الإسلام ومدنية أوربا

تمهيد

لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة١ وهو «إن تمكّن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحا مع الفلسفة».

ليس من السهل عليّ أن أعتقد أن أديبا كصاحب الجامعة يقول هذا القول — وهو ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية — وإنما هي عين الرضا تناولت من حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت، ثم أملت على قلبه ما جرى به قلمه.

هل يصح أن تسمى الاستكانة للغالب تسامحا؟ وهل يسمى العجز مع التطلع للنزاع عند القدرة حلما؟ أم يسمى غل الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرما؟ هل تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين: كرسي المملكة الإيطالية وكرسي المملكة البابوية — في عاصمة واحدة تسامحا من قداسة البابا مع الملك؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمّي ذلك تسامحا من الملك مع البابا، لأنه صاحب القوة والجيش والسلطنة، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من السلطة الملكية؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين — تساهلا من العلم مع الدين، لا تسامحا من الدين مع العلم، بعدما كان بينهما من الحوادث ما كان، وبعد غلبة العلم واستيلائه على عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعا له في أغلبها.

اقتباس أوربا من مدنية الإسلام

السبب الأول: الجمعيات

كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة العلم جمعيات وأحزاب، منها ما اتخذ السر حجابا له حتى يقوى. ومنها ما ابتدأ بالمجاهر. وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه، لكثرة أعوانه وضعف أعوان العلم، حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس، وتبع إشراق تلك الآداب واشتغال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما ذكرنا. وقد وجد هذان النوران استعدادا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها. هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما ضايقها من غلو رؤساء الدين في استعمال سلطانهم، واشتدادهم في استعباد العقل والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال، فأخذ الشعور الإنساني يتلمس السبيل إلى الخلاص، وإذا لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية، واستقبلهما بوجهه. وكان بعد ذلك ما كان من تأثير الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران، ونفيهم من الأوطان، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة، في أدنى الأشياء وأعلاها، حتى أنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش باريس بالبلاط على الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك الشوارع، أغضب ذلك قسس القديس أنطوان. ونادوا بأن خنازير القديس لابد أن تمر في الشوارع على حريتها الأولى، وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس. وقالوا إن الملك فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير وصلصة الجرس في عنقه.

لقائل أن يقول: إن القسس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع الأجراس في أعناق الخنازير فرضاهم بذلك يعد تسامحا عظيما مع العلم (أو الصناعة).

ويسهل عليّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس الخنازير كان يظهر من حين إلى حين، إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه المدينة التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا نبخسها قدرها كذلك.

السبب الثاني: الضغط الديني

شدة الحاجة وغلو الرؤساء كانا يوقدان الغيرة في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة، فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرا من الحقائق التي نفعت العامة ونبهت العقول للأخذ بما يهتدون إليه، وصارت الحرب بينهم وبين رؤساء الدين سجالا، إلى أن ظهر دعاة الإصلاح الديني «البروتستانت» فانضم دعاة العلم إليهم ظنا منهم أن سيكونون معهم من الجاهدين في سبيل العلم. وكان منهم «إيراسم» الشهير، فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم، فانفصل إيراسم ومن معه من حُماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية، وترك المصلحين يتفرقوا شيعا ويقتل بعضهم بعضا، وقال: ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم.

هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن من عدوها العام، وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض، واشتعلت نيران الحروب بينهم. قال أحد أفاضل مؤرخيهم: «وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة، لوثت يديها بالجرائم في العمل لإفناء البقية، حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال، ووجدت من توالي حوادث الانتقام وظهور مضاره في كل طائفة أن الأفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منهما، والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق وترقية الآداب، وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على حرية الأشخاص، من أية طائفة كانت، من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم: أصل التسامح والرضا بمجاورة المخالف في الرأي: نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل طائفة تعامل بها الأخرى» انتهى كلام المؤرخ بالمعنى.

السبب الثالث: الثورة

ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم، وإنما أنبه القارئ إلى الاعتبار بما تقدم من القول، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم، ليعلم أن الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلا وكرما، وإنما قويت عليه أحزاب العلم فساموه استكانة وخضوعا، ولو شاء ألا يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلا.

السبب الرابع: ترك المسيحية

رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة وإقدام وغيرة على دينهم، قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان، وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم في استعمال سلطانهم على النفوس، كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييدهم دينهم، وهم أشد الناس حرصا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه، ولم يزدهم العلم الجديد إلا وسائل وسبلا لترويج عقائده وآدابه، ولم تفتر همة في نشره وتزيينه للقلوب، ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه، والعامة من الشعوب في تخاذل عنه. والأمة الفرنسية — التي كانت تدعى بنت الكنيسة — أصبحت من أشد الناس عليه، ورأت فلسفتها أن تحدد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم: كل ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة، وطلاب اللاهوت يعدون بالألوف، كل ذلك وكثير من الدول يرى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض.

قال أحد رؤساء البروتستانت — في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية سنة ١٩٠١، بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانتية فقدت خاصتها الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية — ما نصه مترجما: «إذا كان الدين المسيحي ليس شيئا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح (المذهب الروماني) أو الكثلكة التي دخلها الإصلاح بالفعل (المذهب البروتستانتي) فالقرن الموفي للعشرين (القرن الحاضر) لا يكون مسيحيا أبدا».

وقد جاء في كلام هذا الخطيب ما يصرح بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنى آخر ينطبق كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها، فإن وفق للنجاح في سعيه زال الخلاف — إن شاء الله — بين الدين والعلم، بل بين المسيحية والإسلام.

عود إلى سماحة الإسلام

آخذ بيد القارئ الآن، وأرجع به إلى ما مضى من الزمان، وأقف وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباسي ووزرائهم — والفقهاء والمتكلمون والمحدثون والأئمة المجتهدون من حولهم، والأدباء والمؤرخون والأطباء والفلكيون والرياضيون والجغرافيون والطبيعيون وسائر أهل النظر من كل قبيل مطيفون بهم، وكل مقبل على عمله، فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه ووضع يده في يده، يصافح الفقيه المتكلم والمحدث الطبيب والمجتهد الرياضي والحكيم، وكل يرى في صاحبه عونا على ما يشتغل هو به — وهكذا أدخل به بيتا من بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك البيت يتحادثون ويتباحثون، والإمام البخاري حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث، وعمرو بن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى عنه، وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل «لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه، ولا باطنا أشبه بظاهر منه».

بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام زيد بن علي (صاحب مذهب الزيدية من الشيعة) يتعلم منه أصول العقائد والفقه، ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه اجتهادا في بيان المصلحة، وهما من أهل بيت واحد — أمر به بين تلك الصفوف التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم، وعقيدة كل واحد منهم أن فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث.

الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش، والفقهاء والمحدثون والمتكلمون، والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن جند الخلفاء، الدين في قوته والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر، لا فرق في ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول: هاهنا يطلق اسم التسامح مع العلم في حقيقته، هاهنا يوصف الدين بالكرم والحلم، هاهنا يعرف كيف يتفق الدين مع المدنية عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط روح المسالمة بين العقل والوجدان (أو بين العقل والقلب كما يقولون).

يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين. وإنما كان بين أهل العلم وبين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء، شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل التقييد، وعوفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز والتنابز بالألقاب، فلا يقول أحد منهم لآخر إنه زنديق أو كافر أو مبتدع، أو ما يشبه ذلك. ولا تتناول أحدا منهم يد بأذى، إلا إذا خرج عن نظام الجماعة، وطلب الإخلال بأمن العامة، فكان كالعضو المجذوم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله.

ملازمة العلم للدين وعدوى التعصب في المسلمين

متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ورمي زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟

أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض، ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله — تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه، وتوهين أركانه — وتصدر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن أحداثه لتعظيم شأنه تقليدا لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها. وأنشئوا ينسون ماضي الدين ومقالات سلفهم فيه، ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين، وتولى شئون المسلمين جهالهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم، في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النظار فيه، وسهل على كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلا بدينهم ازدادوا غلوا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر (وهي لوازم الدين الإسلامي) في جملة ما كرهوه، وانقلب عندهم ما كان واجبا من الدين محظورا فيه.

لا أكاد أخطئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق ومتزندق وزنديق من فضل ما علمه جيرانه إذ كانوا يقولون: هرتقة وتهرتق وهو هرتوقي: أو ما يماثل ذلك — أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق العدوى من أهل الملل المتشددة. وإن الذي سهل سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته، ومتى ضعف المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم.

إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم، ولما أصيبوا بمرض الجهل بدينهم انهزموا من الوجود وأصبحوا أكلة الآكل، وطعمة الطاعم، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك؟ لا، بل عدا بهم الجهل على أئمة الدين، وخدمة السنة والكتاب، فقد حملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعد ما انتفع بها المسلمون أزمانا هاج الجهل بأهل تلك المدينة وانطلقت ألسنة المتعالمين من البربر بتفسيقه وتضليله، فجمعت تلك الكتب خصوصا نسخ «إحياء علوم الدين» ووضعت في الشارع العام في المدينة وأحرقت. قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في ابن تيمية — وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين: إنه ضال مضل. وجاء على أثر هؤلاء مقلدون يملئون أفواههم بهذه الشتائم وعليهم إثمها وإثم من يقفوهم بها إلى يوم القيامة.

إهمال آثار السلف

أهمل المسلمون دينهم، والنظر في أقوال سلفهم، حتى أنك لا تجد اليوم في أيديهم كتابا من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي، ولا تكاد ترى مؤلفا من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفراييني، وإذا بحثت عن كتب هؤلاء الأئمة في مكتبات المسلمين أعياك البحث، ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من كتاب.

كتب على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى السادس، منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبي بكر بن العربي وكثير غيرها وفيها من آراء أولئك الأئمة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه، فهل يجد الباحث المجد نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق المصادفة وحسن الاتفاق؟ وهل يليق بأمة تدّعي أنها على دين، وأن لها فيه سلفا، أن تهجر آثار سلفها، وتدع ما كتبوا طعمة للعث وفراشا للتراب؟ هل وقع مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان؟

إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد المسلمين، فهم لا يقرءون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون. يتعلم أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها، وتصحيح مقدماتها، وتمييز صحيحها من باطلها، وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم. فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياه وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله: هكذا قالوا. وإن لم يكن القول متفقا عليه. بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به، وربما كان صاحب الكتاب ممن لو رآه أحدُ من السلف لم يرضه تلميذا يعي عنه ما يقول.

كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سورية والحجاز وتونس والجزائر، وقل جدا في المغرب الأقصى، ولم يبق الاهتمام به إلا في بعض الصحارى، وذلك إما لصعوبة طرق التعليم، واقتضائها الزمن الطويل — وحاجات الناس مانعة لهم من إفناء أعمارهم في عمل لا يسد من حاجتهم — وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء، وإن كان فيها شيء منه فهو مما لا يعد تعليما دينيا ينظر إليه — وإما للفتور والخمود، اللذين نشآ عن التقليد والجمود. وبذلك تجد المسلمين قد تولاهم الجهل بدينهم، وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم، وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم، حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الأحكام لأنكروه واستغربوه وعدوه بدعة في الدين. وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعار الفارسية مخاطبا للنبي عليه الصلاة والسلام «إن الذين جاءوا بعدك زينوا لك دينك ووضوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته».

فهذا الصنف من المسلمين — وهو معظمهم — قد أنكر دينه الحق وعاداه، ونقم على أهله القائمين بخدمته، وإنما اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة، ولم يسمح الدين باختصاصهم بالتقليد، فإذا وقع من هذا الصنف ما فيه أذى للعلم وأهله، فهل يعد ذلك واقعا من دين الإسلام — دين محمد صلى الله عليه وسلم — دين القرآن — دين السنة الثابتة — دين الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم من السلف الأولين؟

متابعة العلم للإسلام ومباينته لسواه

الحق أقول — والحس يؤيدني: ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم، وأخذهم في الصد عن علمه، فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العزة، عاداهم العلم وتجهم واكفهر وجهه للقائهم، وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم. ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل، والعقل لا يصح أن يكون له في الدين عمل، ولا أن يظهر منه فيه أثر، والدين من وجدانات القلب، ولا علاقة بين ما يجد القلب وما يكسب العقل. فالفصل تام بين العقل والدين، ولا سبيل إلى الجمع بينهما: سامحهم الله فيما يسمونه تسامحا مع العلم، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل أن يكون بينه وبينه سلم.

هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم؟ أقول «اضطهاد» ولا أريد به ما كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله والتنكيل بهم، واختراع ضروب التعذيب، والتفنن في صنع آلات الهلاك، مع الأخذ بالشبهة، والاكتفاء في الإعدام بمجرد التهمة، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم، ولا في أزمنة جهلهم، ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم، ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله، وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم.

لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في هذا الذي يسميه الأديب اضطهادا — إنما هو جهلهم بدينهم. فالدواء الذي ينجح في شفائهم من هذا الداء لا يكون إلا ردهم إلى العلم بدينهم، والتبصر فيه، للوقوف على أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه، كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين العلم، فلما ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة.

الدعاة في الإسلام

فهل قام بينهم دعاة للعلم حقيقيون، أو دعاة لأصل الدين عارفون، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم؟ وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع عشر وفيما بعد ذلك؟ لا. إنما رأينا من الصادقين أفرادا يظهرون متفرقين في عصور مختلفة، ربما لا يجتمع أربعة منهم — فما يزيد — في قرن واحد، ويأخذون في العمل لما وجهوا إليه، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم، فيحس الناس بهم، فيأخذ المستعد أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة (نعوذ بالله منها) بما عسى أن يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم، قبل أن يبلغوا من قلب أحد ما أرادوا من غرس أفكارهم، فينطفئ النور، ويدلهم الديجور.

فهل يعد الأديب هذه الضربات من أيدي أرباب السياسة اضطهادا للعلم لأجل حماية الدين؟ أنزه كل أديب عن أن يظن ذلك، وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة، فلا تعد حجة على الدين في نظر المنصف.

المقلد دون المقلد

ربما يقول القائل: إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما أشبه ذلك مما هم فيه، وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصا أقرب الملل إليهم. فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم، والتوسع في علومه مذيلا بما أخذوه عنهم، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين: قسما ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع، وقسما يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه ويقيت أهل القسم الأول، ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان؟ وما لك ترى المسلمين خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت، ثم صاروا أبعد الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة، والقبض على ناصية القهوة وصولجان العزة؟ وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون، يجري بهم إلى حيث لا يعلمون؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة، وأشدهم لهفا على الحطام، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض؟

فأقول له: إنك قد نسيت أن المقلِّد يكون دائما أحط حالا وأخس منزلة من المقلَّد. فالمقلد إنما ينظر من عمل المقلد إلى ظاهره ولا يدري سره ولا ما بني عليه. فهو يعمل على غير نظام، ويأخذ الأمر لا على قاعدة، ولذلك سقط المسلمون في شر مما كان عليه مقلدوهم، لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد وأضافوا على دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي تنازعه عدة قوى يذهب مع كل منها آنا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد، فيستلقي إلى أن يستريح، فينهض إلى العمل على هدى أو يموت.

لما كان المسلمون علماء كانت لهم عينان: عين تنظر إلى الدنيا والأخرى تنظر إلى الآخرة، فلما طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين، وأقذوا الأخرى بما هو أجنبي عنهم، فقدوا المطلبين، ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا، وتطهير ما أقذوا.

الإصلاح والمصلحون

للقائل أن يقول: كيف تدّعي أن دعاة العلم والدين قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جو مصر وسورية وغيرهما من البلاد في هذه الأيام؟ كل يقول: ديني ملّتي، إسلام مسلمون، قرآن سنة، مجد الإسلام القديم، سلفه الصالحون، تعلم، تعليم، كتب قديمة كتب جديدة، وما يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين الإسلامي كثيرون، ولا نرى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذانا صما وأعينا عميا، وصدا عما يدعو إليه هؤلاء؟

ويمكنني أن أقول له: إن الصادق في هؤلاء ليس بكثير عده، والجمهور منهم قلما يخلص قصده، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه الكلمات، لكسب بعض دريهمات، ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما يدرسون شيئا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه، وإنما يلقف بعضهم عن بعض ظواهر كالزبد لا تمكث في الأرض. وأما الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس يسمعون ما يقولون، ويطلبون الرشاد مما يعلمون، خصوصا في أمر الدين والجمع بينه وبين مصالح الدنيا، ولا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا. ولكن الإصلاح ليس ريحا تهب فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر.

قد يقول القائل: لِمَ لم يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى، حتى يغلبوا الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم، وينهضوا بالمسلمين من هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم؟ ولم لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين يهمسون بالقول ولا يجهرون، وليس للعلم فيهم دعاة عمليون؟ أليس ذلك سبيلا لمؤاخذة الإسلام وحجة عليه؟

وأقول له: إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون أسعد من حظ مقلديهم، بل المنتظر أن يكون أتعس، وقد أقامت المسيحية ما يزيد على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم، أو تنشأ الحرية الشخصية، أو تسري فيها الحركة العلمية، إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية، مع توالي المنبهات، وتواصل الصدمات إثر الصدمات، ولم يمض على المسلمين من يوم استحكمت فيهم البدعة، وأطبقت عليهم ظلم المحدثات، ودخلوا جحر الضب الذي دخله من كان قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد، ذلك الزمن الذي قد يكون عمرا لمثل هذه الحالة، ثم تقضي نحبها في آخره. وما أظن أن يمر على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له.

الفرق بين التعصبين

وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلا عن أن يقال إن المسلمين أشد إفراطا فيه. والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين في التعصب ألفاظ وكلمات، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال وضربات في المعاملات، وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في مثل المستعمرات الهولاندية في الشرق ومملكة الترنسفال قبل سقوطها، وبلاد الناتال في الجنوب، ثم يرجع إلى بعض بلاد الروسيا في الشمال من قبل عشرين سنة، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب، ليعلم كيف تكون الشدة في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية، وكيف يبلغ التعصب من أهله حدا تنظر إليهم فيه الإنسانية شذرًا، ولا تقبل لهم فيه المدنية عذرا.

ما على الباحث إلا أن ينظر فيما يكتبه الكتاب الفرنسيون ليعلم أنهم في حيرة من أمرهم مع المسلمين، يريدون أن تكون لحكومتهم طمأنينة فيما ملكت من بلاد المسلمين ولكن حكومتهم لا تجد السبيل إليها مع ما اتخذته قاعدة لعملها وهو الشدة والإفراط في القسوة على المسلمين خاصة وحدهم دون سواهم، وأرباب الأقلام يبحثون عن تلك الطمأنينة مع المحافظة على تلك القسوة، ويأبى الله أن يحصلوا على ما يبحثون عنه، لأنهم يطلبون الجمع بين الضدين في موضوع واحد وهو محال كما يقرره فلاسفتهم.٢
١  كلام الجامعة في نقد الإسلام كان مبنيًا على أربعة أمور، تقدم الرد على ثلاثة منها، وفي هذا المقال الرد على الرابع.
٢  آخر ما استقر عليه رأيهم وشرعت دولتهم في تنفيذه هو إخراج المسلمين من دينهم ولغتهم (العربية) بكل ما يمكن من وسائل العلم والتعليم والإكراه والإجبار وعدم تمكينهم مع ذلك من تعلم العلوم الطبيعية والاجتماعية والقانونية لئلا يطالبوا بالاستقلال الوطني أو المالي، وقد حدث في الماضي أن أكرهوا سلطان المغرب على توقيع مرسوم يخول الحكومة الفرنسية الحامية له تنفيذ ذلك في شعب البربر، فأنشأت لهم قانونا بربريًّا بعيدا عن الشريعة الإسلامية بعد الكفر عن الإيمان في الأحكام الزوجية والإرث وغير ذلك، ومدارس تعلمهم بها دين النصرانية باللغة الفرنسية، واللغة البربرية بالحروف اللاتينية، وتحرم عليهم تعلم اللغة العربية والديانة الإسلامية، حتى إذا ما تم لها إخراج البربر من الإسلام أكرهت العرب على ذلك ومن أبى تطرده من البلاد. وأما إيطالية الكاثوليكية الموالية للبابا فقد حاولت حين احتلالها ليبيا استئصال المسلمين من قطر طرابلس الغرب وبرقة وجعل بقايا أطفالهم إيطاليين كاثوليكيين بالقوة القاهرة تنكيلا وتقتيلا!! والله أشد تنكيلا وفي الجزائر وتونس فرضت اللغة الفرنسية على الأهالي، وحرمت التعليم باللغة العربية، وحاربت المدارس الأهلية الإسلامية، واضطهدت علماء المسلمين حتى هاجر الكثيرون من بلادهم إلى مصر وسورية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤