نزعة غريبة

(١) خطابات مجهولة المصدر

كان لدى أم فيوليت — العمة آيفي — ثلاثة صبية صغار، ثلاثة صبية رضع، وفقدتهم جميعًا. ثم أنجبت الفتيات الثلاث. ربما لتواسي نفسها على الحظ السيئ الذي عانت منه بالفعل، في ركن خلفي من منطقة ساوث شيربروك — أو ربما حتى تعوض، على نحو مسبق، غياب مشاعر الأمومة — أطلقت على البنات أبهج الأسماء التي استطاعت التفكير فيها: أوبال فيوليت (حجر الأوبال البنفسجي)، دون روز (وردة الفجر)، وبوني هوب (الأمل المبهج). ربما لم تفكر في هذه الأسماء إلا باعتبارها مجرد أسماء جمالية مؤقتة. تساءلت فيوليت؛ هل تصورت أمها على الإطلاق أن بناتها سيضطررن إلى حمل هذه الأسماء مدة قد تصل لستين أو سبعين عامًا لاحقة، عندما يصرن نساء ثقيلات الحركة، واهنات؟ ربما كانت تظن أن بناتها سيمتن أيضًا.

«الفَقْد» يعني موت أحد الأشخاص. تعني «فقدتهم» أنهم ماتوا. كانت فيوليت تعرف ذلك. على الرغم من ذلك، تصورت العمة آيفي — أمها — تخوض في حقل سبخي، عبارة عن قطعة أرض خالية خلف مخزن الحبوب، مكان قليل الضوء مليء بالحشائش الخشنة وأجمات جار الماء. هناك فقدت العمة آيفي، في الضوء الحزين، أطفالها الرضع. كانت فيوليت تنسل أسفل سياج فناء مخزن الحبوب إلى قطعة الأرض الخالية، ثم تدخلها في حذر. كانت تختفي خلف أجمات جار الماء حمراء الساق وأجمات شائكة أخرى مجهولة الاسم (كان هذا يحدث دائمًا في وقت كئيب، رطب من العام؛ في أواخر الخريف أو أوائل الربيع)، وكانت تدع الماء البارد يغطي أصابعها داخل حذائها المطاطي. كانت تتأمل معنى الفقد. فقدان أطفال رضع. يتصاعد الماء عبر الحشائش الخشنة. بعيدًا أكثر، كانت ثمة برك وحفر مغمورة بالماء. كان قد جرى تحذيرها. وطئت بقدميها في ذلك في بطء، مراقبةً الماء يتسلل إلى أعلى حذائها عالي الرقبة. لم تخبرهم قط. لم يعرفوا قط أين ذهبت. فُقدت.

كانت غرفة الضيوف المكان الذي كانت تستطيع التسلل إليه بمفردها. كانت ستائر النافذة مسدلة بالكامل؛ كان الهواء ثقيلًا وسميكًا، كما لو كان قد تحول إلى كتلة ملأت الغرفة تمامًا. في أماكن ثابتة محددة كانت توجد الصَّدَفةُ المدببة، المتوردة التي ينحبس فيها صوت زئير البحر، وتمثالُ الرجل الاسكتلندي الضئيل الذي يرتدي تنورة حاملًا كأسًا بها جعة تميل لكن لا تنسكب أبدًا، ومروحةٌ مصنوعة بالكامل من الريش الأسود اللامع، وطبقٌ كان تذكارًا من منطقة شلالات نياجرا عليه نفس الصورة الموجودة على علبة منتج «شريديد ويت». ولوحة موضوعة في برواز على الحائط كانت تؤثر على فيوليت أيما تأثير، حتى إنها لم تكن تستطيع النظر إليها عندما دخلت إلى الغرفة. كانت تضطر إلى أن تسير متفاديةً إياها، جاعلةً إياها دومًا خارج مجال نظرها. كانت اللوحة تظهر ملكًا معتمرًا تاجه، وثلاث سيدات طويلات يشبهن الملكات، يرتدين فساتين داكنة. كان الملك نائمًا، أو ميتًا. كانوا جميعًا على شاطئ البحر، وكان ثمة قارب منتظر، وكان ثمة شيء يخرج من هذه اللوحة إلى الغرفة؛ موجة ناعمة، داكنة من العذوبة والأسى غير المحتملين. بدا ذلك كعلامة بالنسبة إلى فيوليت؛ كان أمرًا متصلًا بمستقبلها، حياتها، بطريقة لم تستطع تفسيرها أو التفكير فيها. بل إنها لم تستطع النظر إلى اللوحة في وجود شخص آخر في الغرفة. لكن تلك الغرفة نادرًا ما يكون فيها أحد.

•••

كان والد فيوليت يُدعى الملك بيلي، الملك بيلي تومس (على غرار لقب ملك إنجلترا وليام الثالث)، على الرغم من أن وليام لم يكن جزءًا من اسمه. كان يوجد جواد أيضًا يُسمى الملك بيلي؛ جواد رمادي مرقَّط كان ركوبتهم، وكان يجر المزلجة في الشتاء والعربة في الصيف. (لم تكن توجد سيارة في ذلك المكان حتى كبرت فيوليت واشترت واحدة في ثلاثينيات القرن العشرين.)

كان اسم الملك بيلي متصلًا عادةً بالاحتفالية التي تكون في الثاني عشر من يوليو والتي تحيي ذكرى انتصار الملك وليام الثالث في معركة بوين. كانوا يختارون رجلًا ليصبح الملك بيلي، ويجعلونه يرتدي تاجًا من الكرتون وعباءة أرجوانية مهلهلة، ويسير في مقدمة الموكب بالاحتفالية. كان من المفترض أن يركب جوادًا أبيض، لكن في بعض الأحيان لم يكن يوجد أفضل من جواد بلون رمادي مرقَّط. لم تعرف فيوليت قط إذا كان الجواد أو أبوها، أو كلاهما، يظهر في هذا الموكب، سواء بشكل منفصل أو معًا. زادت الحيرة، في العالم مثلما كانت تعرفه، وكثيرًا ما كان البالغون يستاءون من أن يُطلب منهم وضع الأمور في نصابها.

لكنها كانت تعرف أن أباها، ذات مرة في حياته، كان يعمل في أحد خطوط القطارات في الشمال الذي كان يمر عبر الأدغال البرية حيث كانت توجد الدببة. كان الحطابون يركبون هذا القطار في إجازات نهاية الأسبوع، خارجين من الأدغال لتناول الشراب، وإذا أثاروا فوضى أكثر مما ينبغي في طريق عودتهم، كان الملك بيلي يوقف القطار ويركلهم خارجه، مهما كان مكان القطار في ذلك الوقت؛ في وسط البرية، لا يهمه ذلك، كان يركلهم خارج القطار. كان ملاكمًا. حصل على تلك الوظيفة لأنه كان ملاكمًا.

قصة أخرى، من مرحلة أقدم من ذلك في حياته. كان قد ذهب في حفل رقص، عندما كان شابًّا، على طريق سنو روود، حيث أتى. كان بعض الشباب الآخرين الذين كانوا موجودين هناك قد أهانوه، وكان مضطرًّا لتقبل إهاناتهم؛ لأنه لم يكن يعرف شيئًا عن الملاكمة. لكن بعد ذلك تلقى بعض الدروس على يد ملاكم عجوز محترف، ملاكم حقيقي، كان يعيش في منطقة بحيرة شاربوت. في ليلة أخرى، حفل راقص آخر؛ الأمر نفسه كما حدث من قبل. الإهانات نفسها. فيما عدا هذه المرة أن الملك بيلي انفجر فيهم، وطرحهم أرضًا، الواحد تلو الآخر.

انفجر فيهم، وطرحهم أرضًا، الواحد تلو الآخر.

لا مزيد من الإهانات من ذلك النوع في أي مكان في تلك الأنحاء.

لا مزيد من الإهانات.

(كانت الإهانات تتعلق بكونه ابنًا غير شرعي. لم يقل ذلك، لكن فيوليت اكتشفت ذلك من خلال تمتمة أمها. قالت العمة آيفي، بطريقتها المبهمة، المحيرة، الحاقدة: «ليس لأبيك عائلة.» «لم يكن له قط. ليس له عائلة على الإطلاق.»)

كانت فيوليت أكبر عمرًا من أختها دون روز بخمس سنوات، ومن بوني هوب بست سنوات. كانت هاتان الأختان الصغيرتان قريبتين جدًّا إحداهما من الأخرى، لكنهما كانتا طيعتين. كانتا ذواتَي شعر أحمر، مثل الملك بيلي. كانت دون روز ممتلئة، ومتوردة البشرة، وعريضة الوجه. كانت بوني هوب ضئيلة الجسم وكبيرة الرأس، وذات شعر كان ينمو في بادئ الأمر في صورة خصلات وكتل متناثرة، حتى إنها كانت تبدو مثل طائر صغير متمايل. كانت فيوليت ذات شعر أسود، وكانت طويلة بالنسبة لعمرها، وقوية مثل أمها. كانت تمتلك وجهًا جميلًا طويلًا، وعينين داكنتي الزرقة كانتا تبدوان في بادئ الأمر سوداوين. لاحقًا، عندما كان تريفور أوستن يحبها، كان يقول بعض الأشياء اللطيفة عن مدى توافق لون عينيها مع اسمها.

كانت أم فيوليت — فضلًا عن والدها — تحمل اسمًا غريبًا؛ إذ كانت تُسمى العمة آيفي معظم الوقت حتى من قبل بناتها. كان ذلك يرجع إلى أنها كانت الأصغر بين أبناء عائلة كبيرة. كانت لديها عائلة كبيرة جدًّا، على الرغم من أنهم لم يكونوا يزورونها كثيرًا. إن مصدر جميع الأشياء القديمة أو القيِّمة في المنزل — تلك الأشياء الموجودة في غرفة الضيوف، وصندوق مقتنيات كبير، وبعض الملاعق القديمة — هو عائلة العمة آيفي، التي كانت تمتلك مزرعة على شاطئ بحيرة وايت ليك. كانت قد ظلت العمة آيفي في المزرعة فترة طويلة، دون زواج، حتى إن الاسم الذي كان بنات وأبناء إخوتها وأخواتها ينادونها به ظل ملتصقًا بها، واختارت بناتها، أيضًا، أن ينادينها به بدلًا من «ماما».

لم يعتقد أحد قط أنها ستتزوج. حدثت بذلك نفسها. وعندما تزوجت الرجل أحمر الشعر الجريء ضئيل الجسم الذي بدا غريبًا جدًّا إلى جانبها، قال الناس: يبدو أنها لا تستطيع مجاراة التغيير الذي حدث في حياتها جيدًا. ففقدت هؤلاء البنين الرضع في البداية، ولم تكن سعيدة جدًّا لتحمل مسئولية إدارة منزل. كانت تحب أن تعمل في الخارج، تعزق الأرض في الحديقة أو تقطع الأخشاب، مثلما كانت تفعل دومًا في منزل عائلتها. كانت تحلب الأبقار وتنظف الحظيرة وترعى الدجاج. كانت فيوليت، مع تقدم عمرها، هي من تولت إدارة أعمال المنزل.

عند بلوغها العاشرة، كانت فيوليت قد صارت مغرمة جدًّا بالقيام بشئون منزلها وصارت تتعامل أحيانًا بطريقة استبدادية. كانت تقضي طوال يوم السبت تنظِّف وتلمع الأرضيات بالشمع، ثم تصرخ وتلقي بنفسها على الأريكة، وتستشيط غضبًا ممن يطئون في الطين والروث ثم يلطخون الأرضيات بأقدامهم.

قالت العمة آيفي، كما لو كانت تتحدث عن طفلة أحد الجيران: «ستكبر تلك الفتاة، ولن تملك شيئًا إلا بقايا أسنان في فمها، وهو ما تستحقه بسبب طبعها.» كانت العمة آيفي هي من كان يطأ بأقدامه في الطين ويفسد الأرضية.

في يوم سبت آخر يكون هناك خَبْز وابتكار لوصفات جديدة للأطعمة. طوال صيف بأكمله، كانت فيوليت تحاول أن تبتدع مشروبًا مثل الكوكاكولا، كان من المفترض أن يصبح مشروبًا مشهورًا، ولذيذًا، ويعود عليها بثروة كبيرة. جربت بنفسها ومع أخواتها أمزجة كثيرة من عصير التوت، والفانيليا، وخلاصات الفواكه المعلبة، والبهارات. في بعض الأحيان، كن يخرجن جميعًا إلى منطقة الحشائش الطويلة في البستان، يتقيأن. كانت الأختان الصغيرتان تفعلان ما تخبرهما فيوليت به، وكانتا تصدقان ما كانت تقوله لهما. ذات يوم، جاء الرجل الذي كان يعمل لدى الجزار لشراء العجول الصغيرة، وكانت فيوليت تقول لدون روز وبوني هوب إن هذا الرجل لم يكن يرضى في بعض الأحيان عن اللحم الموجود في جسم العجول، وكان يفضل الأطفال المفعمين بالحيوية لعمل شرائح بفتيك، وريش، وسجق منها. قالت هذا على نحو مفاجئ وعلى سبيل التسلية، وذلك حسبما كانت تتذكر لاحقًا عندما كانت تحوِّل الأحداث إلى قصص. كانت الفتاتان الصغيرتان تحاولان الاختباء في مخزن التبن، وكان الملك بيلي يسمع الجلبة التي كانتا تصدرانها، ويخرجهما خارج الكومة. كانتا تذكران ما قالته لهما فيوليت، وكان الملك بيلي يقول إنهما يجب أن تُضربان لتصديقهما هراء كهذا. قال إنه رجل ذا زوجة عنيدة جدًّا وابنة فظة تدير له المنزل. عدت دون روز وبوني هوب حتى تواجِها فيوليت.

«كاذبة! لا يقطِّع الجزارون الأطفال إلى شرائح! أنت تكذبين، كاذبة!»

لم تقل فيوليت، التي كانت تنظف الموقد آنذاك، شيئًا. تناولت وعاء به بعض الرماد الذي أزاحته — والذي كان دافئًا لكنه، لحسن الحظ، غير ساخن — وأفرغته فوق رأسيهما. تعلمتا ألا تكررا ما قالتاه مرة أخرى. عَدَتا إلى الخارج وتدحرجتا على الحشائش وأخذتا تهزان أنفسهما مثل الكلاب، محاولتين نفض الرماد عن شعرهما، وآذانِهما، وعيونهما، وملابسهما الداخلية. في أحد أركان البستان، بدأتا في بناء منزل صغير تلعبان فيه، جاعلتين الحشائش المقطوعة المكومة بمنزلة المقاعد وأجزاء من أطباق مكسورة كأطباق. أقسمتا ألا تخبرا فيوليت شيئًا عن هذا المنزل.

لكنهما لم تستطيعا الابتعاد عنها. كانت تلف شعرهما مستخدمةً قطع قماش بالية، وكانت تلبسهما ملابس مصنوعة من ستائر قديمة، وتطلي وجهيهما، مستخدمةً أمزجة من عصير التوت، والدقيق، وملمع الموقد. اكتشفت أمر منزل اللعب واقترحت عليهما فِكَرًا لتأثيثه كانت أفضل من فِكَرهما. حتى في الأيام التي لم يكن لديها متسع من الوقت لهما، كان عليهما مشاهدة ما كانت تفعل.

كانت ترسم تصميمًا عبارة عن زهور حمراء على مشمع أرضية المطبخ الأسود، البالي.

كانت تقطع حافة من النتوءات المدورة في كل ستائر النوافذ الخضراء القديمة لإضفاء لمسة جمالية.

كان يبدو كما لو أن الحياة العائلية العادية معكوسة في هذا المنزل. في المنازل الأخرى، كان الأطفال هم عادةً من يراهم المرء أولًا عند الاقتراب من المنزل؛ أطفالًا يلعبون، أو يؤدون بعض المهام المنزلية. تكون الأم مختفية تعمل داخل المنزل. لكن ها هي العمة آيفي، تكوِّم ثمار البطاطس، أو تتجول في أنحاء الفناء أو في حظيرة الدجاج، مرتديةً حذاء مطاطيًّا طويل العنق، وقبعة رجال، ومجموعة بالية من السترات، والتنورات، والقمصان الداخلية الطويلة والمرايل، والجوارب المتغضنة، المنقطة. كانت فيوليت هي من يتحكم في الأمور في المنزل، كانت هي التي كانت تقرر متى وما إذا كان يمكن إعطاء قطع الخبز، والزبد، وشراب الذرة. كان الأمر يبدو كما لو كان الملك بيلي والعمة آيفي لم يفهما تمامًا كيف يصنعان معًا حياة عائلية عادية، حتى لو كانا قد أرادا ذلك.

لكن العائلة مضت في طريقها. كانوا يحلبون الأبقار، ويبيعون اللبن لمصنع الجبن، ويربون العجول لبيعها للجزار، ويجمعون التبن. كانوا من رعاة الكنيسة الأنجليكانية، على الرغم من أنهم لم يكونوا يذهبون إلى الكنيسة في أغلب الوقت، نظرًا لصعوبة إقناع العمة آيفي بالاغتسال. كانوا يذهبون في بعض الأحيان إلى حفلات لعب الورق في مبنى المدرسة. كانت العمة آيفي تلعب ألعاب الورق، وكانت تخلع مريلتها، وقبعتها حتى تلعب، على الرغم من أنها لم تكن تغيِّر حذاءها عالي الرقبة. كان معروفًا عن الملك بيلي أنه مغنٍّ جيد، وبعد لعب ألعاب الورق، كان الناس يحاولون جعله يسليهم بأن يغني لهم. كان يحب أن يغني الأغاني التي كان قد تعلمها من الحطابين والتي لم تُكتب قط. كان يغني ضامًّا قبضتيه، ومغلقًا عينيه، في ثبات:

كنت أقود مارًّا بعدد من الخلجان على خط أوبونجو،
في الصيف ذات مرة مرتديًا هوليجان وهايز،
أما وقد اختفت الخلجان الآن وصرت عجوزًا متجهمًا،
أحلم بأنني أقود عربتي، على خط أوبونجو.

من هوليجان؟ من هايز؟

قال الملك بيلي، شاعرًا بالراحة من الغناء: «نوع من الملابس.»

•••

كانت فيوليت تذهب إلى المدرسة الثانوية في البلدة، وبعد ذلك إلى معهد المعلمين في أوتاوا. كان الناس يتساءلون من أين كان يحصل الملك بيلي على المال اللازم لذلك. فإذا كان ما زال لديه بعض المال المدخر من عمله في السكك الحديدية، فكان هذا يعني أنه حصل على بعض المال من عائلة العمة آيفي عندما اختطفها من بين أيديهم واشترى المزرعة. قال الملك بيلي إنه لن يحرم فيوليت من التعليم؛ كان يعتقد أن مهنة المدرسة ستكون مناسبة لها. لكنه لم يكن يملك شيئًا آخر إضافيًّا يقدمه لها. قبل بدئها الدراسة في المدرسة الثانوية، ذهبت عبر الحقول إلى المزرعة المجاورة، حاملةً قطعة من قماش الكريب المخطط متعدد الألوان كانت قد وجدتها في صندوق المقتنيات. كانت تريد أن تتعلم كيفية استخدام ماكينة الخياطة، بحيث تستطيع صناعة ثوب لنفسها. وهكذا فعلت، على الرغم من أن جارتها قالت إن الثوب كان أغرب ثوب ترتديه طالبة.

كانت فيوليت تعود إلى المنزل في نهاية كل أسبوع عندما كانت في المدرسة الثانوية، وكانت تخبر أختيها عن دروس اللغة اللاتينية وكرة السلة، وكانت تعتني بالمنزل مثلما كان الحال من قبل. لكنها عندما ذهبت إلى أوتاوا، مكثت هناك حتى الكريسماس. كانت دون روز وبوني هوب كبيرتين بما يكفي حينئذ بحيث تستطيعان العناية بالمنزل، لكن سواء أكانتا تفعلان هذا أم لا فتلك كانت مسألة أخرى. كانت دون روز كبيرة بما يكفي حتى تلتحق بالمدرسة الثانوية، لكنها كانت قد أخفقت العام السابق في المدرسة المحلية، وكانت تعيد السنة. أصبحت هي وبوني هوب في الصف نفسه.

عندما عادت فيوليت إلى المنزل في إجازات الكريسماس، كانت قد تغيرت كثيرًا. لكنها كانت تعتقد أن كل شيء قد تغير، وأن الجميع هم الذين قد تغيروا.

كانت تريد أن تعرف ما إذا كانوا يتحدثون دومًا بهذه الطريقة. ما هذه الطريقة؟ يتحدثون بلكنة. ألم يكونوا يتحدثون على هذا النحو عمدًا، حتى يبدوا مضحكين؟ ألا يتحدثون بهذه اللكنة عمدًا، حتى يبدوا مضحكين؟

كانت قد نسيت أماكن الاحتفاظ ببعض الأشياء، واندهشت عندما وجدت المقلاة تحت الموقد. بدأت تكره الكلب، تيجر، الذي أصبح مسموحًا له بالبقاء داخل المنزل الآن بعد أن بدأ يكبر في السن. قالت إنه أصبح كريه الرائحة، وأن غطاء الأريكة أصبح ممتلئًا بشعر الكلب.

قالت إن غرفة الضيوف كانت تفوح منها رائحة عفنة، وأن الجدران في حاجة إلى تغطيتها بورق حائط.

كانت أختاها هما من أثارتا فعلًا كامل دهشتها واستيائها. كانتا قد كبرتا منذ الصيف. صارت دون روز فتاة ضخمة، وبدينة الآن، ذات ثديين مترهلين يهتزان داخل ملابسها، ووجه متورد طفولي كان تعبير التكتم الطفولي المرتسم عليه قد تغيَّر إلى نظرة بدت غبية وعنيدة. كانت قد بدأت تفوح منها روائح النساء، ولم تكن تغتسل. كانت بوني هوب لا تزال طفلة جسديًّا، لكن لم يكن شعرها الأحمر الجعد يمشَّط جيدًا قط، وكان يغطي بشرتها علامات قرص البراغيث التي جاءتها من اللعب مع قطط المزرعة.

استطاعت فيوليت بالكاد تنظيف هاتين البنتين. كان أسوأ ما في الأمر هو أنهما صارتا متمردتين، تنظر إحداهما إلى الأخرى وتضحكان ضحكة نصف مكتومة عندما كانت تتحدث إليهما، وكانتا تتجاهلانها، وكانتا عنيدتين وصامتتين. كانتا تتصرفان كما لو كانتا تخفيان سرًّا سخيفًا.

هكذا كان الأمر؛ كانتا تحتفظان بسر، لكنه لم يُفصح عنه إلا بعد فترة طويلة لاحقًا، ليس إلا بعد أحداث الصيف التالي، ثم بصورة غير مباشرة، عندما أخبرت بوني هوب بعض الفتيات اللائي أخبرن أخريات قد أخبرن أخريات، وسمعت أخريات بالأمر، ثم الجارة، التي أخبرت فيوليت في نهاية المطاف!

في أواخر الخريف من تلك السنة — في السنة التي ذهبت فيها فيوليت إلى معهد المعلمين — كانت قد بدأت دون روز تحيض. شعرت بالإهانة البالغة جراء هذا التطور حتى إنها ذهبت إلى الخليج الصغير وجلست في المياه الباردة، عازمةً على وقف النزيف. خلعت حذاءها، وجوربها، وسروالها التحتي، وجلست هناك، في المياه الباردة، الضحلة. أزالت الدماء من سروالها التحتي، واعتصرته، وارتدته مبتلًا. لم تُصب بالبرد، ولم تمرض، ولم تحض مرة أخرى طوال العام. قالت الجارة إن هذه الفعلة كان من الممكن أن تؤثر على عقلها.

«بدفعها كل هذا الدم الفاسد مرة أخرى إلى جهازها التناسلي، كان من الممكن أن يؤثر هذا على عقلها.»

كانت متعة فيوليت الوحيدة في الكريسماس هي الحديث عن صديقها، الذي كان يُدعى تريفور أوستن. عرضت صورته على أختيها. كانت عبارة عن قصاصة من صحيفة. كان يرتدي ياقة قس.

قالت دون روز، ضاحكةً ضحكة نصف مكتومة: «يبدو مثل قس.»

«هو قس. تعود هذه الصورة إلى وقت ترسيمه. ألا تعتقدين أنه وسيم؟»

كان تريفور أوستن وسيمًا. كان شابًّا ذا شعر داكن، ذا عينين ضيقتين، وأنف رائع، وذقن مرتفع إلى أعلى، وابتسامة مزمومة الشفتين، واثقة، بل ولطيفة.

قالت بوني هوب: «لا بد أنه كبير في السن، حتى يصبح قسًّا.»

قالت فيوليت: «لقد صار قسًّا منذ فترة بسيطة … يبلغ ستة وعشرين عامًا. ليس قسًّا أنجليكانيًّا، بل قسٌّ تابعٌ للكنيسة المتحدة.» قالت ذلك، كما لو أن ذلك كان يشكل فرقًا. وبالنسبة إليها، كان ذلك يمثِّل فرقًا حقًّا. كانت فيوليت قد غيَّرت من انتمائها الكنسي في أوتاوا. قالت إن الكنيسة المتحدة ذات نشاط أكبر. كان هناك نادٍ لكرة الريشة — كانت هي وتريفور يلعبان هناك — ونادٍ لتمثيل المسرحيات، فضلًا عن حفلات تزلج بأحذية التزلج، وحفلات تزلج بالزلاجات، ورحلات في عربات مزينة بالقش، وحفلات تعارف. التقت فيوليت وتريفور للمرة الأولى، في إحدى الحفلات بمناسبة الهالووين في بدروم الكنيسة، عندما كانا يحاولان الإمساك بتفاحة بأسنانهما. أو كانت هذه هي المرة الأولى التي تحدثا فيها، حيث إن فيوليت كانت قد لاحظت وجوده من قبل في الكنيسة، حيث كان مساعدًا للقس. قال إنه لاحظ وجودها أيضًا. وظنت أنه ربما لاحظ ذلك. كانت مجموعة من الفتيات من معهد المعلمين يذهبن جميعًا إلى تلك الكنيسة معًا، جزئيًّا لرؤية تريفور، وكن يلعبن لعبة، في محاولة للفت انتباهه. عندما كان الجميع يقف منشدًا الترانيم، كن يحدقن فيه، وإذا نظر إليهن، كن يخفضن أنظارهن في الحال. كانت موجات من الضحك تنتشر بطول الصف. لكن فيوليت كانت تغني ناظرةً إليه كما لو كانت عيناها وقعت عليه مصادفةً:

هبوا يا رجال الرب
وضعوا دروعكم …

عيون مغمضة أثناء إنشاد الترانيم. الترانيم الحماسية لأتباع الكنيسة الميثودية القديمة، والمزامير القاسية لأتباع الكنيسة المشيخية التحما معًا في هذه الكنيسة المتحدة الجديدة. آنذاك، كانت الهيئة القائمة على تلك الكنيسة تجتذب الشباب المتحمس المتطلع إلى السلطة، لا يختلفون كثيرًا عن الشباب الذين انخرطوا في السياسية. صوت جميل ومظهر لا بأس به.

عيون مغمضة. قبلات عند باب النُّزل الذي تسكن فيه فيوليت. الخد البارد، الخد الذكوري الحليق بطريقة جيدة، ولكن الخشن والغريب قليلًا، ورائحةُ بودرةِ التلكِ ومرطبِ ما بعد الحلاقةِ الرقيقةُ والواعدةُ في آن واحد. سرعان ما ينسلان إلى الظلام إلى جانب مدخل الباب، يتضاغط جسماهما عبر ملابس الشتاء. كان عليهما أن يتحدثا في جدية عن التحكم في الذات، وكانت هذه الأحاديث نفسها مُلهبة للمشاعر. صارا مقتنعين أكثر فأكثر أنهما إذا تزوجا، فسيشعران باللذات التي تجعل المرء يكاد يفقد الوعي عند التفكير فيها.

بعد عودة فيوليت مباشرةً من إجازات الكريسماس، خُطبا. ثم صارت لديهما أشياء أخرى يفكران فيها ويتطلعان إليها إلى جانب الجنس. كانت أمامهما حياة مليئة بالمسئولية والأهمية. دُعيا إلى تناول العشاء بصفتهما مخطوبين، من قبل قساوسة أكبر سنًّا، وأعضاء في الكنيسة أكثر ثراءً ونفوذًا. صنعت فيوليت ثوبًا جميلًا لنفسها، من الصوف بلون التوت البري الأحمر عليه ثنيات طولية؛ ثوبًا أفضل كثيرًا من الثوب المصنوع من قماش الكريب المخطط متعدد الألوان.

في دعوات العشاء تلك، كانا يتناولان عصير طماطم في البداية. كانت دوارق الماء المثلج موضوعة على الموائد. لم يكن ثمة أحد في تلك الكنيسة يستطيع الاقتراب من المشروبات الكحولية. حتى خمر عشائهم الرباني كان عبارة عن عصير عنب. لكن كان هناك أنواع عديدة من اللحم المشوي، سواء لحم الأبقار أو الخنازير أو الديوك الرومية، على أطباق تقديم فضية، وبطاطس وبصل مشوي، وكميات هائلة من مرق اللحم، ثم الكعكات والفطائر الدسمة والبودنج المصنوع بطريقة رائعة بإضافة الكريم المخفوق. لم يكن تناول الطعام خطيئة. كان لعب ألعاب الورق خطيئة، فيما عدا لعبة كنسية ميثودية محددة تسمى «الوريث المفقود»، وكان الرقص خطيئة عند البعض، وكان الذهاب إلى السينما خطيئة عند البعض، وكان الذهاب إلى أي نوع من الحفلات الترفيهية، فيما عدا حفلات الموسيقى الكنسية التي لا يدفع أحد فيها أي مقابل لدخولها، خطيئة عند الجميع أيام الآحاد.

كان هذا يمثل تغييرًا بالنسبة إلى فيوليت بعد الكنيسة الأنجليكانية الأكثر تيسيرًا التي كانت تتبعها في طفولتها، والقواعد — إذا كان ثمة أي قواعد — المفروضة في المنزل. كانت تتساءل عما سيقوله تريفور عندما يرى الملك بيلي يحتسي جرعته من الويسكي كل صباح قبل أن يبدأ في أداء عمله. كان تريفور قد تحدث عن الذهاب معها إلى المنزل لمقابلة عائلتها، لكنها استطاعت أن تثنيه عن ذلك. كانا لا يستطيعان الخروج يوم الأحد بسبب قداسه في الكنيسة، وكانا لا يستطيعان الخروج خلال أيام الأسبوع بسبب دراستها. حاولت أن تُخرج فكرة الذهاب للقاء عائلتها من رأسها في الوقت الحالي.

ربما كان التشدد في عقيدة الكنيسة المتحدة شيئًا يمكن الاعتياد عليه، لكن مشاعر الهدف والجدوى منها، السرعة والحيوية، كانت أشياء متوافقة تمامًا مع فيوليت. كان الأمر كما لو كان القساوسة وأعضاء الكنيسة الأكثر نفوذًا يمتلكون جميعًا وظائف في شركة مزدهرة ومهمة. كانت ترى دور زوجة القس صعبًا وينطوي على كثير من التحديات، لكن هذا لم يثبط من عزمها. كانت تستطيع تخيل نفسها تدرِّس في مدرسة الأحد، وتجمع الأموال لصالح الإرساليات التبشيرية، وتقود الآخرين في الصلوات، وتجلس مرتديةً ملابس بهية في الصف الأول تستمع إلى تريفور، وتصب الشاي في غير كلل من إبريق فضي.

لم تكن تخطط لأن تقضي الصيف في المنزل. كانت ستذهب إلى المنزل لمدة أسبوع، بمجرد انتهاء اختباراتها، ثم كانت تعمل في الصيف في مكتب الكنيسة في أوتاوا. كانت قد تقدمت إلى وظيفة تدريس في مدرسة بلز كورنرز، القريبة منها. كانت تخطط لأن تدرِّس لمدة عام، ثم تتزوج.

•••

في الأسبوع السابق على بدء الاختبارات، تلقت خطابًا من موطنها. لم يكن من الملك بيلي أو العمة آيفي — كلاهما لا يكتبان خطابات — لكن من جارتهم في المزرعة المجاورة، مالكة ماكينة الخياطة. كان اسمها أنابيل ويرلي، التي كانت تحب فيوليت. لم يكن لديها ابنة. كانت تعتقد أن فيوليت بمنزلة مصدر للقلق، لكنها صارت تعتقد الآن أنها شخص يعتمد عليه.

كتبت أنابيل قائلةً إنها تأسف لإزعاج فيوليت في ذلك الوقت، لكنها تعتقد أنه يجب أن تخبرها بالأمر. كانت ثمة مشكلات في بيتها. أما ماهية هذه المشكلات، فلم ترغب أن تفضي بها في خطاب. إذا كانت فيوليت تستطيع العودة لبيتها على متن القطار، فيمكن أن تذهب إلى البلدة وتلاقيها. تمتلك وزوجها سيارة الآن.

وهكذا عادت فيوليت لبيتها على متن القطار.

قالت أنابيل: «يجب أن أخبرك بالأمر مباشرةً … الأمر يتعلق بوالدك. والدك في خطر.»

كانت فيوليت تعتقد أنها كانت تقصد أن الملك بيلي مريض. لكن الأمر لم يكن كذلك. كان يتلقى خطابات غريبة، خطابات رهيبة؛ كانت خطابات تتضمن تهديدات بإنهاء حياته.

ما كانت تتضمنه تلك الخطابات، مثلما قالت أنابيل، كان داعيًا إلى الاشمئزاز بما يتجاوز التصديق.

في المنزل، كان يبدو كما لو أن كل مظاهر الحياة اليومية قد توقفت. كانت العائلة كلها خائفة؛ كانوا خائفين من الذهاب إلى المرعى الخلفي للإتيان بالأبقار، خائفين من الذهاب إلى خلف القبو، أو إلى البئر أو الحمام بعد حلول الظلام. كان الملك بيلي رجلًا مستعدًّا حتى الآن للدخول في معركة، لكنه فقد أعصابه جراء فكرة وجود عدو مجهول يستعد للانقضاض في أي وقت. لم يكن يستطيع السير من المنزل إلى مخزن الحبوب دون الالتفات ليرى ما إذا كان ثمة أحد خلفه. عندما كان يحلب الأبقار، كان يديرها في مرابطها بحيث يكون في ركن لا يستطيع أحد التسلل من خلفه ومفاجأته. كانت العمة آيفي تفعل المثل.

كانت العمة آيفي تدور حول المنزل حاملةً عصا، مطرقةً بها على أبواب الصوانات وأعلى الخزائن والصناديق، قائلةً: «إذا كنت هنا، فمن الأفضل أن تبقى كذلك حتى تختنق، حتى الموت! أيها القاتل!»

قالت فيوليت إن القاتل لا بد أن يكون قزمًا حتى يختبئ في أيٍّ من تلك الأماكن.

كانت دون روز وبوني هوب تمكثان في المنزل ولا تذهبان إلى المدرسة، على الرغم من أنه في هذا الوقت من العام كان عليهما الاستعداد لاجتياز اختبارات القبول. كانتا خائفتين من خلع ملابسهما ليلًا، وكانت ملابسهما متجعدة ورائحتها كريهة.

لا يتم طهي أي طعام بالمنزل. كان الجيران يأتون لهم بالطعام. كان يبدو أن ثمة دائمًا زائرًا ما يجلس عند منضدة المطبخ، جار، أو حتى شخص لا تعرفه العائلة جيدًا ممن سمع عن مشكلتهم هذه وجاء من مكان بعيد. كانت الأطباق تُغسل في الماء البارد، هذا إن غُسلت من الأساس، وكان الكلب هو الكائن الوحيد المهتم بتنظيف الأرضيات.

كان الملك بيلي يجلس طوال الليل يحرس البيت. حصَّنت العمة آيفي نفسها وراء باب غرفة النوم.

سألت فيوليت عن الخطابات. أحضروا لها الخطابات، وطرحوها على مشمع المائدة حتى تتفحصها، مثلما جرى طرحها من قبل أمام جميع الجيران والزائرين.

ها هو أول خطاب وصل إليهم، بالبريد العادي. ثم الخطاب الذي تلاه، والذي وصل أيضًا بالبريد. بعد ذلك كانت هناك رسائل قصيرة يجري العثور عليها في أماكن مختلفة حول المزرعة.

أعلى صفيحة قشدة في الحظيرة.

معلقة على باب مخزن الحبوب.

ملفوفةً حول مقبض دلو اللبن الذي كان الملك بيلي يستخدمه يوميًّا.

ثار خلاف حول أماكن العثور على كل رسالة من تلك الرسائل.

قاطعتهم فيوليت قائلةً: «ماذا عن ختم البريد؟ … أين أظرف الخطابات التي جاءت عبر البريد؟»

لا يعرف أحد. لا يعرف أحد أين ذهبت الأظرف.

قالت فيوليت: «أريد أن أرى الجهة التي أرسلت منها.»

قالت العمة آيفي: «لا يهم من أين جاءت طالما يعرف المرسل كيف يجدنا … على أي حال، لا يرسل أي رسائل بالبريد الآن. يتسلل هنا بعد حلول الظلام ويتركها. يتسلل هنا بعد حلول الظلام ويتركها، يعرف كيف يجدنا.»

قالت فيوليت: «ماذا عن تيجر؟ … هل كان ينبح؟»

لا. صار تيجر كبيرًا في السن جدًّا بحيث لم يعد يؤدي مهمته ككلب حراسة. ومع قدوم وذهاب هذه الأعداد من الزائرين توقف تقريبًا عن النباح.

قال الملك بيلي: «كان سيتوقف عن النباح بالتأكيد بعد أن رأى كل هؤلاء الزائرين وهم يدخلون عبر البوابة.»

أشارت الرسالة الأولى للملك بيلي إلى أن من الأفضل له بيع جميع أبقاره، وأنه رجل مراقَب، وأنه لن يعيش أبدًا حتى يصنع التبن اللازم لإطعام الأبقار، وأنه ميت لا محالة.

أدى ذلك إلى ذهاب الملك بيلي إلى الطبيب. ظن أن ثمة شيئًا ليس على ما يرام به يمكن قراءته من خلال وجهه. كشف الطبيب عليه، واستمع إلى قلبه، وسلَّط ضوءًا في عينيه ليفحصهما، وطلب منه دفع دولارين مقابل الفحص، وأخبره أنه سليم.

كان ما يلي هو نص الرسالة:

يا لك من شخص أحمق جهول حتى تذهب إلى الطبيب. كان من الممكن أن تدخر الدولارين لتنظف بها مؤخرتك القذرة العجوز. لم أخبرك قط أنك ستموت جراء مرض ما. أنت ستقتل. هذا ما سيحدث لك. لست في مأمن مهما كانت صحتك جيدة. أستطيع أن آتي إلى منزلك ليلًا وأقطع رقبتك، أستطيع أن أطلق النار عليك من خلف شجرة. أستطيع أن أتسلل من الخلف وألقي بحبل حول رقبتك، وأخنقك، ولن ترى وجهي، ما رأيك إذن في ذلك؟

إذن، لم يكن عرافًا أو شخصًا يستطيع قراءة المستقبل. كان عدوًّا، يخطط لأن يقوم بالأمر بنفسه:

لن أجد حرجًا في قتل زوجتك القبيحة وأطفالك الأغبياء وأنا أقوم بالأمر.

يجب وضع رأسك في قاعدة الحمام. أيها الخنزير العفن، الغبي، ذو السيقان المقوسة. يجب قطع أعضائك بشفرة حلاقة. أنت كاذب أيضًا. كل هذه الشجارات التي قلت إنك انتصرت فيها ما هي إلا كذبة.

أستطيع أن أطعنك بسكين وأجمع دماءك في إناء وأعمل بودنج بالدماء وأعطيه كطعام للخنازير.

ما رأيك بوضع مُسعر مدفأة شديد الحرارة في عينك؟

عندما فرغت من القراءة، قالت فيوليت: «الشيء الذي يجب عمله أن نقدِّم هذه الخطابات إلى الشرطة.»

كانت قد نسيت أن الشرطة لم تكن موجودة هنا على هذا النحو المجرد، الرسمي. كان ثمة رجل شرطة، لكنه كان في البلدة، بالإضافة إلى ذلك كان الملك بيلي قد دخل في مشادة معه الشتاء الماضي. وفق رواية الملك بيلي، كانت السيارة التي كان يقودها المحامي بووت لوماكس قد اصطدمت بزلاجة الملك بيلي التي يجرها حصان عند أحد التقاطعات، وكان لوماكس قد استدعى الشرطي.

صاح بووت لوماكس (وهو ثمل)، ملوحًا بيديه في قفازه الكبير المبطن بالفراء: «ألقِ القبض على هذا الرجل لعدم قدرته على التوقف عند التقاطع!»

قفز الملك بيلي على الثلج المكوَّم الصلب متأهبًا بقبضتيه للدفاع عن نفسه. وقال: «لن يضع أي شرطي الأصفاد في يديَّ!»

جرى تسوية المسألة برمتها في النهاية، لكن مسألة استعدائه لهذا الشرطي كانت لا تزال خطوة غير حكيمة.

«لا شك في أنه سيكون عازمًا على إيذائي. وربما يكون هو من كتب هذه الرسائل.»

لكن العمة آيفي قالت إن من يرسل إليهم بتلك الرسائل هو ذلك المتشرد رث الهيئة الذي كان قد جاء إلى باب منزلهم منذ عدة سنوات، وعندما أعطته قطعة من الخبز، لم يشكرها. لكنه قال: «أليس لديك بعض شرائح المورتاديلا؟»

كان الملك بيلي يعتقد أن من يهدده على الأرجح هو الرجل الذي كان قد استأجره لمساعدته في عمل التبن. رحل الرجل بعد يوم ونصف لأنه لم يستطع تحمل العمل في مخزن التبن. قال إنه كاد يختنق حتى الموت وسط الغبار وبذور القش، وكان يريد الحصول على خمسين سنتًا إضافية للضرر الذي وقع لرئتيه.

صرخ الملك بيلي فيه قائلًا: «سأعطيك الخمسين سنتًا التي طلبتها!» ووجه طعنة في الهواء بالمذراة. ثم قال: «تعال إلى هنا كي تأخذ الخمسين سنتًا!»

أو هل يمكن أن يكون شخصًا يسوي مسألة قديمة؛ أحد هؤلاء الذين كان يركلهم من القطار منذ وقت طويل؟ أو أحد هؤلاء الأشخاص من فترة أبعد من ذلك، ممن أوسعهم ضربًا في الحفل الراقص؟

تذكرت العمة آيفي صبيًّا كان معجبًا بها بشدة عندما كانت صغيرة. كان قد رحل إلى الغرب لكنه ربما عاد، وسمع بأنها قد تزوجت.

قال الملك بيلي: «بعد كل هذا الوقت جاء ليطاردك؟ … ليس هذا مما أعتبره محتملًا!»

«لكنه مع ذلك ما زال معجبًا بي بشدة.»

أخذت فيوليت تتفحص الرسائل مليًّا. كانت مكتوبة بالقلم الرصاص، على ورق مسطر رخيص. كان الخط واضحًا، كما لو كان الكاتب يضغط بالقلم بقوة. لم يكن ثمة محو للكلمات أو مشكلة في الهجاء. كان تركيب الجمل واضحًا ومحددًا. لكن بأي قدر يمكن أن تستفيد من ذلك؟

•••

كان الباب يغلق بإحكام ليلًا. وتسدل الستائر بالكامل. كان الملك بيلي يضع البندقية على المائدة وكأس ويسكي إلى جانبها.

ألقت فيوليت بالويسكي في دلو المهملات وقالت: «أنت لست بحاجة إلى ذلك.»

رفع الملك بيلي يده نحوها؛ على الرغم من أنه لم يكن الرجل الذي يمكن أن يضرب زوجته أو أطفاله.

تراجعت فيوليت لكنها استمرت في حديثها قائلة: «لست بحاجة إلى البقاء متيقظًا. سأبقى أنا متيقظة. أشعر بالنشاط وأنت متعب. هيا يا بابا. تحتاج إلى النوم، لا الشراب.»

بعد بعض المجادلة، جرى الاتفاق على هذا. طلب الملك بيلي من فيوليت أن تريه أنها تعرف كيف تستخدم البندقية. ثم ذهب إلى النوم في غرفة الضيوف، على الأريكة الخشنة هناك. كانت العمة آيفي قد دفعت التسريحة إزاء باب غرفة النوم وتطلب الأمر الكثير من الصياح والتفسير حتى تقتنع بدفعها بعيدًا.

أضاءت فيوليت المصباح، وتناولت زجاجة الحبر من الرف، وبدأت في الكتابة إلى تريفور لإخباره عن الأمر. دون مباهاة، فقط إخباره بما كان يجري، جعلته يدرك كيف كانت تتولى الأمور وتهدئ من روع الآخرين، وكيف كانت مستعدة للدفاع عن عائلتها. أخبرته حتى عن إلقاء الويسكي، موضحةً أن التوتر العصبي الذي كان يعاني منه أبوها هو الذي جعله يفكر في اللجوء لتناول الويسكي في المقام الأول. لم تقل إنها كانت خائفة. أشارت إلى حالة السكون، والظلام، والوحدة في ليالي أوائل الصيف. وبالنسبة إلى من كان يعيش في بلدة أو مدينة، في تلك الليالي يكون الظلام دامسًا والوحدة قاسية، لكن ليس هناك سكون كبير، على أي حال. ليس إلا إذا كان المرء يستمع إلى شيء ما. كان المكان مترعًا بالأصوات الخافتة، القصية والقريبة، للأشجار في تحركها وتقلبها، وأصوات الحيوانات في تنقلها وأكلها. راقدًا خارج الباب، كان تيجر يصدر صوتًا مرة أو مرتين وهو ما كان يعني أنه كان يحلم بالنباح.

وقَّعت فيوليت خطابها: «زوجتك المستقبلية المحبة والمشتاقة دائمًا إليك»، ثم أضافت: «مع خالص حبي وإخلاصي.» أطفأت المصباح، ورفعت ستارة النافذة، وجلست هناك تراقب الوضع. في خطابها، كانت قد ذكرت أن الريف يبدو جميلًا في ذلك الوقت مع إزهار نباتات الحوذان بطول الطرق، لكنها وهي جالسة تراقب لترى ما إذا كان ثمة شيء يتحرك منفصلًا عن الظلال المتكتلة في الفناء، وتتسمع وقع أقدام خفيفة، فكرت أنها كانت تكره الريف حقًّا. كانت المتنزهات أكثر جمالًا في وجود الحشائش والزهور، وكانت الأشجار بطول الشوارع في أوتاوا في أجمل صورة يمكن أن يرجوها المرء. كان هناك نظام، وبعض الذكاء. هنا يوجد فراغ، وشائعات، وعبث. ماذا كان سيعتقد الناس الذين كانوا قد دعوها إلى حفلات العشاء إذا رأوها تجلس هنا وأمامها بندقية؟

هب أن المتطفل، القاتل، صعد السلالم؟ كان عليها أن تصوب البندقية تجاهه. أي جرح جراء إطلاق النار من البندقية سيكون مروعًا، من هذه المسافة. ستكون ثمة محاكمة وستظهر صورتها في الصحف، تحت عنوان: «نزاع ريفي».

إذا لم تطلق النار عليه، فسيكون الأمر أسوأ.

عندما سمعت صوت طرقة، هبت واقفةً على قدميها، وقلبها ينبض. بدلًا من تناول البندقية، دفعتها بعيدًا. كانت تعتقد أن الصوت آتٍ من الشرفة الخارجية، لكنها عندما سمعته مرة أخرى علمت أنه آتٍ من الدور العلوي. علمت، أيضًا، أنها كانت نائمة.

لم يكن ذلك إلا أختيها. كانت بوني هوب ذاهبة إلى الحمام.

أضاءت فيوليت المصباح لهما وقالت: «لم تكونا في حاجة إلى الاستيقاظ معًا … كنت سأذهب معكِ.»

هزت بوني هوب رأسها وشدت على يد دون روز وقالت: «أريدها أن تذهب معي.»

بدا هذا الرعب الذي كان يتملكهما كما لو كان يجعلهما أقرب إلى البلهاء. لم تكونا تنظران إلى فيوليت. هل تستطيعان حتى تذكر الأيام التي كانتا ترجعان فيها إليها في كل شيء، وكانت هي ترشدهما وتدللهما، وتحاول أن تجعلهما تبدوان جميلتين؟

قالت فيوليت في حزن قبل أن تغلق الباب: «لماذا لا تستطيعان ارتداء ثوب النوم؟» أخذت تراقب وبيدها البندقية حتى عادتا وذهبتا إلى الفراش. ثم أضاءت الموقد وصنعت قهوة؛ لأنها كانت تخشى أن تنام مرة أخرى.

عندما رأت أن الفجر بدأ يظهر، فتحت الباب. وقف الكلب، وهز كل جسده، وذهب ليشرب من الوعاء المثبت إلى جانب المضخة. كان الفناء محاطًا بضباب أبيض. كان ثمة مطب صخري بين المنزل ومخزن الحبوب، وكانت الصخور داكنة اللون جراء رطوبة الليل. ماذا كانت مزرعتهم سوى مساحة صغيرة من الأرض الضحلة المتناثرة بين التلال المكونة من كسارة الصخور ومستنقع؟ يا لها من حماقة الاعتقاد في إمكانية الاستقرار هنا والعيش وتكوين عائلة.

كان ثمة شيء غريب على الدرجة العلوية من السلالم؛ حافظة فضلات حصان كاملة، ولامعة. بحثت فيوليت عن عصا تزيحها بها، ثم رأت ورقة تحتها:

لا تظن أن ابنتك المتكبرة العاهرة تستطيع مساعدتك. أراكما طوال الوقت وأكرهها وأكرهك. كيف ترغب في أن يُحشر هذا حشرًا في حلقك؟

لا بد أنه وضعها هنا أثناء الساعة الأخيرة من الليل، بينما كانت تحتسي قهوتها عند مائدة المطبخ. ربما نظر عبر النافذة، ورآها. عدت لتوقظ أختيها لتسأل عما إذا كانتا قد رأتا شيئًا عندما خرجتا، فقالتا: لا، لا شيء. لقد نزلتا على تلك السلالم، ثم صعدتا حاملتين المصباح، ولم يكن ثمة شيء. كان قد وضعها مذاك.

دل هذا على شيء كانت فيوليت مسرورة به. ربما لم يكن للعمة آيفي أي علاقة بالأمر. كانت العمة آيفي تحبس نفسها في غرفتها طوال الليل. ليس هذا لأن فيوليت كانت تعتقد أن أمها كانت حاقدة أو مجنونة إلى درجة تجعلها تفعل شيئًا كهذا، لكنها كانت تعلم ماذا كان الناس يقولون. كانت تعلم أنه سيكون هناك أشخاص سيقولون إنهم لم يكونوا يشعرون بدهشة بالغة مما كان يحدث هنا. كانوا سيقولون إن ثمة أشخاصًا بأعينهم تقع لهم أشياء غريبة؛ إنه بالقرب من أشخاص بأعينهم يزيد احتمال وقوع تلك الأشياء.

كانت فيوليت تقوم طوال اليوم بأعمال التنظيف. كان خطابها إلى تريفور موضوعًا على التسريحة. لم تضعه في صندوق البريد قط. جاء الناس، وسارت الأمور مثل اليوم السابق؛ الحديث، والشكوك، والتخرصات نفسها. كان الفرق الوحيد هو عرض الرسالة الجديدة على الزائرين.

أحضرت أنابيل لهم خبزًا طازجًا. قرأت الرسالة وقالت: «يجعلني هذا أشعر برغبة في التقيؤ. إنه قريب جدًّا أيضًا. ربما كان بإمكانك سماعه يتنفس تقريبًا يا فيوليت. لا بد أنك كدت تفقدين أعصابك كليةً.»

قالت العمة آيفي في فخر: «لا يوجد أحد يمكنه أن يدرك الأمر … أن يدرك ما نمر به هنا.»

قال الملك بيلي: «إذا خطا أي شخص عبر هذا المكان بعد حلول الظلام … من الآن فصاعدًا، فسيُطلق عليه النار على الأرجح. هذا كل ما لدي.»

بعد أن تناولوا العشاء، وحلبوا الأبقار وجمعوها، أخذت فيوليت خطابها إلى صندوق البريد حتى يأخذه رجل البريد في الصباح. وضعت البنسات فوق الخطاب كثمن لوضع طابع عليه. تسلقت المنحدر خلف صندوق البريد وجلست هناك.

لم يمر أحد في الطريق. كانت الأيام أطول ما يكون في ذلك الوقت؛ وكانت الشمس تكاد تغرب. مر طائر زقزاق يغرد بالقرب منها، وهو يجرجر أحد جناحيه، يحاول أن يجعلها تتابعه. من المفترض أن بيضه موجود في مكان قريب من هنا. كانت طيور الزقزاق تضع بيضها على الطريق، على الحصى، ثم تقضي وقتها تحاول أن تجذب الناس بعيدًا عنها.

كانت حالتها تسوء مثل الملك بيلي، ظانةً أنها كانت تشعر بشخص خلفها. كانت تحاول ألا تتلفت، لكنها لم تستطع منع نفسها من ذلك. قفزت والتفتت، بغتةً، ورأت أثر شعر أحمر أظهرته الشمس الآخذة في المغيب، خلف شجيرة عرعر.

لم يكن ذلك إلا دون روز وبوني هوب.

قالت فيوليت في مرارة: «ماذا تفعلان هناك، أتحاولان إخافتي؟ … ألسنا جميعًا مذعورات بما يكفي؟ أستطيع أن أراكما! ماذا تظنان أنكما فاعلتان؟»

خرجتا، وبينتا لها ما كانتا تفعلانه؛ كانتا تلتقطان فراولة برية.

بين الوقت الذي رأت فيه أثر الشعر الأحمر والوقت الذي رأت فيه حبات الفراولة الحمراء في أيديهما، أدركت فيوليت الأمر. لكنها لم تكن لتعلم بالأمر منهما إلا من خلال استدراجهما ومعرفة مبرراتهما، فضلًا عن إبداء إعجابها وتعاطفها. ربما ليس حتى حينها.

قالت: «ألا يمكنني الحصول على حبة فراولة … هل أنتما غاضبتان مني؟ أعرف سركما.»

قالت: «أعرف … أعرف من كتب تلك الخطابات. أعرف أنه أنتما. خدعتمانا على نحو جيد، أليس كذلك؟»

بدأ وجه بوني هوب في الارتعاش. جزَّت بأسنانها على شفتها السفلية. لم يتغير وجه دون روز على الإطلاق. لكن فيوليت رأت قبضتها وهي تنغلق على حبات الفراولة التي التقطتها. كانت العُصارة الحمراء تتسرب من بين أصابع دون روز. ثم بدا أنها رأت أن فيوليت كانت إلى جانبها — أو أنها لم تكن تأبه بالأمر — وابتسمت. كانت هذه الابتسامة، أو الابتسامة العريضة، ابتسامة اعتقدت فيوليت أنها لن تنساها أبدًا. كانت بريئة وشريرة، مثل ابتسامة شخص موثوق فيه اتضح أو اكتُشف أنه عدو في حلم. كانت ابتسامة دون روز الصغيرة الممتلئة، أختها، والابتسامة العريضة لشخص غريب بارد، ماكر، ناضج، فاسق، شرير.

كان ذلك كله من صنيع دون روز. انكشف الأمر. انكشف كل شيء الآن. كانت دون روز قد كتبت جميع الخطابات والرسائل ودبَّرت أين تضعها، ولم تفعل بوني هوب أي شيء سوى المشاهدة وعدم الإفصاح عن الأمر. تم إرسال أول خطابين من البلدة. أُرسل الخطاب الأول عندما أخذت دون روز إلى البلدة لزيارة الطبيب لمعاناتها من ألم في أذنها. أُرسل الخطاب الثاني عندما ذهبتا إلى المدينة في صحبة أنابيل في سيارتها. (وجدت أنابيل حجة للذهاب إلى البلدة كل يوم، بعد أن أصبح لديها سيارة الآن.) كان يسهل الذهاب إلى مكتب البريد في كلتا المرتين. ثم بدأت دون روز في وضع الرسائل في أماكن أخرى.

أخذت بوني هوب تضحك في خفوت. ثم بدأت في الشهق، ثم الانتحاب.

قالت فيوليت: «اهدئي … لم يكن أنت من فعل ذلك!»

لم تبد دون روز أي علامة من علامات الخوف أو الندم. رفعت يديها مضمومتين إلى وجهها لتناول حبات الفراولة المهروسة. لم تسأل حتى عما إذا كانت فيوليت ستخبر أحدًا بما عرفته أم لا. ولم تسألها فيوليت لماذا فعلت ذلك. ظنت فيوليت أنها لو سألتها، بشكل مباشر، فربما ستقول دون روز إنها صنعت ذلك من قبيل المزاح. سيكون ذلك سيئًا بما يكفي. لكن ماذا إذا لم تقل أي شيء على الإطلاق؟

بعد أن صعدت أختاها إلى الدور العلوي تلك الليلة، أخبرت فيوليت الملك بيلي أنه ليس عليه أن يظل ساهرًا بعد الآن.

«لماذا؟»

«ائتِ بأمي هنا وسأخبركما.» كانت تقصد قول «أمي» بدلًا من «العمة آيفي» أو حتى «ماما».

قرع الملك بيلي بعنف على باب غرفة النوم. «انقلي هذا الشيء بعيدًا واخرجي من هنا! فيوليت تريدك!»

رفعت فيوليت ستار النافذة، وفتحت المزلاج، وفتحت الباب. وقفت وكانت البندقية في ركن الغرفة.

أخذا وقتًا طويلًا حتى بدآ يعيان ما تقوله لهما فيوليت. جلس الوالدان وأكتافهما متهدلة، وأيديهما موضوعة على رُكبهما، وكانت ترتسم على وجهيهما ملامح الحرمان والدهشة. بدا أن الملك بيلي قد استوعب الأمر أولًا.

قال: «لماذا تفعل هذا بي؟»

كان ذلك هو ما ظل يردده، وكان كل ما استطاع أن يقوله عندما كان يفكر في الأمر.

«ماذا تظنين السبب في أنها تفعل هذا بي؟»

نهضت العمة آيفي ووضعت قبعتها. شعرت بهواء الليل يدخل من الباب السلكي الخارجي.

قالت: «سنصبح أضحوكة الناس الآن.»

قالت فيوليت: «لا تخبرا أحدًا.» (كما لو كان ذلك ممكنًا.) «لا تخبرا أحدًا بأي شيء. دعا الأمر ينحسر تدريجيًّا.»

هزَّت العمة آيفي نفسها على الأريكة، مرتديةً قبعتها وثوب النوم الكئيب والحذاء طويل العنق المطاطي. وقالت: «سيقولون الآن إن لدينا نزعة غريبة في هذه العائلة، هذا لا شك فيه.»

قالت فيوليت لأبويها أن يذهبا إلى الفراش كي يناما، وذهبا، كما لو كانا هما الأبناء. وعلى الرغم من أنها لم تخلد إلى الفراش في الليلة السابقة وكانت عيناها تبدوان كما لو كان جرى حكهما بورقة صنفرة، كانت متأكدة أنها لن تستطيع النوم أبدًا. تناولت جميع الخطابات والرسائل التي كانت دون روز قد كتبتها من موضعها خلف الساعة، وطوتها دون أن تنظر إليها ووضعتها في ظرف. كتبت رسالة ووضعتها معها، وكتبت عنوان تريفور على الظرف. وقالت في رسالتها:

عرفنا من كتب هذه الخطابات والرسائل، إنها أختي. تبلغ أربعة عشر عامًا. لا أعلم ما إذا كانت قد جنت، أم ماذا. لا أعرف ماذا يجب أن أفعل. أريدك أن تأتي، وتصطحبني، وتأخذني بعيدًا. أكره المكان هنا. ترى كيف تفكر. لا أستطيع النوم هنا. رجاءً إذا كنت تحبني، فتعال، واصطحبني، وخذني بعيدًا.

أخذت هذا الظرف إلى صندوق البريد في الظلام، ووضعت البنسات فوقه ثمنًا للطابع الذي سيوضع عليه. كانت قد نسيت حقيقةً الخطاب الآخر والبنسات الموضوعة فوقه بالفعل. بدا كما لو أن ذلك الخطاب قد أُرسل قبل أيام.

رقدت على الأريكة الخشنة في غرفة الضيوف. في الظلام، لم تستطع أن ترى اللوحة التي كانت تعتقد أنها مؤثرة، وساحرة جدًّا. حاولت جاهدةً أن تتذكر الشعور الذي كانت تمنحها إياه. وراحت في النوم سريعًا جدًّا.

•••

لماذا فعلت فيوليت هذا؟ لماذا أرسلت تلك الخطابات والرسائل القبيحة إلى تريفور، وأرفقت رسالة كهذه معها؟ هل كانت تريد حقًّا أن يقوم بإنقاذها، أن يخبرها ماذا تفعل؟ هل كانت تريد مساعدته في مشكلة دون روز؛ أن يساعدها ولو بصلواته؟ (منذ أن بدأ هذا الأمر كله، لم تكن فيوليت قد فكرت في الصلاة على الإطلاق، أو في الرب على أي نحو.)

لم تكن لتعرف أبدًا لماذا فعلت ذلك. كانت لا تستطيع النوم، وكانت أعصابها متوترة، وخانتها قدرتها على الحكم على الأمور على نحو صائب. كان هذا هو كل ما في الأمر.

في اليوم الذي تلا أخْذ تلك الخطابات ووضعها في ظرف لإرساله إلى تريفور، كانت فيوليت تقف إلى جانب صندوق البريد في الصباح. كانت تريد أن تذهب مع رجل البريد إلى البلدة، حتى تلحق بقطار الساعة الواحدة المتوجه إلى أوتاوا.

قال رجل البريد: «هل تواجهون مشكلة ما؟ … مشكلة متعلقة بوالدك؟»

قالت فيوليت: «الأمور على ما يرام … انتهى هذا الأمر تمامًا.»

كانت تعلم أن البريد الذي يُرسل من هنا يصل إلى أوتاوا في اليوم التالي. كان ثمة مرتان لإرسال الخطابات والطرود؛ إحداهما في الصباح والأخرى فيما بعد الظهيرة. إذا لم يكن تريفور موجودًا طوال اليوم — وهو كذلك عادةً — كانت الخطابات تُوضع في انتظاره على مائدة الردهة في المنزل حيث كان يقطن، منزل أرملة أحد القساوسة. كان الباب الأمامي يترك مفتوحًا عادةً. كانت فيوليت تستطيع الوصول إلى الخطابات قبل أن يقرأها.

•••

كان تريفور في المنزل. كان مصابًا ببرد صيف شديد. كان يجلس في غرفة مكتبه طاويًا وشاحًا أبيض حول رقبته مثل ضمادة.

قال بينما كانت فيوليت تعبر الغرفة في اتجاهه: «لا تقتربي مني، أنا مليء بالجراثيم.» من خلال نبرة صوته، كان المرء سيعتقد أنها تقترب منه.

قال: «نسيت أن تتركي الباب مفتوحًا.» كان يجب ترك باب غرفة المكتب مفتوحًا عندما كانت فيوليت داخلها، حتى لا يتسبب ذلك في فضيحة لأرملة القس.

مبسوطةً على مكتبه، بين كتبه وأوراق العظات، كانت ترقد الخطابات الملطخة، المكرمشة، المخزية التي كانت دون روز قد كتبتها.

قال تريفور، بصوت متعب، أجش: «اجلسي … اجلسي يا فيوليت.»

لذا، اضطرت إلى الجلوس أمام مكتبه، مثل عضو غير سعيد في الكنيسة، امرأة شابة فقيرة وقعت في مشكلة.

قال إنه ليس مندهِشًا لرؤيتها. كان قد ظن أنها ستأتي. كانت تلك هي الكلمات التي استخدمها: «تأتي.»

قال: «كنت ستمزقينها إذا كنت وصلت إليها أولًا.»

نعم. بالضبط.

قال: «لذا ما كنت سأعرف أبدًا بالأمر.»

«كنت سأخبرك يومًا ما.»

قال تريفور، في صوت بائس أجش: «أشك في ذلك.» ثم تنحنح قائلًا: «معذرةً، لكنني أشك في ذلك.» في محاولة لأن يصبح أكثر لطفًا، وصبرًا، وودًّا.

تحدثا من فترة منتصف ما بعد الظهيرة حتى خيَّم الظلام. كان تريفور يتحدث. حك حلقه من الخارج حتى يبقي على صوته. تحدث حتى صار حلقه جافًا تمامًا، ثم توقف لأخذ راحة، ثم تحدث مجددًا. لم يقل شيئًا لم تتوقعه فيوليت، منذ اللحظة التي رفع عينيه إليها، من اللحظة التي قال فيها: «لا تقتربي مني.»

وفي الخطاب الذي تلقته منه، بعدها بأيام — الذي قال فيه الأشياء التي لم يستطع حمل نفسه على قولها في وجهها — لم يكن ثمة كلمة واحدة أيضًا لم تكن تعرفها مقدمًا. كان من الممكن أن تكتبه له. (كانت جميع الخطابات التي كتبتها دون روز مرفقة بالخطاب.)

ليس القس، لسوء الحظ، حرًّا تمامًا في الحب أو في الاختيار. يجب أن تكون زوجة القس امرأة لا تجلب معها أي مشكلات قد تتسبب في تشتيت انتباه زوجها وصرف تركيزه عن خدمة الرب ورعيته. يجب ألا يوجد أي شيء أيضًا في خلفية زوجة القس أو أقاربها مما يثير القيل والقال بشأنها أو يسبب فضيحة. حياتها عادةً صعبة، ويتحتم أن تتمتع بأفضل صحة جسدية وعقلية، دون أي عيب وراثي أو ضعف، حتى تتحمل واجباتها.

جاء كل ذلك مع وجود قدر عظيم من التكرار، والتضخيم، ومحاولة الانحراف عن الموضوع، وفي وسط كل هذا، بعض الجدل حول الإتيان بدون روز كي يفحصها بعض الأطباء هنا، وعزلها في مكان ما بعيد. قال تريفور إن دون روز لا شك شخص مختل عقليًّا جدًّا.

لكن بدلًا من أن تشعر أنها كانت ترغب في أن يحل تريفور مشكلة دون روز من أجلها، بدت فيوليت الآن تشعر أن عليها حماية دون روز منه.

قالت: «ألا يمكن أن نسأل الرب أن يشفيها؟»

كانت تعرف من خلال نظرته أنه كان يظنها متطاولة. كان الأمر يرجع إليه في ذكر الرب، لا إليها. لكنه قال في هدوء إن الرب يشفي الناس من خلال الأطباء والعلاج. من خلال الأطباء، والعلاج، والقوانين، والمؤسسات. هكذا يجري الرب مقاديره.

قال: «هناك نوع من الجنون الأنثوي الذي يصيب النساء في هذه السن … أنت تعرفين ما أقصد. يكرهن الرجال. يلمنهم. هذا جلي. لديها كراهية مجنونة للرجال.»

لاحقًا، تساءلت فيوليت عما إذا كان يحاول الإبقاء على الباب مفتوحًا لها آنذاك. وإذا كانت قد وافقت على عزل دون روز في مكان ما، فهل كان سيفسخ خطبتهما؟ ربما لا. على الرغم من أنه كان يحاول أن يبدو أرقى وأكثر عقلانية، كان هو، أيضًا، ربما يشعر باليأس.

مرات عديدة، كان يقول الشيء نفسه لها. «لن أتحدث إليك، لا أستطيع التحدث إليك، إلا إذا توقفت عن البكاء.»

دخلت زوجة القس، وسألت عما إذا كانا يرغبان في تناول العشاء. قالا لا، فذهبت، ممتعضة. قال تريفور إنه لا يستطيع البلع. عندما كان الظلام آخذًا في الحلول، خرجا. سارا في الشارع متوجهين إلى الصيدلية، وطلبا اثنين من شراب مخفوق اللبن، وشطيرة دجاج لفيوليت. كان مذاق الدجاج مثل قطع الخشب في فمها. سارا إلى جمعية الشابات المسيحيات، حيث كانت تستطيع أن تجد غرفة تقضي فيها الليلة. (كانت الغرفة في نُزلها محجوزة لها، لكنها لم تستطع مواجهة الذهاب إلى هناك.) قالت إنها ستركب قطار الصباح الباكر.

قال تريفور: «لست مضطرة إلى ذلك … نستطيع أن نتناول الإفطار. ذهب صوتي الآن.»

ذهب صوته. كان يهمس.

همس قائلًا: «سأصطحبك … سأصحبك في الثامنة والنصف.»

لكنه لم يلمس قط، مرة أخرى، بفمه أو خده البارد فمها أو خدها.

•••

غادر قطار الصباح الباكر في الساعة الثامنة إلا عشر دقائق، وكانت فيوليت على متنه. كانت تخطط لأن تكتب رسالة إلى المرأة في النُّزل الذي تقيم فيه وإلى مكتب الكنيسة حيث كانت تنوي أن تعمل. لن تؤدي اختباراتها. لا تستطيع البقاء في أوتاوا يومًا آخر. كان رأسها يؤلمها على نحو رهيب تحت أشعة شمس الصباح. هذه المرة، لم يغمض لها جفن طوال الليل. عندما بدأ القطار في التحرك، كان الأمر كما لو كان تريفور يُسحب بعيدًا عنها. بل إن الأمر يتجاوز تريفور. كانت حياتها بأسرها تُسحب منها بعيدًا؛ مستقبلها، حبها، نصيبها، آمالها. كل ذلك كان يُنزع مثل جلد، وكان مؤلمًا للغاية، ما جعلها عارية من أي غطاء ومصابة بآلام حادة.

هل كانت تحتقره، حينئذ؟ إذا كانت كذلك، فلم تكن تعرف ذلك. لم يكن هذا شيئًا تستطيع معرفته. لو أنه جاء في أعقابها، لكانت ستعود إليه؛ وهي مسرورة. حتى اللحظة الأخيرة، كانت تأمل في أن يأتي مهرولًا إلى رصيف المحطة. كان يعلم متى يغادر قطار الصباح الباكر. ربما يستيقظ، ويعرف ماذا كانت تفعل، ويأتي في أعقابها. لو كان قد فعل ذلك، لكانت ستستسلم بشأن دون روز؛ كانت ستفعل أي شيء كان يريده.

لكنه لم يأتِ وراءها، لم يأتِ. وجهه غير موجود بين الوجوه الموجودة في المحطة؛ لم تستطع احتمال النظر إلى أي شخص.

في لحظات كهذه، كانت فيوليت تحدث نفسها، لا بد أن الناس يفعلون الأشياء التي يسمع المرء بها، ويقرأ عنها في الصحف. الأشياء التي يحاول المرء تصورها، أو يحاول ألا يتصورها. كانت تستطيع تصور الأمر، كانت تستطيع أن تشعر كيف سيكون الأمر. الرحلة المشمسة السريعة، ثم الارتطام بالمنحدر الحصوي. سيكون إغراق المرء نفسه أمرًا أفضل، لكن كان سيتطلب عزمًا أكبر. على المرء أن يظل راغبًا في شيء كهذا، ويستمر على هذا النحو، يستسلم للماء، ويبتلعه بكميات كبيرة حتى الموت.

إلا إذا قفز المرء من أعلى جسر.

هل من الممكن أن تكون هذه هي فيوليت؟ هل من الممكن أن تكون هذا الشخص الذي يفكر في فِكَر كهذه، جرى اختزالها إلى هذه الاحتمالات، شخص حياته منقلبة رأسًا على عقب؟ شعرت كما لو كانت تشاهد مسرحية، وإن كانت أحد أبطالها. وداخل المسرحية، كانت في خطر عظيم. أغمضت عينيها، وصلَّت بسرعة؛ وهو ما كان، أيضًا، جزءًا من المسرحية، لكنه كان حقيقيًّا؛ المرة الأولى في حياتها، هكذا حدثت نفسها، التي صلَّت ودعت فيها حقيقةً.

نجني. نجني. أعدني إلى رشدي. أرجوك. أرجوك أسرع. أرجوك.

وما رأت بعد ذلك أنها تعلمته على متن رحلة القطار هذه، التي استغرقت أقل من ساعتين إجمالًا، هو أن دعواتها أُجيبت. الدعوات اليائسة تُجاب. كانت تعتقد أنها لم يكن لديها أدنى فكرة عن ماهية الصلوات، أو الإجابات. وها قد هبط شيء عليها في القطار، ولفَّها لفًّا. هبطت الكلمات عليها، وكانت مثل ملابس باردة، باردة تلفها.

لم يكن هدفك أن تتزوجيه.

لم يكن هدف حياتك.

أن تتزوجي تريفور. ليس هدف حياتك.

هناك هدف لحياتك، وتعرفين ما هو.

«أن تعتني بهم. جميعهم، كل عائلتك، ودون روز على وجه الخصوص. أن تعتني بهم جميعًا، ودون روز على وجه الخصوص.»

كانت تنظر خارج النافذة، وهي تدرك ذلك. كانت الشمس تسطع على الحشائش الخفيفة في شهر يونيو، ونباتات الحوذان، والتودفلاكس، والصخور الناعمة القديمة، المتناثرة في الريف المترامي كله الذي لم تكن لتعيره أدنى اهتمام، وكانت الكلمة التي وردت على خاطرها «ذهبية».

فرصة ذهبية.

من أجل ماذا؟

تعرفين من أجل ماذا. للتسليم. للاستسلام. للعناية بهم. للحياة من أجل الآخرين.

كانت هذه هي الطريقة التي رأت فيوليت من خلالها كيف تتخلص من ألمها. حمل ثقيل زال عن كاهلها. إذا كان من الممكن أن تركع وتخلِّف نفسها القديمة وراءها أيضًا، وجميع فِكَرها حول كيف تكون حياتها، لكان الحمل الثقيل، الألم، الإهانة، كل ذلك سيختفي على نحو سحري. هكذا ستؤدي المطلوب منها. يمكن أن تكون مثل الحشائش في شهر يونيو التي كان يتخللها ضوء الصباح، ويضيئها مثل الريش القرنفلي أو خطوط من سحابة وقت شروق الشمس. إذا صلت بما يكفي وحاولت بما يكفي، فسيكون ذلك ممكنًا.

•••

قال الناس إن الملك بيلي لم يعد كسابق عهده بعد التجربة التي تعرض لها. لم يعد كسابق عهده قط. قالوا إنه صار شيخًا، أخذ يذبل بصورة ملحوظة. لكنه كان شيخًا، شيخًا طاعنًا، عندما حدث كل ذلك. لم يتزوج حتى تخطى الأربعين. واصل حلب الأبقار، والتحرك ذهابًا وإيابًا إلى مخزن الحبوب في شتاءات قليلة أخرى شديدة البرودة، ثم مات جراء الالتهاب الرئوي.

كانت دون روز وبوني هوب قد ذهبتا إلى العيش في البلدة في ذلك الوقت. لم تذهبا إلى المدرسة الثانوية. حصلتا على وظيفة في مصنع الأحذية. صارت بوني هوب جميلة واجتماعية إلى حد بعيد، وجذبت انتباه بائع اسمه كولارد. تزوجا، وانتقلا إلى إدمنتن. أنجبت بوني هوب ثلاث بنات. وكانت تكتب خطابات رصينة إلى أهلها.

تحسن مظهر وسلوك دون روز أيضًا. كانت معروفة في مصنع الأحذية كعاملة مجدَّة، شخص لا يستحسن إغضابه، شخص يستطيع إلقاء بعض النكات الجيدة إذا كان مزاجها يسمح بذلك. تزوجت، أيضًا؛ مزارعًا يسمى كيمب، من الجزء الجنوبي من المقاطعة. لم يظهر منها أي سلوك غريب أو شذوذ أو شطط مرة أخرى. كان يُقال إن ثمة شيئًا فظًّا بها؛ وكان هذا هو كل شيء. أنجبت ولدًا.

استمرت فيوليت في العيش مع العمة آيفي في المزرعة. حصلت على وظيفة في شركة الهاتف المحلية. اشترت سيارة، حتى تستطيع الذهاب والرجوع من العمل. ألم تكن تستطيع أن تجري اختبارات التدريس في عام آخر؟ ربما نعم، ربما لا. عندما تخلت عن الأمر، تركته تمامًا. لم تعتقد في إمكانية إعادة المحاولة مرة أخرى. كانت تتمتع بكفاءة في عملها.

كانت العمة آيفي لا تزال تجوس في الفناء والبستان، تبحث عن الأماكن التي ربما خبأت بعض الدجاجات فيها بيضها. كانت ترتدي قبعتها وحذاءها طويل العنق. كانت تحاول أن تتذكر أن تنظف حذاءها عند الباب، حتى لا تثور فيوليت غضبًا.

لكن فيوليت لم تعد تفعل ذلك مجددًا.

•••

ذات ظهيرة عندما كانت في راحة من العمل، قادت فيوليت سيارتها لترى دون روز. كانتا على ود، كان زوج دون روز يحب فيوليت، لم يكن ثمة سبب ألا تذهب على غير موعد.

وجدت أبواب المنزل مفتوحة. كان يوم صيف دافئًا. خرجت دون روز، التي صارت بدينة جدًّا الآن، إلى الشرفة الخارجية وقالت إن اليوم لم يكن يومًا مناسبًا للزيارة، وكانت تلمِّع الأرضيات. هكذا كان الأمر فعلًا؛ كانت فيوليت تشم رائحة مادة التلميع. لم تقدِّم دون روز عصير ليمون أو تطلب من فيوليت أن تجلس في الشرفة الخارجية. فقد كانت مشغولة جدًّا ذلك اليوم.

جاء ابنها الصغير السمين الخجول، الذي كان يحمل الاسم الغريب دين، وتعلق برجليها. كان يحب فيوليت، لكنه تصرف اليوم بشكل غريب.

رحلت فيوليت. لم تكن تعلم، بالطبع، أنه في غضون عام كانت دون روز ستموت جراء جلطة ناشئة عن التهاب وريدي مزمن. لم تكن دون روز هي من تفكر فيه، لكن كانت تفكر في نفسها، أثناء قيادتها على رقعة خفيضة من الطريق ذات الأشجار والأجمات الكثيفة على الجانبين وحينئذ سمعت صوتًا يقول: «حياتها مأساوية.»

«حياتها مأساوية»، هكذا قال الصوت في وضوح ودون إبداء أي عاطفة خاصة، وأسرعت فيوليت، كما لو كانت أصيبت بالعمى، بالسيارة وخرجت عن الطريق. لم يكن ثمة مصرف على جانب الطريق، لكن كانت الأرض سبخية، فلم تستطع إخراج السيارة منها. نزلت من السيارة ونظرت إلى حيث انغرست عجلاتها، ثم وقفت إلى جانب السيارة في انتظار شخص يأتي ويدفع السيارة.

لكنها عندما سمعت صوت سيارة قادمة، كانت تعلم أنها لا ترغب في أن يجدها أحد. لم تطق أن يجدها أحد. عدت بعيدًا عن الطريق إلى الغابة، إلى الأجمات، وعلقت. علقت في شجيرات التوت البري، شجيرات الزعرور البري الصغيرة. تمسَّكت. اختبأت لأنها لم تكن تريد أن يراها أحد، إذا كانت حياتها مأساوية.

(٢) تلبس

يعتقد دين أنه يتذكر شيئًا عن فيوليت — خالته — من الفترة التي سبقت وفاة أمه. يتذكر قليلًا جدًّا من ذلك الماضي البعيد. يتذكر أمه بصعوبة. يمتلك صورة لأمه وهي تقف أمام المرآة عند حوض المطبخ، عاقصةً شعرها الأحمر تحت قبعتها المصنوعة من القش ذات اللون الأزرق الداكن. يتذكر وجود شريط أحمر برَّاق على القبعة. لا بد أنها كانت تستعد للذهاب إلى الكنيسة. يرى رِجلًا متورمة، ذات لون بني باهت، ويربط بينها وبين مرضها الأخير. لكنه يشك في أنه رأى ذلك من قبل. لماذا تكون رجلها بهذا اللون؟ لا بد أنه سمع أشخاصًا يتحدثون عن ذلك. سمعهم يقولون إن رجلها كانت كبيرة مثل البرميل.

يظن أنه يتذكر فيوليت آتية على العشاء، مثلما كانت تفعل عادةً، حاملةً معها بودنج، كانت تضعه في الخارج في الثلج حتى تحافظ على برودته. (لم يكنْ أيٌّ من منازل المزارع يمتلك ثلاجات في تلك الأيام.) ثم سقطت الثلوج، وغطى الثلج طبق البودنج، الذي غاب عن الأنظار. يتذكر دين فيوليت وهي تطأ بقدمها هنا وهناك في الفناء المغطى بالثلوج بعد حلول الظلام، مناديةً: «بودنج، بودنج، تعال هنا، بودنج!» كما لو كان كلبًا. لم يتمالك نفسه من الضحك، وكانت أمه وأبوه يضحكان عند عتبة الباب، وأخذت فيوليت تتقن أداءها، فتوقفت وأخذت تصفِّر.

بعد فترة ليست بالطويلة من وفاة أمه، ماتت جدته؛ التي كانت تعيش مع فيوليت، وكانت ترتدي قبعة سوداء، وكانت تنادي على الدجاج بطريقة بدت مماثلة للغته تمامًا، دندنة وقرقرة متواصلان. ثم باعت فيوليت المزرعة وانتقلت إلى البلدة، حيث حصلت على وظيفة لدى شركة بيل للهواتف. كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان ثمة نقص في الرجال، وسرعان ما صارت فيوليت مديرة. كان ثمة شعور بأنها كان يجب أن تتنحى عن موقعها عندما انتهت الحرب، وأن تتخلى عن الوظيفة لأحد الرجال ممن لديهم أسر يعولونها. يتذكر دين أنه سمع أحدهم يقول ذلك؛ امرأة، ربما إحدى عماته، وهي تقول إن ذلك كان سيصبح شيئًا محمودًا. لكن رفض أبوه ذلك، وقال إن فيوليت فعلت الشيء الصحيح. قال إن فيوليت تمتلك الشجاعة والإصرار.

بدلًا من الفساتين الكئيبة، الفضفاضة، المزينة بالخرز التي كانت النساء المتزوجات — الأمهات — ترتدينها، كانت ترتدي تنورات وبلوزات. كانت ترتدي تنورات مكشكشة من الجبردين ذات نقوش مربعة مفعمة بالحيوية، باللون الأزرق الداكن، أو الرمادي، مع بلوزات رائعة عاجية اللون من الساتان، أو بيضاء مكشكشة من الجورجيت، أو قرنفلية أو صفراء أو فضية اللون من كريب الرايون. كان لون معطفها الجميل أحمر أرجوانيًّا، وكان ذا ياقة من فراء الثعالب الفضية. لم يكن شعرها متموجًا أو مفرودًا بشكل دائم، لكنه كان مصففًا في صورة لفة بهية، سميكة، داكنة. كانت تضع بودرة تجميل على بشرتها، بلون قرنفلي خفيف، مثل الصَّدَفة الكبيرة التي كانت تمتلكها وكانت تدع دين يستمع إليها. يعرف دين الآن أنها كانت تشبه في ملابسها، وشكلها، سيدات الأعمال، السيدات العاملات، في تلك الأيام. مسايرة للموضة ومتأنقة في آن واحد، جميلة القد وإن لم تكن نحيفة تمامًا، لا هو قد امرأة ناضجة ولا فتاة. ما اعتبره مميزًا وفريدًا لم يكن كذلك حقًّا. كانت هذه هي الحقيقة التي اكتشفها حيال معظم الأشياء عندما صار أكبر سنًّا. بالمثل، تحمي ذاكرته فيوليت من أي نوع من التكرار، أو التصنيف، لا توجد طريقة في ذلك الماضي البعيد يمكن اختزال فيوليت من خلالها.

في البلدة، كانت فيوليت تعيش في شقة فوق بنك رويال. كان على المرء للوصول إليها صعود سلالم طويلة، ذات درجات متقاربة. كانت النوافذ الطويلة في غرفة المعيشة تُسمى النوافذ الفرنسية. كانت تفتح على شرفتين صغيرتين ذواتي درابزين يبلغ حتى الوسط فقط مصنوع من الحديد المطاوع. كانت الحوائط مطلية، وليست مغطاة بورق حائط. كان لونها أخضر فاتحًا. اشترت فيوليت أريكة جديدة ومقعدًا منجَّدًا بقماش أخضر طحلبي فاخر، ومائدة قهوة كانت توضع أعلاها صينية زجاجية. كان يُطلق على الستائر السدائل، وكانت ذات حبال شد. مع انغلاقها على النوافذ، كان ثمة نمط من الأوراق الكريمية اللون البراقة التي تظهر عبر الخلفية الكريمية الباهتة. لم يكن ثمة ضوء في السقف؛ فقط مصابيح طويلة توضع على الأرضيات. في المطبخ، كان ثمة خزائن وركن للأكل من خشب الصنوبر المليء بالعقد. كانت هناك سلالم أخرى — كانت هذه متباعدة وشديدة الميل — تفضي إلى فناء خلفي مسيَّج صغير، لم يكن يستخدمه إلا فيوليت. كان مطوقًا بشكل رائع، جاهزًا للترتيب والتزيين، مثل أي غرفة معيشة.

•••

خلال العامين الأولين اللذين كان يذهب خلالهما إلى المدرسة الثانوية في البلدة، كان دين يزور فيوليت كثيرًا جدًّا. كان يبيت ليلًا في الشقة عندما يكون الجو عاصفًا. كانت فيوليت تُعد له فراشًا على الأريكة ذات اللون الأخضر الطحلبي. كان صبيًّا نحيفًا، نهمًا، أحمر الشعر في تلك الأيام — لا يستطيع أحد الثناء على النحافة الآن — وكانت فيوليت تطعمه جيدًا. كانت تصنع له شوكولاتة ساخنة بالكريمة المخفوقة وقت النوم. كانت تقدِّم له دجاجًا بالكريمة في قوالب التارت، وكعكًا مكونًا من عدة طبقات، وشيئًا يسمى فطيرة شراب القيقب. كانت تأكل قطعة واحدة، ويأكل هو الباقي. كان هذا تغييرًا كبيرًا مقارنة بالوجبات سريعة التجهيز وغير المعدة بإتقان في المنزل التي كان يتناولها مع أبيه والرجل الذي كان يعمل عندهم. كانت فيوليت تحكي له قصصًا عن طفولتها في المزرعة، مع أمه وخالته، التي تعيش في إدمنتن الآن، وأمها وأبيها، الذين كانت تطلق عليهم جميعًا «شخصيات». كان كل شخص يمثِّل شخصية في تلك القصص؛ كان كل شيء مصاغًا بحيث يكون مضحكًا.

كانت قد اشترت مشغل أسطوانات، وأسمعته بعض الأسطوانات، وطلبت منه أن يختار الأسطوانة المفضلة لديه. كانت أسطوانته المفضلة هي تلك التي حصلت عليها كهدية عندما انضمت إلى أحد نوادي الأسطوانات الموسيقية الذي قدَّمها إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية. كانت هذه هي الأسطوانة الخاصة بمقطوعة «الطيور»، لريسبيجي. كانت أسطوانتها المفضلة تلك الخاصة بكينيث ماكيلر التي تضم مجموعة من أغانيه الدينية والعادية.

لم تعد تذهب إلى مزرعة دين. لم يكن والد دين، عندما كان يذهب لاصطحاب دين، يملك وقتًا على الإطلاق لتناول قدح من القهوة في بيت فيوليت. ربما كان خائفًا من أن يجلس في شقة أنيقة كهذه بملابس المزرعة. ربما كان لا يزال يحمل بعض الضغينة تجاه فيوليت لما فعلته في الكنيسة.

كانت فيوليت قد اتخذت قرارًا هناك، في بداية حياتها في البلدة. كان للكنيسة بابان. كان يستخدم أحد البابين الريفيون — وكان السبب في ذلك هو أنه كان أقرب إلى سقيفة العربات وغيرها من وسائل النقل الريفية — وكان الأشخاص الذين يقطنون في البلدة يستخدمون الباب الآخر. في الداخل، كان هناك نفس التقسيم؛ أهل البلدة في جانب من الكنيسة، والريفيون في الجانب الآخر. لم يكن ثمة شعور محدد بعلو المنزلة أو الدونية؛ لكن هكذا كانت تسير الأمور. حتى الريفيون الذين كانوا قد تقاعدوا وانتقلوا إلى البلدة كانوا حريصين ألا يستخدموا باب أهل البلدة، على الرغم من أن ذلك ربما كان يعني الانحراف عن طريقهم، والسير متجاوزين باب أهل البلدة وصولًا لباب الريفيين.

جعل بالتأكيد انتقال فيوليت للعيش بالبلدة، وعملها فيها، منها شخصًا منتميًّا إلى البلدة. لكنها عندما جاءت إلى تلك الكنيسة للمرة الأولى، كان دين ووالده هما الشخصين الوحيدين اللذين كانت تعرفهما. كان اختيار جانب الريفيين سيعبر عن الوفاء، وبعض الاعتزاز بالنفس، التخلي عن الامتياز الممنوح لها. (كان صحيحًا أن معظم القساوسة، والمدرسين المساعدين، ومدرسي مدارس الأحد كانوا يُختارون من جانب أهل البلدة، مثلما كانت القبعات الرائعة وملابس السيدات التي تساير الموضة تظهر في هذا الجانب.) كان اختيار جانب أهل البلدة، وهو ما فعلته فيوليت، تعبيرًا عن قبول هذه المكانة، وربما حتى الرغبة في المزيد.

لامها والد دين أثناء سيرهم على الرصيف بعد ذلك. «هل أعجبتك الصحبة هناك؟»

قالت فيوليت، متظاهرةً بأنها لا تعرف عما كان يتحدث: «بدا الأمر أسهل فقط … لا أعرف شيئًا عن تلك الصحبة. أعتقد أن أحد الأشخاص لديه سيجار مطفأ في جيبه.»

كان دين يتمنى بشدة ألا تفعل فيوليت ذلك. لم يكن ذلك لأنه كان يريد أن تتطور علاقة ما بشكل جدي بين فيوليت وأبيه؛ زواج، على سبيل المثال. لم يكن يستطيع تخيل ذلك. كان يريدهما فقط أن يكونا في الجانب نفسه، حتى يكونا في جانبه.

في ظهيرة أحد أيام شهر يونيو، عندما كان قد فرغ من أداء أحد اختباراته، قصد دين شقة فيوليت لاسترجاع كتاب كان قد تركه هناك. كان مسموحًا له باستخدام الشقة للمذاكرة فيها بينما كانت هي في العمل. كان يفتح النوافذ الفرنسية ويسمح بدخول رائحة الريف المتحرر لتوه من الثلوج، بكل جداولها ومستنقعاتها المتسربة، وأشجار الصفصاف الآخذة في الاصفرار والأخاديد التي تتصاعد منها الأبخرة. كان الغبار يدخل، أيضًا، لكنه كان يظن دائمًا أنه يستطيع تنظيف ذلك قبل أن تعود إلى المنزل. كان يجوب في غرفة المعيشة ذات الإضاءة الباهتة، مجمعًا بعض المعلومات، شاعرًا بالعظمة. كان كل شيء في الغرفة يرتبط بشيء مما يتعلمه. كان ثمة لوحة ألوانها داكنة لملك ميت وسيدات نبيلات كان ينظر إليها دومًا عندما كان يحفظ الشعر. كانت السيدات يذكرنه بطريقة غريبة بفيوليت.

لم يكن يعرف ما إذا كانت فيوليت ستعود إلى المنزل أم لا؛ لأن راحتها في فترة ما بعد الظهيرة كانت تختلف من أسبوع إلى آخر. لكنه سمع صوتها أثناء صعوده السلالم.

نادى قائلًا: «هذا أنا»، وانتظرها حتى تخرج من المطبخ وتسأل عن أدائه في الاختبار.

بدلًا من ذلك، قالت له: «دين! دين، لم أكن أتوقع حضورك! تعال وتناول القهوة معنا!»

قدمته إلى شخصين في المطبخ، رجل وزوجته. آل تيبيت. كان الرجل يقف إلى جانب الطاولة وكانت المرأة تجلس في ركن الأكل. كان دين يعرف الرجل شكلًا. وايك تيبيت، الذي كان يبيع وثائق التأمين. كان من المفترض أن يصير لاعب بيسبول محترفًا، لكن كان ذلك منذ وقت طويل مضى. كان رجلًا أنيقًا، صغير الحجم، مهذبًا، يرتدي ملابس أنيقة دومًا، يمتلك ثقة متواضعة لرجل رياضي بارع.

لم تسأل فيوليت دين عن أي شيء فيما يتعلق باختباره، لكنها أخذت تركز على إعداد القهوة. أولًا، أخرجت أقداح قهوة الإفطار، ثم عدلت رأيها، وأخرجت طقم الخزف الصيني. بسطت مفرشًا على منضدة ركن الأكل. كان ثمة علامة احتراق طفيفة عليها جراء عملية الكي.

قالت فيوليت ضاحكةً: «حسنًا، أنا محرجة.»

ضحك وايك تيبيت أيضًا وقال: «يجب أن تكوني كذلك، يجب أن تكوني كذلك!»

أزعجت ضحكة فيوليت العصبية، وتجاهلها إياه، دين إلى حد بعيد. كانت قد قضت عدة سنوات في البلدة حتى الآن، وكانت قد أجرت عدة تغييرات على نفسها، ويبدو أنه لم يلحظ هذا إلا الآن وحسب. لم يعد شعرها ملفوفًا؛ كان قصيرًا ومتموجًا. ولم يعد لونه البني الداكن مثلما كان سابقًا. صار له الآن مظهر باهت، ومهندمًا، مثل فادج الشوكولاتة. كان أحمر الشفاه الذي تضعه ثقيلًا جدًّا، لون أحمر براق أكثر مما ينبغي، وكانت الحبات في بشرتها قد ازدادت خشونة. أيضًا، زاد وزنها كثيرًا، خاصةً حول ردفيها. كان التناغم في جسدها قد فسد؛ بدت كما لو كانت ترتدي قفصًا أو شيئًا غريبًا تحت تنورتها.

بمجرد أن تم صبُّ قهوته، قال وايك تيبيت إنه يرغب في تناول قدحه في الفناء؛ لأنه كان يريد أن يرى كيف كانت شجيرات الورود الجديدة تلك تنمو.

قالت فيوليت، كما لو أن ذلك سرَّها: «أوه، أعتقد أنها مصابة بآفة ما! … أخشى أنها كذلك يا وايك!»

طوال هذا الوقت، كانت الزوجة تتحدث، وواصلت الحديث، لا تكاد تلاحظ أن زوجها قد نزل للفناء. تحدثت إلى فيوليت بل وإلى دين، لكنها كانت تتحدث إلى الهواء حقيقةً. تحدثت عن مواعيدها مع الطبيب، واختصاصي تقويم العمود الفقري. قالت إن لديها صداعًا مثل مطارق حديدية شديدة السخونة تدق صدغيها. كان لديها أيضًا نوع من الألم الحاد في جانب عنقها مثل مئات الإبر التي توخز في لحمها. لم تكن تتوقف عن الحديث؛ كانت مثل مشغل أسطوانات صغير لا حول له ولا قوة، موضوع في أحد جوانب ركن الأكل، وكانت عيناها الحزينتان الكبيرتان تخلوان من أي تعبير بمجرد تثبيتهما على أي شخص.

كان هذا هو نمط الأشخاص، كان هذا هو نمط الحديث، الذي كانت فيوليت غاية في البراعة في محاكاته.

وها هي الآن تفسح المجال. كانت تستمع، أو تتظاهر بأنها تستمع، إلى هذه المرأة في اهتمام لم تلاحظه المرأة حتى أو تحتاج إليه. هل كان ذلك لأن الزوج قد خرج؟ هل كانت فيوليت تشعر بقلق ما حيال فظاظته تجاه زوجته؟ كانت تواصل النظر إلى أسفل في الفناء الخلفي.

قالت: «يجب أن أرى ماذا يعتقد وايك بشأن تلك الآفة»، ثم مضت، نزلت عبر السلالم الخلفية، فيما بدا مثل هرولة ثقيلة الوقع، لا تنطوي على أي قدر من اللياقة.

قالت الزوجة: «لا يهتمون إلا بالمال.»

نهض دين حتى يجلب لنفسه مزيدًا من القهوة. وقف عند الموقد ورفع إناء القهوة بينما كانت تتحدث متسائلًا ما إذا كانت تريد مزيدًا من القهوة.

قالت: «ما كان لي أن أحتسي الكمية التي تناولتها … تسعون بالمائة من معدتي متقرحة.»

نظر دين إلى زوجها وفيوليت، كانا ينحوان معًا باتجاه شجيرات الورود الصغيرة. لا شك في أنهما كانا يتحدثان عن الورود، والآفات، والمبيدات، والآفات الزراعية الأخرى. لم يكن هناك احتمال لحدوث شيء فظ مثل لمسه إياها. فقد كان وايك يحمل في يد قدح القهوة ورفع في رقة ورقة شجيرة، ثم رفع أخرى بقدمه. نظرت فيوليت منصاعة إلى أسفل إلى الورقة المرفوعة فوق حذائه المصقول.

سيكون من الخطأ القول إن دين فهم أي شيء آنذاك. لكنه نسي المرأة التي كانت تتحدث وإناء القهوة الذي كان يحمله. استشعر سرًّا، نفحة من حميمية الآخرين، شيئًا لم يرد أن يعرف عنه شيئًا، لكن عليه أن يفعل.

بعد فترة ليست بالطويلة، كان مع والده في الشارع، ورأى وايك يأتي تجاههما. قال والده: «أهلًا وايك»، بصوت هادئ، محترم يستخدمه الرجال لتحية الرجال الآخرين الذين لا يعرفونهم — أو ربما الذين لا يريدون أن يعرفونهم — جيدًا. انحرف دين ليرى بعض الأشياء في واجهة متجر لبيع الأدوات المعدنية.

قال والده: «ألا تعرف وايك تيبيت؟ … كنت أظن أنك قابلته عند فيوليت.»

ثم شعر دين مرة أخرى بما شعر به من قبل، النفحة التي كان يكرهها. كان يكرهها الآن أكثر؛ لأنها كانت تحيط به من كل جانب. كانت تحيط به من كل جانب حتى لو أن والده كان يعرف.

لم يرد أن يفهم مدى خيانة فيوليت. كان يعرف بالفعل أنه لن يغفر لها أبدًا.

•••

دين الآن رجل عريض المنكبين، متورد البشرة، يمتلك الملامح المرهقة للدب اللعبة تيدي، ولحية تكاد تكون كلها رمادية اللون. كان كلما كبر يصير أشبه بأمه أكثر فأكثر. يعمل مهندسًا معماريًّا. رحل من المنزل إلى الجامعة، ولفترة طويلة عاش وعمل في أماكن أخرى، لكنه عاد منذ عدة سنوات، وهو مشغول الآن بترميم الكنائس، وقاعات مجالس البلدات، والمناطق التجارية، والمنازل التي كانت تعد بحق قبيحة المظهر في الوقت الذي رحل فيه. يعيش في المنزل الذي نشأ فيه، المنزل الذي ولد ومات أبوه فيه، منزل حجري عمره مائة وخمسون عامًا أعاده هو وثيو تدريجيًّا إلى ما يشبه حالته الأصلية.

يعيش مع ثيو، الذي يعمل أخصائيًّا اجتماعيًّا.

عندما أخبر دين وايك وفيوليت للمرة الأولى (كان قد سامحها — سامحهما — منذ فترة طويلة) أن شخصًا يدعى ثيو سينتقل للعيش معه، قال وايك: «أفهم من ذلك أنك عثرت أخيرًا على رفيقة جادة.»

لم تقل فيوليت أي شيء.

قال دين في رفق: «رفيق رجل … ليس من السهل تخمين نوع الشخص، من خلال هذا الاسم الذي يطلق على الرجال والنساء.»

قال وايك في دماثة: «حسنًا. هذا شأنك وشأنه.» كانت العلامة الوحيدة التي ألمح بها والتي ربما تشير إلى انزعاجه في قوله «شأنه» دون أن يلاحظ.

قالت فيوليت: «ثيو. نعم … يصعب تخمين ذلك.»

حدث ذلك في المنزل الصغير المكون من غرفتي نوم على حافة البلدة الذي انتقلت فيوليت إليه بعد أن تقاعدت من شركة الهاتف. كان وايك قد انتقل للعيش معها بعد وفاة زوجته وصارا قادرين على الزواج. كان المنزل واحدًا ضمن مجموعة من المنازل المتراصة المتشابهة جدًّا الممتدة على طريق زراعي أمام حقل ذرة. جرى وضع أشياء وايك بجانب تلك الخاصة بفيوليت، وبدت الغرف منخفضة السقف مزدحمة، وترتيب الأشياء مؤقتًا وعشوائيًّا. بدت الأريكة ذات اللون الأخضر الطحلبي ضخمة وقديمة الطراز تحت الغطاء الملون الكبير الذي صنعته زوجة وايك. احتلت لوحة مخملية سوداء كبيرة، خاصة بوايك، معظم حائط غرفة المعيشة. كانت تظهر ثورًا ومصارع ثيران. كانت جوائز وايك الرياضية القديمة والصينية الفضية المقدمة له من قبل شركة التأمين موضوعة على رف المدفأة إلى جانب صدفة فيوليت القديمة وتمثال الرجل الاسكتلندي.

كانت فيوليت تسمي تلك الأشياء مصايد الغبار.

•••

لكنها أبقت على أشياء وايك في مكانها حتى بعد رحيل وايك نفسه. مات وهو يشاهد مباراة بدوري كرة القدم الكندي، في نهاية شهر نوفمبر. هاتفت فيوليت دين، الذي كان يستمع إليها في البداية بينما كانت عيناه مشدودتين إلى شاشة التليفزيون.

قالت فيوليت: «ذهبتُ إلى الكنيسة … أخذت بعض الأشياء إلى مكان بيع الأشياء القديمة، ثم ذهبت واشتريت لنا زجاجة من الويسكي، وعندما عدت، بمجرد أن فتحت الباب، ناديت على وايك، ولكنه لم يجب. رأيت الجزء الخلفي من رأسه في وضع غريب. كان محنيًّا تجاه ذراع كرسيه. استدرت أمامه وأغلقت التليفزيون.»

قال دين: «ماذا تعنين؟ … خالة فيوليت! ما الأمر؟»

قالت فيوليت، كما لو كان دين يستجوبها: «أوه، لقد مات … كان يجب أن يكون ميتًا حتى يدعني أغلق التليفزيون أثناء عرض مباراة كرة القدم.» كانت تتحدث في صوت عالٍ، حاد في حبور غير طبيعي؛ كما لو كانت تخفي شعورها بالاضطراب.

عندما قاد السيارة إلى البلدة، وجدها تجلس على درجة السلالم الأمامية.

قالت: «أنا حمقاء … لا أستطيع أن أدخل. يا لي من بلهاء يا دين!» كان صوتها لا يزال خشنًا، ومرتفعًا، وحادًّا.

قال ثيو لاحقًا إن كثيرًا من كبار السن يكونون على هذه الحالة عندما يموت شخص قريب لهم. قال: «إنهم يتجاوزون الحزن … أو ربما يشعرون بنوع مختلف من الحزن.»

طوال الشتاء، بدت فيوليت على ما يرام، تقود سيارتها عندما يسمح الطقس بذلك، وتذهب إلى الكنيسة، وتذهب إلى نادي كبار السن للعب ألعاب الورق. ثم، عندما حلَّت الشهور الحارة، وظن المرء أنها كانت ستستمتع بالخروج، قالت لدين إنها لا تنوي القيادة مرة أخرى.

كان يظن أن المشكلة كانت في بصرها. اقترح عليها الذهاب إلى الطبيب لترى ما إذا كانت تحتاج إلى نظارات أقوى.

قالت: «أرى على نحو جيد … المشكلة أنني لست متأكدة تمامًا مما أرى.»

ماذا كانت تعني بذلك؟

«أرى أشياء أعرف أنها ليست موجودة.»

كيف عرفت أنها ليست موجودة؟

«لأنه ما زال لدي وعي بما يكفي، مما يجعلني أعرف ذلك. يستوعب عقلي الرسالة ويخبرني أن الأمر مضحك. لكن ماذا إذا لم يستوعبها عقلي طوال الوقت؟ كيف لي أن أعرف؟ أستطيع أن أرسل في طلب بقالتي. يُرسل معظم كبار السن في طلب بقالتهم. أنا شخص عجوز. لن يفتقدوني كثيرًا في متجر إيه آند بي.»

لكن كان دين يعرف كم كانت تستمتع كثيرًا بالذهاب إلى هذا المتجر، وكان يعتقد أنه وثيو عليهما أن يحاولا أن يجعلاها تذهب إلى هناك مرة أسبوعيًّا. كانت تحصل هناك على القهوة القوية المخصوصة التي كان وايك يتناولها، وكانت تحب عادةً النظر إلى اللحوم المدخنة وشرائح لحم الخنزير — كلتاهما كانتا من الأكلات المفضلة لدى وايك — على الرغم من أنها كانت نادرًا ما تشتري أيًّا منهما.

قالت فيوليت: «على سبيل المثال … ذلك الصباح، رأيت الملك بيلي.»

قال دين، ضاحكًا: «رأيت جدي؟ … حسنًا. كيف كان؟»

قالت فيوليت في حدة: «رأيت جوادنا الذي يدعى الملك بيلي … خرجت من غرفتي وهناك كان يُقحم رأسه من نافذة غرفة الطعام.»

قالت إنها عرفته على الفور. رأسه المألوف، الأحمق، الرمادي المرقط. طلبت منه أن يتحرك، وأن يخرج رأسه من هناك، فأخرج رأسه من فوق عتبة النافذة وبدأ يرحل ببطء. مضت فيوليت إلى المطبخ للبدء في إعداد إفطارها، ثم خطر على بالها أشياء كثيرة.

كان هذا الجواد قد مات منذ خمسة وستين عامًا تقريبًا.

لم يكن من الممكن أن يكون هذا جواد بائع اللبن أيضًا؛ لأن بائعي اللبن لم يعودوا يقودون أي جياد منذ حوالي عام ١٩٥٠. كانوا يقودون شاحنات.

لا، لم يكونوا يقودون أي شيء؛ لأن اللبن لم يعد يوصل إلى المنازل من قبل بائعي اللبن. لم يعد اللبن يباع حتى في زجاجات. يُشترى من المتجر في عبوات كرتونية أو أكياس بلاستيكية.

كان ثمة زجاج في نافذة غرفة الطعام لم يكن قد انكسر.

قالت فيوليت: «لم أكن مغرمة قط بهذا الجواد على وجه الخصوص أيضًا … لكن لم أكن قط كارهة له، لكن إذا كان ثمة خيار لدي في أن أرى شيئًا أو شخصًا قد مات، فلن يكون ذلك الجواد.»

قال دين، محاولًا الإبقاء على الحديث على نحو لطيف، على الرغم من أنه لم يكن سعيدًا قط بما كان يسمع: «ماذا سيكون؟ ماذا سيكون خيارك؟»

لكن فيوليت صنعت صوتًا بغيضًا — نخرة عنيدة — كما لو كان سؤاله أغضبها وأثار سخطها. ارتسم تعبير من الغباء المتعمد، وحتى الشرير — وهو المكافئ البصري لتلك النخرة — على وجهها.

حدث أن دين بعد ذلك ببضع ليالٍ كان يشاهد برنامجًا تليفزيونيًّا عن أشخاص من أمريكا الجنوبية — معظمهم من النساء — كانوا يؤمنون بأن الأرواح الشريرة تتلبسهم وتسيطر عليهم، من وقت إلى آخر وفي بعض الظروف الخاصة. ذكره التعبير الذي كان على وجوههم بالتعبير الذي كان على وجه فيوليت. كان الفرق هو أنهم كانوا لا يمانعون في هذا التلبس، وكان متأكدًا أن فيوليت كانت ترفضه. لم يكن ثمة شيء داخلها يرغب في أن يجري السيطرة عليها من قبل امرأة عجوز عنيدة وكئيبة، عاجزة ومشوشة، تمتلك ذاكرة أو خيالًا خارج السيطرة، يبرز عشوائيًّا خلال المشهد الراهن. كانت محاولة إيقاف تلك المرأة العجوز عند حدها يجعلها نافدة الصبر. في حقيقة الأمر، كان قد رآها — تذكر الآن — كان قد رآها تميل رأسها إلى الجانب وتصفع نفسها صفعة سريعة، مثلما يفعل الأشخاص الذين يرغبون في التخلص من روح مزعجة، غير مرحب بها.

بعد مرور أسبوع أو نحو ذلك في الصيف، هاتفته. وقالت له: «دين، هل أخبرتك عن الشخصين اللذين أراهما، يمران بجوار منزلي؟»

«أي شخصين يا خالة فيوليت؟»

«فتاتان، أعتقد هذا؛ لم يعد يطيل الصبية شعورهم، أليس كذلك؟ ترتديان ملابس الجيش، فيما يبدو، لكنني لا أعرف هل كان ذلك يعني شيئًا. إحداهما قصيرة والأخرى طويلة. أراهما تمران بهذا المنزل وتنظران إليه. تعرجان خارج الطريق ثم تعودان.»

«ربما تجمعان الزجاجات. يفعل الناس ذلك.»

«ليس معهما أي شيء تضعان الزجاجات فيه. لا بد أنهما تقصدان هذا المنزل. لا بد أنهما مهتمتان به على نحو ما.»

«خالة فيوليت! هل أنت متأكدة؟»

«نعم، أعرف ذلك، أسأل نفسي أيضًا. لكنهما ليستا ممن أعرفهم على الإطلاق. ليستا ممن أعرفهم ممن ماتوا. هذا شيء مثير للاهتمام حقًّا.»

ظن أن عليه أن يمر عليها ليراها، ليرى ماذا يحدث. لكن قبل أن يذهب إلى هناك، هاتفته مرة أخرى.

«دين، كنت فقط أريد أن أخبرك عن هاتين الفتاتين اللتين لاحظتهما تسيران بجوار المنزل. هما فتاتان. ترتديان ملابس جيش. أتَتَا وقرعتا بابي. قالتا إنهما كانتا تبحثان عن فيوليت تومس. قلت: ليس ثمة أحد بهذا الاسم يعيش هنا، وبدا عليهما الحزن الشديد. ثم قلت إن ثمة امرأة تُدعى فيوليت تيبيت، هل هي من تبحثان عنها؟»

بدت في حالة معنوية مرتفعة. كان دين مشغولًا؛ كان لديه اجتماع مع بعض أعضاء مجلس البلدة خلال نصف ساعة. كان لديه أيضًا ألم في الأسنان. لكنه قال: «أنت على حق. إذن، من هما؟»

قالت فيوليت: «هذه هي المفاجأة … ليستا فقط مجرد فتاتين. إحداهما ابنة خالتك. أعني، ابنة ابنة خالتك. ابنة دونا كولارد. هل تعرف عمن أتحدث؟ ابنة خالتك دونا كولارد؟ اسمها بعد الزواج ماكني.»

قال دين: «لا.»

«خالتك بوني هوب، في إدمنتن، تزوجت رجلًا اسمه كولارد، روي كولارد، وأنجبت ثلاث بنات. إلينور، وروث، ودونا. هل تعرف عمن أتحدث الآن؟»

قال: «لم أقابلهن قط.»

«لا. حسنًا، تزوجت دونا كولارد من شخص يدعى ماكني، نسيت اسمه الأول، ويعيشون في برينس جورج، بكولومبيا البريطانية، وهذه هي ابنتهما. هيثر. هذه ابنتهما هيثر التي كانت تمر بمنزلي. الفتاة الأخرى صديقتها جيليان.»

لم يتفوه دين بشيء طوال دقيقة كاملة، وقالت فيوليت: «دين! آمل ألا تعتقد أن الأمر اختلط عليَّ بشأن هذا الأمر؟»

ضحك وقال: «سآتي وأراهما.»

قالت فيوليت: «هما غاية في الأدب والطيبة … على الرغم مما قد يبدو من مظهرهما.»

كان متأكدًا للغاية من أن هاتين الفتاتين كانتا حقيقيتين، لكن كان كل شيء غير واضح تمامًا بالنسبة إليه في ذلك الوقت. (كان مصابًا بحمى خفيفة، على الرغم من أنه لم يكن يدرك ذلك بعد، وكان عليه أن يعالج قناة جذر إحدى أسنانه.) كان يعتقد أن عليه أن يسأل في البلدة إذا كان ثمة أحد آخر رآهما. عندما ذهب ليفعل ذلك، في وقت لاحق، اكتشف أن فتاتين لهما نفس الأوصاف كانتا مقيمتين في الفندق، وأنهما كانتا تملكان سيارة داتسون زرقاء متهالكة لكنهما كانتا تسيران كثيرًا، في البلدة وخارجها، وكان يُعتقد بوجه عام أنهما تنتميان إلى إحدى حركات تحرير المرأة. لم يتحدث الناس كثيرًا عن ملابسهما، لكنهما لم تتسببا في أي مشكلات، فيما عدا أنهما تجادلتا فقط مع راقصة التعري في الفندق.

في غضون ذلك، كان قد سمع الكثير من فيوليت عن الفتاتين. هاتفته في المنزل، عندما كان فمه يؤلمه إلى درجة أنه كان بالكاد يتحدث، وقالت له إنه لسيئ للغاية أنه كان مريضًا؛ وإلا كان باستطاعته أن يذهب لمقابلة هيثر وجيليان.

قالت فيوليت: «هيثر هي الطويلة … شعرها طويل أشقر، وبنيتها غير عريضة. إذا كانت تشبه بوني هوب في أي شيء، ففي أسنانها. لكن أسنان هيثر تتلاءم مع وجهها أكثر وهي بيضاء على نحو جميل. جيليان فتاة جميلة، ذات شعر متموج، وسمرة في بشرتها. تمتلك هيثر بشرة شديدة البياض تتأثر بشدة عند التعرض للشمس. كانتا ترتديان نوعية الملابس نفسها؛ مثلما تعرف، بناطيل الجيش، وقمصان العمل، وأحذية الصبية طويلة العنق، لكن جيليان كانت ترتدي دومًا حزامًا وكانت ترفع ياقة قميصها، وكان ذلك يبدو عليها كموضة تسايرها. جيليان أكثر ثقة في نفسها، لكنني أعتقد أن هيثر أكثر ذكاءً. هي الأكثر اهتمامًا حقيقةً.»

قال دين: «بماذا؟ … من هما، على أي حال؟ طالبتان؟»

قالت فيوليت: «كانتا طالبتين بالجامعة … لا أعرف ماذا كانتا تدرسان. ذهبتا إلى فرنسا والمكسيك. في المكسيك، أقامتا في جزيرة كان يُطلق عليها جزيرة النساء. كانت مجتمعًا تحكمه النساء. تعملان الآن في مسرح وتؤلفان مسرحيات. تؤلفان مسرحياتهما. لا تقدمان مسرحيات كتاب آخرين أو مسرحيات تم تقديمها من قبل. كل العاملين في هذا المسرح، من النساء. أعدتا لي عشاء رائعًا. دين، كنت أتمنى لو أنك كنت هنا. أعدتا سلاطة بها قلوب خرشوف.»

قال دين لثيو: «تبدو فيوليت كما لو كانت تتناول مخدرات … تبدو كما لو أنهما قد سيطرا على تفكيرها.»

•••

عندما استطاع التحدث مرة أخرى، اتصل بها، وقال لها: «بم تهتم هاتان الفتاتان، يا خالة فيوليت؟ هل هما مهتمتان بأواني الخزف الصيني القديمة والمجوهرات وما شابه؟»

قالت فيوليت في غضب: «لا … هما مهتمتان بتاريخ العائلة. مهتمتان بعائلتنا وما أتذكره عما كانت عليه الحياة فيها. كان عليَّ أن أخبرهما عن الخزان الذي يوجد بأعلى الموقد.»

«لماذا تريدان أن تعرفا ذلك؟»

«أوه. تدور في خلدهما فكرة. تدور في خلدهما فكرة خاصة بتأليف مسرحية.»

«ماذا تعرفان عن المسرحيات؟»

«ألم أخبرك أنهما تمثلان في مسرحيات؟ تؤلفان مسرحياتهما وتمثلان فيها، في مسرح النساء هذا.»

«أي نوع من المسرحيات تؤلفانها؟»

«لا أعرف. لا أعرف إذا كانتا ستؤلفانها أم لا. هما فقط مهتمتان بما كانت الأمور عليه في الأيام الخوالي.»

قال دين: «هذه هي الموضة الآن … أن يكون المرء مهتمًّا بذلك.»

«لا أعتقد أنهما تدعيان ذلك، دين. أعتقد أنهما كذلك حقًّا.»

لكنه كان يعتقد أنها لم تكن مبتهجة جدًّا هذه المرة.

قالت: «تعرف أنهما تغيران كل الأسماء … عندما تؤلفان مسرحية، تغيران جميع الأسماء والأماكن. لكني أعتقد أنهما تحبان فقط استكشاف الأمور، والتحدث. ليستا صغيرتين تمامًا، لكنهما تبدوان كذلك، وهما شغوفتان جدًّا. ومرحتان.»

•••

قال دين لفيوليت عندما زارها مرة أخرى: «يبدو وجهك مختلفًا … هل نقص وزنك؟»

قالت فيوليت: «لا أعتقد ذلك.»

كان دين قد خسر اثني عشر رطلًا، لكنها لم تلاحظ. بدت مبتهجة ولكن منفعلة. ظلت تنهض وتجلس، تنظر خارج النافذة، تنقل الأشياء حول طاولة المطبخ دون سبب.

كانت الفتاتان قد رحلتا.

قال دين: «ألن تعودا ثانيةً؟»

نعم، كانتا ستعودان. ظنت فيوليت أنهما كانتا ستعودان. لم تكن تعرف فقط متى.

قال دين: «أظن أنهما رحلتا للبحث عن جزيرتهما … جزيرتهما التي تحكمها النساء.»

قالت فيوليت: «لا أعرف … أظن أنهما ذهبتا إلى مونتريال.»

لم يكن دين يحب أن يعتقد أنه مُرغم على الشعور بالانفعال والشك الشديدين تجاه فتاتين لم يلتق بهما قط. كان مستعدًّا أن يلقي باللوم على الدواء الذي كان لا يزال يتناوله من أجل أسنانه. كان ثمة شعور بأن ثمة شيئًا يجري إخفاؤه عنه — شيئًا موجودًا حوله في كل مكان، لكنه مخفي — سر مزعج، وسخيف، وخبيث.

قال: «لقد قصصت شعرك.» لذلك كان وجهها يبدو مختلفًا.

«قصاه لي. قالتا لي إنه على غرار قصة شعر جان دارك.» ابتسمت فيوليت في سخرية، مثلما كانت معتادة دومًا، ولمست شعرها. ثم قالت: «أخبرتهما أنني كنت آمل ألا ينتهي بي المطاف بالإعدام حرقًا وأنا مقيدة إلى عمود خشبي.»

وضعت رأسها بين يديها، وأخذت تهتز للأمام والخلف.

قال دين: «لقد أرهقتاك … لقد أرهقتاك يا خالة فيوليت.»

قالت فيوليت: «عقلي يفكر في كل ذلك.» هزت رأسها في اتجاه غرفة النوم الخلفية. «هذا هو ما يجب أن أتمه.»

في غرفة نوم فيوليت الخلفية كان ثمة صناديق أوراق، وصندوق مقتنيات قديم كان مملوكًا لأمها. ظن دين أنها كانت مليئة بالأوراق أيضًا. رسائل المدرسة الثانوية القديمة، رسائل معهد المعلمين، بطاقات التقييم الدراسي، وسجلات ومراسلات ترجع إلى أيام عملها في شركة الهاتف، محاضر اجتماعات، خطابات، بطاقات بريدية. كل شيء كان عليه كتابة، ربما كانت تحتفظ به.

قالت إن جميع هذه الأوراق كان يجب فرزها. يجب عمل ذلك قبل عودة الفتاتين. كانت هناك أشياء قد وعدتهما بها.

«أي أشياء؟»

«مجرد أشياء.»

هل ستعودان سريعًا؟

قالت فيوليت نعم. نعم، كانت تتوقع ذلك. عندما كانت تفكر في هذا، كانت يداها تربت وتحك على سطح الطاولة. قضمت قضمة من كعكة محلاة، وفتتت ما تبقى منها. رآها دين تجمع الكسرات في يدها وتضعها في قهوتها.

قالت: «هذا هو ما أرسلتاه.» ثم دفعت أمامه بطاقة كان قد لاحظ استنادها إلى سلطانية السكر. كانت بطاقة يدوية الصنع ذات علامات بألوان بنفسجية مرسومة على نحو طفولي، وقلوب حمراء. بدت وكأنها تقصد أن يقرأها، وهكذا فعل:

شكرًا جزيلًا لمساعدتك وسعة صدرك. أوحيت لنا بقصة رائعة. قصة كلاسيكية تدور حول الغضب الشديد إزاء السيطرة الأبوية. هديتك لنا، هل نستطيع أن نهديها إلى آخرين؟ ما يُطلق عليه «الجنون الأنثوي» ليس إلا قرونًا من «الإحباط» و«القمع». الجزء الخاص بالخليج الصغير رائع في حد ذاته وتفعله الكثير من النساء!

كُتب أسفل الرسالة بخط كبير: «نتوق شغفًا للاطلاع على الوثائق. رجاءً في المرة القادمة. مع حبنا وامتناننا.»

قال دين: «لماذا كل هذا؟ … لماذا يجب أن تفرزي كل شيء من أجلهما؟ لماذا لا تنقبان وسط كل هذه الفوضى وتعثران على ما تريدان بأنفسهما؟»

قالت فيوليت في حدة: «لأنني غاية في الخجل! … لا أريد أي شخص أن يرى هذا.»

أخبرها أنه ليس ثمة ما تخجل منه.

«كان يجب ألا أستخدم كلمة «فوضى». لا يعدو الأمر كونك راكمت الكثير من الأشياء، عبر السنوات. ربما يكون بعضها شائقًا جدًّا.»

«هناك أشياء لا يعرفها أحد غيري! أنا الوحيدة التي يجب أن تتعامل مع الأمر!»

قال دين: «الغضب الشديد إزاء السيطرة الأبوية»، متناولًا البطاقة مرة أخرى. «ماذا تعنيان بذلك؟» تساءل عن استخدامهما لعلامات الاقتباس حول الجنون الأنثوي والإحباط والقمع.

قالت فيوليت: «سأخبرك … سأخبرك. لا تعرف ما تعين عليَّ مواجهته. هناك أشياء غير طيبة. ذهبت إلى هناك، وفتحت هذا الصندوق لألقي نظرة على ما في داخله، وماذا تظنني وجدت يا دين؟ كان مليئًا بأشياء قذرة؛ روث خيول موضوعًا في صفوف، عمدًا. داخل صندوقي في بيتي، هذا ما وجدت.» بدأت تشهق، على نحو غير مميز، غير جذَّاب، منطوٍ على شفقة ذاتية.

عندما أخبر دين ثيو بهذا، ابتسم ثيو، ثم قال: «آسف، ماذا قالت بعد ذلك؟»

«قلت لها إنني سأذهب وأنظف الصندوق، فقالت إنها نظفت كل شيء.»

«نعم، حسنًا. يبدو الأمر وكأنها فقدت رشدها، أليس كذلك؟ كنت أظن أن بمقدوري توقع هذا الأمر قبل أن يحدث.»

تذكر دين الأشياء الأخرى التي قالتها، لكنه لم يذكرها. فلم تكن مهمة.

كانت قد قالت، متذمرةً: «هذا عمل حقير مثير للاشمئزاز، أليس كذلك؟ … هذا عمل لا يفعله إلا شخص ذو عقل متخلف!»

•••

كان باب فيوليت الأمامي مفتوحًا عند الظهيرة في اليوم التالي عندما مر دين عبر الطريق الذي يوجد به منزلها، متجهًا خارج البلدة. لم يكن عادةً يسلك هذا الطريق. ما فعله اليوم لم يكن مثيرًا للدهشة، بالنظر إلى كيف كانت فيوليت تشغل عقله في الساعات العديدة الأخيرة.

لا بد أنه دخل من الباب بينما كانت ألسنة اللهب تتصاعد في المطبخ. رأى ضوءها أمامه على جدار المطبخ. عدا إلى هناك، وأمسك بكومة أوراق فيوليت التي كانت موضوعة أعلى موقد الغاز. كانت قد أوقدت الشعلات.

أخذ دين بساطًا صغيرًا من الردهة لحماية نفسه بحيث يستطيع إغلاق الغاز. كانت الأوراق المحترقة تتطاير في الهواء. توجد أكوام من الورق متناثرة على الأرض، لا تزال بعض الأوراق في صناديق. كانت فيوليت تنوي فيما يبدو جليًّا أن تحرقها كلها.

كان دين يصرخ: «أوه، يا إلهي، خالة فيوليت! … يا إلهي، يا إلهي، ماذا تفعلين! اخرجي من هنا! اخرجي!»

كانت فيوليت تقف في منتصف المطبخ، مزروعة هناك مثل جذل شجرة داكن كبير، تتناثر حولها الأوراق المحترقة في كل مكان.

صرخ دين: «اخرجي!» ثم أدارها ودفعها تجاه الباب الخلفي. ثم، فجأةً، تحركت بسرعة غير عادية مثلما كان سكونها غير عادي. عدت أو ترنحت في اتجاه الباب، فتحته، وعبرت الشرفة الخارجية الخلفية. بدلًا من النزول على السلالم، وقعت من الحافة، ساقطةً برأسها أولًا على بعض شجيرات الورود التي كان وايك قد زرعها.

لم يعرف دين على الفور أنها سقطت. كان مشغولًا جدًّا في المطبخ.

لحسن الحظ، لا تحترق الأوراق المربوطة في أكوام أو حزم بسرعة مثلما يظن الكثيرون. كان دين يخشى أكثر من إمساك النيران بالستائر، أو بالطلاء الجاف خلف الموقد. لم تعد فيوليت مدبرة منزل حريصة مثلما كانت، وكانت الحوائط مغطاة بالشحم. وضع البساط على ألسنة اللهب التي كانت تتصاعد من الموقد، ثم تذكر مطفأة الحريق التي كان قد اشتراها بنفسه من أجل فيوليت وأصرت هي على الاحتفاظ بها على طاولة المطبخ. تنقَّل متعثرًا حاملًا مطفأة الحريق، مطاردًا الأوراق المحترقة التي كانت تسقط في صورة فتات من الورق المفحم. أعاقته أكوام الورق على الأرض. لم تمسك النيران بالستائر. كان الجدار خلف الموقد قد تشقق في صورة فقاعات طلاء، لكن لَمْ تمسك النيران به أيضًا. ظل يطارد ألسنة النيران، وفي غضون خمس دقائق، وربما أقل، أخمد النيران. فقط فتات أوراق محترقة، أشبه بأجنحة عثة قذرة، كانت متناثرة فوق كل شيء؛ في فوضى هائلة.

عندما رأى فيوليت على الأرض بين شجيرات الورود، راودته أسوأ الفِكَر. خشى أن تكون أصيبت بسكتة دماغية، أو نوبة قلبية، أو على الأقل كسر أحد مفصلي وركيها نتيجةً لسقوطها. لكنها كانت واعية بما يدور حولها، تحاول النهوض، وهي تتأوه. أمسك بها، ورفعها. في ظل كثير من أصوات النخر وتعبيرات الفزع من كليهما، ساعدها على الصعود إلى درجات السلالم الخلفية وأجلسها هناك.

قال: «ما هذا الدم الذي عليك؟» كانت ذراعاها ملطختين بالأوساخ والدم.

قالت فيوليت: «هذا بسبب الورود.» كان يعرف حينها، من خلال صوتها، أنه ليس ثمة أي كسر بجسمها.

قالت: «خدشتني الورود بشدة … يا دين، منظرك فظيع. منظرك فظيع، أنت مُسود بالكامل!»

سالت الدموع والعرق معًا على وجهه. رفع يده إلى خده، ثم نظر إليها فوجدها سوداء. قال: «الدخان.»

كانت هادئة تمامًا حتى ظن أنها ربما أصيبت بسكتة دماغية خفيفة، فقدان ذاكرة، مما يجعل عقلها ينسى أمر الحريق. لكن هذا لم يحدث.

قالت: «لم أستخدم حتى الكيروسين … يا دين، لم أستخدم الكيروسين أو أي شيء آخر. ما الذي جعل ألسنة اللهب تتصاعد هكذا؟»

«لم يكن موقدًا خشبيًّا يا خالة فيوليت. كان فوق شعلات موقد الغاز.»

«أوه، يا إلهي.»

«لا بد أنك كنت تعتقدين أنك كنت تحرقين الأوراق في الموقد الخشبي.»

«لا بد أن الأمر كذلك. كيف فعلت هذا؟ ثم جئت أنت وأخمدت النيران.»

كان يحاول التقاط فتات الورق الأسود من شعرها، لكنها كانت تتحلل تحت أصابعه. تفتتت إلى قطع أصغر، وتبددت.

قالت فيوليت: «يجب أن أشكرك.»

قال: «ما يجب أن نفعله الآن … هو أن آخذك إلى المستشفى، فقط للتأكد من أنك بخير. يمكن أن تستريحي عدة أيام وسأتابع عملية تنظيف المطبخ. ما رأيك في هذا؟»

أصدرت بعض أصوات الهمهمة الهادئة التي كانت تعني نعم.

«ثم ربما ترغبين في الخروج والمكوث معنا فترة.»

كان سيتحدث إلى ثيو تلك الليلة؛ كان عليهما أن يقوما بأمر ما.

«عليك أن تتأكد من أنني لن أحرق المكان بأكمله.»

«لا بأس.»

«أوه، دين. هذه ليست مزحة.»

•••

ماتت فيوليت في المستشفى، في الليلة الثالثة، دون سابق إنذار. رد فعل متأخر، ربما صدمة. أحرق دين جميع الأوراق في المحرقة في الفناء الخلفي. لم تطلب منه أن يفعل ذلك قط؛ لم تخبره قط بما كانت تفعله. لم تذكر الفتاتين مرة أخرى، أو أي شيء كان قد حدث ذلك الصيف. كان يشعر فقط أن عليه إكمال ما كانت قد بدأته. أعدَّ، أثناء حرقه الأوراق، ما كان سيقوله لهاتين الفتاتين، لكن عند انتهائه، كان يظن أنه كان قاسيًا أكثر مما ينبغي تجاههما؛ كانتا قد أدخلتا عليها السعادة، مثلما جلبتا عليها المتاعب.

•••

بينما كانا لا يزالان جالسين على درجات السلالم الخلفية، في أوائل فترة ما بعد الظهيرة حيث كان الجو حارًّا وتوجد بعض السحب الخفيفة، ومع وجود حاجز أخضر من الذرة أمامهما، كانت فيوليت قد لمست الخدوش التي أصيبت بها وقالت: «تذكرني هذه الخدوش بأشياء.»

قال دين: «يجب أن أضع بعض الديتول عليها.»

«لا تتحرك من مكانك. هل تعتقد أن ثمة نوعًا من العدوى لم يسر في عروقي بعد؟»

لم يتحرك من مكانه، وقالت له: «أتعرف يا دين أنني أنا ووايك كنا صديقين، قبل وقت طويل جدًّا من زواجنا؟»

«نعم.»

«حسنًا، تذكرني هذه الخدوش بالطريقة التي التقينا بها، لنصبح صديقين على النحو الذي صرنا عليه؛ لأننا بالطبع كان يعرف كلٌّ منا الآخر شكلًا فقط. كنت أقود سيارتي الأولى، ذات المحرك «ﭬﻲ-٨» التي لن تتذكرها، وعرجت بها خارج الطريق. انحرفت بها في مصرف ولم أستطع الخروج منه. وهكذا سمعت صوت سيارة آتية، فانتظرت، ثم لم أستطع أن أواجه الأمر.»

«هل كنت محرجة أنك انحرفت عن جادة الطريق؟»

«كانت حالتي النفسية سيئة. لهذا السبب انحرفت عن الطريق. كانت حالتي سيئة دون سبب، أو لسبب تافه فقط. لم أستطع مواجهة أحد، وقدت السيارة تجاه الشجيرات، ثم ما لبثت أن علقت. كنت أستدير، وألف، لكنني لم أستطع أن أتحرر، وكلما استدرت خُدشت أكثر. كنت أرتدي فستانًا صيفيًّا خفيفًا. لكن السيارة توقفت على أي حال. كان وايك هو قائد تلك السيارة. ألم أخبرك بذلك يا دين؟»

نعم.

«كان ذلك وايك يقود سيارته متجهًا لمكان ما. قال: ابقَيْ ساكنة حيث أنتِ. ثم جاء إليَّ، وبدأ في إبعاد أعواد وأغصان التوت عني. شعرت وكأنني مثل جاموسة وقعت في شرك. لكنه لم يضحك على منظري؛ لم يبدُ عليه أدنى اندهاش لعثوره على شخص في تلك الحالة. كنت أنا من بدأ في الضحك. عندما رأيته يسير نحوي بتلك الجدية في بذلته الصيفية ذات اللون الأزرق الفاتح.»

مررت يديها على ذراعيها صعودًا وهبوطًا، متلمسةً الخدوش بأطراف أصابعها، لامسةً إياها بلطف.

«عم كنت أتحدث لتوي؟»

«عندما علقت في الشجيرات، وكان وايك يخلصك.»

مررت يديها بسرعة على ذراعيها وهزت رأسها وأصدرت تلك النخرة عبر حلقها، تعبيرًا عن نفاد الصبر أو الاشمئزاز.

استقامت في جلستها، وقالت، في صوت واضح مُسِر: «هناك خنزير بري يجري عبر أعواد الذرة.»

قال دين، كما لو لم يكن قد سمع ذلك: «وكنت تضحكين.»

قالت فيوليت، مومئة برأسها عدة مرات ومحاولةً أن تكون صبورة: «نعم … نعم. كنا نضحك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤