك جريمة. ولم تكن هي الوحيدة التي فعلت هذا. كانت هناك خواتم من الأحجار الكريمة وسلاسل ذهبية. قال أحدهم إنه كان هناك خاتم ماسي، لكنني لا أعرف إذا كان يمكن أن أصدق هذا أم لا. قالوا إن الفتاة ورثته، مثل روبين. أنت لم تثمنيه من قبل، أليس كذلك؟»

تقول ترودي: «لا أعرف إذا كانت العقود المصنوعة من الكهرمان تساوي الكثير.»

يجلسان في غرفة جانيت الأمامية، يصنعان ورودًا من المناديل الورقية قرنفلية اللون.

تقول ترودي: «هذا غباء.»

تقول جانيت: «حسنًا. يوجد شيء واحد يمكن أن تفعليه … لا أعرف كيف أذكره.»

«ماذا؟»

«صلِّي.»

كان يخالج ترودي الشعور، من خلال نبرة صوت جانيت، بأنها كانت ستقول لها شيئًا خطيرًا وغير سارٍّ، شيئًا عن نفسها — ترودي — يؤثر على حياتها وبأن الجميع كانوا يعرفونه سواها. تريد أن تضحك الآن، بعد تأهبها. لا تعرف ماذا تقول.

تقول جانيت: «أنت لا تصلين، أليس كذلك؟»

تقول ترودي: «ليس لدي أي اعتراض ضد الصلاة … لم تتم تربيتي كي أصبح متدينةً.»

تقول جانيت: «لا يتعلق الأمر بالتدين حرفيًّا … أعني، لا يتعلق الأمر بالارتباط بأي كنيسة. يصلي بعضنا مع بعض فحسب. لا أستطيع أن أخبرك بأسماء الجميع، لكنك تعرفين معظمهم. من المفترض أن يكون الأمر سرًّا. تُسمى حلقة الصلاة.»

تقول ترودي: «مثلما في المدرسة الثانوية … كانت ثمة مجموعات سرية في المدرسة الثانوية، ولم يكن من المفترض أن يجري ذكر أسماء من كان بها. لم أكن في أيٍّ منها.»

تتنهد جانيت قائلةً: «كنت جزءًا من كل شيء يحدث … هذا الأمر جدي حقيقةً. على الرغم من أن بعض الأشخاص لا يأخذون الأمر على محمل الجدية بما يكفي، فأنا لا أعتقد هذا. بعض الأشخاص، يصلون حتى يجدوا مكانًا للانتظار، أو يصلون من أجل أن يكون الطقس جيدًا في أيام عطلاتهم. ليست الحلقة من أجل ذلك. ليست هذه إلا صلاة فردية. تدور الأمور في الحلقة حقيقةً كما يلي: تقومين بالاتصال بشخص ما فيها وتخبرينه ما الذي يقلقك، أو يزعجك، وتطلبين منه أن يصلي من أجلك. وسيفعل ذلك. ويهاتف هذا الشخص شخصًا آخر في الحلقة، ثم يهاتف الشخص الآخر شخصًا ثالثًا، وهكذا دواليك، الكل يصلي من أجل شخص واحد.»

تقذف ترودي وردة بعيدًا. وتقول: «هذا أمر سقيم. هل تكون الحلقة كلها من النساء؟»

«لا توجد أي قاعدة تقول إنه يجب أن تكون الحلقة كلها من النساء. لكنها كذلك، نعم. سيشعر الرجال بإحراج بالغ. كنت محرجة في البداية. لا يعرف سوى أول شخص تهاتفينه اسمك، وما الشيء أو الشخص الذي يجري الصلاة من أجله، لكن في بلدة كهذه يمكن للجميع تقريبًا تخمين هوية الشخص المتصل. لكننا إذا بدأنا في النميمة حول بعضنا والإفصاح عن أمور تتعلق بنا، فلن ينجح الأمر، والجميع يعرف هذا؛ لذا لا نفعل هذا. وهكذا ينجح الأمر.»

تقول ترودي: «هل يمكن أن تعطيني أمثلة؟»

«حسنًا، أحدثت إحدى الفتيات تلفيات بالغة بسيارتها. كلفها ذلك ثمانمائة دولار، وكان موقفًا صعبًا؛ حيث لم تكن متأكدة مما إذا كان تأمينها سيغطي ذلك أم لا، وهكذا كان زوجها — كان في شدة الغضب — لكننا صلينا جميعًا، فكان أن غطى التأمين ذلك دون أي مشكلات. ليس هذا إلا مجرد مثال.»

تقول ترودي: «لن تفيد كثيرًا الصلاة لاسترجاع العقد بينما هو في التابوت والجنازة هذا الصباح.»

«لست أنت من تحددين ذلك. لا يمكنك تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. لا تملكين إلا طلب ما تريدين؛ لأن الكتاب المقدس يقول: «اسألوا تُعطوا.» كيف يمكن أن تتوقعي المساعدة إذا لم تطلبيها؟ لا يمكنك ذلك، هذا مؤكد. ماذا عن دان عندما رحل؛ ماذا لو كنت صليت حينها؟ لم أكن عضوة في الحلقة آنذاك، وإلا كنت سأطلب منك أن تصلي. حتى إذا كنت أعرف أنك ستعارضين، كنت سأطلب منك أن تصلي. يعارض الكثير من الناس ذلك. الآن، صحيح أن الأمر لا يبدو مجديًا جدًّا مع تلك الفتاة، لكن من يعرف؟ ربما ينجح الأمر الآن، ربما لا يكون الوقت متأخرًا أكثر مما ينبغي.»

تقول ترودي، في صوت قوي، مبتهج: «حسنًا … حسنًا.» تزيح كل الورود اللينة عن حجرها. «سأجثو على ركبتيَّ الآن وأصلي كي أستعيد دان مجددًا. سأصلي لأستعيد العقد مرة أخرى ولأستعيد دان، ولماذا يجب أن أقف عند هذا الحد؟ يمكن أن أصلي لئلا تموت تريسي لي. سأصلي كي تعود إلى الحياة. لماذا لم تفكر أمها قط في ذلك؟»

•••

أخبار طيبة. جرى إصلاح المسبح. سيستطيعون ملأه بالماء غدًا. لكن كلفن محبط. في وقت مبكر من وقت ما بعد الظهيرة في هذا اليوم — وكان من أسبابه أن يحول دون إزعاجهما الرجال الذين كانوا يصلحون المسبح — اصطحب ماري وجوزفين إلى الجزء الراقي من البلدة. اشترى لهما آيس كريم. طلب منهما أن ينتبها وأن يتناولا الآيس كريم بسرعة؛ لأن الشمس كانت شديدة وكان الآيس كريم سيذوب. كانتا تلعقان الآيس كريم من وقت إلى آخر، كما لو كان أمامهما اليوم بأكمله. سرعان ما سال الآيس كريم على ذقنيهما وذراعيهما. كان كلفن قد تناول عددًا من المناديل الورقية، وحاول أن يمسح آثار الآيس كريم ولكنه لم يتمكن من القيام بذلك بالسرعة الكافية. سال الآيس الكريم عليهما في كل مكان. كان مشهدًا لافتًا للأنظار. لم تأبها. أخبرهما كلفن أن منظرهما ليس رائعًا حتى يمكن أن تخاطرا بأن تبدوا على هذا النحو.

قال: «لا يفضل بعض الناس رؤيتنا على أي حال … لا يعتقد بعض الناس حتى أننا يجب أن يُسمح لنا بالذهاب إلى الجزء الراقي من البلدة. اعتاد الناس فقط على رؤيتنا، وعدم التحديق فينا مثل مسوخ، وها أنتما تصنعان فوضى وتفسدان كل شيء.»

سخرتا منه. كان يمكن أن يُخضع ماري إذا كانت وحدها، لكنه لا يستطيع ذلك عندما تكون مع جوزفين. كانت جوزفين هي من تحتاج إلى نوع من التأديب على غرار النمط القديم، من وجهة نظر كلفن. كان كلفن قد عاش في أماكن لم يكن أحد يفلت فيها من العقاب عن أي شيء خاطئ فعله مثلما يحدث هنا. لم يكن يوافق على الضرب. كان قد رأى الكثير منه، لكنه لم يكن يتفق مع ذلك، حتى على اليد. أما شخص مثل جوزفين فيمكن حبسه في غرفته. يمكن إرغامها على الجلوس في ركن، يمكن إرغامها على تناول الخبز والماء فقط، وهو ما سيفضي إلى نتائج طيبة. كل ما كانت ماري تحتاج إليه هو التحدث إليها؛ كانت شخصيتها ضعيفة. لكن كانت جوزفين شيطانةً.

تقول ترودي: «سأتحدث إلى كلتيهما … سأطلب منهما أن تتأسفا.»

يقول كلفن: «أريدهما أن تشعرا بالأسف على ما فعلتاه … لا آبه إذا قالتا إنهما آسفتان. لن أصطحبهما أبدًا مرة أخرى.»

لاحقًا، بينما الجميع نائمون، تقنعه ترودي بأن يجلس ليلعب إحدى ألعاب الورق معها في الشرفة المسيجة بالأسلاك. يلعبان لعبة الثمانية المجنونة. يقول كلفن إن هذا ما يستطيع فعله في تلك الليلة؛ يشعر بصداع في رأسه.

في الجزء الراقي من البلدة، قال رجل له: «مرحى! أيهما رفيقتك من بين الاثنتين؟»

تقول ترودي: «غبي … هذا رجل أحمق.»

قال الرجل الذي كان يتحدث إلى الرجل الأول: «أيهما ستتزوج؟»

«لا يعرفانك يا كلفن. إنهما أحمقان.»

لكنهما كانا يعرفانه. كان أحدهما يُدعى رِج هوبر، والآخر باد دلايل. باد دلايل الذي كان يبيع العقارات. كانا يعرفانه. كانا قد تحدثا إليه لدى الحلاق، وكانا يناديانه باسم كلفن. «مرحى كلفن! أيهما ستتزوج؟»

تقول ترودي: «مخبولان … هذا ما ستقوله روبين.»

يقول كلفن: «يظن المرء أنهما صديقان له، لكنهما ليسا كذلك … يحدث هذا كثيرًا.»

تذهب ترودي إلى المطبخ لتعد بعض القهوة. تريد أن تعد قهوة طازجة تقدمها لجانيت عندما تأتي. اعتذرت هذا الصباح، وقالت جانيت: لا بأس في ذلك، أعلم أنك لست على ما يرام. لا بأس على الإطلاق. في بعض الأحيان أعتقد أنها صديقة لي، وهي كذلك بالفعل.

تنظر إلى جميع الأقداح المعلقة في مشاجبها. ذهبت هي وجانيت تتسوقان في أماكن كثيرة بحثًا عنها. قدح باسم كل شخص: ماري، جوزفين، آرثر، كلفن، شيرلي، جورج، دورندا. ربما يعتقد المرء أن اسم دورندا هو أصعب الأسماء في العثور عليه، لكن في حقيقة الأمر، كان الاسم الأصعب على الإطلاق هو شيرلي. حتى الأشخاص الذين لا يستطيعون القراءة عرفوا كيف يتعرفون على أقداحهم، من خلال اللون والرسوم.

ذات يوم، ظهر قدحان، اشتراهما كلفن. كان أحدهما يحمل اسم ترودي، والآخر جانيت.

قالت جانيت: «لست سعيدة جدًّا لوجود قدح عليه اسمي ضمن صف الأقداح هذا … لكنني لن أجرح شعوره مهما كان الأمر.»

•••

من أجل شهر العسل، اصطحب دان ترودي إلى الجزيرة حيث البحيرة التي يطل عليها فندق أمه. كان الفندق مغلقًا، لكن كانت أمه لا تزال تعيش هناك. كان والد دان ميتًا، وكانت تعيش هناك وحدها. كانت تقود زورقًا ذا محرك خارجي عبر البحيرة لشراء بقالتها. في بعض الأحيان كانت تخطئ، فتنادي ترودي باسم مارلين.

لم يكن الفندق فخمًا. كان عبارة عن صندوق خشبي أبيض على أرض خالية بالقرب من الشاطئ. كان ثمة صناديق صغيرة عبارة عن كبائن ملتصقة خلفه. أقام دان وترودي في واحدة من تلك الكبائن. كان ثمة موقد خشبي في كل كابينة. كان يشعل دان نارًا ليلًا للتخفيف من وطأة البرد. لكن الأغطية كانت رطبة وثقيلة عندما استيقظ هو وترودي في الصباح.

اصطاد دان بعض الأسماك وطهاها. تسلق هو وترودي الصخرة الكبيرة الموجودة خلف الكبائن وجمعا بعض حبات التوت الأزرق. سألها هل كانت تعرف كيف تصنع عجينة فطيرة، لكنها لم تكن تعرف. لذا، أوضح لها كيف تصنعها، فاردًا العجينة باستخدام زجاجة ويسكي.

في الصباح كان هناك ضباب رقيق فوق البحيرة، مثلما يرى المرء في الأفلام أو في اللوحات.

في ظهيرة أحد الأيام، ظل دان بالخارج أكثر من المعتاد، يصطاد. انشغلت ترودي فترة في المطبخ، تزيل الغبار عن الأشياء، وتغسل بعض الدوارق. كان أقدم المطابخ وأكثرها ظلامًا التي رأتها في حياتها، وكان ذا رفوف خشبية لحمل أطباق الغذاء حتى تجف. خرجت وتسلقت الصخرة وحدها، ظانةً أنها ستقتطف بعض حبات التوت الأزرق. لكن كان الظلام حالًا بالفعل تحت الأشجار؛ جعلت الأشجارُ الدائمةُ الخضرةِ المكانَ تحت الأشجار مظلمًا، وكانت تخاف من ظهور حيوانات برية. جلست على الصخرة ناظرةً إلى سطح الفندق، وأوراق الأشجار الميتة القديمة، وألواح السقف المتكسرة. سمعت صوت موسيقى تعزف على البيانو. نزلت عن الصخرة وتتبعت صوت الموسيقى إلى واجهة المبنى. سارت بطول الشرفة الخارجية الأمامية وتوقفت عند نافذة، ناظرةً إلى الغرفة التي كانت تستخدم كقاعة انتظار؛ الغرفة ذات المدفأة الحجرية المسودة، المقاعد الجلدية الضخمة، السمكة المريعة المعلقة.

كانت أم دان موجودة هناك، تعزف على البيانو. كانت امرأة طويلة، عجوزًا، مستقيمة الظهر، ذات شعر أسود مائل إلى الرمادي معقوص في عقدة صغيرة. كانت تجلس وتعزف على البيانو، دون إضاءة أي أنوار، في الغرفة شبه المظلمة، شبه الخالية من الأثاث.

كان دان قد قال لترودي إن أمه تنتمي إلى عائلة ثرية. كانت قد تلقت دروسًا في عزف البيانو، ودروسًا في الرقص؛ كانت قد طافت حول العالم عندما كانت فتاة صغيرة. كانت ثمة صورة لها تمتطي جملًا. لكنها لم تكن تعزف مقطوعة موسيقية كلاسيكية، نوع الموسيقى التي يتوقع المرء أنها تعلمته. كانت تعزف مقطوعة «إنها الثالثة صباحًا». عندما بلغت نهايتها، بدأت مرة أخرى. ربما كانت مقطوعة مفضلة لديها، مقطوعة كانت ترقص على وقع نغماتها في الأيام الخوالي. أو ربما أنها تكررها لأنها لم تكن راضية عن عزفها لها.

لماذا تتذكر ترودي هذه اللحظة الآن؟ ترى نفسها الشابة تنظر عبر النافذة إلى المرأة العجوز التي تعزف على البيانو؛ الغرفة المعتمة، ذات المدفأة ودعائم السقف الضخمة، والمقاعد الجلدية الوحيدة. صوت قعقعةِ وترددِ وتواصلِ موسيقى البيانو. تتذكر ترودي ذلك بوضوح جدًّا، ويبدو كما لو أنها تقف خارج جسدها، الذي كان يتألم آنذاك جراء ملذات الحب المنهكة. وقفت خارج سعادتها في مد من الحزن. وحدث عكس هذا في صباح اليوم الذي رحل دان فيه. حينها وقفت خارج تعاستها في مد ما بدا شيئًا مثل الحب على نحو غير معقول. لكن لم يكن الأمر مختلفًا حقًّا عما كان عندما تخرج. ما تلك الأوقات التي تظل عالقة بالذهن، أوقات بارزة في حياة المرء؛ ماذا على المرء أن يفعل بها؟ ليست هذه إشارات مستقبلية تمامًا. فترات راحة. هل هذا هو كل ما في الأمر؟

•••

تمضي إلى الردهة الأمامية وتتسمع أي ضوضاء صادرة من أعلى. كل شيء هادئ، الجميع تناول دواءه.

•••

يرن جرس الهاتف إلى جانب رأسها مباشرةً.

تقول روبين: «ألا تزالين هنا؟ … ألن ترحلي؟»

«لا أزال هنا.»

«هل أستطيع أن آتي إليك جريًا ثم أعود راكبة معك؟ لم أمارس رياضة الجري في وقت مبكر اليوم؛ لأن الجو كان شديد الحرارة.»

•••

قذفتِ الدورق. كان من الممكن أن تقتليني.

نعم.

•••

يبدو كلفن، الذي كان ينتظر عند مائدة اللعب، تحت الضوء، مبيضًا وشيخًا. ثمة فيض من الضوء يبيِّض شعره البني. ينحني وجهه، منتظرًا. يبدو شيخًا، منكفئًا على نفسه، ملفوفًا في غطاء سميك من الحيرة، لا يشعر بوجودها تقريبًا.

تقول ترودي: «هل تصلي؟» لم تكن تعلم أنها كانت ستسأله عن ذلك. «أعني، هذا أمر لا يخصني. لكن، هل تصلي من أجل أي شيء محدد؟»

يجيب عليها بنعم، وهو ما يدهشها إلى حد ما. يمتعض وجهه، كما لو كان قد شعر بالحبل الذي هو بحاجة إليه ليطفو إلى السطح.

يقول: «إذا كان لدي من الذكاء ما يمكنني من أن أعرف الأشياء التي يمكن أن أصلي من أجلها، عندئذٍ لن أكون مضطرًّا للصلاة من الأساس.»

يبتسم لها، بنوع من التآمر الخفي، ذاكرًا مزحته المعروفة. ليس مقصودًا من المزحة الإسعاد، على وجه الخصوص. لكنها مع ذلك كانت تتخللها؛ فالمزحة التي قالها، والطريقة التي قالها بها، ومجرد حقيقة أنه موجود هناك مرة أخرى، كل هذا كان يتخللها بالطريقة التي تتخلل بها بعضُ السخافات نفسَ المرء عندما يكون في غاية التعب. على هذا النحو، عندما كانت شابة، وتتمتع بروح معنوية مرتفعة، قد يصبح أي شخص أو أي لحظة من حياتها أشبه بزنبقة تطفو على ماء النهر الملتحف بالضباب، لحظة مثالية ومألوفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤