الفصل السابع

الكميَّات في عقول الحيوانات

بدأ علماءُ الحيوان مؤخرًا في سَبْر أغوار ذكاء الأنواع الأخرى بطرُقٍ جديدة؛ ففي المُختبَرات والمواقع الميدانية حول العالم، يوضِّح الباحثون أنَّ الرئيسات وغيرَها العديد من أنواع الحيوانات أكثرُ ذكاءً مما قد نتوقَّع، أو أكثرُ ذكاءً مما كنَّا نعتقد على الأقل. وسنُقدِّم مثالًا على إحدى المهام الإدراكية المعقَّدة التي كانت تُستخدَم لاختبار ذكاء الرئيسات، وهي مهمَّة نفَّذها العلماء في معهد ماكس بلانك لعِلم الإنسان التطوُّري، في مدينة لايبزيج في ألمانيا. في هذه المهمَّة، يُوضَع أحد قِرَدة الشمبانزي في غرفةٍ بها أسطوانة شفَّافة مصنوعة من مادة البلكسيجلاس، مُثبَّتة في أحد الجدران. وهذه الأسطوانة ضيِّقة وعميقة إلى حدٍّ ما (عرضها ٥ سنتيمترات، وطولها ٢٦ سنتيمترًا)؛ مما يَجعل من المُستحيل أن تَصِل أصابعُ الشمبانزي إلى قاعها. وفي قاع هذه الأسطوانة، يضَع أحدُ الباحثين حبَّةً من الفول السوداني، وقِرَدةُ الشمبانزي تُحِب الفول السوداني؛ ومن ثمَّ فإنَّ الشمبانزي يَرغَب في أكل حَبَّة الفول السوداني، لكنه مع الأسف الشديد لا يستطيع أن يفعل ذلك. بالرغم من ذلك، فمن حُسْن الحظ أنه يوجَد حلٌّ لهذا السيناريو، وإن لم يكن واضحًا في البداية. على بُعد مترٍ من الأسطوانة، يوجَد إناء مياه يمكن للشمبانزي أن يشرَب منه. هذا الإناء لا يمكن تحريكه، وكذلك هي الأسطوانة. فما الذي سيفعله شمبانزي جائع؟ إنه يرغب في حبَّة الفول السوداني لكنه لا يَستطيع استخدام يدَيه، وليس لدَيه أداة طويلة صُلبة لكي يُحاول أن يَغرسها في حبَّة الفول. (يَشتهِر الشمبانزي في البرِّية بمَقدِرته على استخدام أدوات الطعن؛ فهم يَستخدمونها في قتل صغار الجلاجو على سبيل المثال من أجل الحصول على مقدارٍ ضئيل من البروتين.) وبالرغم من ذلك، فإنَّ ما يمتلكه الشمبانزي هو أداة سائلة؛ إنها المياه التي يستطيع أن يشرَبَها. حين يوضَع أطفال البشر في مثل هذا الموقف، فإنَّ العديد منهم يواجهون صعوبةً في التوصُّل إلى حل. والواقع أنَّ الأطفال الذين تُقدَّم إليهم هذه المهمة وهم في سنِّ الرابعة يَفشلون في مُعظم الأحوال تقريبًا، ولا ينجح الأطفال في أداء هذه المهمة بانتظامٍ نِسبي إلا في سنِّ الثامنة. والحلُّ بالطبع هو نقل المياه من الإناء إلى الأسطوانة حتى تَطفُوَ حبَّة الفول السوداني، وترتفع إلى مكانٍ يمكن الوصول إليه بالأسطوانة. وتستطيع نِسبةٌ جيدة من قردة الشمبانزي (الخُمس تقريبًا) أن تُدرِكَ أنَّ عليها استخدامَ أفواهها لكي تطفوَ حبَّةُ الفول السوداني إلى السطح؛ ولهذا فهم يَبصُقون المياه على حبة الفول السوداني، بمقدار شَرْبَةٍ في كلِّ مرة. وبعضها يتمتَّع بالقدْر الكافي من المُثابرة الذي يجعل حبَّة الفول تطفو في مكانٍ عالٍ بالأسطوانة، فيستطيعون الوصول إليها بأيديهم. لقد نجَحوا في المهمَّة!1

إنَّ هذه المهمَّة هي واحدة فقط من المهامِّ التي تُشير إلى مدى البراعة الإدراكية التي تتَّضِح لدى أقرب إخوةٍ لنا من الناحية الوراثية، ويوجَد الكثير غيرها؛ فالأبحاث التي تُجرى على الحيوانات قريبةِ الصِّلة منَّا، والعديدِ من الحيوانات غيرِ قريبة الصِّلة، تَزيد باستمرارٍ من فَهمِنا للقُدرة الإدراكية لتلك الحيوانات؛ فمِن قِرَدة الشمبانزي إلى غِربان كاليدونيا الجديدة إلى الحيتان، قد أطاحَتْ سلسلةٌ من الاكتشافات في العقود الماضية الأخيرة بالعديد من الجُدران الإدراكية التي كنَّا نظنُّ أنها تقِف بين نوع «الإنسان العاقل» وغيره من الأنواع. وغالبًا ما يكشف هذا البحثُ النِّقابَ عن بعض القُدرات الذهنية الأساسية التي تتَّضِح في التجرِبة التي وصفناها للتو: الحيوانات الأخرى قادرة على التخطيط. وهي قادرة على استخدام الأدوات، والتفكير في حلِّ العديد من المشكلات الحديثة بطرُقٍ كنَّا نظنُّ من قبلُ أنها مُستحيلة.

وقد اتَّضح أنَّ بعض هذه المشكلات ذات طبيعةٍ حِسابية. وفي هذا الفصل سوف ننظُر في بعض القدرات الكمية التي تمتلِكها بعض الحيوانات الأخرى، مع تناوُل بعض الأعمال التجريبية التي اكتَشفَت هذه القدرات. إننا نُخصِّص القدر الأكبر من انتباهنا للأبحاث التي تُجرى على قِرَدة الشمبانزي وغيرها من الرئيسات؛ إذ إنَّ هذه الأنواع هي الأكثرُ ارتباطًا إذا كنَّا نرغَب في أن نحظى بفَهمٍ أفضلَ للكيفية التي تطوَّرَت بها أشكالُ التفكير الكمِّي الفريدة التي يتميَّز بها البشَر. بالرغم من ذلك، فثمة تنبيهان يجدُر بنا أن نذكرهما منذ البداية؛ أولهما هو أنَّ تلك الأبحاث التي تُجرى على الإدراك لدى الحيوانات، بما في ذلك الإدراك العدَدي، تتوسَّع باستمرار. إنَّ تاريخ هذه الدراسة حافل بالمُراجعات؛ إذ يَكتشِف الباحثون قطعًا مهاراتٍ إدراكيةً جديدة في عقول الحيوانات، والأرجَحُ أنَّ هذا الوضْع سوف يَستمرُّ أيضًا في السنوات القادمة. وأما التنبيه الثاني، فهو أنه عند النظر في هذه الأبحاث، يجِب علينا أن نُراعيَ ألا نكون شَديدي التركيز على النوع البشَري، أو شديدي التشبيه بالصِّفات البشرية، عند تأويل النتائج. إنَّ هذه النقطة التي نتناولها تتطلَّب التوسُّع؛ إذ إنها أساسية في مجال عِلم الإنسان وعلم الرئيسات، وغيرها من المجالات المُرتبطة. والنقطة الأساسية هنا أنه يجِب علينا أن ندَع البيانات تتحدَّث، ونحاول أن نَمنع تحيُّزاتِنا الطبيعيةَ من تحديد تأويلاتنا للبيانات وما قد تُخبِرنا به عن طريقةِ تفكير الحيوانات وسلوكها. إننا نَميل إلى افتراض أنَّ إدراك الحيوانات ليس له علاقة بالأبحاث التي تُجرى بشأن البشر؛ ذلك أنَّ البشر بالطبع حيواناتٌ من نوعٍ مُميَّز لهم عقولٌ تختلف تمامًا عن عقول الحيوانات، أو ربما تَجري فيهم روحٌ أثيريَّة. ويمكن أن نُطلِق على هذا المنظور أنه بشري التمركُز. ووفقًا لميُول المرء الدينية أو الفكرية النظرية، يمكن أن تكون هذه المكانة التي يحتلها الإنسان في هذا المنظور أمرًا جذَّابًا للغاية. بالرغم من ذلك، فمن منظورٍ يَستنِد إلى التجريبية، فإنَّ الأدلَّة وحدَها هي التي يجِب أن تُوجِّه آراءنا بشأن التفكير لدى الحيوانات. بدلًا من افتراض أنَّ الحيوانات تفتقِر إلى مهاراتٍ إدراكية محدَّدة، مهارات قد يكون من الصعب اكتشافها نظرًا لصعوبة التواصُل بين الأنواع المختلفة بعضها عن بعض، يجِب علينا أن نَستبعد وجودَ مثل هذه المهارات بعنايةٍ شديدة.

وعلى العكس من ذلك، فالعديد من الأشخاص يُبْدُون مَيلًا تلقائيًّا إلى تبنِّي وجهة النظر المُتمثِّلة في التشبيه بالإنسان، وهي رؤية تَفترِض مُسبقًا أنَّ الحيوانات الأخرى تتمتَّع بأفكارٍ وعواطف تُشبه الأفكار والعواطف البشَرية، ذلك أنَّ البشَر هم «مجرَّد نوع آخر من الحيوانات.» بالرغم من ذلك، فثَمة أسبابٌ وَجيهة تدعو إلى الارتِياب في أنَّ الحالة الثانية ليست هي الصحيحة، ويجِب علينا أن نَحرِص على ألا نُسقِط السِّماتِ البشريةَ على أفكار الحيوانات وسلوكياتهم، حين تكون البياناتُ مُلتبِسة. في تَفاعلاتي المُتكررة مع طلبة الجامعة، أجد أنَّ الموقف الأخير هو السائد في مُعظم الحالات، ويعود ذلك جزئيًّا إلى التجارِب التي تُجرى على الحيوانات الأليفة وغيرها من الحيوانات، التي غالبًا ما يشعُر الأفراد برابطةٍ حميميَّة معها. إنَّ تصفُّح موقع فيسبوك أو ريديت أو غيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهِر لنا دائمًا مقاطعَ فيديو أو حكاياتٍ عن حيوانات أليفة تُعبِّر ظاهريًّا عن «حُبِّها» لأصحابها أو «صداقتها» معهم. وبالرغم من أنَّ تكوين الحيوانات لعلاقاتٍ مع البشَر هو أمر لا جدال فيه (يقترح بعض العُلماء في مجال علم الإنسان أنَّ العلاقات بين البشر والحيوانات كانت أساسيةً في تطوُّر الثقافة)، فإنه يظلُّ من الصَّعب أن نُقرِّر ما يدور فعليًّا في عقول الأنواع الأخرى. فعلى سبيل المثال، ما مقدار ما يَصدُر عنها من سلوكياتٍ بسبب «مشاعِرِها» نحوَنا، أو نحو بعضها بعضًا، ومقدار ما يَصدُر عنها بسبب العلاقات المتوقَّعة بين المُحفز والاستجابة؟ وحين تُفكر الحيوانات وتُعبِّر عن مشاعرها، هل تفعل ذلك بطريقةٍ تسمح لنا نحن — أفرادَ النوع الذي استفاد من الأدمغة الأكبر حجمًا، وكذلك الثقافة واللغة — بإدراك هذه الأفكار والمشاعر، على أنها تُشبِه أفكارنا ومشاعرنا بأيِّ شكلٍ من الأشكال؟ إنَّ الإجاباتِ المُناسبةَ عن مثل هذه الأسئلة يصعُب التوصُّل إليها، بالرغم من أيِّ تخميناتٍ حَدْسية قد نطرَحُها. وبالرغم من أنه قد يكون لدَينا ميلٌ شخصي قوي تجاه وجهة النظر البشريةِ التمركُز، أو وجهةِ النظر المُتمثِّلة في تشبيه الحيوانات بالصِّفات البشرية، فإنَّ هذا المَيل قد تأسَّس على الأرجح بِناءً على خِبراتنا السَّردية. وفي نهاية المطاف، يكون تأويل الخبرات الشخصية أساسًا غيرَ مُرْضٍ للاستنتاجات ذات الطبيعة العِلمية، والدليل على ذلك أنَّ التخمينات الحَدسيَّة الشخصية بشأن مثل هذه الموضوعات يمكن أن تختلف بدرجةٍ كبيرة. بعبارةٍ أخرى: التخمينات الحدْسية بشأن الإدراك لدى الأنواع الأخرى، تُخبِر عنَّا أكثر مما تُخبِر عنها.2
في سياق التفكير العددي لدى الحيوانات، نجد قصةً يُستشهد بها كثيرًا، غير أنها لا تزال قصةً تحذيرية مُهمَّة، وهي قصة هانز الذكي. وقد كان هانز الذكي حصانًا جميلًا من سلالة أورلوف تروتر. وكان صاحِب هذا الحصان رجلًا ألمانيًّا يُدعى فيلهلم فون أوستن، ويبدو أنه كانت له مجموعةٌ من الاهتمامات الاصطفائية، وكان منها تدريس الرياضيات لهانز، وممارسة الفِراسة، التي قد أصبحَتِ الآن مجالًا بائدًا من الدراسة، كان مُختصًّا بدراسة الجماجم البشرية في محاولةٍ لاستكشاف القوالب الأساسية للدماغ، التي يُفترَض أنها مُخصَّصة لمهاراتٍ عقلية مُحدَّدة. وكان من اهتماماته في العَقد الأول من القرن العشرين أن يُوضِّح للجمهور أنَّ هانز قادِر على أداء مجموعةٍ متنوِّعةٍ من المهام الإدراكية المُعقَّدة، كان من بينها قراءةُ بعض الكلمات الألمانية وتهجِّيها، وكذلك فَهْم التقويم وإيجاد الحلول لجميع المسائل الرياضية. وفي مثل هذه المهام، كان هانز يُوضِّح كفاءته في المهارات العقلية ذات الصِّلة من خلال النقْر بحافِره على الأرض لعددٍ مُعيَّن من المرَّات. فعلى سبيل المثال، إذا طلَب فون أوستن من هانز أن يطرح ٨ من ١٢، كان هانز سيَضرب بحافره على الأرض لأربع مرَّات. والواقع أنَّ العديد من المسائل الرياضية التي كان يبدو أنَّ هانز يَحُلُّها، كانت أعقدَ من ذلك بكثير، وقد أبهر الحشود في ألمانيا بقُدرته على الإجابة عن مُعظم الأسئلة بشكلٍ صحيح. لقد أصبح شخصيةً مشهورة بشكلٍ ما، وذاع نبَؤه في بعض المنشورات التي تَصدُر بعيدًا مثل صحيفة «نيويورك تايمز».3

والآن، فمِثلما قد خمَّنتُ على الأرجح، لم يكن هانز قادرًا بالفعل على أداء العمليات الحسابية، ولا هو كان قادرًا على فَهْم اللغة الألمانية؛ ولهذا فقد يتساءل المرء: كيف تسنَّى لفون أوستن أن يَخدع الجمهور من خلال التلميح لهانز بطرُقٍ لا يَكتشِفها الجمهور؟ حسَنًا، هنا تأخُذ القصَّة مُنحنًى غير متوقَّع؛ فون أوستن لم يكن يخدع جمهوره (ولا حتى كان يتقاضى منهم أيَّ مال). والحقُّ أنه حين كان يُسمَح لأشخاصٍ آخرين بأن يَطرحوا على هانز الأسئلة، لم يكن أداء الحصان يتراجَع تراجُعًا كبيرًا. وحتى حين كان هؤلاء الأشخاص لا يَعرِفون هانز ولا فون أوستن، كان يبدو أن هانز يَفهم أسئلتهم ويستطيع أن يُجيب عنها إجاباتٍ صحيحة في معظم الأحوال. يظهر في المشهد أوسكار بفونجست، وهو عالم نفس ألماني كان أقلَّ إعجابًا بكثيرٍ من هذه الحشود المُنبهِرة بالعرْض الفرَسي، كان بفونجست واثقًا من وجود شيءٍ مُحيِّر في هذا الأمر، ثَمَّة عامل مُتغيِّر آخر كان يُمكِّن هانز من التعبير عن الإجابة الصحيحة عن طريق النقْر بحافره على الأرض. ومن خلال مجموعةٍ من التجارِب، أثبَتَ بفونجست أنَّ هانز ليس بارعًا في حقيقة الأمر في الرياضيَّات؛ فحين كان هانز لا يستطيع رؤية الشخص الذي يطرَح عليه السؤال، كان نقرُه على الأرض يتراجَع إلى إجاباتٍ عشوائية. علاوةً على ذلك، وهذه نقطة مُهمَّة، حين كان هانز يستطيع رؤية الشخص الذي يسأله، لكنَّ هذا الشخص نفسه لا يعرِف إجابة السؤال، كان أداء هانز يتراجَع كذلك.

يُمكننا أن نَستخلص نتيجتَين على الأقل من هذه القصة التحذيرية؛ أولًا: بالرغم من أنَّ الحيوانات مثل هانز قد لا يَكونون بارِعين في الرياضيات أو القراءة، فهُم أفضل مما قد نَعتقِد بكثيرٍ في تمييز المعلومات البصَرية التي يُقدِّمها لهم البشَر. بالرغم من أنَّ السائلين لم يكونوا يتعمَّدون الكشْف عن الإجابة لهانز، فقد كانوا يُقدِّمون له بعض التلميحات البصَرية الخفيَّة، التي أفادت أداءه. وقد أوضح الفحصُ الدقيق أنَّ رءوسهم كانت تتحرَّك قليلًا حين كانت سلسلة النقرات التي يُصدِرها هانز تَقترِب من الإجابة الصحيحة. وبطريقةٍ ما، كان هانز يُلاحِظ هذا التلميح غير المُتعمَّد في التواصُل. ثانيًا: يجِب علينا أن نكون واعِين بالنزعة لتشبيه الحيوانات الخاضعة للتجارب، ببعض الصفات البشرية؛ ففي حالة فون أوستن على سبيل المثال، قد واصل اصطحابه في جولاتٍ بعد دراسة بفونجست للحيوان، وظلَّ غيرَ مُقتنِع بالنتائج التي توصَّل إليها عالم النفس. لقد فقد فون أوستن حِسَّه الموضوعي، ويبدو أنَّ ذلك لأنه أسقط بعض السِّمات البشرية على هانز، وربما يعود ذلك جزئيًّا إلى الرابطة التي نمَتْ بينهما.

لا تزال قصَّة تأثير هانز الذكي تُتداوَل اليوم بسبب دروسها الأساسية، والتي لا تزال تَنطبق على الوضع في الوقت الحالي، بقدْر ما كانت تنطبق قبلَ أكثرَ من قرن. ولتتأمَّلْ قصة الغوريلا كوكو، التي كان يُزعَم أنها تَستطيع أن تتحدَّث «لغة إشارة الغوريلا»؛ ومِن ثمَّ التواصُل مع البشَر. وهذا أيضًا قد جعَل من كوكو شخصيةً شهيرة بعض الشيء، وقد تفاعلَتْ مع ويليام شانتر، وروبِن ويليامز، والسيد روجَرز، والعديد غيرهم من الشخصيات المشهورة. بالرغم من ذلك، فقد ظهرَت على مدار السنوات العديدُ من الانتقادات التي وُجِّهت للبحث الذي قامت به فرانسين باتِرسون، نظرًا إلى الرابطة القوية التي تَجمع بين فرانسين وكوكو. وقد أوضحَت هذه الانتقاداتُ بشكلٍ مُقنِع أنَّه من الصَّعب أن نَستنتِج من تفاعُلات باترسون مع كوكو، نطاق المهارات الإدراكية والتواصُلية لدى قِرَدة الغوريلا؛ فحين تنشأ بين الحيوانات ومُدرِّبيهم علاقاتٌ اجتماعية قوية، فإنَّ المدرِّبين لا يَحتفظون بالموضوعية التامَّة في معظم الأحوال، وقد يَميلون إلى إنتاج تأويلاتٍ تتَّسِم بإضفاء سِماتٍ بشَرية على الحيوانات.

وتفسير تأثير هانز الذكي أيضًا ليس أمرًا مباشرًا مثلما قد يَبدو ذلك؛ فقد يَقترح أحدُهم على سبيل المثال ألا يَحضُر المدرِّبون عند إجراء التجارِب، أو استخدام التجارِب مزدوجة التعمية فقط. إنَّ تنفيذ هذه الاقتراحات ليس بالأمر السهل، بل ربما يكون مُستحيلًا في معظم الحالات؛ ففي مُعظم الأحيان، تَستلزِم التجارِب أن تُطيع الحيواناتُ تعليماتِ المُدرِّبين الذين يَثِقون بهم، وتَجمعهم معًا رابطةٌ اجتماعية خارج سياقات المُختبَر. وإبعاد المدرِّبين عن مثل هذه السياقات يمكن أن يُؤدِّيَ بسرعةٍ إلى فشَل المشروع بأكمله.

إضافةً إلى مثل هذه المخاوف، فالأنواع غيرُ البشرية لا تمتلك مهاراتِ التواصُل اللغوية بالطبع؛ ومِن ثمَّ فإنَّ ما ناقَشْناه في الفصل السادس من تحدِّياتٍ منهجية تتعلق بالدراسات على الأطفال الذين لم يَكتسِبوا مهارة اللغة بعد، تنطبق أيضًا على الحيوانات. فبطريقةٍ ما، مِن المُدهش أننا نعرِف أيَّ شيءٍ على الإطلاق عن الإدراك الرياضي لدى الحيوانات. وليس من المُفاجئ أنَّ بعض الخلافات بشأن نطاق الإدراك العدَدي لدَيهم لا تزال قائمةً حتى اليوم. على أي حال، فبالرَّغم من هذه الخلافات المُستمرَّة، ومجموعة التحدِّيات المنهجية المُرتبطة بمثل هذا العمل، فقد بدأنا في فَهم القدرات العددية لدى العديد من الأنواع، إضافةً إلى البشر. وبالرغم من أنَّ الحيوانات قد تكون غير قادرة على حلِّ المسائل الرياضية مثل تلك التي كانت تُطرَح على هانز الذكي، فقد اتَّضَح أنَّ إدراكها العدديَّ لا يَختلف كثيرًا عن الإدراك العدَدي لدى أطفال البشَر.

الإدراك العددي لدى غير الرئيسات

تَظهَر مُطابقة الكميات في سلوك الحيوانات بطرُق غير متوقَّعة وبشكلٍ دائم. فلتتأمَّل ما يلي: في عام ١٨٣١، نقل تُجَّار الفِرَاء في أونتاريو أنَّ جماعة أوجيبواي من السكان الأصليِّين، كانت تواجِه نقصًا حادًّا في الغذاء والفراء؛ لأنَّ أحد فرائسهم الأساسية، وهو أرنبُ حذاء الثلوج البري، قد بدا أنه يَختفي. وليس مصادفةً أنَّ تُجَّار الفِراء في شركة هدسون باي، قد أذاعوا وجود نقصٍ مُماثِل في حيوانات الوشَق الثمينة للغاية بسبب فرائها الناعم. ولأنَّ حيوانات الوَشَق هي أيضًا تتغذَّى على الأرانب البرِّية؛ يبدو أنَّ نقص النوع الأخير قد ساهَم في نقص عدد النوع الأول. وتوضِّح سجلات شركة هدسون باي، التي يعود تاريخها إلى سبعينيَّات القرن السابع عشر، أنَّ هذا النقص في أعداد حيوانات الوشَق والنقص في الأرانب البرِّية قد تزامَن حدوثُهما معًا على فترات منتظِمة تبلُغ عشر سنوات. والآن، تَقترح دراساتٌ واسعةُ النطاق أنَّ هذا النقص المُنتظِم في عدد أفراد النوعَين، يعود إلى أنماطٍ يمكن التنبُّؤ بها تتعلَّق بالزيادة الفائضة في عدد الأفراد. فحين تصِل بيئةٌ محلية إلى درجة التشبُّع ولا يمكنها الاحتفاظُ بعددٍ أكبرَ من الأرانب البرِّية بسبب تناسُلها الخارج عن السيطرة، فإنَّ ذلك يُمكِن أن يُشكِّل ضغطًا على الموارد الغذائية؛ ومِن ثَمَّ حدوث انخفاضٍ بارز في معدَّلات تناسُل الأرانب البرية. وهذا الانخفاض يكون له تأثيرٌ غير مباشر على أنواعٍ أخرى كالوشَق، على فتراتٍ زمنية منتظمة إلى حدٍّ ما تبلغ عشر سنوات.4
أو يُمكننا أن نتأمَّل مثالَ حشرات الزيزيات، وهي عائلة من الحشرات لها ما يَزيد على ٢٠٠٠ نوع، ومنها جنس الزيزيات الدورية، الذي يَقضي الجزءَ الأكبر من دورة حياته تحت الأرض يتغذَّى فيه على جذور الأشجار، ولا تخرُج هذه الحشراتُ من تحت الأرض إلَّا لكي تتكاثَر بأعدادٍ كبيرة للغاية. وبعد شهرَين تقريبًا، وهي الفترة التي تتزاوَج فيها هذه الحشرات وتضَع البيض للجيل التالي، تَختفي الزيزيات البالِغة مرة أخرى. ووَفقًا لما يقوله السكان، فإنَّ الزيزياتِ البالغةَ لا تَظهر مرةً أخرى إلا بعد ١٣ أو ١٧ عامًا. وهذه الدورة طويلة للغاية ومُنتظمة للغاية، فكأنَّ هذه الحشرات تَعُدُّ السنواتِ إلى أن يَحين موعدُ ظهورها من جديد، غير أنَّ الأمر ليس كذلك بالطبع. وما يبدو أنه قد حدث هو أنَّ الطبيعة قد انتقَت لصالِح الزيزيات دورة الظهور تلك؛ فمعظم الحيوانات التي تتغذَّى على الزيزيات، تكون دورة التكاثر لديها من سنتَين إلى ١٠ سنوات. تخيَّل لو أنَّ الزيزيات تظهر كل ١٢ عامًا على سبيل المثال، عندها كانت ستُصبح فريسةً أسهل لجميع الأنواع المُفترسة التي تأتي دورةُ تكاثُرها كلَّ عامَين أو ثلاثة أعوام أو أربعة أعوام أو ستة أعوام؛ إذ إنَّ العدد ١٢ يَقبل القسمة على ٢ و٣ و٤ و٦؛ ومن ثمَّ يُمكننا أن نتوقَّع أنَّ الزيزيات إذا تبعَت دورة تكاثر كل ١٢ عامًا، سوف تواجه تحدياتٍ أعظمَ في التكاثُر. على العكس من ذلك، فإنَّ الزيزيات عندما تتبع دوراتِ تكاثُرٍ أطول، وتتكرَّر على فتراتٍ زمنية منتظِمة مثل ١٣ عامًا أو ١٧ عامًا، ستواجِه تحدِّياتٍ أقلَّ من الأنواع الأخرى؛ فهذان العددان من الأعداد الأولية ولا تَسهُل قسمتُهما مثل العدد ١٢ على سبيل المثال. إنَّ الضغوطات البيئية قد انتقَت لصالح الزيزيات دوراتِ تَكاثُر من الأعداد الأولية، ولِغَير صالح الحشرات التي تتبع دورات تكاثُرٍ من أعداد تقبل قِسمتها بشكلٍ مُتساوٍ.5
إن مِثاليَّ أرانب حذاء الثلوج البرِّية والزيزيات، يُوضِّحان أنَّ الكميات المُنتظمة تظهر في سلوك الأنواع غير البشرية، ومنها الحشرات. غير أنهما يوضِّحان أيضًا أنَّ ظهور هذه الكميات المنتظِمة، لا يَستلزِم أن تتمتَّع الحيوانات الأخرى بقدرات الإدراك العددي. وفي العديد من الحالات يُمكِننا أن نفترض أنها لا تتمتَّع بها، وذلك على سبيل المثال، بسبب المحدودية المُتأصِّلة في الأنظمة العصبية للحشرات. على سبيل المثال، نحن نعرِف أنَّ بعض أنواع النمل لدَيها القدرة على التمييز الميكانيكي لعدد الخطوات التي قطعَتْها لكي تصِل إلى مكانٍ محدَّد، لكنَّ ذلك الإدراك لا يُشير بشكلٍ مؤكَّد إلى أنَّ النمل يستطيع استيعاب الكميات.6
بالرغم من ذلك، فحين يمتدُّ نقاشُنا لكي يشمل كائناتٍ أكثر تعقيدًا مثل السمادل وأنواع مُتعدِّدة من الأسماك، فإننا نجد أنَّ العديد من الأنواع التي تقع على أغصانٍ بعيدة من شجرة الحياة تتمتَّع بقدراتٍ إدراكية لتمييز الفرْق بين الكميات الكبيرة والصغيرة. غير أنه لا يتَّضِح لنا في مثل هذه الحالات ما إذا كانت هذه القدرات الظاهرية في تقدير الكميات، تعود إلى بعض العوامل غير المُحدَّدة مثل الحجم الكبير أو الكثافة أو الحركة المرتبطة بالكميات الكبيرة. فلننظُر في حالة السَّمادِل؛ في إحدى الدراسات، خيَّر الباحثون السمادل بين أنبوبَين مملوءَين بوجبةٍ شهية، وهي ذُباب الفاكهة، وبين ثلاثة أنابيب مملوءة أيضًا بها، وتلقائيًّا، اختارت السمادل الاختيار الذي يَحتوي على عددٍ أكبر من ذُباب الفاكهة. بالرغم من ذلك، في دراسة أخرى، اكتشف الباحثون أنَّ اختيار السمادل لوجبةٍ شهية أخرى، وهي الصراصير الحية، كان يتوقَّف على كمية الحركة التي تقوم بها الحشرات التي يرَونها. وعند الحدِّ من هذه الحركة، بدا أنَّ اختيار السمادل لكمية الصراصير التي يرَونها، كان عشوائيًّا، أي إنَّ السمادل تُميِّز الكمية المُتواصلة لشيءٍ ما (الحركة الكلية) حين تقوم بمثل هذه الاختيارات، لكنها لا تُميز الكميات الفردية، مثل ٢ و٣ وما إلى ذلك. لقد أوضحَت الكثير من الدراسات التي أُجرِيَت في البرِّية أنَّ أنواعًا كثيرة يمكن أن تُكوِّن انطباعاتٍ عن الكمية الأكبر من شيءٍ ما، غير أنَّ الدراسات التي تُجرَى خارج المختبَرات لا تستطيع التحكُّم في مُتغيراتٍ هي ضرورية لِفَهم مقدار ما يعود من قدرة الحيوانات على إدراك كميات الحيوانات الأخرى، إلى القدرة على التمييز بين الأكثر أو الأقل من «الأشياء»، أو الحركة المُستمرَّة، مقارنةً بقدرة الحيوانات على التمييز بين الكميات على نحوٍ منفصل.7
إنَّ الفئران، التي لا نَنظُر إليها عادةً على أنها أحد أنواع الثدييات القريبة لنوعِنا، تَشترك في جزءٍ كبير مع السلالة البشرية، وهي قادرة على تمييز الكميات. لقد ثبَت هذا الأمر منذ أكثرَ من أربعة عقود الآن؛ ففي دراسةٍ أُجرِيَت عام ١٩٧١، اكتشف الباحثون أنَّه يمكن تدريب الفئران على الأعداد التقريبية؛ فالفئران التي كانت تتلقَّى مكافأة على الضغط على ذراع رفع لعددٍ مُحدَّد من المرات، كانت تَقترب من بلوغ هذا العدد بعد التمرين. فعلى سبيل المثال، عند مكافأة أحد الفئران بعد الضغط على ذراع الرفع لخمس مرات، وكانت تتوفَّر أمامه الفرصةُ لدفع الذراع بعد ذلك، فإنه كان يدفعه لخمس مرَّات تقريبًا. وكلمة «تقريبًا» هنا أساسية للغاية؛ فالفئران لا تتذكَّر أنه يجِب عليها دفع الذراع لخمس مراتٍ على وجه التحديد، لكنها تستطيع أن تتذكَّر أنه يجب عليها دفع الذراع حوالي خمس مرات. وفي مثل هذه الحالات، فسوف يكونون أقربَ إلى دفع الذراع خمس مراتٍ من دفعه ثمانيَ مرات، على سبيل المثال. بالرغم من ذلك، فإنَّ نِطاق الأخطاء في عدد المرات التي يرفع فيها الفئران الذراع، يَزداد مع زيادة الكمية المُستهدَفة. وبالرغم من أنَّ استجابات الفئران في دراسة عام ١٩٧١، كانت فوضوية، فقد كانت تتوزَّع بصورةٍ طبيعية حول الكمية التي دُرِّبوا عليها. وهذه الاستجابات ذات الصوت المُزعِج، والصحيحة في معظم الأحيان، تُشير إلى أنَّ الفئران كغيرها من العديد من الأنواع الأخرى، وكالبشر الذين لا يَعرفون الأعداد؛ غير قادرة على التمييز بدقَّة بين الكميات؛ غير أنها قادرة على تحديد الكميات بصورةٍ تقريبية، وحقيقة أنَّ هذا النوع من الثدييات بعيدة الصِّلة بالبشر، يستطيع تمييز الكميات بصورةٍ تقريبية، تقترح أنَّ الحاسَّة العددية التقريبية لدى البشَر كانت موجودة في سلَفِنا المشترك مع الفئران. وقد كان ذلك النوع موجودًا قبل ستِّين مليون عام على الأقل.8

بعض الأنواع الأبعد صِلةً بالبشَر تتشارك معهم أيضًا في القُدرة على تحديد الكميات بصورةٍ تقريبية، غير أنه ليس من الواضح في مثل هذه الحالات أنَّ ذلك يعود إلى وراثتنا المشتركة للقدرات العددية الفطرية. ومعنى هذا أنَّ الحيوانات الأخرى تتمتَّع بمهاراتٍ إدراكية «مُماثلة» لا مهارات إدراكية «مُتَنادِدة». والسِّمات المُماثلة هي سِمات مُشابِهة توجَد على مستوى النوع؛ إذ تطوَّرَت بشكلٍ مستقلٍّ للتغلُّب على تحدِّياتٍ بيئية متشابهة. وعلى العكس من ذلك، فالسِّمات المُتَنادِدة تُشير للخصائص التي تُوجَد في العديد من الأنواع لوجود أسلافٍ مشتركة بينها؛ على سبيل المثال، الأرجل الأربعة لدى الأسود والدِّبَبة سمةٌ مُتنادِدة، أما أجنحة الفراشات، والوطاويط، والطيور، فهي سِمات مُماثلة.

بعض أنواع الطيور التي لا تَجمعها بالبشر إلا صِلة بعيدة، تتمتَّع بالقدرة على تقدير الكميات، غير أنه ليس من المؤكد مقدارُ ما يعود من هذه القدرة إلى العناصر الإدراكية المُتنادِدة أو المُماثلة، مقارنةً بالبشر. ثَمَّة قصص وأساطيرُ عن طيورٍ تستطيع العدَّ بصورةٍ دقيقة، لكن من الصعب أن نُلغيَ تأثير العناصر المُلفَّقة في مثل هذه الحكايات. علاوةً على ذلك، فالعديد من البشر الذين يَمتلكون طيورًا أليفة، مُقتنِعون بأنَّ هذه الطيور (أو غيرها من الحيوانات الأليفة على أي حال) تتمتَّع بقدراتٍ رياضية. غير أنَّ هذه الحكاياتِ القصصيةَ لا تَدخل في نطاق نقاشنا هنا؛ وذلك بسبب عواملَ كتأثير هانز الذكي، ونزعتنا إلى إسقاط السِّمات البشرية على الحالة العاطفية والحالة الإدراكية لحيواناتنا الأليفة، دون سببٍ مُقنِع. بالرغم من ذلك، ومع تنحِية مثل هذه الحكايات جانبًا، فإنَّ لدَينا أدلةً تجريبية قوية توضِّح أنَّ العديد من غير الرئيسات، ومنها الطيور والفئران، تستطيع تحديد الكميات على نحوٍ تقريبي. غير أنه حتى في التجارِب التي تُجرَى على حيواناتٍ ذكية نسبيًّا (مقارنةً بالسمادل على سبيل المثال)، فمن الصَّعب أن نَضبط جميع العوامل المُتغيِّرة لكي نَضمن أنَّ مهارة التقريب التي نَكشف عنها لها طبيعةٌ كمية بالفعل.

فلننظُر في هذا المثال؛ حين قدَّم الباحثون إلى إناث الأسد في مُتنزَّه سيرينجيتي تسجيلًا صوتيًّا لأنثى أسدٍ أخرى تَزأر، اقتربَت الإناث في الغالب من مصدر الصوت لكي تَدْرأ الدخيلةَ المُزيَّفة. وعلى العكس من ذلك، حين سمعَت إناثُ الأسد تسجيلًا لثلاثٍ من إناث الأسد، لم تكن تقترِب من مصدر الصوت في معظم الأحوال؛ فهل تستطيع إناثُ الأسد عدَّ مصادر الزئير الذي تسمعه؟ ربما، ولكن من الصعب التأكُّد من مثل هذه المهمة؛ ربما كانت تُحدِّد فقط السَّعة العامة للزئير، ربما لدَيها علاقة غامضة بين مقدار الزئير ومقدار الخطر، بدون التمييز بين كمية أيٍّ من المُتغيرَين بمصطلحاتٍ عددية مجرَّدة. وبصرْف النظر عن التفاصيل، فإنَّ القدراتِ الإدراكيةَ الحِسِّية لدى إناث الأسد، تُفيدهم في زيادة فُرَص البقاء؛ إذ تُجنِّبهم المخاطرَ غير الضرورية، وهي تُشير إلى أنَّ إناث الأسود تستطيع تمييز عدد الأسود الأخرى التي تُصدِر ما تسمَعُه من زئير. وفي سياقٍ مُماثل، فمن المعروف أنَّ الحمام يستطيع دائمًا أن يختار الكمية الأكبر من الغذاء دون تدريب. وهذا الانحياز في الاختيار أيضًا، يُضْفي مزايا واضحةً على فرَص بقاء الحيوان وتكاثُره؛ فتجنُّب الخطر أو اختيارُ غذاء يحتوي على عددٍ أكبرَ من السعرات الحرارية، أو تقدير الكميات، كل ذلك يُساعد الحيواناتِ على التفوُّق في بيئاتها المُختلفة.9
ما يبدو واضحًا من هذه النتائج وغيرها، هو أنَّ العديد من الأنواع تستطيع التمييز بين الكميات بشكلٍ تقريبي. غير أنَّ هذه النتائج تُشير أيضًا إلى أنَّ تمييز الكميات يَعتمد في بعض الأحيان على الإدراك التقريبي لبعض العوامل المُستمرَّة (أي إنَّ بعض الاختيارات في المواقف التجريبية وغير التجريبية، يَعكس تفضيلًا «للكمية» الأكبر من عنصرٍ ما). ومثلما أشار عالِم الإدراك كريستيان أجريلو مؤخَّرًا إلى أنَّ «العددية تتغيَّر تغيُّرًا مُصاحبًا لبعض السمات المادية الأخرى (وهي المساحة التراكمية للسطح أو السطوع أو الكثافة أو المساحة الإجمالية التي تَشغَلها المجموعات)، ويمكن للكائنات استخدامُ الحجم النِّسبي للمُتغيرات المستمرَّة، لتقدير أي المجموعات أكبر أو أصغر.»10 وتمييز مقدار مثل هذه السِّمات ذات الصِّلة، يُقدِّم مزايا واضحةً لبقاء الأنواع ونجاحها في التكاثُر. بالرغم من ذلك، فهذه القدرات تَختلف في طبيعتها عن القُدرتَين العدديَّتَين لدى البشر؛ القدرة على تمييز المجموعات الصغيرة، والتعرُّف على عددها بصريًّا بسرعةٍ وتلقائية، والقدرة على التوصُّل إلى عدد المجموعات الكبيرة بشكلٍ تقريبي.
غير أنَّ بعض الأبحاث التجريبية تَقترح بقدرٍ أكبرَ من الوضوح أنَّ بعض أنواع غير الرئيسات، تتشارك معنا في واحدةٍ على الأقل من هاتَين القُدرتَين العدديَّتَين، وهي الحاسَّة العددية التقريبية الفطرية. إضافةً إلى ذلك، ففي حالة عددٍ قليل من الحيوانات التي أُجرِيَت عليها الاختبارات، مثل الكلاب أو طيور أبي الحنَّاء النيوزلندي، يبدو أنها تستطيع تمييز عدد العناصر في المجموعات الصغيرة بدقة، كالإنسان تقريبًا. وبالفعل، فقد أوضحَت الأبحاث أنَّ طيور أبي الحناء النيوزلندي قادرةٌ على التمييز بين عنصرٍ واحد مقابل عنصرَين، وكذلك بين عنصرَين مقابل ثلاثة عناصر، وثلاثة عناصر مقابل أربعة عناصر. بالرغم من ذلك، فعند المقارنة بين مجموعاتٍ يَزيد عددها على أربعة عناصر، لا تنجح في التمييز إلا أن يكون مُعدَّلُ الفرق بين المجموعتَين ١ : ٢ على الأقل، أي إذا كان عليهم الاختيارُ مثلًا بين أربعة عناصر وثمانية. وهذا الاستعداد لتمييز الكميات الصغيرة بدقَّة، وتمييز الكميات الكبيرة بشكلٍ تقريبي، يُذكِّرنا للغاية بما لاحَظْناه فيما يتعلَّق بالبشر الذين لم يَكتسبوا مهارة اللغة بعد، والبشر الذين ينتمون إلى ثقافاتٍ لا عددية.11
ومن المُثير للدهشة أنَّ بعضًا من أفضل الأدلة المُستَقاة من أنواعٍ مختلفة، بشأن الأنظمة المحدَّدة لتمييز الأعداد، يأتي من نوع أبعدَ صِلةً بالبشر من ناحية تطور النوع. لقد أثبتَت الأعمالُ البحثية الحديثة أنَّ أسماك الجوبي (وهي نوع من الأسماك الصغيرة) تستطيع تمييز الكميات الصغيرة وتقدير الكميات الكبيرة كذلك. لقد قام الباحثون في مجال الإدراك لدى الحيوانات بوضع أسماك الجوبي؛ كلٍّ بمُفردها في بيئةٍ تستطيع فيها الاختيار بين الانضمام إلى واحدة من مجموعتَين ظاهرتَين. وحين كان عددُ كِلتا المجموعتَين يَزيد على أربع سمكات، كانت الأسماك تَختار الانضمام إلى المجموعة الأكبر، التي ستكون أكثرَ أمنًا في أغلب الأحوال، غير أنَّها كانت تستفيد في هذا الاختيار من وجود فرقٍ كبير في النسبة بين المجموعتَين. ومعنى هذا أنها كانت تختار المجموعةَ الأكبر في معظم الأحوال، إذا كان الاختلافُ بين عددها وبين عدد المجموعة الأصغر بنسبة ٢ : ١ أو ٣ : ١ أو ٤ : ١، وتزداد احتماليةُ اختيارها، بزيادة حجم النِّسبة بين الخيارَين. وأيضًا كانت أسماك الجوبي تَختار المجموعة الأكبر عادةً من مجموعتَين، حين كانت كلُّ مجموعةٍ تحتوي على أربع سمكاتٍ أو أقل. ومن المُثير للاهتمام أنَّ هذا الاتِّساق في الاختيار لم يتأثَّر وَفقًا للنسبة في الكميات الأصغر. فإذا كانت إحدى المجموعتَين تحتوي على سمكتَين، والأخرى تحتوي على أربع سمكات، كانت الأسماكُ تختار المجموعة الأخيرة في ثُلُثَي المرَّات تقريبًا. وحتى حين كانت إحدى المجموعتَين تحتوي على ثلاث سمكات، وتحتوي الأخرى على أربع، كان السمك لا يزال يختار المجموعة الأخيرة في ثُلُثَي المرات تقريبًا. وبالرغم من أنَّ البشَر يؤدُّون مثلَ هذه المهام بدقَّةٍ أكبر من ذلك بكثير، فثمَّة تشابُهٌ مُثير للاهتمام في استجابات الأسماك. إنها مثلنا، يبدو أنها تُميِّز الكميات الصغيرة بدقة، مقارنةً بتمييزها للكميات الكبيرة.12

لقد تعلَّم الباحثون القدرَ الكبير عن الإدراك العددي لدى أنواع الرئيسات فيما دون البشر، لكن ما لم يتعلَّموه بعد لا يزال أكبر. إنَّ الصورة التي تَرسُمُها الأعمال المعنيَّة بهذا الموضوع، التي لم أشرح منها إلا القدر القليل، لا تزال غير واضحة؛ ففي حالة العديد من الأنواع، يبدو أنَّ تمييز الكميات يَستنِد بصفةٍ أساسية على الإدراك الحسِّي للمُتغيرات المُستمرَّة، مثل مقدار ما يُدركونه من حركة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ استراتيجيات التمييز التي تستخدِمها بعض أنواعٍ من غير الرئيسات، يمكن أن تختلف وفقًا للمهمَّة أو للمحفِّز الذي تتضمَّنه المهمة، وسوف تستمرُّ الأعمال المُستقبلية في اختبار مثل هذه المُتغيرات. وستكون هذه الأبحاث مِحوريةً في فَهمِنا لتطوُّر الأنظمة العددية البيولوجية العصبية، مثل تلك الموجودة لدى الإنسان. فنحن لا نعرِف حتى الآن، على سبيل المثال، مدى تميُّز الإدراك العددي لدى الفقاريات، أو مدى تميُّز المهارات العددية الفطرية لدى الرئيسات، مقارنةً بغيرها من الفقاريات الذكية مثل الطيور. علاوةً على ذلك، فلا تزال هناك فجواتٌ واضحة في سِجلِّ التجارِب على الحيوانات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، لا توجَد أعمال قد أُجرِيَت بشكلٍ منهجي على مهارات إدراك الكميات لدى الزواحف. وسوف يساعدنا سدُّ هذه الفجوة الموجودة في سجلِّ التجارِب، على تحقيق فَهمٍ أفضل عن مدى قِدَم القدرات العددية الفطرية لدى الإنسان، وكذلك مقدار ما يعود من القُدرات العددية لدى العديد من الأنواع إلى السِّمات المُتنادِدة التي تتشارك فيها مع البشر. إذا لاحظ الباحثون وجودَ قدرات مُشابهة لدى الزواحف، فربما يكون لدَينا دليلٌ أوضحُ على أنَّ بعض القدرات العددية المُتنادِدة تعود إلى النوع السالِف من الثدييات، كالزواحف والطيور والأسماك وغيرها الكثير من الفقاريات، وهو نوع يعيش منذ ما يَزيد على ٤٠٠ مليون سنة.

الإدراك العددي لدى الرئيسات

إنَّ الإدراك العددي لدى الرئيسات فيما عدا البشر، يرتبط بقصة الأعداد بصورةٍ خاصة. فالرئيسات الأخرى، ومنها القِرَدة العُليا مثل الشمبانزي، هي الأقرب إلينا من الناحية الوراثية، مما يَعني أنَّ الجينوم الخاص بها شبيهٌ للغاية بالجينوم البشري؛ ففي حالة الشمبانزي، يُشير أحد الأبحاث إلى أنَّ التطابق بين المجموع الجينيِّ لنوعَينا يبلغ ٩٩ بالمائة تقريبًا (وينطبق الأمر نفسُه على نوعنا والبونوبو). ونحن نتَشابه في طبيعتِنا البيولوجية نظرًا إلى هذا التطابق الجيني؛ ومن ثَمَّ، فإذا كنَّا نَحرِص على الوصول إلى فَهمٍ أفضلَ بشأن حاسَّتنا العددية الفطرية، فمن الضروري لنا أن نستكشِف عقولَ هذه الحيوانات وغيرها من الرئيسات ذات الصِّلة. لكن بالرغم من أنَّنا نتشارك الكثير من جينات شفرتنا الوراثية مع بعض الرئيسات الأخرى، فعلينا أن نَنتبِهَ لئلا نُفسِّر سلوكها من خلال إسقاط سِماتٍ بشرية عليها. والواقع أنَّ التشابُه بين شفراتنا الوراثية، لا يُخبرنا إلا بالقدْر الضئيل عن الإدراك العددي لدى أولاد عمومتنا هؤلاء.13
يعود التركيب الحلزوني المُزدوَج المميِّز لجزيئات الحمض النووي «دي إن إيه» إلى ارتباط أربع قواعد فقط من النيوكليوتيدات على شكلٍ يُشبِه السُّلَّم، وهذه القواعد هي: (الأدينين والسيتوسين والجوانين والثايمين)، ونُشير إليها بالرموز المألوفة: A وC وG وT. إذن، توجَد أربعة مكوِّنات في الحمض النووي «دي إن إيه» هي التي تُؤلِّف الجيناتِ في نهاية المطاف، حتى جينات الأنواع المختلفة عن نوعنا. إضافةً إلى ذلك، فالعديد من هذه الأنواع تتَّسِم بتشابُهاتٍ بارزة في مادَّتها الوراثية المصنوعة من الحمض النووي «دي إن إيه»، وهي الجينومات الخاصة بها؛ فعلى سبيل المثال يوجَد تشابُهٌ بنسبة ٢٥ بالمائة بين الجينوم البشري وجينوم العنب. (ونحن نمتلك عدد جينات أقلَّ مما يمتلكه العنب!)14 ويجب علينا أن نأخذ بعض الحذَر قبل التوسُّع في القراءة بشأن نِسَب التشابُه الجيني بين الأنواع؛ فأنا أشكُّ أن ينتهيَ بك الأمر لأن تعتبر نفسك عنبةً بنسبة الرُّبع! وعلى أي حال، فإنَّ الجينوم البشري يتشابَه بدرجةٍ كبيرة مع غيرنا من أنواع الثدييات بسبب وجود سلَفٍ مشترَك يجمعنا بها. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ نسبة التشابُه الجينيِّ بين البشَر وبين نوعَي الكلبيَّات والبقريَّات، تبلُغ ٨٥ بالمائة. ونظرًا إلى هذه العوامل، وكذلك إلى الاختلاف السلوكي الواضح بين الكلاب والأبقار والبشر؛ فيجِب أن نتأنَّى حين نستقي أي استنتاجات تقوم على التشابُه الجيني بين الشمبانزي والبشر. وبالطبع، فعلينا ألا نتوقَّع أنَّ حيواناتِ الشمبانزي قادرةٌ على التفكير العددي بلا شك، لأنها وثيقة الصِّلة بنا فحسْب؛ فالتغييرات الصغيرة في التكوين الجيني يمكن أن ينتُج عنها، ضمنَ عوامل أخرى، تغييراتٌ كبيرة في حجم الدماغ. ولكي نَفهم العلاقة بين التفكير العددي لدى البشَر، وما يرتبط بهم من الأنواع الأخرى؛ فعلينا أن ندَع البياناتِ التجريبيةَ هي التي تتحدَّث.

وها هي البيانات تتحدَّث؛ فعلى مدار العقود العديدة الماضية، كان العديد من الباحثين الجسورين يستكشفون العوالمَ الإدراكية لحيوانات الشمبانزي وغيرها من الرئيسات غير البشرية، ويضَعون تصوُّرًا للإدراك العددي لدى هذه الحيوانات. ونتيجةً لهذا التصوُّر، فقد أصبح من الواضح لنا الآن أنَّ أقاربنا من الرئيسات تتشارك معنا بالفعل في قدرٍ من مَهارتنا الفطرية في التعامُل مع الأعداد، وهي تتشارك معنا أيضًا في قدرٍ من القيود التي نُواجهها في غياب الأعداد. فهي تمتلك قدراتٍ عدديةً مُتنادِدة، تتَّسِم بتشابُهٍ صارخ مع حاسَّتَينا العدديَّتَين للتمييز الدقيق للكميات الصغيرة، والتمييز التقريبي للكميات الكبيرة.

وفي تَجرِبةٍ شبيهة ببعض التجارب التي أُجريت على أطفال البشر، اكتشف علماء النفس أنَّ قرود الريسوس تستطيع التمييز بين الكميات الصغيرة. قُدِّمَت إلى القرود في هذه التجربة كمياتٌ مختلفة من طعامٍ لذيذ (شرائح التفَّاح)، ثم أُخفِيَت عن أبصارها. بعد ذلك، كان يُسمَح للقرود باختيار الكمية التي تُريدها من هذا الطعام المُختفي. وحين كان اختيارهم يقَع بين ١ و٢ من شرائح التفَّاح أو بين ٢ و٣، أو بين ١ و٣، أو حتى بين ٣ و٤، فقد كانت تختار الكمية الأكبر دومًا. بالرغم من ذلك، فقد اتَّضَح أنها غير قادرة على اختيار الكمية الأكبر من شرائح التفَّاح بصورةٍ مستمرَّة ومُنتظمة، حين كانت تختار بين ٤ و٦ على سبيل المثال. في مثل هذه الحالات، كانت اختياراتها تتراجَع إلى اختياراتٍ عشوائية، مما يُشير إلى أنَّ أدمغتها مُزوَّدة بالقُدرة على التمييز بين الكميَّات الصغيرة فقط.15
وفي المهام التي تتَّسِم بقدرٍ أكبرَ من التجريد، اتَّضح أن قرود الريسوس أيضًا تستطيع تمييز الفروق الكبيرة بين الكميات، لكنَّ هذه القدرة على التمييز تتوقَّف على مدى التبايُن بين هذه الكميات. فعلى سبيل المثال، وضَّحت إحدى الدراسات أنَّه يمكن تدريبُ القرود على تمييز مجموعةٍ من العناصر في ترتيبٍ تصاعدي. وبعد تدريبها بهذه الطريقة، فقد تعلمَت أن تختار مجموعاتٍ تتكوَّن من عنصرٍ واحد وعنصرَين و٣ عناصر و٤ عناصر، بالترتيب. بعد ذلك، قدَّم الباحثون لها مجموعتَين تَحتويان على عددٍ أكبر من العناصر، وقد تمكنَت القرود من لمْس المجموعة الأصغر أولًا بصورةٍ منتظِمة؛ فقد استطاعت ترتيب الكميات الكبيرة مثلما تعلمَت ترتيب الكميات الصغيرة. بالرغم من ذلك، فقد كان الوقت الذي استغرقَته القرود في أداء هذه المهام، يَختلف وَفقًا لمدى التفاوُت بين الكميات الكبيرة؛ فكلما زاد حجم التفاوت، زادَت سرعة القرود في الاستجابة. وفي دراسةٍ متابِعة، كانت استجابة اثنَين من القرود تُشبِه استجابة ١١ من البالِغين الذين أُجرِيَت التجربة عليهم حين مُنِع الخاضعون للتجرِبة من البشر، من العدِّ اللفظي. وهذا التشابُه يدلُّ على وجود حاسَّةٍ عددية تقريبية قديمة، وَرِثها كلٌّ من قرود الريسوس والبشَر.16
إنَّ النوع الأقرب للإنسان على شجرة الحياة، وهو يوجَد على الغُصن المجاور في حقيقة الأمر، يَستطيع تمييز الكميَّات بطرقٍ مُحكَمة نسبيًّا. إنَّ قدرات الشمبانزي على تمييز الكميات تُذكِّرنا بما لاحَظْناه في أطفال البشر؛ فعلى سبيل المثال، مثلما يَميل الأطفال إلى اختيار الكمية الأكبر من الحلوى حين يُتاح لهم الاختيار، تَميل حيوانات الشمبانزي إلى اختيار الكمية الأكبر من أصناف الطعام اللذيذة، حين تُقدَّم إليها صينيَّتان تَحتويان على كمياتٍ مختلِفة من الأطعمة الشهيَّة. وقبل ٣٠ عامًا تقريبًا، لاحظ الباحثون في مجال الحيوان أنَّه عند تقديم طبقَين يَحتويان على كميةٍ صغيرة من رقائق الشكولاتة إلى قردة الشمبانزي، كانت تختار الطبق الذي يَحتوي على الكمية الأكبر في معظم الأحيان. غير أنَّ أداء هذه الحيوانات قد أصبح يَعتمد على الصُّدفة بصورة أكبر عند تقديم كمية أكبر من الشوكولاتة، مع عدم وجود فرق بارز بين الكمية الموجودة في كل طبق. بعبارة أخرى: كانت اختيارات القرود تتَّسم بتأثير نسبة الفرق ذاته، الذي لاحظناه في العديد من التجارِب الأخرى التي أُجرِيَت على غير ذلك من الحيوانات والبشر الذين ينتمون إلى ثقافاتٍ لا عددية. والأمر الأجدر بالملاحظة، أنَّ نتائج الدراسة المَعنيَّة التي تُشير إلى أنَّ قردة الشمبانزي لا تَستطيع تمييز الكميات الكبيرة من رقائق الشوكولاتة عند وجود اختلافٍ كافٍ بين كمِّية الطبقَين فحسب، بل تَستطيع أيضًا جمعَ الكميات معًا قبل المقارنة بين إجمالي كمية رقائق الشوكولاتة في كلٍّ من الطبقَين. ففي بعض الحالات على سبيل المثال، كانت القردةُ تواجِه اختيارًا بين طبقَين. يحتوي أحد الطبقَين على كَومتَين من رقائق الشوكولاتة، تحتوي إحداهما على ثلاث رقائق، بينما تحتوي الأخرى على رُقاقتَين. أما الطبق الآخر، فقد كان يحتوي على كومتَين أيضًا، لكنَّ إحداهما تَحتوي على أربعٍ من رقائق الشوكولاتة، وتحتوي الأخرى على ثلاثٍ منها. في مثل هذه الحالات، كانت القرود تُدرِك في معظم الأحوال أنَّ الكمية الموجودة في الطبق الأول، وهي ٥ (٣ + ٢)، أقلُّ من الكمية الموجودة في الطبق الثاني، وهي ٧ (٤ + ٣)، وهو ما يدلُّ على أنَّ قِردة الشمبانزي قادرةٌ على جمع الكميَّات الصغيرة، والمقارنة بين نتائج هذه العمليات الحسابية. بالرغم من ذلك، فعلَينا أن نُؤكِّد على أنَّ اختيارات القرود كانت صحيحةً في معظم الحالات فقط، وكانت تمتلئ بالأخطاء. علاوةً على ذلك، فحين كان الفرقُ بين نتائج عمليات الجمع التي تُقارن بينها صغيرًا، مثل ٧ في مقابل ٨، تراجَع مستوى الدقة. وبالرغم من أنه من المنطقيِّ أن نَستنتِج من هذه التجارِب أنَّ قردة الشمبانزي تَستطيع إجراء عملية الجمع على الكميات والمقارنة بينها بصورةٍ تلقائية، فيَنبغي التأكيدُ على أنَّ قدراتها على الجمع مُعرَّضة للأخطاء، لا سيما حين يكون الفرق بين الكميات التي تُقارن بينها صغيرًا، وهو ما أصبح نمَطًا مألوفًا لنا بوُصولنا إلى هذه المرحلة. وبِناءً على أبحاثٍ مثل هذا البحث وغير ذلك من الأعمال التجريبيَّة التي لم نَعرِضها هنا، يُمكِننا أن نثق بأنَّ قردة الشمبانزي تتمتَّع بقدرةٍ طبيعية على تقدير الكميات بصورة تلقائية، والتمييز بين الكميات الصغيرة على نحوٍ دقيق. وبالطبع، فإنها ليست نوعَ الرئيسات الوحيد القريب منَّا، الذي يشترك معنا بدرجةٍ ما في فَهْمنا البدائي للتمييز بين الكميات.17
لقد أوضحَت الأبحاث التي أُجرِيَت على الرئيسات أيضًا أنَّها قادرةٌ على تعلُّم الأرقام وربطها بالمعلومات الكاردينالية والمعلومات الترتيبية. أي إنها تستطيع أن تتعلَّم ترتيب الرموز مثل ٢ و٣ و٤ و٥، مع إدراك أنَّ مثل هذا الترتيب يُمثِّل زيادةً في حجم المجموعة التي تتضمَّن عددًا مُحددًا من العناصر، وهي تلك العناصر كالحلوى التي قد تَفوز بها عند توضيح فَهمِها للرموز. والواقع أنَّ إحدى التجارِب قد وضَّحَت أنَّ قرود الريسوس تستطيع أن تتعلَّم أن تَلمس رموز الأعداد من ١ إلى ٩ على شاشة الكمبيوتر في ترتيبٍ تصاعُدي، وأنها تَستطيع أن تتعلَّم الكميات التي تُمثِّلها هذه الرموز. ثم أوضحَت التجارِب بعد ذلك أنَّ القرود السنجابية وقرود البابون، تتمتَّع هي أيضًا بهذه القدرة. ففورَ تلقِّي التدريب المناسب على هذه الرموز، تُبدي القرودُ السنجابيةُ مَقدِرتها على جمع رموز الأعداد معًا، مِثلما يتَّضح ذلك من تفضيلها لاختيار كميةٍ مضافة مثل (٣ + ٣) على اختيار (٥ + ٠)، حين يَكون عليها الاختيارُ من بين خيارَين يَصِفان كمية المكافآت التي ستَحصُل عليها بعد ذلك. إنَّ هذه الاختيارات ليست مُنتظِمة تمامًا، ومما لا شكَّ فيه أنَّ «حساب القرود» يتضمَّن بعض الأخطاء، مثلما قد نتوقَّع بالطبع. بالرغم من ذلك، فمن الواضح أيضًا أنَّ اختيارات القرود ليست عشوائية، والاختيارات التي تختارها في معظم الأحيان، تَعكس فاعلية الرموز في تعزيز مهارة تمييز الكميات. إذن، يمكن للقرود أن تتعلَّم الأعداد، غير أنَّ لهذا التعلُّم حدودًا لا نَجِدها لدى البشَر.18
إنَّ القُدراتِ الرياضيةَ لدى الرئيسات غير البشرية، كالقدرات الرياضية لدى بعض الأنواع الأخرى، تتميَّز بشكلٍ واضحٍ بتأثير المسافة وتأثير المقدار. يُشير التأثيرُ الأول إلى حقيقة أنَّ هذه الحيوانات، كالبشَر الذين يَنتمون إلى ثقافاتٍ لا عددية، أفضلُ كثيرًا في تمييز الاختلافات بين الكميات، حين يَكون الفرق بينها كبيرًا. أما التأثير الثاني فهو يُشير إلى حقيقة أنَّ هذه الحيوانات تستطيع تمييز الكميات الصغيرة بكفاءةٍ أفضلَ من الكميات الكبيرة. إنَّ انتشار تأثيرَيِ المسافة والمقدار في الأنواع المختلفة، هو أحد النتائج الأساسية التي حصَلْنا عليها من العمل على هذا الموضوع. وهذا الانتشار يُمثِّل دليلًا على وجود حاسَّةٍ عددية تقريبية مُتنادِدة قديمة، وربما يَكون دليلًا على وجود حاسَّةٍ عددية دقيقة مُتنادِدة أيضًا، غير أنه لا يزال أمامنا مقدارٌ كبير من العمل حتى نستطيعَ تقديم تفسيرٍ كامل للقدرات العددية الفطرية لدى الأنواع غير البشَرية.19

خاتمة

إنَّ قدراتنا العددية الفطرية قديمة، وتتشارك معنا فيها العديد من الأنواع، بدرجةٍ أو بأخرى. ومن المنطقي أن تكون العديدُ من الأنواع قادرةً على التمييز بين الكميات، بطريقةٍ تقريبية على الأقل. فبعض القرارات المُتعلقة بالكميات ضرورية للبقاء في البرِّية؛ ومِن ثمَّ لنجاح التكاثُر الذي يؤدي إلى حفظ السِّمات الوراثية، وانتشارها على المدى الطويل. وسواءٌ أكنَّا نتحدَّث عن فوائد تمييز الفئران أو الحمام للمجموعات التي تَحتوي على عددٍ أكبرَ من عناصر الطعام، عن تلك التي تحتوي على عددٍ أقل، أو عن الفوائد التي تعود على إناث الأسود من قُدرتها على تمييز وجود مجموعاتٍ أكبرَ من غيرها من إناث الأسود، فإنَّ مزايا البقاء التي تُوفِّرها القدرة على تمييز الكميات واضحة. وبالرغم من هذه التأويلات البديهيَّة للأسباب التي أدَّت إلى توارُث مَهارات تمييز الكميات عبر العديد من الأنواع، فإنَّنا لا نَعرِف السبب في أنَّ هذه القدرات لم تُصقَل لدى معظم الأنواع فيما بعد.

بطريقةٍ ما، نَجد أنَّ توضيح القدرات الإدراكية لدى حيواناتٍ أخرى، لا سيما أولاد عمومتنا من القرود كَبيرة الأدمغة، يجلب إلى دائرة الضوء المزيدَ من الألغاز؛ فحين نُفكِّر في أنَّه يمكن تدريب بعض قِرَدة الشمبانزي على تمييز الكميات بقدرٍ أكبر من الدقة، تُصبح هذه النقطة بارزة على نحوٍ خاص. إذا كانت بعض الأنواع الأخرى تمتلك القُدرة على تعلُّم أنواعٍ أكثر تعقيدًا من التفكير العددي، فلماذا لم تَصقُل هذه الأنواعُ قدراتِها على مدار ملايين السِّنين التي ظلَّت تتطوَّر خلالها على فرعٍ آخَر من شجرة الحياة؟ إنَّ قِرَدة الشمبانزي تَمتلك الأُسس للتفكير الرياضي، لكنها لا تَبني شيئًا على الإطلاق على مثل هذه الأُسس؛ فهذه الأُسسُ التي تتَّضِح في تفكيرها، وفي تفكيرنا نحن أيضًا قبل أن نتعلم الأعداد خلال نُموِّنا، تبدو بدائيةً إلى حدٍّ كبير. ومثلما أشار مؤخرًا كلٌّ من جونكو بارك وإليزابيث برانون، وهما عالمان مُختصَّان في الإدراك لدى الحيوانات: «إنه مِن الصَّعْب أن نَفهم كيف أمكن لنظامٍ بدائي، غير قادر على تمثيل الكميات الكبيرة بدقة، أن يُنتِج الرياضيَّات الشكلية، التي هي إنتاج بشري خالِص.»20 إنَّ التفكير الكمِّي الذي زُوِّدنا به فطريًّا نحن وغيرنا من الأنواع، يتمثَّل في القيم الأُسِّية التي تَغيب من أنواع التفكير الكمِّي التي يمتلكها البشر في نهاية المطاف. وهذا يُوضِّح أنَّ التفسيراتِ البيولوجيةَ لمِثل هذا التفكير ذات طبيعة محدودة. إنَّ القدر الأكبر من إدراكنا العددي لا يُعزى إلى تركيبنا البيولوجي العصَبي إلَّا قليلًا، بينما يُعزى بأكثر من ذلك بكثيرٍ إلى طريقة استخدامنا لهذا التركيب. وهذا الاستخدام لا يكون مُمكِنًا إلا بوجود أدواتٍ خارجية تتفاعَل مع آلياتنا الفطرية للتمييز بين الكميات. والأداة الخارجية الرئيسة التي نَعنيها هنا هي الأعداد، تلك التمثيلات الرمزية للكميات، التي تتجسَّد عن طريق اللغة وتُستخدَم بطرُقٍ تَختلف باختلاف الثقافة. إنَّ وجود الأعداد يُفسِّر الفجوة الموجودة بين التفكير العددي الفعلي لدى البشر، والتفكير العددي الذي نُزوَّد به فطريًّا.
بعض الأدلة التي تُؤيِّد قوة الأعداد تأتي أيضًا من حيواناتٍ أخرى قد تلَقَّت تدريبًا مُكثَّفًا على الرموز دون أن تكون طَليقةً في بيئتها. وربما يكون المثال الأفضل على هذه الحيوانات، هو أليكس، وهو بَبْغاء أفريقي رمادي، تلقَّى التدريب على مدار عقودٍ طويلة على يد عالمة النفس أيرين بيبَربيرج. وبالرغم من أن أليكس قد مات عام ٢٠٠٧، فإنَّ نتائجَ المهامِّ الرياضية التي أُجرِيَت مع الببغاء لم تُنشَر إلَّا عام ٢٠١٢. وتُقدِّم هذه النتائج أدلَّةً قاطعة على أنَّ أليكس كان قادرًا على القيام بمهامَّ حسابيةٍ لا يَقدِر عليها عادةً سوى نوعِ «الإنسان العاقل». ففي سلسلةٍ من التجارِب، ثبت أنَّ أليكس يستطيع تسمية رموز الأعداد وترتيبها من خلال التعبير اللفظي، وذلك بصفةٍ منتظِمة ومُستمرة. والأهم من ذلك أنه كان يَستطيع تسمية الكمية التي تُمثِّلها مجموعة من العناصر، حتى إذا كانت المجموعة تحتوي على ثمانية عناصر. وربما يكون الأكثر إثارةً للدهشة هو أنَّ أليكس كان قادرًا على إجراء عملية الجمع على مجموعتَين يتراوح عدد العناصر فيهما بين الصفر والستة، وكان يتوصَّل إلى الإجابة الصحيحة في معظم الحالات. ومن الحيوانات الأخرى التي أوضحَت الأبحاث الخاضعة لمراجعة الأقران أنها تستطيع التوصُّل إلى ناتجِ جمع مجموعتَين بصفةٍ مستمرَّة، هي قِرَدة شمبانزي تُدعى شيبا. يبدو أنَّ «عباقرة» الحيوانات المُدرَّبة مثل أليكس وشيبا، تتمتَّع بمهاراتٍ رياضية مُحدَّدة، تُمكِّنها من التمييز بين الكميات الأكبر من ٣ بدقة. وذلك اكتشافٌ مُذهل؛ إذ إنَّ الحيواناتِ غيرَ المدرَّبة، بصرْف النظر عن نوعها وحجم دماغها، لا تُبدي هذه المهارة. بالرغم من ذلك، فعلينا أن نُلاحِظ ما يتطلَّبه الأمر قبل أن تُبديَ هذه الحيواناتُ هذا النبوغ: سنوات من التعلُّم، بل عقود يَقضيها المُدرِّبون في تعريف المُتدرِّبين على رموز الكميات؛ فالمُدرِّبون يُدرِّسون لهم الأعداد. في بعض الحالات، ومنها حالة أليكس بالتأكيد، يتمكَّن الحيوانات من تعلُّم هذه الأعداد. ومثلما يتَعلَّم الأطفال في نهاية المطاف تمثيل الكميات التي تَزيد عن ثلاثة بالرموز، فإنَّ بعض الحيوانات المُدرَّبة يمكن أن تفعل ذلك بالفعل.21
وقد أتاحت لنا مثلُ هذه الأبحاث التوصُّلَ إلى مثل هذه الملاحظة الهامة، وهي أنَّه يمكن تطبيقُ اختراع الأعداد البشري على أنواعٍ مختلِفة، وإن كان ذلك في بعض الحالات على الأقل. ومثلما تُشير بيبَربيرج عند مناقشة حيوانات مثل أليكس وشيبا، إلى أنَّ تلك الحيواناتِ فقط أي التي «دُرِّبَت على تمثيل الكميات من خلال الأرقام العربية أو الأعداد اللفظية … هي التي يَبدو أنها قادرةٌ على ربط تلك الأرقام بالقيمة الكاردينالية للمجموعات.»22 لذا، فبالرغم من أنَّ البَبْغاوات والشمبانزي تستطيع تكوينَ مفاهيمَ مجرَّدة عن كمياتٍ كبيرة مُحدَّدة، فإنَّ اختراع الأعداد البشريَّ هو الذي يجعل من هذه القُدرة على التصوُّر التجريديِّ أمرًا ممكِنًا.

في آخر ثلاثة فصول، لاحَظْنا أنَّ البالِغين من البشر الذين ينتمون إلى ثقافاتٍ لا عددية، وأطفال البشر الذين لم يَكتسِبوا مهارة اللغة بعد، وبعض الأنواع المختلِفة من الحيوانات، يَستطيعون التفكير في الكميات بصورٍ تقريبية، ويمكنهم أيضًا التفكيرُ فيها بصورة مُحدَّدة حين يتعلَّق الأمر بالكميات الصغيرة. وهذه القدرات التقريبية والدقيقة، هي بمثابة أساسٍ ضروري من أجل بناء نظامٍ أكثرَ تعقيدًا للتفكير بشأن الكميات، غير أنه أساسٌ تقريبي. فالبناء على مثل هذا الأساس يتطلَّب استخدامَ أدواتٍ رمزية. فهو يتطلَّب استخدام الأعداد، وهي الرموز اللفظية والكتابية للكميات. وفي الجزء الثالث، سوف نَستكشف الكيفية التي اختُرِعت بها الأعداد على الأرجح، ونَدرس الطرقَ العميقة التي أثَّرَت بها في الخبرة البشرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤