الرجل ذو القبعتين

سأل ديفيدسون: «هل هذا الذي هناك أخوك؟ … ما الذي يفعله؟»

اتجه كولن إلى النافذة ليرى ماذا يفعل روس. ليس شيئًا ذا بال. كان روس يستخدم المقص ذا اليد الطويلة لقص الحشائش في الممر الجانبي المفضي إلى الباب الأمامي للمدرسة. كان يعمل بمعدل طبيعي وبدا منتبهًا إلى ما يفعل.

سأل ديفيدسون: «ماذا يفعل؟»

كان روس يرتدي قبعتين. كانت إحداهما القبعة ذات اللونين الأخضر والأبيض التي حصل عليها الصيف الماضي من متجر الأعلاف، وكانت الأخرى — التي تعلوها — القبعة العريضة القديمة المصنوعة من القش القرنفلي التي كانت أمهما ترتديها في الحديقة.

قال كولن: «لا أعرف.» كان ديفيدسون يظن أن هذا نوع من الخبث.

«أتعني لماذا يرتدي قبعتين؟ لا أدري. لا أعرف حقيقةً. ربما نسي.»

كان ذلك في المكتب الأمامي، خلال ساعات الدراسة فيما بعد ظهيرة يوم الجمعة، كانت السكرتيرات منكبَّات على مكاتبهن لكنهن كنَّ يُبقين آذانهن مفتوحة. كان لدى كولن حصة تربية رياضية في تلك اللحظة — وقد جاء إلى المكتب فقط كي يرى ماذا حدث للصبي الذي كان قد استأذن بسبب مرضه قبل نصف ساعة — ولم يكن يتوقع أن يجد ديفيدسون هناك. لم يكن مستعدًّا لتقديم أعذار بشأن روس.

قال مدير المدرسة: «هل هو شخص كثير النسيان؟»

«ليس أكثر من العادي.»

«ربما يظن أنه يبدو مضحكًا بهذه الصورة.»

صمت كولن.

«لدي حس فكاهة لكن يجب على المرء ألا يمزح في وجود الأطفال. تعرف كيف يتصرفون. يوجد ما يكفي كي يجعلهم يضحكون على أي حال، دون حاجة إلى المزيد. سيتخذون من أي شيء عذرًا لتشتت انتباههم، ثم أنت تعرف بالطبع ماذا سيحدث بعد ذلك.»

قال كولن: «هل تريدني أن أخرج وأتحدث إليه؟»

«دع الأمر الآن. يوجد تقريبًا فصلان يلاحظان ما يفعله، وإن خرجت إليه الآن فسيجذب هذا انتباههم إليه أكثر. يمكن أن يتحدث السيد بوكس إليه إذا كان يجب على أحد أن يتحدث إليه. في حقيقة الأمر، تحدث السيد بوكس معي عنه.»

كان كوني بوكس مسئول النظافة والصيانة بالمدرسة، الذي كان قد عين روس لتنظيف الأرضيات في المدرسة خلال فصل الربيع.

قال كولن: «أوه! ماذا؟»

«يقول إن أخاك لا يحافظ على مواعيد العمل بشكل كبير.»

«هل يؤدي عمله كما هو مطلوب؟»

«لم يقل إنه لم يفعل.» أعطى ديفيدسون كولن واحدة من ابتساماته مزمومة الشفاه، غير المكترثة، المبتذلة. «يميل فقط إلى أن يتصرف كيفما يرى.»

•••

كان يوجد تشابه كبير بين كولن وروس في الشكل: فهما طويلا القامة، مثلما كان أبوهما، وذوا بشرة بيضاء وشعر أشقر، مثل أمهما. كان كولن يمتلك جسدًا رياضيًّا، وترتسم تعبيرات حيية، صارمة على وجهه. كان جسم روس، على الرغم من أنه الأصغر، مترهلًا من البطن؛ كان يبدو شكل جسمه غير منتظم بشكل أكبر. وكانت ترتسم على وجهه تعبيرات تبدو ماكرة وبريئة في آن واحد.

لم يكن روس متخلفًا عقليًّا. لم يكن متخلفًا عن زملائه في نفس مرحلته العمرية في المدرسة. كانت أمه تقول إنه عبقري في الأعمال الميكانيكية. ولم يكن هناك أحد آخر على استعداد للمبالغة في وصفه إلى هذه الدرجة.

•••

سأل كولن أمه قائلًا: «إذن؟ هل روس معتاد على الاستيقاظ في الصباح؟ هل لديه منبه؟»

قالت سيلفيا: «إنهم محظوظون أن يكون لديهم شخص مثله.»

لم يكن كولن يعلم ما إذا كان سيجدها في المنزل أم لا. كانت تعمل بنظام النوبات كمساعدة ممرضة في المستشفى، وعندما لا تكون في العمل، تكون عادةً خارج المنزل. كان لديها العديد من الأصدقاء والكثير من الالتزامات.

قالت: «أنت محظوظ أنني بالمنزل … أعمل في المناوبة الأولى هذا الأسبوع والأسبوع التالي، لكنني عادةً أذهب إلى إيدي بعد العمل وأقوم ببعض أعمال التنظيف لأجله.»

كان إيدي صديق سيلفيا، رجلًا أنيقًا ونشيطًا في السبعين من عمره، ترمَّل مرتين، بلا أطفال ويملك مالًا كثيرًا، مالك جراج متقاعد وبائع سيارات، وبالتأكيد يستطيع تحمُّل تكاليف تعيين أحد الأشخاص لتنظيف منزله. ماذا كانت سيلفيا تعرف عن تنظيف المنازل على أي حال؟ طوال الصيف الماضي، كانت قد تركت الغطاء الشتوي البلاستيكي موضوعًا على النوافذ الأمامية حتى تتجنب مشقة خلعه وإعادة وضعه مرة أخرى. قالت زوجة كولن، جلينا، إن شكل الزجاج جعلها تشعر كما لو كانت تنظر عبر نظارات غائمة؛ لم تكن تطيق ذلك. وكان المنزل — الكوخ المغطَّى بالطوب العازل الذي يعيش فيه روس وسيلفيا — ممتلئًا بالأثاث والأشياء القديمة، حتى إن بعض الغرف تحولت إلى ممرات. كان يتكدس فوق معظم الأسطح مجلات، وصحف، وأكياس بلاستيكية وورقية، وكتالوجات، ومنشورات، ومطويات دعائية لتخفيضات كانت موجودة ثم اختفت، وفي بعض الأحيان لشركات توقف نشاطها ولمنتجات كانت قد اختفت من السوق. ربما يجد المرء في مرمدة سجائر أو طبق مزخرف زرًّا أو اثنين، مفاتيح، كوبونات مقصوصة تعد بتخفيضات تصل إلى عشرة سنتات، قرطًا، كبسولة دواء لعلاج البرد لا تزال في غطائها البلاستيكي، قرص فيتامين تحوَّل إلى مسحوق، فرشاة ماسكرا، مشبك ملابس مكسورًا. وكانت خزائن سيلفيا ممتلئة بجميع أنواع سوائل التنظيف ومواد التلميع؛ ليست من النوع الذي يوجد في المتاجر، بل منتجات من المفترض أنها تتمتع بفاعلية فريدة ومدهشة، تُشترى في الحفلات الخيرية. تدفع سيلفيا كل أموالها مقابل تلك الأشياء التي كانت تشتريها في تلك الحفلات؛ مستحضرات التجميل، الأواني وأدوات المطبخ، أدوات الخبز، السلطانيات البلاستيكية. كانت تحب التبرَّع والذهاب إلى هذه الحفلات، وإلى حفلات العرائس قبل زفافهن، وإلى حفلات ميلاد الأطفال، وإلى حفلات الوداع لزملائها الذين كانوا يتركون العمل في المستشفى. هنا في هذه الغرف شديدة التكدس، كانت توزع، وحدها، قدرًا كبيرًا من كرم الضيافة المسرفة، المشرقة.

صبَّت الماء من الغلاية على القهوة المسحوقة في أكوابهما، التي كانت قد شطفتها سريعًا في الحوض.

قال كولن: «هل كانت تغلي؟»

«تقريبًا.»

أخرجت بعض كعك المارشملو ذي اللونين القرنفلي والأبيض خارج غلافها البلاستيكي.

«أخبرت إيدي أنني أريد أن آخذ فترة ما بعد الظهيرة راحة. يعتقد أنه يمتلكني.»

قال كولن: «لا يمكنني تقبُّل ذلك.»

كان يتخذ موقفًا نقديًّا خفيفًا عادةً من رفقائها من الرجال.

كانت سيلفيا امرأة قصيرة ذات رأس كبير — صار أكبر من خلال شعرها المهوَّش، الآخذ في التحول إلى اللون الرمادي — وأرداف وأكتاف عريضة. كان أحد رفقائها من الرجال يقول لها إنها كانت تبدو مثل فيل صغير، وكانت تعتبر ذلك — في البداية — نوعًا من الإطراء. كان كولن يعتقد أن ثمة شيئًا أخرق وجذَّابًا في مظهرها ووجهها العريض ذي البشرة قرنفلية اللون الناعمة، والعينين صافيتي الزرقة تحت حاجبين خفيفين جدًّا، وابتسامتها الحماسية في جميع الأوقات. كان ثمة شيء مثير للغضب أيضًا.

كان موضوع روس أحد الأشياء القليلة التي تجعل وجهها يعبس. ذلك، وطلبات رفقائها من الرجال وتصرفاتهم الغريبة، عندما يبدءون في فقدان بريقهم.

هل كان إيدي على وشك أن يفقد بريقه؟

قالت سيلفيا: «أقول له إنه يشعر بأنه تملكني.» ثم أخبرت كولن مزحة كانت منتشرة في المستشفى، عن رجل أسود ورجل أبيض في المبولة.

قال كولن: «إذا كنت تعملين في المناوبة الأولى … فكيف تعرفين متى يستيقظ روس؟»

«يوجد من يشتكي من روس، أليس كذلك؟»

«حسنًا. يقولون إنه لا يحافظ على مواعيد العمل.»

«سيكتشفون مزاياه بأنفسهم. إذا كان لديهم أي شيء ميكانيكي أو كهربي تعطل لسبب ما، فسيسرهم أن يستعينوا بروس. يمتلك روس عقلًا لا يقل في رجاحته عن عقلك، لكنه يعمل في اتجاه مختلف.»

قال كولن: «لن أجادل بشأن ذلك … لكن عمله هو تنظيف الأرضيات.»

قالت جلينا إن السبب في أن سيلفيا تقول إن روس عبقري — بغض النظر عن كونه ماهرًا حقًّا فيما يتعلق بالمحركات — هو أنه يمتلك الجانب الآخر من العبقرية؛ فهو شارد الذهن وغير نظيف بشكل كامل. كان يسترعي الانتباه إليه. كان غريبًا، وهذا هو الشكل الذي من المفترض أن يكون عليه العبقري. لكن ذلك في حد ذاته، مثلما قالت جلينا، لا يعتبر دليلًا كافيًا على عبقريته.

ثم كانت تقول دومًا: «مع ذلك، أحب روس. لا يملك المرء إلا أن «يحبه». أحبه وأحب أمك. أحبها أيضًا.» كان كولن يعتقد أنها تحب روس. لكنه لم يكن واثقًا مما إذا كانت تحب أمه أم لا.

كانت أمه تقول له: «لن أذهب إلى منزلك يا كولن إلا عندما أُدعى إلى ذلك … صحيح أن هذا منزلك، لكنه منزل جلينا أيضًا. على الرغم من ذلك، أنا سعيدة أن روس مرحب به هناك.»

قال كولن: «ذهبت إلى المكتب الأمامي اليوم … وكان هناك ديفيدسون ينظر خارج النافذة.» لم يكن يعلم ما إذا كان ينبغي أن يخبر أمه أم لا عن أمر القبعتين. مثلما هي العادة، أرادها أن تنزعج قليلًا بشأن روس، وإن لم يكن يريدها أن تنزعج كثيرًا. بدا مشهد روس وهو يعمل هناك، حاملًا المقص الكهربي، وحده تمامًا في فناء المدرسة — معتمرًا قبعة قش قرنفلية واسعة فوق قبعة رياضية لينة — بالنسبة لكولن مشهدًا جديدًا، مشهدًا مزعجًا جديدًا. كان قد رأى روس مرتديًا ملابس غريبة من قبل؛ رآه ذات مرة مرتديًا باروكة سيلفيا الشقراء في السوبر ماركت. كان ذلك متعمدًا أكثر من مظهره اليوم، وبالتأكيد مضحكًا أكثر، من وجهة نظر روس بالطبع. اليوم أيضًا، ربما كان روس يفكر في جميع الأطفال الذين كانوا يشاهدونه من خلف النوافذ، والمعلمين وموظفات الآلة الكاتبة وديفيدسون وأي شخص آخر كان مارًّا. لكنه لم يكن يفكر فيهم تحديدًا. كان ثمة شيء فيما قام به روس اليوم يوحي بتزايد عدد جمهوره وعدم وضوح ملامحهم؛ شمل جمهوره البلدة كلها، العالم كله، ولم يكن روس مباليًا لكل هذا. إشارة ما، هكذا حدَّث كولن نفسه. لم يكن يعلم إشارة إلى ماذا؛ مجرد إشارة إلى أن روس كان يمضي قدمًا في الطريق الذي كان يمضي فيه.

لم يبدُ أن سيلفيا كانت تعبأ بهذا الجزء من القصة. كانت منزعجة، لكن لسبب آخر.

«قبعتي. سيفقدها بالتأكيد. سأعنفه بشدة. سأعاقبه بعنف. ربما لا تبدو القبعة ذات قيمة كبيرة، لكنها مهمة بالنسبة لي.»

•••

كانت الكلمات الأولى التي قالها روس لجلينا وجهًا لوجه هي: «هل تعرفين ما مشكلتك؟»

سألت جلينا، باديًا عليها أمارات الانزعاج: «ماذا؟» كانت فتاة طويلة، ضعيفة البنية ذات شعر أسود متموج، وبشرة بيضاء، وعينين بلون أزرق فاتح جدًّا، وكانت لديها عادةُ العضِّ على شفتها السفلى بأسنانها، وهو ما أضفى عليها طابعًا حزينًا قلقًا. كانت تنتمي إلى ذلك النوع من الفتيات اللائي يرتدين عادةً ملابس بلون أزرق فاتح (كانت تضع كنزة فضفاضة بنفس اللون)، وتتقلد سلسلة رقيقة حول عنقها، عليها صليب أو قلب، أو اسم ما. (كانت جلينا تعلق اسمها على السلاسل؛ لأن الناس كانوا يجدون صعوبة في هجائه.)

قال روس، وهو يلوك بلسانه في فمه ويحرك رأسه: «لعل مشكلتك الوحيدة … هي أنني لم أعثر عليك أولًا!»

تنفست الصعداء. ضحكوا جميعًا. حدث هذا أثناء تناول جلينا العشاء للمرة الأولى في منزل سيلفيا. كانت سيلفيا وكولن وجلينا يتناولون طعامًا سريعًا صينيًّا — كانت سيلفيا قد رصَّت كومة من الأطباق والشوك وحتى المناشف الورقية إلى جانب علب الكرتون الخاصة بالطعام — وكان روس يأكل بيتزا، كانت سيلفيا قد طلبتها له خصوصًا؛ لأنه لم يكن يحب الطعام الصيني.

أشارت جلينا إلى أن روس ربما يرغب في أن يأتي معهما إلى سينما السيارات تلك الليلة، وهكذا فعل. كان ثلاثتهم يجلسون أعلى سيارة كولن، وكانت جلينا تجلس في المنتصف، ويشربون الجعة.

صارت مزحة تتداولها العائلة. ماذا كان سيحدث لو أن جلينا كانت قد التقت روس أولًا؟

لم تكن ستوجد أي فرصة أمام كولن.

أخيرًا، اضطر كولن إلى سؤالها: «ماذا إذا كان قد قابلك أولًا؟ هل كنت ستخرجين معه؟»

قالت جلينا: «روس شخص لطيف.»

«لكن هل كنت ستخرجين معه؟»

بدت محرجة، وكانت هذه هي الإجابة التي كان كولن يريدها منها.

«روس ليس من نمط الأشخاص الذي يمكن أن تخرجي معه.»

قالت سيلفيا: «روس، يومًا ما ستعثر على فتاة رائعة.»

لكن بدا أن روس توقف عن البحث عن فتيات. توقف عن مهاتفة الفتيات والنعيق مثل ديك في الهاتف؛ ولم يعد يقود السيارة ببطء في الشارع، متقفيًا أثر الفتيات، مطلقًا النفير كما لو كان يرسل إشارة مورس. في ليلة سبت، في منزل كولن وجلينا، قال إنه لم يعد مهتمًّا بالنساء؛ إذ كان من الصعب عليه العثور على امرأة مهذبة، وعلى أي حال لم يستطع تجاوز علاقته بويلما باري.

تساءلت جلينا: «من ويلما باري هذه؟ … هل كانت توجد قصة حب بينكما، روس! متى؟»

«الصف التاسع.»

«ويلما باري! هل كانت جميلة؟ هل كانت تعرف شعورك حيالها؟»

«نعم، نعم، نعم، أعتقد ذلك.»

قال كولن: «يا إلهي، كانت المدرسة كلها تعرف!»

سألت جلينا: «أين هي الآن يا روس؟»

«رحلت. تزوجت.»

«هل كانت تحبك أيضًا؟»

قال روس في خضوع: «لم تكن تطيقني.»

تذكر كولن ما كانت تفعله ويلما باري؛ كيف كان روس يذهب إلى قاعات الدرس الخالية ويكتب اسمها على السبورة، في صورة نقط صغيرة من الطباشير الملوَّن، أو قلوب صغيرة، وكيف كان يذهب لمشاهدة مباريات كرة السلة للفتيات، التي كانت تلعب فيها، وكان يقفز كالمجنون في كل مرة كانت تقترب من الكرة أو السلة. تركت الفريق. كانت تختبئ في حمام الفتيات وترسل أشخاصًا كي يخبروها ما إذا كان الطريق خاليًا حتى تستطيع الخروج دون أن يراها. عرف روس هذا، وكان يختبئ في خزانة المكانس حتى يفاجئها ويطلق صافرة حزينة في اتجاهها. تركت المدرسة وتزوجت وهي في السابعة عشرة. كان روس أكثر مما تستطيع أن تحتمل.

قالت جلينا: «يا للعار!»

قال روس، وهو يهزُّ رأسه: «كنت أحب ويلما … يا كولن، أخبر جلينا قصة الفطيرة!»

أخبرها كولن بتلك القصة، وهي قصة مفضلة لدى كل من كان في المدرسة الثانوية في ذلك الوقت. كان كولن وروس يجلبان غداءهما إلى المدرسة دومًا؛ لأن أمهما كانت تعمل وكانت أسعار الطعام في الكافيتريا عالية جدًّا. كانا يأكلان دومًا شطائر المورتاديلا والكاتشب وفطيرة يشتريانها من المتجر. ذات يوم، لم يُسمح لأيٍّ من الطلاب بالمغادرة عند الظهيرة لسبب ما، ووُضع الصفان التاسع والعاشر معًا، وهكذا كان روس وكولن في القاعة نفسها معًا. كان روس يضع غداءه على مقعده، ووسط المحاضرة التي كان الطلاب يتلقونها، اقتطع قطعة كبيرة من فطيرة التفاح وبدأ في أكلها. صرخ المدرس قائلًا: «ماذا تظن نفسك فاعلًا؟» دون لحظة تردد، ألقى روس بقطعة الفطيرة تحته وجلس عليها، ضامًّا يديه المتسختين معًا التماسًا للعفو.

قال روس لجلينا: «لم أقصد أن أكون مضحكًا! … لم أستطع أن أفكر فيما أفعل بتلك القطعة سوى وضعها تحتي!»

قالت جلينا، وهي تضحك: «أستطيع أن أتخيل الأمر الآن! … أوه، روس، أستطيع أن أتخيل الأمر الآن! مثل شخصية في مسلسل تليفزيوني!»

قال روس: «ألم نخبرك بتلك القصة من قبل قط؟ … كيف لم نفعل ذلك؟»

قال كولن: «أعتقد أننا فعلنا ذلك من قبل.»

قالت جلينا: «نعم فعلت، لكن من المضحك سماع ذلك مجددًا.»

«حسنًا، كولن، أخبرها عن الوقت الذي أرديتني فيه قتيلًا!»

قالت جلينا: «ذكرت لي ذلك، أيضًا، ولا أرغب في سماع ذلك مجددًا أبدًا.»

قال روس، في خيبة أمل: «لم لا؟»

«لأنه أمر مريع.»

•••

كان كولن يعرف، عندما عاد إلى المنزل من منزل سيلفيا، أن روس سيكون قد وصل قبله، وأنه يعمل في السيارة. كان على حق. كان ذلك في نهاية شهر مايو تقريبًا، وكان روس قد بدأ في العمل في السيارة في فناء منزل كولن بمجرد اختفاء الثلوج. لم يكن ثمة مكان كافٍ لعمل ذلك في فناء منزل سيلفيا.

توجد مساحة كبيرة لعمل ذلك هنا. كان كولن وجلينا قد اشتريا كوخًا متهالكًا في موضع قصيٍّ من الشارع، فيما تبقى من بستان. كانا يصلحانه. كانا قبل ذلك يعيشان فوق إحدى المغاسل، وعندما اضطرت جلينا إلى ترك عملها — كانت مدرسة، أيضًا، في المرحلة الابتدائية — لأنها كانت حبلى في لينيت، قامت بإدارة المغسلة حتى يسكنا دون أن يدفعا أي إيجار ويوفرا المال. كانا يتحدثان آنذاك عن الانتقال؛ إلى مكان بعيد واسمه براق مثل لابرادور أو موسوني أو يلونايف. تحدثا عن الذهاب إلى أوروبا والتدريس لأبناء العسكريين الكنديين. في تلك الأثناء، عُرض هذا المنزل للبيع، وتصادف أن كان منزلًا كانت جلينا تنظر إليه وتسأل عنه عندما كانت تتنزه مصطحبة لينيت في عربة الأطفال أو حاملة إياها. كانت قد نشأت في قواعد تابعة للقوات الجوية في مناطق كثيرة في البلاد، وكانت تحب أن تنظر إلى المنازل القديمة.

قالت جلينا إنه مع كل العمل الذي كان يجب القيام به في هذا المنزل، كان الأمر يبدو كما لو كانا يعرفان أين سيكونان وماذا سيفعلان إلى الأبد.

كان لدى روس سيارتان يفك أجزاءهما ليركبها في سيارة أخرى. كانت السيارة الشيفروليه موديل عام ١٩٥٨، وكانت قد وقعت لها حادثة. كان الزجاج الأمامي محطَّمًا، وكان المبرِّد والمروحة منتزعين من موضعهما وملتصقين بالمحرك. كانت الوصلات محترقة. لم يستطع روس أن يحدد كيف يشغِّل المحرك حتى فك المروحة والمبرد واللوح المعدني المحطَّم. ثم شغل السيارة دون مفتاح وملأ مجموعة المحرك بالمياه. دار المحرِّك. قال روس إنه كان يعرف أن المحرك سيدور؛ لهذا السبب اشترى السيارة، أما جسم السيارة فكان محطمًا لدرجة أنه لم يعد نافعًا على الإطلاق. كان الجسم الذي يستخدمه لسيارة من طراز كامارو موديل ١٩٧١. كانت الطبقة العلوية من الطلاء قد سقطت عند استخدام مزيل الطلاء، وكان عليه أن يستخدم خرطوم المياه وقطع التنظيف لإزالة ما تبقى تحت تلك الطبقة. كان سيصلح الانبعاجات في سقف السيارة باستخدام مطرقة، وكان سيقطع الأجزاء الصدئة من أرضية السيارة ليضع محلها لوحًا من الألومنيوم. ذلك والكثير من الأشياء الأخرى. بدا الأمر كما لو كان سيستغرق الصيف كله.

كان روس يصلح العجلات آنئذٍ، وكانت جلينا تساعده. كانت جلينا تصقل الإطار المعدني الداخلي للعجلة والغطاء المركزي، اللذين كانا قد فُككا، بينما كان روس ينظِّف العجلات نفسها وكان يستخدم في ذلك فرشاة سلكية. كانت لينيت في قفص للعب الأطفال إلى جانب الباب الأمامي.

تشمم كولن الهواء بحثًا عن أي آثار ناتجة عن إزالة الطلاء. لم يكن روس يستخدم كمامة، قال إنه لا حاجة لها في الهواء الطلق. كان كولن يعلم أن عليه الثقة في جلينا في ألا تُعرض نفسها ولينيت لذلك. لكنه كان يتشمم، ولم يكن هناك أي شيء بالهواء، لم يكونا يستخدمان أي مزيل للطلاء. قال، من قبيل التغطية على الأمر: «يبدو الهواء مثلما في الربيع.»

قالت جلينا، التي كانت مصابة بحمى القش: «لست بحاجة إلى أن تخبرني … أشعر بسحب حبوب اللقاح تتأهب لتتحرك في الهواء.»

سألها كولن: «هل تلقيت التحصينات اللازمة؟»

«ليس اليوم.»

«هذا غباء.»

قالت جلينا وهي تجري عملية الصقل في سرعة جنونية: «أعرف … كنت سأذهب إلى المستشفى. ثم ها أنا أضيِّع الوقت هنا؛ أفعل هذه الأشياء وأبدو كما لو كنت منوَّمة مغناطيسيًّا.»

سارت لينيت في حذر حول حواف قفص اللعب الخاص بها، ممسكة بها، ثم رفعت ذراعيها وقالت: «ألقني لأعلي يا بابا.» سُر كولن بالطريقة الواضحة العملية التي قالت بها «بابا»، لا «با» مثلما يقول الأطفال الآخرون.

قال روس: «ما قررت أن أفعله هو أن أضع مُزيل صدأ ثم طلاء تحويليًّا ثم طلاء أساس. لكن عليَّ أن أتخلص من معجون الحشو القديم أولًا بالكامل؛ لأن مزيل الطلاء قد يصل إليه وسيبدو شكله سيئًا في الطلاء الجديد. سأستخدم طلاء الأكريليك. ما رأيك؟»

سأل كولن: «أي لون ستختار؟» كان يتحدث إلى مؤخرتين، كلتاهما مغطاة بالجينز. كان بنطال جلينا الجينز مقصوصًا، كاشفًا عن رجليها الطويلتين، البيضاوين الناعمتين. لا توجد أي قبعة على رأس روس الآن. كان متزنًا بشكل لافت متى كان قريبًا من سيارته.

«كنت أفكر في اللون الأصفر. ثم رأيت أن اللون الأحمر يبدو دائمًا جميلًا مع السيارة الكامارو.»

قالت جلينا: «سنأتي بمخطط الألوان ونضعه أمام لينيت وندعها تختار … هل توافق يا روس؟ أيما كان ما ستختاره؟ ما رأيكم؟»

قال روس: «حسنًا.»

«ستشير إلى اللون الأحمر. تحب اللون الأحمر.»

قال كولن للينيت عندما مر بها في طريقه إلى داخل المنزل: «اهدئي.» بدأت في التذمُّر، في غير صراخ. جلب ثلاث زجاجات من البيرة من الثلاجة. خلال فصل الشتاء، كانوا قد أدخلوا بعض التعديلات على المنزل؛ فأزالوا ورق الحائط ومزقوا مشمع الأرضية، وحوَّلوا المكان إلى مسرح خرجت أحشاؤه كلها. كانت توجد حشوات من مادة عازلة قرنفلية اللون مثبتة تحت ألواح من البلاستيك. كانت أكوام من الألواح الخشبية التي ستستخدم في صنع تقسيمات جديدة في المنزل متناثرة هنا وهناك حتى تجف. كان المرء يمكن أن يطأ على ألواح عريضة لينة رطبة في المطبخ. كان روس يدخل المنزل ليقدم يد المساعدة من آن لآخر، لكنه لم يعرض عليهم أي مساعدة منذ أن بدأ العمل في السيارة.

كانت جلينا قد قالت: «أعتقد أنه بدأ يفكر في السيارة عندما أدرك أنه لن يعيش معنا في المنزل.»

قال كولن: «روس يحب العبث دائمًا بالسيارات.»

لكن روس لم يكن يعبأ كثيرًا من قبل بشكل السيارات. كان يهتم بسرعة الانطلاق والسرعة القصوى وأي صوت خطر أو مضحك يستطيع إخراجه منها. وقعت له حادثتان. ذات مرة، وقع بسيارته في مصرف وخرج سالمًا دون أي خدش. في المرة الثانية، كان قد سلك طريقًا مختصرًا، مثلما قال، عَبْرَ أرض خالية في البلدة واصطدم بكومة من القمامة كان فيها حوض استحمام قديم. عندما عاد كولن من الجامعة إلى المنزل في إجازة نهاية الأسبوع، وجد كدمات أرجوانية اللون على جانب وجه روس، وقطعًا فوق إحدى أذنيه، وشرائط مُلصَقة على ضلوعه.

«اصطدمت بحوض استحمام.»

هل كان ثملًا، أو تعاطى شيئًا؟

قال روس: «لا أعتقد ذلك.»

هذه المرة، كان ثمة شيء آخر يدور في خلده بخلاف زيادة سرعة السيارة والانطلاق في الشارع في حركات مراوغة يمنةً ويسرةً، تاركًا آثار احتكاك الإطارات على الرصيف. كان يريد سيارة حقيقية، ما كانت المجلة التي كان يقرؤها تُطلق عليها «سيارة فخمة». هل كان ذلك لجذب الفتيات؟ أم للتباهي داخلها وحسب، وهو يقود بأسلوب وقور مع لحظات سرعة أو زمجرة قوية من المحرك عندما ينطلق بالسيارة بعد الخروج من إشارات المرور؟ ربما هذه المرة سيقود السيارة دون إطلاق نفير خاص.

قال: «هذه السيارة لن تغدو وتجيء عبر الشارع الرئيسي مثل شخص مجنون أو تتحرك بسرعة كبيرة على الطريق الحصوي.»

قالت جلينا: «هذا صحيح … كما حدث عند تخرجك.»

قال كولن: «الجعة»، واضعًا زجاجة في مكان يستطيع روس بلوغه بسهولة.

قالت جلينا: «روس» (قالت لكولن: «شكرًا لك».) «روس، عليك أن تزيل فرش الأبواب. يجب أن تفعل ذلك. يبدو شكله لا بأس به، لكن رائحته غير طيبة. أستطيع أن أشمها. هناك.»

جلس كولن مع لينيت على درجة السلم على ركبة واحدة، مدركًا أنه لن يثير موضوع عدم محافظة روس على مواعيد العمل، هذا بخلاف موضوع القبعتين. لن يذكِّر روس أن هذا هو العمل الأول الذي يحصل عليه خلال أكثر من عام. كان متعبًا جدًّا، ويشعر الآن بسلام داخلي كبير. يرجع بعض هذا الشعور بالسلام الداخلي إلى ما تفعله جلينا. لم تكن جلينا تتعاون مع أي شخص غريب الأطوار تمامًا، أو تشارك في القيام بأي شيء لا طائل من ورائه. وها هي، تنظر إلى وجهها في أغطية العجلات، وتتشمم فرش السيارة، وتأخذ روس وسيارته على محمل الجد؛ حتى إن كولن عندما خرج من السيارة ورآها جاثمةً، تصقل الأشياء، كان يرغب في أن يسألها هل كانت الأمور ستسير على هذا النحو طوال الصيف، في ظل انشغالها الشديد بسيارة روس مما لن تجد معه وقتًا للعمل في المنزل. كان سيندم الآن إذا كان قد قال ذلك. ماذا سيفعل إذا لم تكن تحب روس، إذا لم تكن قد أحبته من البداية ووافقت على أن يكون موجودًا معهما باستمرار؟ عندما قال روس الشيء الخطأ الوحيد، أثناء المقابلة الأولى، وابتسمت جلينا، ليس في أدب أو في تعالٍ بل في دهشة وسرور حقيقيين، شعر كولن بارتياح كبير. شعر منذ ذلك الحين أنه لن يتحمل عبء روس الثقيل وحده، وأنه وجد من سيشاركه في تحمُّل هذا العبء. لم يكن يعول على سيلفيا في هذا الأمر قط.

كان الخاطر الآخر الذي جال بعقل كولن دنيئًا بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ. لن يفعل روس ذلك أبدًا. كان روس محتشمًا. كان وجهه يتجهم وتبدو عليه علامات الاشمئزاز ويبدو كما لو كان في طريقه إلى البكاء عندما يكون هناك مشهد جنسي في الأفلام.

•••

في صباح السبت، كان ثمة كيس كبير من قطع الدجاج المجمَّد الآخذة في الذوبان على طاولة المطبخ، وهذا ذكَّر كولن بأن جلينا كانت قد دَعَت سيلفيا وإيدي وصديقتها — صديقتهما — نانسي على العشاء.

كانت جلينا قد ذهبت إلى المستشفى، سائرةً، واضعة لينيت في عربة الأطفال، لتتلقى تحصينات حمى القش. كان روس يعمل أثناء ذلك. وقد جاء إلى المنزل ووضع شريطًا لاصقًا، تاركًا الباب مفتوحًا حتى يستطيع سماعه. كانت جلينا تحب سماع أغنية «عربات النار». كان روس يستمع عادةً إلى الموسيقى الريفية والغربية.

كان كولن قد عاد لتوه من متجر مواد البناء، الذي لم يوصل لهم ألواح السقف التي طلبها منهم، على الرغم من وعوده الكثيرة بذلك. خرج ينظر إلى الحشائش التي كان قد زرعها السبت الماضي، قطعة من الحشائش على جانب المنزل، محاطة بسياج من السلك. رواها ببعض الماء، ثم راقب روس وهو يصقل العجلات بورق السنفرة. قبل أن يمضي وقت طويل ودون أن يقصد ذلك تمامًا، صار يصقل العجلات هو الآخر. كان الأمر يبدو كتنويم مغناطيسي، مثلما قالت جلينا، ولم يكن المرء يملك إلا أن يفعل ذلك. بعد صقلها بما يكفي، كان يجب طلاؤها بطلاء أساس (كان يحمي الإطارات من الطلاء بشريط لاصق وورق واقٍ)، وعندما جف طلاء الأساس، كان يجب حكها بحشوة من النحاس وتنظيفها مرة أخرى باستخدام مُزيل شمع وشحوم. كان روس قد خطط لذلك كله.

ظلوا يعملون طوال الصباح ثم طوال فترة ما بعد الظهيرة. أعدت جلينا شطائر هامبورجر للغداء. عندما أخبرها كولن أنه لن يستطيع تركيب ألواح السقف الخاصة بالمطبخ؛ لأن الألواح لم تكن قد جاءت بعد، قالت إنه لن يستطيع العمل في المطبخ على أي حال؛ لأنها ستصنع نوعًا من الحلوى.

ذهب روس إلى الجزء الراقي من البلدة واشترى رشاش طلاءٍ وطلاءً بلون فحمي معدني، فضلًا عن مادة تلميع آرمر-أوول للإطارات. كانت تلك فكرة جيدة؛ فقد سهَّل الرشاش كثيرًا عملية الوصول إلى تجاويف العجلات.

•••

وصلت نانسي في منتصف فترة ما بعد الظهيرة تقريبًا، وهي تقود سيارتها الشيفروليه الأنيقة الصغيرة، وترتدي ملابس جديدة غريبة؛ بنطالًا قصيرًا فضفاضًا، طويلًا نسبيًّا، وبلوزة كانت أقرب إلى حقيبة بها فتحتات صُنعت من أجل الرأس والذراعين، وكانت تلك البلوزة باللون البني ومربوطة عند الوسط بحزام قرنفلي رث طويل. كانت نانسي قد عينت ذلك العام لتدريس اللغة الفرنسية للطلبة من سن الحضانة إلى الصف الثامن، وهو ما كان أحد المتطلبات الجديدة للوظيفة. كانت فتاة ممشوقة القوام، شاحبة اللون، منبسطة الصدر، ذات شعر مجعَّد، بلون الذرة الصفراء، ووجه ترتسم عليه أمارات الذكاء، والحزن. وجدها كولن جذابة ومزعجة في آن واحد. جاءت مثل صديقة قديمة، حاملةً معها جعتها وألبوماتها الموسيقية. تحدثت مع لينيت، وابتدعت لها اسمًا؛ ويني-ويني. لكن صديقة قديمة لمن؟ قبل سبتمبر الماضي، لم يكن يعرفها أيٌّ منهم. كانت في أوائل الثلاثينيات، وكانت قد عاشت مع ثلاثة رجال مختلفين، ولم تكن تعتقد قط أنها ستتزوج. في المرة الأولى التي التقت فيها سيلفيا وإيدي، أخبرتهما عن الرجال الثلاثة الذين كانت تعيش معهم وعن عقاقير الهلوسة التي كانت تتناولها. كانت سيلفيا قد حثتها على البوح، بالطبع. لم يكن إيدي يعرف أسماء عقاقير الهلوسة التي كانت تتحدث عنها. كانت تخبر من تتحدث معه عن أحوالها في كل مرة تراه. لم تكن تتحدث عن أنها مصابة بالصداع، أو بالبرد، أو لديها تضخم في الغدد، أو أن قدميها متقرحتان، بل كانت تتحدث عن اكتئابها أو نشوتها أو أيٍّ مما كانت تشعر به. وكانت تتحدث على نحو غريب عن هذه البلدة. كانت تتحدث عنها كما لو كانت مادة، كتلة، كما لو كان الناس فيها ملتصقين معًا، وكما لو كانت الكتلة — بالنسبة إليها — لها خواص غريبة ومحبطة عادةً.

قالت نانسي: «رأيتك بالأمس يا روس.» كانت تجلس على درجة السلم، بعد أن فتحت زجاجة جعة وأدارت ألبوم جوان أرماتريدنج «أظهر لي بعض المشاعر». نهضت ورفعت لينيت من قفص اللعب. «رأيتك في المدرسة. كنت رائعًا.»

قال كولن: «توجد أشياء في كل مكان هنا يمكن أن تضعها في فمها. صواميل صغيرة وأشياء أخرى. عليك مراقبتها.»

قالت نانسي: «سأراقبها. ويني-ويني.» كانت تدغدغ لينيت بطرف حزامها.

قالت باللغة الفرنسية: «السيد ذو القبعتين» وأضافت: «كان جميع طلاب الصف الثالث ينظرون خارج النافذة وأبدوا إعجابهم بك. هذا ما قررنا أن نطلق عليك. السيد ذو القبعتين. السيد ذو القبعتين.»

قال كولن: «نعرف بعض الفرنسية. لكن يبدو الاسم غريبًا.»

قال روس: «لا أعرف … لا أعرف عما تتحدث.»

قالت نانسي، مدغدغةً لينيت: «أوه، روس … ألست دبتي الحبيبة الصغيرة، ويني-ويني الصغيرة؟ روس، كنت رائعًا. يا له من مصدر للراحة فيما بعد ظهيرة يوم جمعة طويل، مرهق، ممل.»

كانت لنانسي طريقة في الحديث تجعل روس يتجهَّم. خلف ظهرها، كان يقول عنها عادةً إنها مجنونة.

«أنت مجنونة يا نانسي. لم تريني قط. أنت تتخيلين أشياء. تعانين من ازدواج الرؤية.»

قالت نانسي: «أنا متأكدة … تمامًا، أيها السيد ذو القبعتين. إذن، ماذا تفعل هنا؟ أخبرني. هل تفكك السيارات؟»

قال كولن: «نطلي هذه العجلات الآن.» لم يكن روس ليقول شيئًا.

قالت نانسي: «تلقيت دورة ذات مرة … تلقيت دورة في أساسيات الميكانيكا حتى أعرف ماذا يجري في سيارتي ولا أضطر إلى الذهاب إلى الورشة وأتحدث في صوت رفيع مثل فتاة صغيرة.» ثم تحدثت بصوت رفيع مثل شابة صغيرة قائلة: «أوه، يوجد صوت غريب تحدثه السيارة. هلَّا تخبرني من فضلك ماذا يوجد تحت غطاء السيارة؟ يا إلهي، إنه المحرك!» ثم استطردت: «حسنًا، وهكذا حتى لا يحدث هذا، حصلت على تلك الدورة، وأثار الأمر اهتمامي أكثر حتى إنني تلقيت دورة أخرى، وكنت أفكر في حقيقة الأمر في أن أعمل في مجال الميكانيكا. كدت أخوض هذا المجال، لكنني تقليدية جدًّا في حقيقة الأمر. لم أستطع أن أواجه كل تلك الأمور. وفضلت أن أدرِّس الفرنسية.»

حملت لينيت وذهبت لتلقي نظرة على المحرك.

«روس؟ هل ستنظِّف هذا بالبخار؟»

قال روس: «نعم … سأرى هل كنت أستطيع أن أستأجر ماكينة تنظيف بالبخار.»

«أيضًا، كنت أعيش مع شخص كان مولعًا بالسيارات، أوتعرف ماذا فعل؟ عندما كان مضطرًّا إلى استئجار ماكينة تنظيف بالبخار، كان يرى هل كان أحد آخر يريد أن يُجري عملية تنظيف بالبخار، ثم كان يطلب عشرة دولارات مقابل ذلك. وهكذا كان يجني مالًا عند التأجير.»

قال روس: «نعم.»

«مجرد اقتراح. ستحتاج إلى حامل جديد للمبرد، أليس كذلك؟ يركب المبرد في المحركات «ﭬﻲ-٨» خلف الحامل.»

بعد ذلك خرج روس من حالة التجهُّم — ربما رأى ضرورة ذلك — وبدأ يريها بعض الأشياء.

•••

قالت نانسي: «هيا يا كولن … تقول جلينا إننا نحتاج إلى المزيد من الكريمة المخفوقة. يمكن أن نذهب بسيارتي. احمل أنت لينيت.»

قال كولن: «أنا لا أرتدي قميصًا.»

«لا تعبأ لينيت بذلك. سأذهب إلى المتجر. هيا. تريد جلينا الكريمة الآن.»

في السيارة قالت له: «كنت أريد أن أتحدث إليك.»

«أدركت ذلك.»

«تتعلق المسألة بروس، بما يفعل.»

«أتعنين تجوله معتمرًا تلك القبعات؟ ماذا؟ ماذا قال ديفيدسون؟»

«لا أتحدث عن ذلك. أتحدث عن تلك السيارة.»

تنفَّس كولن الصعداء. «ماذا عن السيارة؟»

«ذلك المحرك. كولن، هذا المحرك أكبر مما ينبغي. لن يستطيع أن يضع ذلك المحرك في تلك السيارة.»

كان صوتها عميقًا وهادئًا على نحو درامي.

قال كولن: «يعرف روس الكثير عن السيارات.»

«أصدقك. لم أقل إن روس غبي. هو يعرف ذلك. لكن ذلك المحرك، إذا وضعه، أخشى أنه سيكسر عمود القيادة؛ ليس على الفور، بل سيحدث هذا عاجلًا أو آجلًا، وفي الغالب عاجلًا. يفعل الفتيان ذلك طوال الوقت. يضعون محركًا قويًّا كبيرًا للحصول على سرعة الانطلاق والسرعة القصوى التي يريدونها، وفي يوم ما، مثلما تعرف، قد يؤدي ذلك لتدمير السيارة بالكامل. يؤدي هذا إلى انقلاب السيارة. ويكسر عمود القيادة. تتلخص المسألة في أنه في حالة الفتيان، عادةً ما يحدث عطل آخر أولًا أو يتسببون في تلف السيارة بأيديهم. لذا، ربما فعل ذلك من قبل وأفلت بما فعل. يعتقد أنه يمكن أن يكرر ذلك. لا ألعب دور الخبير هنا يا كولن. أقسم إنني لا أفعل ذلك.»

قال كولن: «حسنًا … أصدقك.»

«تعرف أنني لا أتصنَّع هذا يا كولن؟»

«أعرف ذلك.»

«لم أستطع أن أستجمع شجاعتي لأقول أي شيء لروس. يشعر بحماس بالغ حيال الأمر. هذا ما يقولونه هنا، أليس كذلك؟ حماس بالغ! لم أستطع أن أصرِّح بنقد لاذع كذلك. على أي حال، ربما لن يصدقني.»

قال كولن: «لا أعرف إذا كان سيصدقني أم لا … هل أنت متأكدة تمامًا بشكل لا يخامره شك؟»

قالت له، في نبرة كان من المفترض أن يعتقد معها أنها صادقة: «لا تقل شك … أنا متأكدة تمام التأكد وبلا مراء. وإذا لم أكن كذلك، لم أكن لأفتح فمي الكبير.»

«يعرف أنه يضع محركًا أكبر مما يناسب السيارة. يعرف ذلك. لا بد أنه يعرف أن لا مشكلة في ذلك.»

«لا يعرف أن هذا خطأ. كولن، أنا أحب روس، ولا أريد أن أفسد مشروعه.»

«من الأفضل ألا تدعي سيلفيا تسمعك تقولين ذلك.»

«أقول ماذا؟ هي لا تريده أن يُقتل، مثلي.»

«إنك تحبين روس.»

قالت نانسي، وهي تدخل بالسيارة في باحة انتظار متجر ماكس ميلك: «أحبكم جميعًا يا كولن … أحبكم حقًّا.»

•••

قالت سيلفيا، موجهةً حديثها إلى نانسي، بعد تناول كأس رابعة من الخمر الوردي: «هذا ما فعلت، سأخبرك … أقمت لنفسي حفلة ذكرى مرور خمسة وعشرين عامًا على زواجي. ما رأيك؟»

قالت نانسي: «مدهش!» كانت سيلفيا قد أخبرتها لتوها عن مزحة الرجل الأسود والرجل الأبيض في المبولة، وهو ما رأى كولن أنه قد سبب لها بعض الإحراج.

«أعني، بلا زوج. أعني، لم يكن يعيش معي حينها، ولم أكن أعيش معه. كان لا يزال على قيد الحياة. يعيش في بيتربورو. لا يزال حيًّا الآن. لكني قلت: «أنا متزوجة لمدة خمسة وعشرين عامًا، ولا أزال متزوجة. لذا، ألا أستحق عمل حفلة من أجل ذلك؟»»

قالت نانسي: «بالتأكيد.»

كانوا يجلسون إلى مائدة حديقة في الفناء الخلفي، على بعد خطوات قليلة من باب المطبخ، تحت شجرة الكريز الأسود المثمرة. كانت جلينا قد بسطت مفرشًا واستخدمت أواني الخزف الصيني الخاصة بزفافها.

قالت جلينا: «ستتحول هذه المساحة إلى فناء مرصوف العام المقبل.»

قالت سيلفيا: «أترين؟ … لو كنت قد استخدمت أواني بلاستيكية، لكنت ستجمعين كل هذا الآن وتضعينه في سلة المهملات.»

أشعل إيدي سيجارة سيلفيا. لم يتوقف هو نفسه عن التدخين خلال تناول الطعام.

التقطت نانسي حبة فراولة من قمة كعكة المرنج المأكولة. قالت: «المكان جميل هنا الآن.»

قالت جلينا: «على الأقل لا توجد حشرات بعد.»

قالت سيلفيا: «هذا صحيح. ستصبح الفراولة أرخص كثيرًا بدءًا من الأسبوع القادم، لكنك لن تستطيعي أن تأكلي هنا بسبب الحشرات.»

بدا ذلك مضحكًا لنانسي. بدأت في الضحك، وانضم إيدي إليها. لسبب غير معلن — معه سيكون السبب دومًا غير معلن — أعجب بنانسي وكل ما تفعل. قالت سيلفيا، مندهشة لكن متمتعة بروح دعابة، ولون وجهها قرنفلي مثل وردة من ورق شفاف بدأت في التجعد حول الحواف: «لا أرى شيئًا مضحكًا في ذلك. ماذا قلت؟»

قال روس: «واصلي الحديث.»

«أواصل الحديث عن ماذا؟»

«واصلي حديثك وأخبرينا عن حفلة ذكرى زواجك.»

قالت جلينا: «أوه يا روس.» نهضت وأضاءت الأنوار في المصابيح البلاستيكية الملونة التي كانت معلقة على جدار المنزل. ثم قالت: «كان عليَّ أن أجعل كولن يصعد ويضع بعض المصابيح في شجرة الكريز.»

قالت سيلفيا: «حسنًا، كان كولن يبلغ ثلاثة عشر عامًا في ذلك الوقت، وكان روس في الثانية عشرة … أوه، يعرف الجميع الأمر من جميع الأوجه إلا أنت يا نانسي. إذن، كان الأمر بعد خمسة وعشرين عامًا من الزواج وابني الأكبر في الثالثة عشرة. يمكن أن تقولي إن تلك كانت المشكلة. كل هذه الفترة الطويلة دون أطفال، كنا سلمنا بأننا لن نرزق بأطفال أبدًا. في البداية، كنا نعوِّل على أننا سنرزق بأطفال ثم خاب رجاؤنا ثم اعتدنا على ذلك، واستمر اعتيادنا على هذا فترة طويلة جدًّا، أكثر من عشرة أعوام زواجًا، ثم أصبحت حبلى! كان ذلك كولن. ثم لم يمر أكثر من اثني عشر شهرًا، بل أحد عشر شهرًا وثلاثة أيام، ثم جاء آخر! كان ذلك روس!»

قال روس: «مرحى!»

«الرجل المسكين، أعتقد أنه خشي منذ ذلك الحين فصاعدًا أن ألد له طفلًا بعد الآخر، لذا رحل بعيدًا.»

قال كولن: «نُقل … كان يعمل في محطة السكك الحديدية، وعندما حولوا مسار قطار الركاب الذي كان يمر من هنا، نقلوه إلى بيتربورو.»

لا يمتلك ذكريات كثيرة عن والده. ذات مرة، بينما كانا سائرين في الشارع، قدم له والده قطعة لبان. كان ثمة نوع من الشعور الرسمي، العطوف حيال تلك اللمحة — كان والده يرتدي زي عمله الرسمي آنذاك — بدلًا من الشعور بالحميمية الأبوية. كان لدى كولن انطباع أن سيلفيا لم يكن بإمكانها التعامل مع ابنين وزوج، إلى حد ما؛ فأضاعت زواجها دون أن تقصد هذا تمامًا.

قالت سيلفيا: «لم يكن يعمل فقط في محطة السكك الحديدية … كان محصلًا. بعد نقله للمرة الأولى، كان يزورنا في بعض الأحيان بالحافلة، لكنه كان يكره الانتقال بالحافلة ولم يكن يستطيع قيادة السيارات. بدأ في التوقف عن الزيارة تدريجيًّا ومات قبل تقاعده مباشرةً. لذا، ربما كان سيأتي للحفلة آنذاك، من يعلم؟»

(كانت فكرة جلينا، التي انتقلت إلى كولن، أن كل هذا الحديث الهادئ حول إقامة حفلة ذكرى زفافها لم يكن إلا اختلاقًا من جانب سيلفيا؛ فهي ترى أن سيلفيا كانت قد طلبت من زوجها أن يأتي أو أخبرته بذلك، لكنه لم يفعل.)

قالت سيلفيا: «حسنًا، لا عليكم منه، أقمت الحفلة … دعوت الكثير من الأشخاص. كنت سأدعو إيدي لكنني لم أكن أعرفه حينها جيدًا مثلما أعرفه الآن. كنت أظنه من الطبقة العليا.» لكزت ذراع إيدي بمرفقها. كان الجميع يعلم أن زوجته الثانية كانت من الطبقة العليا. «كان ذلك في شهر أغسطس، وكان الطقس جيدًا، كنا نستطيع أن نمكث في الخارج، مثلما نحن هنا. نصبت مناضد ذات حوامل، وكان يوجد طست ممتلئ بسلاطة البطاطس. أعددتُ ريش لحم مشوية، ودجاجًا محمرًا، وحلويات، وفطائر، وكعكة احتفال جعلت المخبز يزينها. وكانت توجد مجموعة متنوعة من عصائر الفواكه، المضاف إليها الكحول وغير المضاف إليها الكحول. تناول المدعوون عصائر الفواكه المضاف إليها الكحول أكثر مع تقدُّم الأمسية وظل المدعوون يصبُّون الفودكا والبراندي وأيًّا ما كان لديهم!»

قال روس: «ظن الجميع أن كولن أسرف في شرب العصائر المضاف إليها الكحول!»

قالت سيلفيا: «حسنًا، لم يفعل … كانت تلك كذبة.»

•••

في وقت سابق، كان كولن ونانسي قد أخليا المنضدة معًا، وعندما كانا بمفردهما في المطبخ قالت له نانسي: «هل قلت أي شيء لروس؟»

«ليس بعد.»

«ستفعل، أليس كذلك؟ كولن، الأمر مهم.»

سمعتْ ذلك جلينا أثناء دخولها حاملةً طبق تقديم عليه عظام دجاج، ولم تتفوه بأي شيء.

قال كولن: «تظن نانسي أن روس يرتكب خطأ في تركيب سيارته.»

قالت نانسي: «خطأً قاتلًا.» عاد كولن إلى الخارج، تاركًا إياها تتحدث في صوت خفيض، مُلح إلى جلينا.

•••

قالت سيلفيا: «كانت توجد موسيقى … كنا نرقص على الممر الجانبي حول الواجهة، وكنا نحتفل أيضًا خلف المنزل. كنا نشغِّل تسجيلات في غرفتي الأمامية وكانت النوافذ مفتوحة. أتى ضابط النوبة الليلية ورقص معنا. كان ذلك عندما أضاءوا مصابيح الشارع القرنفلية في ذلك الشارع، لذا قلتُ: «انظروا إلى الأنوار التي أضاءوها من أجل حفلتي!»» ثم قالت لكولن، الذي نهض واقفًا: «إلى أين أنت ذاهب؟»

«أريد أن أُريَ إيدي شيئًا.»

وقف إيدي، وكان يبدو مسرورًا، وتحرك ببطء حول المنضدة. كان يرتدي بنطالًا عليه مربعات باللونين البني والأصفر، مربعات خفيفة غير ظاهرة تمامًا، وقميصًا أصفر رياضيًّا ووشاح رقبة بلون أحمر داكن. قالت سيلفيا، ليس للمرة الأولى: «ألا يبدو أنيقًا؟ … إيدي، يا لك من متأنق! لا يريد كولن أن يسمعني وأنا أكمل بقية القصة.»

قال روس: «البقية هي الأفضل … قريبًا!»

قال كولن: «أريد أن أُري إيدي شيئًا وأطلب منه شيئًا … على انفراد.»

قالت سيلفيا: «هذا الجزء المتبقي من القصة يشبه ما قد يقرؤه المرء في الصحف.»

قالت جلينا: «هذا مريع.»

قالت سيلفيا: «سيُري إيدي حشائشه الثمينة … بالإضافة إلى ذلك، لا يريد أن يسمعني أسرد هذا الجزء من القصة. لماذا؟ لم يكن هذا خطأه. حسنًا، جزئيًّا. كان الأمر من النوع الذي يحدث مرارًا وتكرارًا مع الآخرين، ولا تكون النتيجة إلا أسوأ. مأساوية.»

قال روس، ضاحكًا: «يقينًا كان من الممكن أن يكون الأمر مأساويًّا.»

•••

كان كولن، الذي قاد إيدي إلى مقدمة المنزل، يستطيع سماع روس وهو يضحك. مر بإيدي بمحاذاة السياج المصنوع من السلك والحشائش الجديدة. في الفناء الأمامي، كان ثمة قليل من الضوء الآتي من مصباح الشارع، ضوء غير كافٍ حقيقةً. أضاء النور الموجود إلى جانب الباب الأمامي.

قال كولن: «الآن، إلى أي مدى ترى سيارة روس صالحة؟»

قال إيدي: «رأيت كل ذلك من قبل.»

«انتظر.»

كانت سيارة كولن منتظرة بحيث تلمع أضواء المصابيح حيثما كان يريدها أن تلمع، وكان المفتاح في جيبه. دخل السيارة، وأدار المحرك، وأضاء المصابيح.

قال: «هناك … ألق نظرة على المحرك الآن بينما أُضيء المصابيح.»

قال إيدي: «حسنًا». ثم سار في ضوء مصابيح السيارة ووقف يتفحَّص المحرك.

«انظر الآن إلى جسم السيارة.»

قال إيدي، مستديرًا ربع استدارة لكن دون أن ينحني لينظر: «نعم.» ففي ملابس كالتي يرتديها، لم يكن يرغب في أن يقترب كثيرًا من أي شيء.

أطفأ كولن مصابيح السيارة والمحرك وخرج من السيارة. في الظلام، كان يسمع روس يضحك مجددًا.

قال كولن: «قال لي أحدهم إن المحرك أكبر كثيرًا من أن يوضع هنا … قال هذا الشخص إن ذلك سيكسر التربيعة وسينحل عمود القيادة وتنقلب السيارة. لا أعرف الكثير عن السيارات. هل ذلك صحيح؟»

لم يكن ليقول له إن هذا الشخص هو نانسي، لا لأن نانسي امرأة، بل لأن إيدي كان يميل إلى النظر إلى أي شيء تقوله نانسي أو تفعله بإعجاب كبير حتى لا يكاد المرء يستطيع الحصول على أي رأي منه بشأنها. لم يكن سهلًا الحصول على أي آراء منه في أي شيء.

قال إيدي: «هذا محرك كبير … طراز «ﭬﻲ-٨ ٣٥٠». محرك سيارة شيفروليه.»

لم يقل كولن إنه يعرف كل ذلك بالفعل. قال: «هل هو كبير أكثر مما ينبغي؟ … هل يمثِّل ذلك خطرًا؟»

«هو كبير بعض الشيء.»

«هل رأيت أحدًا يضع مثل هذا النوع من المحركات في جسم كهذا من قبل؟»

«أوه. نعم. رأيتهم يفعلون كل شيء.»

«هل سيتسبب ذلك في وقوع حادثة، مثلما قال ذلك الشخص؟»

«من الصعب القطع بذلك.»

بعدما يقول معظم الناس ذلك، يواصلون حديثهم ويقولون ما هو الصعب القطع به. لكن ليس إيدي.

«هل سيؤدي هذا المحرك إلى كسر التربيعة حقًّا؟»

قال إيدي: «أوه، لست واثقًا … لا أستطيع تأكيد ذلك.»

«هل يمكن أن يحدث ذلك؟»

«ربما.»

«هل أقول أي شيء لروس؟»

ضحك إيدي ضحكة خافتة في اضطراب وقال: «لا تأخذ سيلفيا الأمر بصدر رحب عندما يقول أحد أي شيء لروس.»

•••

لم يكن كولن يحب عصائر الفواكه المضاف إليها الكحول. لم يقترب هو وروس ومجموعة أخرى من الفتيان هكذا من قلب الحفل. تجاهلوا الحفل، وجلسوا على أطرافه، يشربون من عبوات معدنية فقط؛ عبوات كوكاكولا وأورانج التي أتى بها أحد المدعوين وتركها إلى جانب الدرجات الخلفية. أكلوا رقائق البطاطس التي تم تقديمها لهم، لكنهم لم يكترثوا كثيرًا بالطعام الموضوع على الموائد الذي كان يتطلب استخدام أطباق أو شوك. لم يلتفتوا إلى ما كان الكبار يفعلونه. قبل سنوات قليلة، كانوا يتجولون في الأنحاء يراقبون كل شيء، واضعين في أذهانهم، غالبًا، فكرة السخرية مما يراقبونه وتعكير صفوه. لا يكترثون على الإطلاق بذلك العالم؛ عالم الكبار، في الحفل أو في أي مكان آخر.

أما الأشياء التي كان الكبار يملكونها، فتلك مسألة أخرى. كانت تلك الأشياء لا تزال مثيرة للاهتمام بالنسبة لهم، وفي السيارات التي كانت منتظرة بطول الممر، وجدوا الكثير من الأشياء المثيرة للاهتمام؛ أدوات، مجارف، سلاسل الإطارات الخاصة بالشتاء الماضي، أحذية طويلة العنق، بعض المتعلقات الشخصية، معاطف مطر ممزقة، بطانية، مجلات بها صور بذيئة، بندقية.

كانت البندقية موضوعة على المقعد الخلفي في سيارة غير موصدة. كانت بندقية صيد. لم يكن هناك شك في أنهم كانوا سيخرجونها، ويفحصونها، ويعلقون على أجزائها على نحو يوحي بالمعرفة، ويصوبونها نحو طيور خيالية.

أشار بعضهم إلى ضرورة الحذر.

«ليست محشوة.»

«كيف تعرف؟»

لم يسمع كولن قط كيف عرف هذا الفتى ذلك. كان يفكر في كيف أن روس يجب ألا يمسك بهذه البندقية، وإلا فستنطلق منها رصاصة وتصيب أحدًا، سواء أكانت محشوةً أم لا. لمنع ذلك، أمسك كولن بها، وما حدث آنذاك لم يعرفه على الإطلاق، أو حتى يتذكره. لم يتذكر توجيه البندقية. لم يكن ممكنًا أن يكون قد وجهها. لا يتذكر أنه جذب الزناد؛ لأن من المستحيل أن يكون قد فعل ذلك. لا يتذكر صوت إطلاق رصاصة لكنه يتذكر أن شيئًا ما كان قد حدث؛ المعرفة التي تتوفر لدى المرء عندما يوقظه صوت عالٍ من النوم وللحظة يبدو الصوت بعيدًا وحتميًّا بما لا يستدعي الانتباه إليه.

سمع صرخات ونداءات في هذا الوقت نفسه. جاءت إحدى هذه الصرخات من روس، وهو ما كان يجب أن ينبئ كولن بشيء. (هل يصرخ من يُقتلون بطلق ناري؟) لم ير كولن روس يسقط. كان ما رآه — ويتذكره دومًا — هو أن روس كان مُسجًّى على الأرض، على ظهره، ذراعاه مفتوحتان عن آخرهما، وشيء داكن يسيل من أعلى رأسه.

مستحيل أن يكون ذلك الشيء موجودًا من قبل؛ هل هذه بركة دماء؟

انطلق واحد أو اثنان من الفتيان، وقد تخلَّيَا عن شعورهما بالازدراء حيال العالم وحيال مساعدة الكبار، عبر الحارة إلى منزل سيلفيا، صارخَين: «أُطلقت النار على روس! أَطلق كولن النار عليه! روس! أُطلقت النار عليه! أَطلق كولن النار عليه! روس! كولن! روس!»

بحلول الوقت الذي جعلوا فيه الأشخاص الجالسين حول المائدة في الفناء الخلفي يفهمون الأمر — كان بعضهم قد سمع صوت إطلاق النيران لكنهم ظنوها ألعابًا نارية — وبحلول الوقت الذي ظهرت فيه أول مجموعة من الأشخاص، الذين هرعوا عبر الحارة، إلى مشهد المأساة، كان روس جالسًا، باسطًا ذراعيه، ترتسم على وجهه نظرة ماكرة خجلة. كان الفتيان الذين لم يذهبوا لطلب المساعدة قد رأوه يتحرك، وظنوا أنه حي لكنه مجروح. لم يكن مجروحًا على الإطلاق. لم تقترب الرصاصة منه. كانت قد ضربت السقيفة الواقعة بعيدًا في الحارة، السقيفة التي كان يسن فيها رجل شيخ زلاجات التزحلق على الجليد في الشتاء. لم يصب أحد.

زعم روس أن صوت إطلاق النار أفقده الوعي أو جعله ينكفئ. لكن الجميع، من واقع معرفتهم بروس، تشككوا في أن روس فعل ذلك عن عمد، وأن ذلك كان وليد اللحظة. كانت البندقية موضوعة على الحشائش في جانب الحارة، حيث ألقاها كولن. لم يلتقطها أيٌّ من الفتيان؛ فلم يرد أحد منهم أن يلمسها أو يكون له صلة بها، على الرغم من أنه اتضح لهم أن كل شيء لا بد أن ينكشف؛ كيف أخذوها من السيارة على الرغم من أنها لا تخصهم، وكيف أن اللوم سيقع عليهم جميعًا.

لكن كان اللوم سيقع على كولن بصفة أساسية. كان اللوم واقعًا على كولن. وقد هرب.

كان ذلك هو الصياح، بعد البلبلة التي حدثت حول روس.

«ماذا حدث؟ روس، هل أنت بخير؟ هل أصبت؟ أين البندقية؟ هل أنت بخير حقًّا؟ من أين حصلت على البندقية؟ لماذا تظاهرت كأنك أصبت؟ هل أنت متأكد أنك لم تصب؟ من صوب البندقية عليك؟ من؟ كولن!»

«أين كولن؟»

لم يتذكر أحد حتى في أي اتجاه ذهب. لم يتذكر أحد رؤيته يفر. نادوا عليه، لكن لم تكن ثمة إجابة. بحثوا عنه في الحارة ليروا هل كان مختبئًا. ركب ضابط النوبة الليلية سيارة الشرطة، وركب آخرون سياراتهم، وقادوها عبر الشوارع، بل قادوا سياراتهم بضعة أميال وصولًا إلى الطريق السريع ليروا ما إذا كانوا يستطيعون الإمساك به وهو يفر. لا أثر له. دخلت سيلفيا إلى المنزل وفتَّشت في خزائن الملابس وتحت الأسرَّة. كان الناس يبحثون في كل الأنحاء، يصطدم بعضهم بعضًا، موجهين الكشافات نحو الأجمات، منادين على كولن.

ثم قال لهم روس إنه يعرف أين يمكن أن يبحثوا عنه.

«عند جسر تيبليدي.»

كان ذلك جسرًا حديديًّا من الطراز القديم بطول نهر تيبليدي. تُرك على حاله على الرغم من بناء جسر أسمنتي جديد قرب منبع النهر، بحيث صار الطريق السريع الموسَّع يتجاوز هذا الجزء من البلدة. كان الطريق المفضي إلى الجسر القديم مغلقًا أمام السيارات، كما أُعلن عن عدم أمان الجسر نفسه، لكن ظل الناس ينزلون للسباحة في النهر منه أو يصطادون من فوقه، وكان الناس ليلًا يزيحون علامة «الطريق مغلق» ويتركون سياراتهم هناك. كان الرصيف على الجسر مكسورًا، وكان مصباح الطريق محترقًا ولم يجرِ استبداله. كانت ثمة شائعات ونكات حول هذا المصباح، مما كان يشير ضمنًا إلى أن أعضاء مجلس المدينة كانوا من بين أولئك الأشخاص الذين كانوا يقفون بسياراتهم هناك، ويفضلون الظلام.

كان الجسر على مسافة مربعين سكنيين فقط من منزل سيلفيا. سبق الفِتيان إلى الجسر، لا يقودهم روس بل يتبعهم، كان يسير في خطوات متمهلة. كانت سيلفيا تسير بجواره وكانت تحثه على الإسراع. كانت ترتدي حذاء ذا كعب عالٍ وثوبًا ضيقًا بلون أزرق مخضر، كان ضيقًا أكثر مما ينبغي عند الأرداف؛ مما كان يعوقها عن الحركة.

قالت: «أتمنى أن تكون على حق»، وهي حائرة أيٌّ من الابنين كانت تشعر إزاءه بغضب بالغ أكثر من الآخر. لم تكن قد تعافت بعد من معرفة أن روس لم يُطلق النار عليه حتى أخذت تفكر فيما إذا كانت سترى كولن مرة أخرى أم لا. كان بعض ضيوف الحفلة مخمورين أو لا يتمتعون باللباقة الكافية بحيث تساءلوا في صوت عالٍ عما إذا كان كولن قد قفز في نهر تيبليدي.

أخرج الضابط رأسه من السيارة وأخبرهم أن يزيلوا الحاجز الموجود على الطريق. ثم قاد السيارة عبر الجسر وأضاء المصابيح الأمامية للسيارة على الجسر.

لم يظهر سطح الجسر جيدًا في ضوء مصابيح السيارة، لكن استطاع الموجودون رؤية شخص جالس هناك.

«كولن!»

كان كولن قد تسلق إلى أعلى واستقرَّ على العوارض الحديدية. كان هناك.

نادت سيلفيا صارخةً فيه: «كولن! لا أصدق أنك فعلت ذلك! … هيا انزل من على ذلك الجسر!»

لم يتحرك كولن. بدا مذهولًا. كانت أضواء سيارة الشرطة، في حقيقة الأمر، تغشي بصره، حتى إنه ما كان سيستطيع أن ينزل من على الجسر إذا أراد.

أمره الضابط أن ينزل، وأمره آخرون بذلك. لم يتحرك قيد أنملة. وسط الأوامر والتأنيب، مر بخلد سيلفيا فجأةً أن كولن لم يعرف بالطبع أن روس لم يمت.

نادت عليه قائلةً: «كولن، لم يُصب أخوك! … كولن! أخوك حي هنا إلى جانبي! روس حي!»

لم يجب كولن لكنها ظنت أنها رأت رأسه يتحرك، كما لو كان يدقق النظر إلى أسفل.

قالت للضابط، الذي كان شبه رفيق لها: «أبعد هذه الأضواء الغبية عنه … سلِّط الأضواء على روس إذا كنت ترغب في أن تشغلها.»

قال الضابط: «لماذا لا نجعل روس يقف وسط الأضواء … ثم نطفئها ونجعل الفتي ينزل.»

نادى الضابط: «حسنًا، كولن … سنريك روس يقف هنا؛ هو غير مصاب ولا يوجد به أي شيء!»

دفعت سيلفيا بروس إلى الضوء.

قالت: «افتح فمك، واصرخ بصوت عالٍ … أخبر أخاك أنك حي.»

•••

كان كولن يساعد جلينا في تنظيف المكان. كان يفكر فيما قالته أمه، حول المفارش والأطباق البلاستيكية التي يمكن للمرء أن يكوِّرها ويلقيها في سلة المهملات. لم يكن من المحتمل ولو من بعيد أن تفعل جلينا ذلك على الإطلاق. لم تكن أمه تفهم أي شيء على الإطلاق بشأن جلينا، لا شيء على الإطلاق.

كانت جلينا منهكة؛ إذ نظَّمت حفلة عشاء فاخرة أكثر مما ينبغي، ولا يمكن لأحد سواها أن يقدر ذلك.

لا، كان ذلك خطأً. كان يقدِّر هو ذلك، حتى لو لم يكن يفهم ضرورته. كان يقدِّر كل خطوة تأخذه بعيدًا عن حيرة أمه.

قال: «لا أعرف ماذا أقول لروس.»

سألت جلينا: «عن ماذا؟»

كانت في غاية التعب، هكذا حدَّث نفسه، حتى إنها نسيت ما قالته لها نانسي. وجد نفسه يفكر في الليلة السابقة لزفافهما. كان لدى جلينا خمس وصيفات، انتقين لأحجامهن ولون بشرتهن أكثر من كونهن صديقات لها، وكانت جلينا قد صممت أثوابهن جميعها. وصنعت ثوب زفافها أيضًا، وجميع القفازات والطُّرح. كان يوجد في كل قفاز ستة عشر زرًّا صغيرًا مغطًّى. فرغت من صنع ذلك في الساعة التاسعة والنصف في الليلة السابقة على الزفاف. ثم توجهت إلى الدور العلوي، تبدو شديدة الشحوب. صعد كولن، الذي كان مقيمًا في المنزل، ليطمئن عليها ووجدها تبكي، وهي لا تزال تحمل بعض قصاصات القماش الملوَّن. لم يستطع منعها من البكاء، ونادى أمه، التي قالت: «هكذا هي يا كولن، تبالغ في كل شيء.»

نشجت جلينا وقالت، من بين أشياء أخرى، إنها لا ترى أي جدوى في الحياة. في اليوم التالي، كانت جميلة على نحو ملائكي، لا تبدي أي اضطراب، تشرب في نخب ووسط أمنيات سعادتها.

لم تصبها حفلة العشاء هذه بالإرهاق مثلما أصابها صنع ملابس الوصيفات، لكنها بلغت مرحلة صارت تمتلك فيها نظرة غير ودودة ومظهرًا شاحبًا قاسيًا، كما لو كان ثمة العديد من الأشياء التي يجب أن تعيد النظر فيها.

قال كولن: «لن يرغب في البحث عن محرك آخر … كيف سيستطيع تحمُّل تكلفة محرك آخر؟ يدين لسيلفيا بثمن ذلك المحرك. على أي حال، يريد محركًا كبيرًا. يريد أن يحصل على القدرة الكبيرة له.»

قالت جلينا: «هل يصنع ذلك أي فرق؟»

«بالطبع، يصنع فرقًا، في سرعة الانطلاق وفي القدرة. بالطبع، محرك كهذا يصنع فرقًا.»

ثم رأى أنها ربما لم تكن تقصد ذلك. ربما لم تكن تعني «هل يصنع المحرك أي فرق؟» ربما كانت تعني «إذا لم يكن هذا، فربما يكون شيئًا آخر.»

(جلست على الحشائش؛ كانت تصقل أغطية الإطارات. كانت تتشمم الجوانب الداخلية للباب. قالت: «دع لينيت تختر اللون».)

ربما كانت تعني: «لماذا لا تتوقف عن التفكير في الأمر؟»

أفرغ كولن محتويات سلة المهملات في الكيس البلاستيكي وربطه عند طرفه الأعلى. «لا أريدك أنت ولينيت أن تركبا معه، لا أريد ذلك.»

قالت جلينا في صوت رقيق، مندهش: «كولن، لن أفعل … هل تعتقد أنني سأركب معه في تلك السيارة أو أدع لينيت تركب معه؟ لن أفعل ذلك أبدًا.»

أخرج كيس القمامة وبدأت هي في مسح الأرضية. عندما عاد، قالت: «كنت أفكر في شيء. كنت أحدث نفسي قائلةً إننا سرعان ما سنستبدل قرميدات ذات اللونين الأبيض والأسود بتلك الألواح القديمة التي لن يكون بمقدورنا تخيل شكلها. لن يكون بمقدورنا تذكر ذلك. يجب أن نلتقط بعض الصور لها بحيث نستطيع أن نتذكر ما قمنا به.»

ثم قالت: «أعتقد أن نانسي تميل في بعض الأحيان إلى المبالغة في الأمور. أعني فيما يتعلق بي وبلينيت. لكنني أعتقد أنها تبالغ حقًّا.»

كانت جلينا قد فاجأته، في حقيقة الأمر، بالطريقة التي كانت تتصور بها الأشياء؛ المنزل، كل غرفة فيه، في صورته النهائية. كانت قد رصَّت الأثاث الذي لم يكونا قد اشترياه بعد؛ واختارت الألوان بما يتماشى مع اتجاه التعرض للشمس سواء من الجهة البحرية أو القبلية، وضوء الشمس في الصباح أو المساء. كانت جلينا تستطيع أن تحتفظ في ذهنها بترتيب متتالٍ للغرف، ترتيب محدد، متناغم، ومفهوم، من قبلها تمامًا.

لن تطرح أي مشكلة نفسها على جلينا، وتلقي بها في غياهب الشكوك والأحزان. كانت الحلول في عقلها تنتظر الخروج مثل غرف متراصة. كانت ثمة طريقة تراها للتعامل مع الأشياء دون أن تتحدث أو تفكر فيها. كل صبرها وعذوبتها اليومية لن تغيِّر تلك الطريقة، أو حتى تمسها.

•••

في البداية، في وجود الأضواء والصياح، كانت الفكرة الوحيدة التي تدور في خلده هي أنهم قد جاءوا ليلقوا باللائمة عليه. لم يهتم بهذا الأمر. كان يعرف ما قد فعل. لم يهرب ولم ينسل ويصعد إلى الجسر في الظلام حتى لا يعاقبه أحد. لم يكن خائفًا؛ لم يكن يرتعد من الصدمة. كان يجلس على العوارض الضيقة وكان يشعر كم كان الحديد باردًا، حتى في ليلة صيف، وكان هو نفسه يشعر بالبرد، لكن كان لا يزال هادئًا، مع عودة كل الملابسات المتشابكة في حياته، وفي حياة الأشخاص الآخرين في هذه البلدة، مرة أخرى، مثل صورة فوتوغرافية قُسمت شطرين ثم رجعت إلى حالتها ثانيةً، حتى يظهر ما كان بها طوال الوقت. لا شيء. روس راقد على الأرض وحول رأسه بركة. لا يتحرك روس، وصار هو نفسه قاتلًا. لا يزال لا يوجد أي شيء. لم يكن مسرورًا أو آسفًا. كانت تلك المشاعر غاية في الضآلة والشخصية، بحيث لا تنطبق على هذه الحالة. لاحقًا، اكتشف أن معظم الناس، وربما أمه، كانوا يعتقدون أنه كان قد تسلق إلى أعلى هنا لأنه كان يمر بحالة تأنيب ضمير محمومة، وكان يفكر في الإلقاء بنفسه في نهر تيبليدي. لم يدُر ذلك بخاطره قط. على نحو ما، كان قد نسي وجود النهر. كان قد نسي أن الجسر هو بناء يقع فوق النهر وأن أمه كانت شخصًا يمكنه أن يأمره بالقيام بأشياء.

لا، لم يكن قد نسي تلك الأشياء قدر ما أدرك كيف كانت سخيفة. كم كان سخيفًا أن يكون له اسم وأن يكون اسمه كولن، وأن يناديه الناس به. لقد كان أمرًا سخيفًا، على نحو ما، أن يتصور أنه كان قد أطلق النار على روس، على الرغم من أنه كان يعرف أنه قد فعل ذلك بالفعل. ما كان سخيفًا هو أن يفكر مستخدمًا هذه الكلمات المبتورة: كولن، أطلق النار، روس. أن يرى في المسألة برمتها فعلًا، شيئًا واضحًا ومنفصلًا، حدثًا، «فرقًا».

لم يكن يفكر في إلقاء نفسه في النهر أو في أي ما كان سيقوم به بعد ذلك، أو في كيف كانت حياته ستسير انطلاقًا من هذه اللحظة. لم يبدُ هذا المسار غير ضروري فحسب، بل مستحيلًا أيضًا. كانت حياته قد انكشفت، ولم يعد ثمة ما يمكن التفكير فيه بعد.

كانوا يقولون له إن روس لم يمت.

لم يمت يا كولن.

لم تطلق النار عليه على الإطلاق.

كانت خدعة.

كان روس يمزح معك.

مَزحة روس.

لم تطلق النار على أحد قط يا كولن. انطلقت رصاصة من البندقية، لكن لم يُصَب أحد.

انظر يا كولن. ها هو ذا.

ها هو روس. لم يمت.

•••

«لم أمت يا كولن!»

•••

«هل سمعت ذلك؟ هل سمعت ما يقول؟ قال إنه لم يمت!»

تستطيع الآن أن تنزل.

يمكن أن تنزل الآن.

كولن. هيا انزل.

كان ذلك عندما بدأ كل شيء يعود إلى ما كان عليه مجددًا. رأى روس سليمًا، لا يمكن أن يخطئه، تبدو ملامحه واضحة بسبب أضواء السيارة، يبدو منشرحًا وقلقًا قليلًا، لكنه لا يبدو عليه الأسف بأي حال من الأحوال. روس، الذي كان يبدو وكأنه يثب مرحًا حتى عندما كان يقف ساكنًا، والذي كان يبدو ضاحكًا في صوت مرتفع حتى عندما كان يجتهد في الإبقاء على فمه مغلقًا.

إنه هو.

كان كولن يشعر بالدوار، والغثيان جراء قوة اندفاع الأشياء في طريق عودتها إلى سابق عهدها في حياته، الفوضى والمشاعر. كان الأمر مؤلمًا مثل اندفاع الدماء المحموم إلى الأجزاء المتجمدة من الجسد. منفذًا ما طُلب منه، بدأ في النزول. بدأ بعض الأشخاص في التصفيق والتهليل. كان عليه أن يركِّز حتى لا ينزلق. كان يشعر بالضعف وتقلُّص العضلات جراء جلوسه هناك. وكان عليه أن يمنع نفسه من التفكير، على نحو مفاجئ، فيما كاد أن يحدث توًّا.

كان يعلم أن حذره من إمكانية حدوث موقف كهذا — لروس ولنفسه — سيصبح شغله الشاغل في الحياة من الآن فصاعدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤