مايلز سيتي، مونتانا

جاء أبي عبر الحقل حاملًا جثمان الصبي الذي كان قد غرق. كان معه عدد من الرجال، الذين كانوا عائدين معه من عملية البحث عن هذا الصبي، لكن أبي هو من كان يحمل الجثمان. كان الرجال متسخين ومنهكين، وكانوا يسيرون مطأطئين رءوسهم، كما لو كانوا يشعرون بالعار. حتى الكلاب كانت على وجهها كآبة، وهي تخرج تقطِّر ماءً من النهر البارد. عندما انطلق الجميع، قبل ساعات، كانت الكلاب هائجة وتنبح بصوت عالٍ، وكان الرجال يشعرون بالتوتر ويتملكهم الإصرار، وكانت ثمة إثارة مكبوحة، صامتة حيال الأمر بأكمله. كان مفهومًا أنهم ربما يجدون شيئًا مريعًا.

كان اسم الصبي ستيف جاولي. كان في الثامنة من عمره. غطى شعره وملابسه الآن الطين مع بقايا أوراق، وأغصان، وحشائش ميتة. كان مثل كومة من النفايات تركت طوال الشتاء. كان وجهه مخفيًّا في صدر أبي، لكنني كنت أستطيع أن أرى فتحة أنف، وأذنًا، مسدودتين بالطين المائل لونه إلى الاخضرار.

لا أعتقد ذلك. لا أعتقد حقًّا أنني رأيتُ كل ذلك. ربما رأيت أبي يحمله، وكان الرجال الآخرون يتبعونه، والكلاب، لكن لم يكن ليُسمح لي بأن أقترب بما يكفي لأرى شيئًا مثل الطين في أنفه. ربما سمعتُ شخصًا يتحدث عن ذلك وتصورت أنني رأيته. أرى وجهه لم يتغير باستثناء تغطيته بالطين — وجه ستيف جاولي المألوف، حاد الملامح، الذي عليه أمارات المكر — ولكن لم يكن وجهه ليبدو كذلك. كان سيبدو منتفخًا ومتغيرًا وربما متسخًا كله بالطين بعد كل هذه الساعات في الماء.

إن نقل خبر كهذا، دليل كهذا، إلى عائلة تنتظر، خاصةً أمًّا، كان سيجعل القائمين على عملية البحث يتحركون بتثاقل، لكن ما كان يحدث هنا كان أسوأ. فقد بدا الأمر أكثر خزيًا (حين يسمع المرء حديث الناس) لأنه لا وجود لأم ستيف جاولي، ولا لأي امرأة على الإطلاق — لا جدة ولا خالة، ولا حتى أخت — لتتلقى جثمانه وتوليه قدره من الحزن. كان أبوه رجلًا أجيرًا، شارب خمر، لكنه ليس سكيرًا، رجلًا غريب الأطوار لكن لا تثير تصرفاته الضحك، غير ودود لكنه ليس مثيرًا للمشكلات. بدت أبوته مسألة طارئة، وبدت مسألة ترك الطفل معه عندما رحلت أمه، واستمرارهما في العيش معًا، طارئة أيضًا. كانا يعيشان في منزل بدائي سقفه مائل، مكسو بالألواح الرمادية، كان أفضل قليلًا من كوخ — أصلح الأب السقف ووضع دعائم تحت الشرفة الخارجية، بكمية كافية بالكاد وفي آخر وقت ممكن قبل أن ينهار — وكانت حياتهما تسير على نحو مشابه. بعبارة أخرى، تسير جيدًا بالكاد بحيث لم تكن توجد حاجة لقيام جمعية مساعدة الأطفال بأخذ الطفل لرعايته. لم يكونا يتناولان الطعام معًا أو يطبخ أحدهما للآخر، لكن كان ثمة طعام على أي حال ليأكلاه. في بعض الأحيان، كان الأب يعطي ستيف مالًا لشراء الطعام من المتجر، وكان الناس يرون ستيف يشتري أشياء مقبولة جدًّا، مثل خلطة بان كيك ووجبة مكرونة للعشاء.

كنت أعرف ستيف جاولي جيدًا. كنت أحبه كثيرًا. كان أكبر مني بعامين. كان يتسكع بالقرب من منزلنا في أيام السبت، متهكمًا من أي شيء كنت أفعله، لكنه لم يكن يستطيع أن يدعني وشأني. لا أركب الأرجوحة إلا ويريد أن يجربها، وإذا لم أتنحَّ جانبًا، فكان يأتي ويدفعني حتى أنزل. وكان يثير الكلب. كان يوقعني في متاعب — عمدًا وعن سوء نية، بدا لي ذلك فيما بعد — من خلال تحديَّ في القيام بأشياء لم أكن لأفكر في القيام بها وحدي، مثل حفر الأرض لاستخراج البطاطس منها لأرى كم هي كبيرة عندما كانت لا تزال في حجم البلية، ودفع بعض أخشاب التدفئة المرصوصة حتى نصنع كومة منها كي نقفز فوقها. في المدرسة، كان لا يتحدث أحدنا إلى الآخر مطلقًا. كان وحيدًا، وإن لم يكن معذب النفس بسبب ذلك. لكن في صباح أيام الأحد، عندما كنت أرى هيئته النحيفة، الواثقة تمرُّ في خفة عبر سياج أشجار الأرز، كنت أعلم أن شيئًا ما في انتظاري وكان هو يقرر ما هو. في بعض الأحيان، كانت الأمور تسير على ما يرام. كنا نتظاهر بأننا راعيا بقر يروضان جيادًا برية. كنا نلعب في المرعى بجوار النهر، ليس بعيدًا عن المكان الذي غرق ستيف فيه. كنا جوادين وراكبين في آن واحد، نصرخ ونصهل وننحني قافزين كالجياد ونلوِّح بالسياط المصنوعة من أفرع الأشجار بجوار نهر صغير بلا اسم يتدفق إلى سوجين في جنوب أونتاريو.

أقيمت الجنازة في منزلنا. لم يكن منزل والد ستيف ليتسع للجمع الكبير الذي كان من المتوقع حضوره بسبب الأحداث. أتذكر الحجرة المزدحمة لكنني لا أتذكر ستيف في تابوته، أو القس، أو أكاليل الزهور. أتذكر أنني كنت أحمل زهرة واحدة، زهرة نرجس بيضاء، وهي التي ربما كان مصدرها أصيصًا وضعه أحدهم في الداخل؛ لأن الوقت كان مبكرًا للغاية لظهور شجيرة الفورسيثيا، أو زهور التريليوم، أو آذريون الماء في الغابة. وقفت في صف من الأطفال، كان كلٌّ منا يحمل زهرة نرجس. كنا نغني ترنيمة أطفال، كان أحدهم يعزف لحنها على البيانو في منزلنا، وهي: «عندما يأتي، عندما يأتي، لاستعادة نفائسه.» كنت أرتدي كولونًا أبيض مضلعًا، كان يشعرني بحكة مريعة، وكان مجعدًا عند الركبتين والكاحلين. يختلط شعوري بهذا الكولون في رجلَيَّ بشعور آخر في ذاكرتي. يصعُب وصف ذلك الشعور. كان هذا الشعور يتعلق بأبويَّ. كان يتعلق بالكبار عمومًا وأبويَّ على وجه الخصوص. كان يتعلق بأبي الذي كان قد حمل جسد ستيف من النهر، وأمي التي لا شك في أنها تولت الجزء الأكبر من ترتيب هذه الجنازة. كان أبي في حلته الكحلية اللون وأمي في ثوبها المخملي البني ذي الياقة الساتان كريمية اللون، يقفان جنبًا إلى جنب يفتحان ويغلقان فمهما وهما ينشدان الترنيمة، وكنت أقف بعيدًا عنهما، في صف الأطفال، أراقب ما يحدث. شعرتُ باشمئزاز غاضب ومثير للغثيان. في بعض الأحيان يشعر الأطفال بالاشمئزاز حيال الكبار؛ الحجم، الأجسام الممتلئة، القوة المتعجرفة. النَّفَس، الفظاظة، الشعر الكثير، الإفرازات المريعة. لكن كان في هذا الموقف ما هو أكثر. ولم يكن في الغضب المصاحب أي حدة أو احترام للذات. لم يكن ثمة وسيلة للتنفيس عنه، مثلما كنت أفعل عندما كنت أغضب من ستيف بالْتقاطي حجرًا وإلقائه عليه. لم يكن من الممكن فهم شعوري هذا أو التعبير عنه، على الرغم من أنه خَفت بعد فترة وتحول إلى ضيق، ثم إلى مجرد هاجس، هاجس عَرَضي؛ هاجس خفيف، مألوف.

•••

بعدها بعشرين عامًا تقريبًا، في عام ١٩٦١، اشترينا، أنا وزوجي أندرو، سيارة جديدة، سيارتنا الأولى، سيارتنا الأولى الجديدة. كانت من طراز موريس أكسفورد، بلون المحار (كان البائع يطلق على اللون اسمًا آخر أكثر جاذبية)، وهي سيارة صغيرة متسعة من الداخل بحيث تتسع لنا ولطفلينا. كانت سينثيا في السادسة من عمرها وميج في الثالثة والنصف.

التقط أندرو صورة لي وأنا واقفة إلى جانب السيارة. كنت أرتدي بنطالًا أبيض، وكنزة سوداء عالية الرقبة، ونظارة شمسية. استندت إلى باب السيارة، مميلة أردافي حتى أبدو نحيلة.

قال أندرو: «رائع … عظيم. تبدين مثل جاكلين كينيدي.» كانت الشابات ذوات الشعر الداكن، والنحيفات في هذه القارة يُقال لهن، عندما يكنَّ مرتديات ملابسهن على أحدث موضة أو تُلتقط صور لهن، إنهن يبدون مثل جاكلين كنيدي.

التقط أندرو الكثير من الصور لي، وللأطفال، ومنزلنا، وحديقتنا، ورحلاتنا، ومتعلقاتنا. وكان يصنع نسخًا من تلك الصور، ويضع تعليقات عليها بعناية، ويرسلها إلى أمه وخالته وخاله في أونتاريو. كان يصنع نسخًا لي لإرسالها إلى أبي، الذي كان يعيش في أونتاريو أيضًا، وهكذا فعلت، لكنني كنت أرسلها بمعدل أقل انتظامًا مما كان يرسلها. وعندما كان يرى صورًا يعتقد أنني أرسلتها بالفعل متناثرة في أرجاء المنزل، كان يشعر بالحيرة والانزعاج. كان يحب أن تنتشر صوره.

في ذلك الصيف، كنا سنزورهم بأنفسنا، ولا نكتفي بإرسال الصور. كنا نقود سيارتنا الجديدة من فانكوفر، حيث كنا نعيش، إلى أونتاريو، التي كنا لا نزال نُطلق عليها «وطننا». خمسة أيام لنصل إلى هناك، وعشرة أيام نمكثها هناك، وخمسة أيام لنعود من هناك. للمرة الأولى، حصل أندرو على إجازة مدتها ثلاثة أسابيع. كان يعمل في قسم الشئون القانونية في شركة بي سي هايدرو.

في صباح أحد أيام الآحاد، وضعنا في السيارة الحقائب وتُرمسين — أحدهما ممتلئ بالقهوة والآخر بعصير الليمون — وبعض الفواكه والشطائر، وكتبًا مصوَّرة، وكتبًا للتلوين، وأقلامًا للتلوين، وألواح رسم، وطاردًا للحشرات، وسترات (حال صار الطقس باردًا في منطقة الجبال)، وطفلينا. أحكم أندرو إغلاق أبواب المنزل، وقالت سينثيا على نحو احتفالي: «الوداع يا منزلنا.»

قالت ميج: «الوداع يا منزلنا.» ثم قالت: «أين سنعيش الآن؟»

قالت سينثيا: «ليس هذا وداعًا إلى الأبد … سنعود. أمي! ميج تظن أننا لن نعود هنا أبدًا!»

قالت ميج، وهي تركل مقعدي من الخلف: «لم أقل ذلك.»

ارتدينا أنا وأندرو نظارتين شمسيتين، وقدنا السيارة فوق جسر ليونز جيت وعبر الجزء الرئيسي من فانكوفر. تركنا منزلنا والحي والمدينة، وتركنا بلدنا عند نقطة التقاطع بين واشنطن وكولومبيا البريطانية. كنا نقود شرقًا عبر الولايات المتحدة، متجهين نحو أقصى الشمال، ثم عبرنا إلى كندا عند سارنيا، بأونتاريو. لا أعلم إذا كنا قد اخترنا هذا المسار لأن الطريق السريع العابر لكندا لم يكن قد انتهى العمل فيه تمامًا في ذلك الوقت أو إذا كنا فقط نريد أن نشعر بأننا نقود عبر دولة أجنبية، أجنبية على نحو طفيف تمامًا، تلك الجرعة الإضافية من الإثارة والمغامرة.

كان كلانا يتمتع بروح معنوية مرتفعة. أثنى أندرو على السيارة عدة مرات. قال إنه كان يشعر بشعور أفضل كثيرًا عند قيادتها أكثر من سيارتنا القديمة، وهي سيارة أوستن موديل ١٩٥١ كانت تبطئ على نحو محبط فوق المرتفعات وتبدو مثل سيدة عجوز مزعجة، هكذا قال أندرو.

قالت سينثيا: «أي صورة تبدو عليها هذه السيارة؟» استمعت إلينا في عناية ورغبت في أن تجرِّب كلمات جديدة مثل «صورة». عادةً كانت تنطق هذه الكلمات نطقًا صحيحًا.

قلتُ: «مفعمة بالحياة … رياضية قليلًا، عملية.»

قال أندرو: «سيارة متزنة لكنها تتمتع بالرقي … تمامًا مثل صورتي.»

فكَّرت سينثيا في ذلك وقالت في فخر حذر: «هل يعني ذلك أنك تريد أن تكون كذلك يا أبي؟»

بالنسبة إليَّ، كنت سعيدة بالرحيل. كنت أحب الخروج. في منزلي، كنت أبدو كما لو كنت أبحث كثيرًا عن مكان أختبئ فيه؛ في بعض الأحيان من الأطفال، لكن في أحيان أكثر من المهام المنزلية ورنين الهاتف ومخالطة الجيران. كنت أريد أن أختبئ بحيث أنشغل بعملي الحقيقي، الذي كان عبارة عن تلمس الأجزاء القصية من نفسي. كنت أعيش في حالة حصار، دائمًا أفقد ما كنت أريد أن أتمسك به. لكن خلال الرحلات لم يكن ثمة أي صعوبة. كنت أتحدث إلى أندرو، أتحدث إلى الأطفال وأنظر إلى أي شيء يريدونني أن أنظر إليه — صورة خنزير على لافتة، مُهر في أحد الحقول، سيارة فولكس فاجن على منصة دوَّارة — وأصب عصير الليمون في أكواب بلاستيكية، وطوال الوقت كانت هذه الأجزاء تطير بداخلي وتتجمع معًا. يجعلني هذا أشعر بالأمل والابتهاج. كان هذا يجعلني متابعة؛ متابعةً، لا قائمة على الأمور.

استدرنا شرقًا عند إيفريت وصعدنا إلى منطقة سلسلة جبال كاسكيد. أريت سينثيا مسارنا على الخريطة. أولًا، أريت لها خريطة الولايات المتحدة كلها، التي كانت تُظهر الجزء السفلي من كندا أيضًا. ثم انتقلت إلى الخرائط المنفصلة لكل ولاية كنا سنمر بها؛ واشنطن، إيداهو، مونتانا، نورث داكوتا، مينيسوتا، ويسكونسن. أريتها الخط المنقَّط بطول بحيرة ميشيجان، الذي كان يمثِّل مسار المعدية التي كنا سنستقلها. ثم كنا سنقود السيارة عبر ميشيجان إلى الجسر الذي يربط الولايات المتحدة وكندا عند سارنيا، أونتاريو، الوطن.

أرادت ميج أن ترى أيضًا.

قالت سينثيا: «لن تفهمي.» لكنها أخذت بأطلس الخرائط إلى المقعد الخلفي.

قالت لميج: «اجلسي … اجلسي دون حراك. سأُريك.»

كنت أستطيع سماعها تذْكر مسار الرحلة لميج، بدقة شديدة، مثلما كنت سأفعل ذلك لها. نظرت في جميع خرائط الولايات، وكانت تعرف كيف تعثر عليها بالترتيب الأبجدي.

قالت: «هل تعرفين ما هذا الخط؟ … هذا هو الطريق. ذلك الخط هو الطريق الذي نقود السيارة عليه الآن. سنسير على هذا الخط.»

لم تقل ميج شيئًا.

قالت سينثيا: «أمي، أريني أين نحن الآن تحديدًا.»

أخذتُ الأطلس وأشرت إلى الطريق عبر الجبال، فأخذته وأرته لميج. قالت: «أترين كيف أن الطريق ملتف؟ … الطريق ملتف لأنه توجد انعطافات كثيرة فيه. الالتفافات هي الانعطافات.» قلَّبت بعض الصفحات وانتظرت برهة. ثم قالت: «الآن … أريني أين نحن.» ثم قالت لي: «أمي، إنها تفهم! لقد أشارت إلى الطريق الذي نسلكه! أصبحت ميج تفهم الخرائط!»

يبدو لي الآن أننا ابتدعنا شخصيات لطفلتينا. أعددناهما إعدادًا جيدًا ليلعبا دوريهما. كانت سينثيا ذكية ومجتهدة، وحساسة، ومهذبة، وحذرة. في بعض الأحيان كنا نغيظها لتمتعها بضمير يقظ أكثر من اللازم، ولحماسها الزائد في أن تكون ما أردنا أن تكون عليه. كان أي تأنيب أو فشل؛ أي تقريع، يؤثر فيها جدًّا. كانت شقراء، بيضاء البشرة، تظهر عليها بسرعة آثار الشمس، أو الرياح الشديدة، أو الكبرياء، أو الإذلال. كانت ميج تتمتع ببنية أكثر قوة، وكانت أكثر تكتمًا؛ لم تكن متمردة بل عنيدة في بعض الأحيان، وغامضة. كانت لحظات صمتها تبدو لنا كما لو كانت تظهر قوة شخصيتها، وكانت مثالبها تعتبر كعلامات على استقلالية ورباطة جأش. كان شعرها بنيًّا، قصصناه بحيث تنسدل مقدمته فوق جبينها. كانت عيناها بلون بندقي فاتح، حادة ومتلألئة.

كنا مسرورين تمامًا بهاتين الشخصيتين، مستمتعين بأمارات التعارض فضلًا عن أمارات التوافق معهما. كنا نكره الأسلوب الكئيب، غير المبتكر، في تربية الأبناء. كنت أتخوَّف من التحول إلى نوع محدد من الأمهات، النوع الذي كان جسده يترهل، الذي ينشغل بأعباء تافهة وفكره مشوش. كنت أعتقد أن كل هذا الانتباه الذي توليه هذه الأمهات حاجتهن إلى أن تكن مثقلات بالأعباء، كان سببًا في إصابة أطفالهن بالمغص، والتبول اللاإرادي، والربو. كنت أفضل أسلوبًا آخر؛ أسلوب التهور المصطنع، التجاهل المبالغ فيه للأمهات المخضرمات اللائي كن يكتبن قصصهن في المجلات. في تلك القصص، كان الأطفال يبدون غاية في العناد، متشبثين بآرائهم، منحرفين، لا يُقهرون. وهكذا كانت الأمهات، من خلال ذكائهن، لا يُقهرن. كانت الأمهات اللائي كنت أرغب في أن أكون مثلهن هن اللائي يمكن أن يتصلن بأحد الأشخاص ويقلن: «هل طفلي، ذلك الشيطان الصغير، موجود لديك في المنزل؟» كن يَسْمُونَ فوق التشويش الذهني هذا.

رأينا غزالة ميتة مربوطة في واجهة شاحنة صغيرة.

قالت سينثيا: «أطلق أحدهم النار عليها … يطلق الصائدون النار على الغزلان.»

قال أندرو: «لم يحن بعد موسم الصيد … ربما صدمها أحد على الطريق. أترين اللافتة الخاصة بعبور الغزلان؟»

قالت سينثيا في حدة: «سأبكي لو صدمنا غزالة.»

كنت قد صنعت شطائر من المربى وزبد الفول السوداني للأطفال وشطائر سلمون بالمايونيز لنا. لكنني لم أضع أي خس فيها، وكان أندرو يشعر بالإحباط بسبب ذلك.

قلت: «ليس معي أي شرائح خس.»

«ألم يكن بإمكانك أن تشتري بعض الخس؟»

«كنت سأشتري خسة كاملة لأحصل منها على ما يكفي فقط للشطائر، ثم قررت أن الأمر لا يستحق.»

كانت هذه كذبة. كنت قد نسيت.

«الشطائر أفضل كثيرًا بالخس.»

«لم أكن أظن أنه يصنع كل هذا الفارق.» ثم بعد فترة صمت، قلت: «لا تغضب.»

«لست غاضبًا. أحب الخس في الشطائر.»

«لم أكن أعتقد فقط أن الأمر مهم كثيرًا هكذا.»

«كيف سيكون الأمر إذا لم أعبأ بملء خزَّان الوقود؟»

«ليس هذا نفس الشيء.»

قالت سينثيا: «فلنغنِّ أغنية.» وبدأت تغني:

خرجت خمس بطات صغيرة ذات يوم،
عبر التلال وبعيدًا.
صاحت إحدى البطات الصغيرة:
«كواك، كواك، كواك.»
عادت أربع بطات صغيرة تسبح.

ضغط أندرو على يدي وقال: «دعينا لا نتشاجر.»

«أنت على حق. كان يجب أن أجلب خسًّا.»

«لا يهم الأمر كثيرًا.»

تمنيت لو كنت أستطيع أن أجمع مشاعري تجاه أندرو في صورة شعور عملي يمكن الاعتماد عليه. كنت قد حاولت كتابة قائمتين، إحداهما للأشياء التي كانت تعجبني فيه، والأخرى للأشياء التي لا تعجبني فيه — في بوتقة الحياة الحميمة، الأشياء التي كنت أحبها فيه والأشياء التي كنت أكرهها فيه — كما لو كنت آمل من خلال هذا في إثبات شيء، في الوصول إلى نتيجة محددة. لكنني تخليت عن ذلك عندما رأيتُ أن كل ما كان ذلك يثبته هو ما كنت أعرفه بالفعل؛ أن لدي تناقضات صارخة. في بعض الأحيان، كان مجرد صوت وقع أقدامه يبدو لي استبداديًّا، وشكل فمه يشي بالغرور والوضاعة، وجسده القوي المستقيم مانعًا يحول — بصورة واعية تمامًا، بل عن التزام، وفي استمتاع بغيض بسلطته الذكورية — بيني وبين أي متعة أو بهجة يمكن أن أمر بها في حياتي. ثم، دون سابق إنذار، كنت أراه الصديق الطيب والرفيق الوفي. وأشعر بالعذوبة في عظامه الخفيفة وأفكاره الجادة، رقة حبه، الذي تصورته أكثر نقاءً ومباشرةً من حبي. كنت أعجب بشدة بتعنته، بانضباطه الشديد، وهو أمر كنت أزدريه في أوقات أخرى. كنت أفكر كيف كان متواضعًا، حقيقةً، وهو يلعب دور الزوج، الأب، المُعيل المألوف، وكيف كنت أنا نفسي بالمقارنة وحشًا أنانيًّا خفيًّا. ليس خفيًّا تمامًا؛ ليس بالنسبة إليه.

في أعماق شجاراتنا، كنا نُظهر ما كنا نعتقد أنها أقبح الحقائق. قال أندرو ذات مرة: «أعلم أن بك مسحة من الأنانية وأنه لا محل للثقة بك … كنت أعلم ذلك دومًا. أعلم أيضًا أنني لهذا السبب أحببتك.»

قلتُ شاعرة بالأسف والرضا في آن واحد: «نعم.»

«أعلم أني سأكون أفضل حالًا بدونك.»

«نعم. ستكون كذلك.»

«ستكونين أكثر سعادة بدوني.»

«نعم.»

وفي النهاية — في النهاية — بعد تألمنا وتطهرنا، كان كلٌّ منا يشد على يد الآخر ونضحك، نضحك من هذين الشخصين الجاهلين، نضحك من أنفسنا. نضحك من أحقادنا، شكوانا، تبريراتنا. كنا نتجاوز هذين الشخصين. كنا نعدهما كذابين. كنا نتناول خمرًا على العشاء، أو نقرر إقامة حفل.

لم أرَ أندرو منذ سنوات، ولا أعرف إن كان لا يزال نحيفًا، أو تحول شعره إلى الرمادي بالكامل، أو لا يزال يصر على تناول الخس، أو قول الحقيقة، أو إن كان لا يزال مخلصًا ومحبطًا.

•••

قضينا الليل في ويناتشي بواشنطن، حيث لم تكن قد أمطرت لأسابيع. تناولنا العشاء في مطعم مُقام حول شجرة؛ ليست شجيرة في حوض، لكن شجرة زيزفون طويلة، ومتينة. في ضوء الصباح الباكر، خرجنا من الوادي المروي، صعودًا عبر منحدرات التلال الجافة، الصخرية، شديدة الانحدار التي كان يبدو أنها تفضي إلى مزيد من التلال، وهناك عند القمة كانت توجد هضبة عريضة، يقطعها نهرا سبوكين وكولومبيا. كانت توجد أراضٍ مزروعة بالحبوب ومساحات من الحشائش، ميلًا بعد ميل. كانت ثمة طرق مستقيمة هنا، وبلدات زراعية صغيرة بها رافعات حبوب. في حقيقة الأمر، كانت ثمة لافتة تشير إلى أن المقاطعة التي كنا نمر بها، مقاطعة دوجلاس، تحقق ثاني أعلى إنتاج من القمح بين مقاطعات الولايات المتحدة. كانت البلدات تزرع أشجار ظل. على الأقل، كنت أعتقد أنها مزروعة؛ نظرًا لعدم وجود أشجار كبيرة بمثل هذا الحجم في الريف.

كنت معجبة بكل هذا بشدة. قلت لأندرو: «لماذا أحب هذه الأماكن بشدة؟ … هل لأنها ليست مناظر طبيعية؟»

قال أندرو: «إنها تذكرك بوطنك … نوبة من الحنين الشديد.» لكنه قال ذلك في حنو.

عندما قلنا «وطننا» وكنا نشير إلى أونتاريو، كنا نفكر في مكانين مختلفين جدًّا. كان منزلي عبارة عن مزرعة ديوك رومية، حيث كان أبي يعيش كأرمل، وعلى الرغم من أنه كان المنزل نفسه الذي كان يعيش فيه مع أمي، الذي كانت قد غطته بورق الحائط، وطلته ونظفته وأثثته، كانت تبدو عليه الآن آثار الإهمال والمناسبات الاجتماعية الصاخبة. كان المنزل يشهد حياة لم تكن أمي لتتوقعها أو توافق عليها. كان العاملون بالمزرعة يقيمون حفلات، هؤلاء الذين يذبحون الديوك الرومية وينظفونها ويعدونها للبيع، وفي بعض الأحيان كان شاب أو اثنان منهم يقيمان هناك بعض الوقت، داعِيَيْن أصدقاءهما لحفلات دون ترتيب مسبق. أعتقد أن هذه الحياة أفضل بالنسبة لأبي من وحدته، وأنا لم أكن أعترض عليها، ولم يكن بالتأكيد لدي أي حق في الاعتراض. لم يكن أندرو يحب أن يذهب إلى هناك، وهو ما كان أمرًا طبيعيًّا؛ لأنه لم يكن من النوع الذي يمكن أن يجالس مثل هؤلاء الأشخاص حول مائدة تجهيز الديوك الرومية، وهم يطلقون النكات. كانوا يرهبونه ويزدرونه، وكان يبدو أن أبي، عندما يكونون موجودين، يضطر إلى أن يكون إلى جانبهم. ولم يكن أندرو فقط هو من كان يواجه متاعب. كنت أستطيع تحمل نكاتهم، لكن كان ذلك يحتاج مني بعض الجهد.

كنت أتوق إلى الأيام التي كنت صغيرة فيها، قبل أن نربي الديوك الرومية. كان لدينا أبقار، وكنا نبيع اللبن لمصنع الجبن. لا تساوي مزرعة ديوك رومية في جمالها مزرعة أبقار أو مزرعة أغنام. يمكن أن يلاحظ المرء أن الديوك الرومية ليس أمامها إلا طريق واحد تسلكه وهو أن تصبح ذبائح وشرائح لحم مجمدة. لا تملك الديوك الرومية حياة خاصة بها، مراعي هانئة، مثلما تملك الأبقار، أو بساتين تتخللها الظلال مثل الخنازير. حظائر الديوك الرومية عبارة عن أماكن عريضة، منظمة؛ أكواخ من الصفيح. لا توجد دعائم أو قش أو حظائر مدفأة. وحتى رائحة الروث تبدو أكثر حدة وشناعة من الرائحة المعتادة للروث في الإسطبلات. لا يوجد هناك أي أثر لأكوام القش، والسياجات الخشبية، والطيور المغردة، والزعرور البري المُزهر. كانت الديوك الرومية تُطلق جميعها في حقل واحد طويل، كانت تلتقط ما به عن آخره. لم تكن الديوك الرومية تبدو هناك مثل طيور عظيمة بل مثل غسيل متطاير.

ذات مرة، بعد وقت قصير من وفاة أمي، وبعد أن تزوجت — في حقيقة الأمر، كنت أعد حقائبي للحاق بأندرو في فانكوفر — ظللت في المنزل وحدي يومين مع أبي. كانت ثمة أمطار شديدة طوال الليل. في ضوء النهار المبكر، رأينا حقل الديوك الرومية غارقًا في المياه. على الأقل، كانت الأجزاء الخفيضة منه مغمورة بالمياه؛ كان الحقل يبدو مثل بحيرة بها جزر عديدة. كانت الديوك الرومية مجتمعة معًا حول هذه الجزر. الديوك الرومية غبية جدًّا. (كان أبي يقول: «هل تعرفين الدجاجة؟ هل تعرفين مدى غباء الدجاجة؟ حسنًا، تعتبر الدجاجة أينشتاين مقارنةً بالديك الرومي.») لكن الديوك الرومية نجحت في التجمع معًا على أراضٍ مرتفعة وتجنبت الغرق في المياه. خشينا أن تدفع الديوك بعضها بعضًا في الماء، فتختنق، أو تصاب بالبرد فتموت. لم نستطع الانتظار حتى ينصرف الماء. خرجنا في زورق قديم كنا نملكه. جدَّفت وكان أبي يمسك بالديوك الرومية كبيرة الحجم، المبتلة ويضعها في الزورق، ثم أخذناها إلى الحظيرة. كان المطر لا يزال ينزل وإن كان قليلًا. كانت المهمة صعبة وسخيفة وغير مريحة على الإطلاق. كنا نضحك. كنت سعيدة أنني كنت أعمل مع أبي. شعرت بقربي من هذا العمل الشاق المتكرر الهائل، الذي يُنهك الجسد فيه في النهاية، ويغرق فيه العقل (على الرغم من أن الروح ربما تظل هائمة أحيانًا على نحو مدهش)، وكنت أشعر بالحنين مقدمًا إلى هذه الحياة وهذا المكان. كنت أعتقد أنه إذا كان بإمكان أندرو أن يراني هناك في المطر، متلبسةً، متسخة، أحاول أن أمسك بأرجل الديوك الرومية وأجدف في الوقت نفسه؛ لكان سيرغب في إخراجي من هناك ويجعلني أنسى كل شيء عن الأمر. كانت هذه الحياة البدائية تغضبه. كان التصاقي بهذه الحياة يغضبه. كنت أعتقد أنني ما كان يجب أن أتزوجه. لكن من سواه يمكن أن أتزوج؟ أحد العاملين مع أبي في المزرعة؟

ولم أكن أريد أن أمكث هناك. ربما ينتابني شعور سيئ حيال الرحيل، لكنني كنت سأشعر بما هو أسوأ إذا أرغمني أحد على البقاء هناك.

كانت والدة أندرو تعيش في تورونتو، في مجمع سكني يطل على متنزه موير. عندما كان أندرو وأخته في المنزل، كانت أمه تنام في غرفة المعيشة. كان زوجها، طبيب، قد مات عندما كان الأطفال أصغر من أن يذهبوا إلى المدرسة. تلقت دورة تدريبية في أعمال السكرتارية وباعت المنزل بأسعار فترة الكساد العظيم، وانتقلت إلى هذه الشقة، ونجحت في تربية أبنائها، بمساعدة بعض الأقارب؛ أختها كارولين، وزوج أختها روجر. ذهب أندرو وأخته إلى مدارس خاصة وكانا يذهبان إلى معسكرات في الصيف.

قلت ذات مرة، هازئةً بادعائه بأنه كان فقيرًا: «أعتقد أن هذا كان بفضل مؤسسة فريش آير فاند، أليس كذلك؟» في ذهني، كانت حياة أندور في المدينة مرفهة ولا تعتريها أي مشكلات مادية. كانت أمه تعود إلى المنزل وهي تعاني من الصداع من العمل طوال اليوم في الضوضاء، والضوء الشديد لمكتب إداري بأحد المتاجر الكبرى، لكن لم يجل بخاطري أن حياتها كانت حياة قاسية أو مثيرة للإعجاب. لا أعتقد أنها هي نفسها كانت تعتقد أنها مثيرة للإعجاب؛ كانت تعتقد فقط أنها غير محظوظة. كانت قلقة بشأن عملها في المكتب، وملابسها، وطهيها، وأطفالها. كانت قلقة أكثر من أي شيء آخر حيال نظرة روجر وكارولين لها ولما تفعل.

كان روجر وكارولين يعيشان على الجانب الشرقي من المتنزه، في منزل حجري جميل. كان روجر رجلًا طويلًا ذا رأس أصلع منمَّش، وبطن بدين صلب. كان قد خضع لعملية في حنجرته أفقدته صوته؛ كان يتحدث في صوت هامس مبحوح. لكن كان الجميع يفهم ما يقول. على العشاء ذات مرة في المنزل الحجري — حيث كانت كل قطع الأثاث الموجودة في غرفة الطعام كبيرة الحجم، وفخمة وذات دهان داكن — سألته سؤالًا. أعتقد أن السؤال كان يتعلق بويتيكر تشامبرز، الذي كانت قصته تُنشر آنذاك في مجلة «صنداي إيفينينج بوست». كان السؤال هادئًا في نبرته، لكنه أدرك هدفه الهدَّام، وأخذ في مناداتي باسم السيدة جروميكو، مشيرًا إلى ما زعم أنه «ميولي المتعاطفة». ربما كان يرغب بشدة حقيقةً في غريم، ولم يفلح في العثور على أحد. في ذلك العشاء، رأيتُ يد أندرو ترتعش عند إشعاله سيجارة أمه. كان العم روجر قد دفع مقابل تعليم أندرو، وكان عضوًا في مجالس إدارات شركات عديدة.

قال أندرو لي لاحقًا: «ليس إلا رجلًا شيخًا متصلب الرأي … ما فائدة الجدل معه؟»

قبل أن نرحل من فانكوفر، كانت والدة أندرو قد كتبت قائلةً: «يبدو أن روجر يشعر بالضيق البالغ من فكرة شرائك سيارة صغيرة!» أظهرت علامة التعجب قلقها. في ذلك الوقت، خاصةً في أونتاريو، كان يُنظر إلى تفضيل سيارة أوروبية صغيرة على سيارة أمريكية كبيرة باعتباره إعلانًا من نوع ما؛ إعلانًا حول ميول كان روجر يبغضها طوال الوقت.

قال أندرو في حنق: «ليست سيارة صغيرة على هذا النحو.»

قلت: «ليست هذه هي المسألة … المسألة أن الأمر لا يخصه على الإطلاق!»

•••

قضينا الليلة الثانية في ميزولا. أخبرنا شخص ما في سبوكين، في إحدى محطات الوقود، أنه يوجد الكثير من أعمال الإصلاحات التي تجري على الطريق السريع ٢، وأن أمامنا طريقًا طويلًا سنقود السيارة فيه في ظل درجة حرارة مرتفعة وغبار شديد، وفترات انتظار طويلة؛ لذا تحوَّلنا إلى الطريق الواصل بين الولايات وقدنا السيارة عبر كور دو لين وكيلوج إلى مونتانا. بعد ميزولا، انعطفنا جنوبًا في اتجاه بيوت، لكننا انحرفنا عن الطريق لنرى هيلينا، عاصمة ولاية مونتانا. وفي السيارة، لعبنا لعبة «من أنا؟»

كانت سينثيا تمثل شخصية شخص ميت، أمريكي. بنت وربما سيدة. لم تكن جزءًا من أي قصة. ولم يرها أحد على التليفزيون. ولم يقرأ أحد عنها في أي كتاب. ولم تأت يومًا إلى الحضانة، أو لم تكن قريبة إلى أيٍّ من أصدقاء سينثيا.

قال أندرو، في فطنة مفاجئة: «هل هي إنسان؟»

«لا! هذا ما نسيت أن تسأله!»

قلت في إطراق: «حيوان.»

«هل هذا سؤال؟ هناك ستة عشر سؤالًا فقط!»

«لا، هذا ليس سؤالًا. لا أزال أفكر. حيوان ميت.»

قالت ميج، التي لم تكن تشارك في اللعب: «إنه الغزال.»

قالت سينثيا: «هذا ليس عدلًا! … هي لا تلعب معنا!»

سأل أندرو: «أي غزال؟»

قلتُ: «الذي رأيناه أمس.»

قالت سينثيا: «أول أمس … لم تكن ميج تلعب. لم يصل للحل أحد.»

قال أندرو: «الغزال الذي كان على الشاحنة.»

قالت سينثيا: «كانت غزالة وليس غزالًا؛ لأنها لم تكن لديها قرون، وكانت أمريكية وكانت ميتة.»

قال أندرو: «أظن أن الأمر مقبض قليلًا، كونها غزالة ميتة.»

قالت ميج: «عرفت الحل».

قالت سينثيا: «أظن أنني أعرف معنى كلمة مقبض. معناها كئيب.»

كانت هيلينا، وهي بلدة قديمة تقوم على التنقيب عن الفضة، تبدو لنا مهجورة حتى في ضوء شمس الصباح. ثم مررنا ببوزمان وبيلينجز، اللتين لم تبدوا لنا مهجورتين على الإطلاق؛ فقد كانتا من البلدات المفعمة بالحياة، العامرة، التي تمتد فيها الزينات المغشية للأبصار لأميال فوق باحات السيارات المستعملة. بلغ التعب منا مبلغه وشعرنا بحر شديد حتى لم نعد حتى نستطيع أن نلعب لعبة «من أنا؟» ذكرتني هذه المدن المزدحمة الكئيبة بأماكن مشابهة لها في أونتاريو، وكنت أفكر فيما ينتظرنا حقًّا هناك؛ الأثاث كبير الحجم في غرفة طعام روجر وكارولين، وحفلات العشاء التي يجب أن أكوي ملابس الأطفال من أجلها وأحذرهم من الشوك، ثم الطاولة الأخرى التي على بعد مئات الأميال، ونكات العاملين مع أبي. كان يجب انتزاع المتع التي كنت أفكر فيها — الاستمتاع بالمناظر في الريف أو تناول أحد المشروبات الغازية في متجر قديم الطراز ذي مراوح، وسقف عالٍ من صفيح مضغوط — بين المكانين.

قالت سينثيا: «ميج نائمة … درجة حرارتها مرتفعة جدًّا. تجعلني أشعر بحرارة بالغة في المقعد الذي نجلس عليه معًا.»

قلتُ، دون أن أستدير: «آمل ألا تكون لديها حمى.»

لماذا نفعل ذلك؟ هكذا حدثت نفسي، وجاءت الإجابة: بهدف التباهي. حتى نمنح أبي ووالدة أندرو متعة رؤية أحفادهما. كان ذلك واجبنا. لكن بخلاف ذلك، كنا نريد أن نريهما أننا، أنا وأندرو، أبناء صعاب المراس، وأننا نبحث في جد عن الثناء. كان الأمر كما لو كنا قد تلقينا عند نقطة ما رسالة لا تُنسى، ولا تُفهم؛ أن أداءنا ليس مرضيًا على الإطلاق، وأننا بعيدان كل البعد عن تحقيق حتى أبسط نجاح. كان روجر هو من يرسل مثل هذه الرسائل، بالطبع — كان هذا أسلوبه — لكن والدة أندرو، وأمي، وأبي لم يكونوا يقصدون ذلك. كان كل ما كانوا يقصدون أن يخبرونا إياه هو: «احترسا. استمرا بثبات فيما أنتما ماضيان فيه.» كان أبي يغيظني، عندما كنت في المدرسة الثانوية، ويقول لي إنني كنت أعتقد أنني في غاية الذكاء لدرجة أنني لن أواعد أحدًا. كان ينسى أشياء كهذه في غضون أسبوع. لم أنس ذلك قط. لم يكن أندرو وأنا ننسى الأشياء. كنا نستاء استياءً شديدًا.

قالت سينثيا: «أتمنى أن نجد شاطئًا هنا.»

قال أندرو: «يوجد واحد على الأرجح … بعد المنعطف التالي مباشرةً.»

قالت، وصوتها ينبئ عن الشعور بالإهانة: «لا توجد أي منعطفات.»

«هذا ما أعنيه.»

«كنت أتمنى لو أنه يوجد مزيد من عصير الليمون.»

قلتُ: «سألوِّح بعصاي السحرية وأنتج البعض منه.»

«هل توافقين على ذلك يا سينثيا؟ أم تفضلين تناول عصير كرم؟ وهل أصنع لك شاطئًا؟»

صمتت، وسرعان ما شعرتُ بالندم. قلتُ: «ربما في البلدة التالية يوجد مسبح.» نظرت في الخريطة. «في مايلز سيتي. على أي حال، سيكون ثمة شيء بارد نشربه.»

سأل أندرو: «كم تبعد؟»

قلتُ: «ليست بعيدة جدًّا … ثلاثين ميلًا، تقريبًا.»

قالت سينثيا، بنبرة من يتلو تعويذة: «في مايلز سيتي … يوجد مسبح أزرق جميل للأطفال، ومتنزه ذو أشجار رائعة.»

قال أندرو لي: «ربما تكون توقعاتك مبالغًا فيها.»

•••

لكن كان هناك مسبح. كان يوجد متنزه، أيضًا، على الرغم من أنه لم يكن واحة كما تصورته سينثيا في خيالها. أشجار مروج ذات أوراق نحيفة — أشجار زيزفون وحور — حشائش بالية، وسياج سلكي عالٍ حول المسبح. داخل السياج، جدار، لم يكتمل بناؤه بعد، من الكتل الأسمنتية. لم يكن ثمة صيحات أو صوت رش مياه؛ فعند المدخل رأيت لافتة تقول إن المسبح مغلق يوميًّا من وقت الظهيرة حتى الساعة الثانية عصرًا. كانت الساعة آنذاك الثانية عشرة وخمسًا وعشرين دقيقة.

على الرغم من ذلك ناديت قائلةً: «هل أحد هنا؟» كنت أظن أنه لا بد أن يوجد أحد؛ نظرًا لوجود شاحنة صغيرة منتظرة قرب المدخل. على جانب الشاحنة كُتبت هذه الكلمات: «لدينا من المهارة ما يمكننا من القيام بكافة أعمال السباكة. (لدينا أيضًا جهاز روتو-رووتر.)»

خرجت فتاة ترتدي قميص عاملة إنقاذ أحمر اللون فوق ثوب استحمامها. «آسفة، المكان مغلق.»

قلتُ: «مررنا بالمكان فقط في أثناء سفرنا.»

«نغلق كل يوم من الثانية عشرة إلى الثانية. هذا مكتوب على اللافتة.» كانت تأكل شطيرة.

قلتُ: «رأيت اللافتة … لكن هذ المسبح هو أول مياه نراها منذ وقت طويل للغاية، ويشعر الأطفال بالحرارة الشديدة، وكنت أتساءل إذا كانوا يستطيعون العوم قليلًا ثم الخروج من المياه، لمدة خمس دقائق فقط. وسنراقبهم.»

ظهر صبي خلفها. كان يرتدي بنطال جينز وتي-شيرت عليه كلمات «روتو-رووتر».

كنت سأقول إننا كنا نقود السيارة من كولومبيا البريطانية إلى أونتاريو، لكنني تذكرت أن أسماء الأماكن الكندية عادةً لا تكون ذات معنى على الإطلاق بالنسبة للأمريكيين. قلتُ: «نمر عبر الطريق فقط … ليس لدينا وقت حتى يفتح المسبح. كنا فقط نأمل أن تبرد أجسام الأطفال قليلًا.»

جاءت سينثيا وهي تعدو حافية القدمين خلفي. «أمي. أمي، أين ثوب استحمامي؟» ثم توقفت، لامسةً جدية مفاوضات الكبار. كانت ميج تنزل من السيارة؛ استيقظت لتوها، وكانت كنزتها مرفوعةً إلى أعلى وبنطالها القصير هابطًا إلى الأسفل، كاشفًا عن بطنها قرنفلية اللون.

قالت الفتاة: «هل هما هاتان الفتاتان فقط؟»

«فقط هاتان الاثنتان. سنراقبهما.»

«لا أستطيع أن أسمح بدخول بالغين. إذا كان الأمر يقتصر على هاتين الفتاتين، فأظن أنني سأراقبهما. إنني أتناول الآن غدائي.» ثم قالت لسينثيا: «هل تريدين أن تسبحي في المسبح؟»

قالت سينثيا في ثبات: «نعم، من فضلك.»

نظرت ميج إلى الأرض.

قلتُ: «فقط لمدة قصيرة؛ لأن المسبح مغلق.» وقلتُ للفتاة: «نقدِّر ذلك كثيرًا.»

«حسنًا، أستطيع أن أتناول غدائي هناك، إذا كان لا يوجد سواهما.» نظرت في اتجاه السيارة كما لو كانت تظن أنني سأقذف بمزيد من الأطفال في اتجاهها.

عندما وجدت ثوب استحمام سينثيا، أخذته سينثيا إلى غرفة تبديل الملابس. لم تكن لتسمح لأحد، حتى ميج، أن يراها عارية. غيَّرت ملابس ميج، التي وقفت على المقعد الأمامي للسيارة. كانت ترتدي ثوب استحمام قطنيًّا قرنفليًّا ذا حمالات متقاطعة ومُزررة. كانت توجد بعض الثنيات عبر الأرداف.

قلتُ: «إن درجة حرارتها عالية … لكنني لا أظن أنها مصابة بالحمى.»

كنت أحب مساعدة ميج في ارتداء وخلع ملابسها؛ لأن جسدها كان لا يزال يحتفظ بعدم الوعي بنفسه، عدم الاكتراث العذب، شيء من الرائحة اللبنية، رائحة جسد الرضيع. كان جسد سينثيا قد فقد استدارته الطفولية منذ وقت طويل، تشكَّل وتغيَّر، إلى شكل جسدها كطفلة كبيرة. كنا نحب جميعًا أن نحتضن ميج، ونضمها، ونحكها بأنوفنا. في بعض الأحيان، كانت تصرخ وتضربنا، وهذا الاستقلال الصريح، هذا الخجل الأبي، جعلها أكثر جاذبية، أكثر ميلًا لأن تغاظ وتُداعب من قبيل الحب العائلي.

جلسنا أنا وأندرو في السيارة تاركين النوافذ مفتوحة. كنت أستطيع سماع صوت الراديو، وكنت أظن أنه خاص بالفتاة أو رفيقها. كنت أشعر بالظمأ، فخرجت من السيارة لأبحث عن كشك لبيع الوجبات الخفيفة، أو ربما ماكينة للمشروبات المرطبة، في مكان ما في المتنزه. كنت أرتدي سروالًا قصيرًا، وكانت رجلاي من الخلف لزجة جراء العرق. رأيتُ نافورة شرب على الجانب الآخر من المتنزه، وكنت أسير في اتجاهها على نحو متعرِّج، سائرةً في الظل تحت الأشجار. لا يصبح أي مكان حقيقيًّا إلا عندما يخرج المرء من السيارة. متعبة بسبب الحرارة؛ حيث كانت أشعة الشمس تسقط على المنازل ذات البقع المرقَّطة، والرصيف، والحشائش المحترقة بفعل الحرارة. كنت أسير ببطء. انتبهت إلى ورقة شجر مسحوقة، ودهست عصا مصاصة تحت كعب صندلي، وحدقت في صفيحة قمامة كانت مربوطة إلى شجرة. كانت هذه هي الطريقة التي ينظر المرء بها إلى أدق التفاصيل في عالم يعاود الظهور، بعد القيادة فترة طويلة؛ يشعر المرء بالوحدة، وبالمكان بدقة، والمصادفة العجيبة للوجود في مكان كهذا لرؤية هذه الأشياء.

«أين الطفلتان؟»

استدرت وتحركت بسرعة — لم يكن جريًا — إلى جانب من السياج حيث لم يكن الحائط الأسمنتي أمامه قد اكتمل. كنت أستطيع أن أرى جزءًا من المسبح. رأيت سينثيا، واقفةً حتى وسطها في الماء، ترفع يديها في اهتياج على السطح وتراقب شيئًا في حذر في نهاية المسبح، وهو شيء لم يكن بإمكاني رؤيته. ظننت من خلال وقفتها، وحذرها، والنظرة على وجهها، أنها كانت ترقب بعض المداعبات بين عاملة الإنقاذ ورفيقها. لم أستطع أن أرى ميج. لكنني ظننت أنها تلعب في الجزء الضحل من المياه؛ لم أستطع أن أرى الجزء العميق والجزء الضحل من المياه.

«سينثيا!» اضطررت إلى النداء مرتين قبل أن تعرف المكان الذي كان يأتي منه الصوت. «سينثيا! أين ميج؟»

يبدو الأمر لي دومًا، عندما أتذكر هذا المشهد، أن سينثيا كانت تستدير في خفة شديدة ناحيتي، ثم تستدير بكامل جسدها في المياه — ما يجعلني أستحضر صورة راقصة باليه ترقص بكفاءة — وتفرد ذراعيها في إشارة مسرحية. «اﺧ-ﺗ-فت!»

كانت سينثيا تتمتع بخفة طبيعية، وكانت تتلقى دروسًا في الرقص؛ لذا قد تكون هذه الحركات مثلما أشرت إليها. قالت: «اختفت» بعد أن نظرت حولها في كل مكان في المسبح، لكن الأسلوب المصطنع الغريب في الحديث والإشارة، غياب الشعور بأهمية الأمر، هو على الأرجح من إبداع خيالي. لا بد أن شعور الخوف الذي أحسست به في الحال عندما لم أستطع أن أرى ميج — حتى وأنا أحدث نفسي أنها في الجزء الضحل من المياه — جعل حركات سينثيا تبدو بطيئة وغير ملائمة إلى حد مذهل بالنسبة إليَّ، وسمعت النبرة التي قالت بها «اختفت» قبل أن تصدمها تداعيات الموقف (فهل تراها كانت تخفي، في الحال، شعورًا بالذنب؟) كنبرة هادئة على نحو مذهل، ورزينة على نحو مخيف.

صرخت مناديةً على أندرو، فجاءت عاملة الإنقاذ في الحال. كانت تشير إلى الجزء العميق من المسبح، قائلةً: «ما هذا؟»

هناك، في نطاق رؤيتي، ظهرت مجموعة من التعرجات القرنفلية تحت سطح المياه. لماذا تتوقف عاملة إنقاذ وتشير؟ ولماذا تسأل عن ماهية الأمر؟ ولماذا لا تغطس في المياه وتسبح في اتجاهه؟ لم تسبح؛ جرت بطول حافة المسبح. لكن بحلول ذلك الوقت، كان أندرو قد قفز فوق السياج. بدت الكثير من الأشياء غير مقنعة على الإطلاق — سلوك سينثيا، ثم عاملة الإنقاذ — والآن راودني الانطباع أن أندرو تجاوز هذا السياج — الذي بدا ارتفاعه ما يقرب من سبعة أقدام — بقفزة واحدة. يبدو أنه تسلق السياج بسرعة كبيرة، ممسكًا بالسلك.

لم أستطع أن أقفز أو أتسلق السياج؛ لذا عدوت إلى المدخل، حيث كانت ثمة بوابة معدنية ذات أسلاك متشابكة، مغلقة. كانت مرتفعة جدًّا، ورفعت نفسي فوقها وتسلقتها. ثم عدوت عبر الممرات الأسمنتية، عبر المسبح المطهِّر للأقدام، وخرجت إلى حافة المسبح.

انتهت الدراما.

كان أندرو قد وصل إلى ميج أولًا، وأخرجها من المياه. لم يكن عليه سوى أن يمد جسده ويمسكها؛ لأنها كانت تسبح على نحو ما، برأسها تحت المياه؛ كانت تتحرك في اتجاه حافة المسبح. كان يحملها الآن، وكانت عاملة الإنقاذ تركض خلفه. كانت سينثيا قد خرجت من المياه وكانت تعدو لملاقاتهم. كان الشخص الوحيد المنعزل عن الموقف هو رفيق عاملة الإنقاذ، الذي ظل جالسًا على المقعد عند الطرف غير العميق من المياه، يشرب شراب مخفوق اللبن. كان يبستم لي، وكنت أعتقد أن في ذلك عدم إحساس منه، حتى مع انقضاء الخطر. ربما كان يقصد من ذلك إيصال الشعور بالتعاطف. لاحظت أنه لم يغلق الراديو بل خفض صوته.

لم تكن ميج قد ابتلعت أي مياه. لم تكن حتى قد أخافت نفسها. كان شعرها ملتصقًا برأسها وكانت عيناها مفتوحتين عن آخرهما، تبرقان من الدهشة.

قالت: «كنت أحضر المشط … لم أكن أعلم أن الماء عميق.»

قال أندرو: «كانت تسبح! كانت تسبح بمفردها. رأيت ثوب استحمامها في المياه ثم رأيتها تسبح.»

قالت سينثيا: «كادت تغرق … أليس كذلك؟ كادت ميج تغرق.»

قالت عاملة الإنقاذ: «لا أعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك … في لحظة كانت هناك، ثم في اللحظة التالية اختفت.»

كان ما حدث هو أن ميج كانت قد خرجت من المياه عند الطرف الضحل، وجرت بطول حافة المسبح في اتجاه الطرف العميق. رأت مشطًا كان أحد الأشخاص تركه ملقى في القاع. انحنت لأسفل ومدَّت يدها لالتقاطه، منخدعةً تمامًا بشأن عمق المياه. اقتربت جدًّا من الحافة وزلت قدماها ووقعت في المسبح، دون أن تحدث صوتًا كبيرًا لدرجة أن أحدًا لم يسمعها، لا عاملة الإنقاذ التي كانت تقبِّل رفيقها، ولا سينثيا، التي كانت تراقبهما. لا بد أن هذه هي اللحظة عندما حدثت نفسي متسائلةً: أين الطفلتان؟ لا بد أن تلك كانت هي اللحظة ذاتها. في تلك اللحظة، كانت ميج قد انزلقت ووقعت، مندهشة، في المياه الزرقاء الصافية الخادعة.

قلت لعاملة الإنقاذ، التي كانت تبكي تقريبًا: «لا عليك … إنها تتحرك بسرعة كبيرة.» (على الرغم من أن ذلك لم يكن عادةً ما نقوله بشأن ميج على الإطلاق. كنا نقول إنها كانت تفكر في كل شيء مليًّا وتأخذ وقتها.)

قالت سينثيا، بطريقة تنم على تهنئة: «كنت تسبحين يا ميج.» (أخبرتنا عن التقبيل لاحقًا.)

قالت ميج: «لم أعرف أن المياه كانت عميقة … لم أغرق.»

•••

تناولنا الغداء في مطعم وجبات سريعة في مكان مفتوح، وكان الطعام عبارة عن شطائر هامبورجر وبطاطس مقلية على مائدة حديقة لا تبعد كثيرًا عن الطريق السريع. في غمار شعوري بالإثارة، نسيت أن أعد لميج شطيرة هامبورجر سادة، فاضطررت إلى إزالة الصوص والمسطردة بملاعق بلاستيكية، ثم مسح الهامبورجر بمنشفة ورقية، قبل أن تأكله. ثم واصلنا القيادة شرقًا، تاركين نوافذ السيارة الأمامية مفتوحة. خلدت سينثيا وميج إلى النوم في المقعد الخلفي.

تحدثتُ أنا وأندرو في هدوء عما حدث. ماذا إذا لم يواتني الحدس في تلك اللحظة للاطمئنان على الأطفال؟ وماذا لو أننا كنا قد ذهبنا إلى الجزء الراقي من البلدة لتناول الشراب، مثلما كنا نفكِّر؟ وكيف استطاع أندرو القفز فوق السياج؟ وهل قفز أم تسلق؟ (لا يستطيع أن يتذكر.) كيف استطاع الوصول إلى ميج بهذه السرعة؟ وتذكَّرنا كيف أن عاملة الإنقاذ لم تكن منتبهة. وسينثيا، كانت مستغرقة تمامًا في مشاهدة عملية التقبيل. لا ترى أي شيء آخر. لا ترى ميج تنسل من الحافة.

اختفت.

لكنها سبحت. كتمت أنفاسها وصعدت إلى السطح سابحةً.

يا لها من سلسلة عجيبة من المصادفات.

كان هذا هو كل ما تحدثنا عنه؛ المصادفة. لكنني كنت أشعر بميل شديد لأتصور العكس. في هذه اللحظة، كان من الممكن أن نكون الآن نملأ استمارات الوفاة. وقد أُخذت ميج منا، وجسدها يعد للنقل. إلى فانكوفر — حيث لم نلحظ قط وجود جبانة — أو إلى أونتاريو؟ كانت شخبطة الرسوم التي رسمتها هذا الصباح لا تزال في المقعد الخلفي في السيارة. كيف يمكن تحمل ذلك كله على الفور، كيف يستطيع الناس احتمال الأمر؟ الكتفان الممتلئتان الجميلتان، واليدان، والقدمان، والشعر البني الناعم، تعبير الوجه القانع الكتوم؛ يبدو كل ذلك تمامًا مثلما كانت حية. المأساة الأكثر شيوعًا. طفل يغرق في مسبح في وقت الظهيرة في يوم مشمس. تنتظم الأمور بسرعة. يفتح المسبح كالعادة في الساعة الثانية. تشعر عاملة الإنقاذ بالصدمة قليلًا وتأخذ إجازة بقية اليوم. تمضي بعيدًا مع رفيقها في شاحنة روتو-رووتر. يوضع الجسد في تابوت محكم الغلق استعدادًا لشحنه. المهدئات، المكالمات الهاتفية، الترتيبات. فراغ مفاجئ، انهيار وانتقال. الاستيقاظ مترنحةً جراء الأقراص، التفكير للحظة أن الأمر ليس صحيحًا. تمني لو أننا لم نتوقف، لو أننا لم نسلك هذا الطريق، لو لم يُسمح لنا باستخدام المسبح. ربما لم يكن أحد سيعرف أي شيء عن المشط.

هناك شيء حقير حيال هذا النوع من التفكير، أليس كذلك؟ شيء مشين. الأمر يشبه وضع الأصابع على السلك لتلقي صدمة آمنة، للشعور بقدر ما كيف يكون الأمر، ثم سحب اليد. كنت أعتقد أن أندرو كان أكثر تحفظًا مني حيال هذه الفِكَر، وأنه في هذه اللحظة كان يحاول حقيقةً التفكير في شيء آخر.

عندما وقفت بعيدةً عن والديَّ في جنازة ستيف جاولي وراقبتهما، وراودني هذا الشعور الجديد، غير السار حيالهما، اعتقدت أنني كنت أعرف شيئًا عنهما للمرة الأولى. كان شيئًا غاية في الجدية. كنت أعرف أنهما كانا متورطين. لم يكن جسداهما الكبيران، المتصلبان، المتأنقان يقفان بيني وبين الموت المفاجئ، أو أي نوع من الموت. كانا موافقين. هكذا بدا الأمر. وافقا على موت الأطفال وعلى موتي لا من خلال أي شيء قالاه أو فكَّرا فيه، لكن من خلال حقيقة أنهما أنجبا أطفالًا؛ أنجباني. أنجباني، ولهذا السبب لن يبدو موتي — مهما كانا يشعران بالحزن، ومهما كان رد فعلهما — لهما مستحيلًا أو غير طبيعي. كانت هذه حقيقة، وحتى آنذاك كنت أعرف أن اللوم لا يقع عليهما.

لكنني ألقيت باللائمة عليهما. اتهمتهما بالوقاحة، بالنفاق. بالنيابة عن ستيف جاولي، وبالنيابة عن جميع الأطفال، الذين كانوا يعرفون أنه بالنظر إلى حقوقهم، يجب أن يخرجوا للوجود أحرارًا، يعيشون نوعًا جديدًا، وأفضل من الحياة، لا يقعون في شرك البالغين المقهورين، بكل ما في حياتهم من جنس وجنائز.

قال الناس إن ستيف جاولي مات لأنه كان أقرب إلى يتيم، وكان متروكًا لأن يتصرف بمنتهى الحرية. إذا كان قد حُذِّر بما يكفي، وطُلب منه أداء بعض المهام، وسُيطر عليه، فلم يكن ليقع من فوق فرع شجرة غير ثابتة في بركة، حفرة حصوية مملوءة بالمياه بالكامل قرب النهر؛ لم يكن ليغرق. كان مهملًا، كان حرًّا؛ لذا غرق. تلقى أبوه الأمر باعتباره حادثة، مثلما قد يحدث لكلب. لم يكن أبوه يمتلك بذلة مناسبة للجنازة، ولم يكن يحني رأسه أثناء الصلوات. لكنه كان الشخص البالغ الوحيد الذي لم ألق باللائمة عليه. كان الشخص الوحيد الذي لم أره يمنح موافقته. لم يستطع منع أي شيء، لكنه لم يكن منخرطًا في أي شيء أيضًا؛ ليس مثل الآخرين، الذين كانوا يرددون الصلاة الربانية في صوت موزون غير طبيعي، يرشح دينًا وخزيًا.

•••

عند جلندايف، ليس بعيدًا عن حدود نورث داكوتا، كان لدينا خيار؛ إما أن نواصل القيادة على الطريق الواصل بين الولايات أو نتجه إلى الشمال الشرقي، نحو وليستون، سالكين الطريق ١٦، ثم طرقًا جانبية تعيدنا مرة أخرى إلى الطريق السريع ٢.

اتفقنا على أن الطريق الواصل بين الولايات سيكون أسرع، وأنه من المهم بالنسبة إلينا ألا نقضي وقتًا أكثر مما ينبغي — بعبارة أخرى، ننفق مالًا أكثر مما ينبغي — في الطريق. لكننا قررنا أن نسلك طرقًا مختصرة إلى الطريق السريع ٢.

قلت: «أحب هذه الفكرة أكثر.»

قال أندرو: «هذا لأن ذلك هو ما خططنا أن نفعله في البداية.»

«فاتنا مشاهدة كلسبيل وهافر، ووولف بوينت. أحب هذا الاسم.»

«سنراها في طريق عودتنا.»

كان قول أندرو «في طريق عودتنا» متعة مدهشة لي. بالطبع، كنت أعتقد أننا سنعود، دون أن تُمس سيارتنا، وحياتنا، وعائلتنا بأي تغيير، بعد أن قطعنا كل هذه المسافة، بعد أن تعاملنا على نحو أو آخر مع لحظات الوفاء والمشكلات تلك، بعد أن وضعنا أنفسنا موضع التدقيق والبحث على هذا النحو الطائش. لكن كان الأمر يبعث على الارتياح أن أسمعه يقول ذلك.

قال أندرو: «ما لا أستطيع فهمه … هو كيف تلقيت الإشارة. يبدو أن الأمر يتعلق بحاسة إضافية تمتلكها الأمهات.»

جزئيًّا، كنت أريد أن أصدق ذلك، أن أستمتع بحسي الإضافي. وجزئيًّا، كنت أريد أن أحذره — أن أحذِّر الجميع — ألا يعوِّل أبدًا على هذه الحاسة.

قلت: «ما لا أستطيع أن أفهمه … هو كيف قفزت فوق السياج.»

«لا أفهم ذلك أنا أيضًا.»

لذا مضينا في طريقنا، والطفلتان في المقعد الخلفي واثقتان فينا؛ لأنه لم يكن أمامهما خيار آخر، وكنا نحن أنفسنا نثق في أننا سيُغفر لنا — في الوقت المناسب — كل شيء يجب على هاتين الطفلتين أن ترياه وترفضاه أولًا، أيًّا ما كان؛ فظًّا، تعسفيًّا، طائشًا، قاسيًا؛ جميع أخطائنا العادية والاستثنائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤