الفصل الأول

القيادة الكاملة في مقابل القيادة الجزئية

لكي تكون قائدًا في بيئة الأعمال المعاصرة، تحتاج إلى استخدام العقل، وإظهار المشاعر، والتصرُّف بشجاعة. وهذا ليس هدفًا غيرَ واقعي؛ فمعظم الأشخاص قادرون تمامًا على إظهار كل هذه الصفات الثلاث في مواقفَ معينةٍ. ولسوء الحظ، فإن غالبية المسئولين التنفيذيين أصبحوا إما معتمدين على إحدى هذه القدرات وإما موجودين ضمن أنظمةٍ مؤسسيةٍ لا تُكافِئهم أو تُحفِّزهم على اكتساب بقية القدرات الأخرى؛ فيظلون قادةً جزئيين، حتى عندما تكون مؤسساتُهم في حاجةٍ إلى قادةٍ كاملين.

أما سبب ذلك فهو مزيج من التاريخ والتدريب؛ فمن الناحية التاريخية، طالما تولَّى القيادة قادةُ الأعمال مستخدمين عقولهم، بحسب المفهوم القائل بأنك إذا استطعتَ تحليل الموقف واستوعبتَ البيانات واخترتَ من بين عددٍ من البدائل العقلانية، فبإمكانك أن تكون قائدًا قويًّا. وقد تدرَّبَتْ أجيال من حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال على استخدام هذه الأدوات التقليدية؛ ولذلك، فليس من المفاجئ أن الرؤساء التنفيذيين في أغلب الأحيان يُختارون لأنهم أذكى الأشخاص الموجودين؛ فالمؤسسات تختار المفكرين النابهين ليشغلوا مناصبَ القادة بالطريقة نفسها التي يختار بها المرضى أطباءَهم من بين أفضل أخصائيي تشخيص الأمراض، وفي كلتا الحالتين لا يولون اهتمامًا كبيرًا لطريقة المعاملة. وقد شدَّدت البرامج التنفيذية التي تقدِّمها كلياتُ الأعمال التركيزَ على القادة المعرفيين، من خلال التركيز على سجلات الحالات وإتقان القدرات الاستراتيجية والتحليلية.

وعلى الرغم من أهمية العقل للقيادة، فإنه غير كافٍ للوفاء بالمتطلبات التي يواجهها القادة في الوقت الحاضر؛ فعدمُ القدرة على إبداء التعاطف وإظهار السمات الشخصية، على سبيل المثال، يُنَفِّر الكثيرَ من الموظفين ويجعلهم غيرَ مهتمين؛ فينفذون في بعض الأحيان استراتيجيةً رائعةً لكن بطريقةٍ عقيمةٍ تفتقر إلى الإبداع وتعجز عن تحقيق الالتزام. أما انعدامُ الشجاعة فقد يعني عدم قدرة القائد على اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ لكن ضرورية تتعلَّق بكلِّ شيءٍ، بدايةً من الأفراد وحتى خطوط الإنتاج؛ ممَّا يخلق دون قصدٍ ثقافةً يسودها التردُّدُ وتفتقر إلى الطاقة والشغف.

وعلى الرغم من حقيقة أن معظم المؤسسات ما زالت تقدِّم أهمية العقل على أهمية القلب والشجاعة، فلقد عرفنا منذ وقتٍ طويلٍ أن القادة الأكْفاء يحتاجون ما هو أكثر من مجرد عقلٍ ذكيٍّ وتحليلاتٍ فعَّالة. وقد أظهرت الأبحاثُ التي أُجرِيت على مدار العقود العديدة الماضية ذلك الأمرَ مرارًا وتكرارًا؛ ففي تسعينيات القرن العشرين راجَعَ عالم النفس بوب هوجان كلَّ الأبحاث التي أُجرِيت في مجال القيادة حتى ذلك الوقت، واستنتج أن السمات الشخصية ترتبط ارتباطًا قويًّا بالكفاءة القيادية (هوجان وكيرفي وهوجان، ١٩٩٤). ومن بين الصفات التي تُميِّز أفضل القادةِ النضجُ العاطفي، والقدرة على خلق الثقة، والمرونة في العمل مع نطاقٍ من شخصيات الأفراد المختلفة. وهذا يعني أن أفضل القادة لديهم قلب، بالإضافة إلى ما يتمتعون به من نقاطِ قوةٍ أخرى؛ فالقادةُ الأكْفاء يُظهِرون الإصرارَ، والمثابَرةَ، والقدرةَ على التغلب على العقبات التي تعترض طريقهم؛ وهذا ما سنطلق عليه الشجاعة.

إليكم بعضًا من الأمور الأخرى التي أدركناها عبر دراسة القيادة:
• اسأل الأشخاص عمَّا يريدونه في قادتهم، وسوف يذكرون كلمات مثل: «الذكاء»، و«الأمانة»، و«الإصرار»، و«الضراوة»، بالإضافة إلى القدرة على التعامُل مع الناس، وهذه صفات تندرج بدقةٍ تحت رؤيتنا المتمثِّلة في العقل والقلب والشجاعة.
• إن اعتبار الأشخاص قادةً لا يرتبط فحسب بمدى ذكائهم، بل يرتبط بصفاتٍ أخرى أيضًا. وتزداد احتمالية اعتبارهم قادةً إذا كانوا يمتلكون التركيبة الصحيحة لما نطلق عليه العقل والقلب والشجاعة.
• من المحتمل أن تتعرقل مسيرة القادة إذا كانوا غير جديرين بالثقة، ومتسلطين، وغير مستعدين لاتخاذ قراراتٍ صارمةٍ تتعلق بالأفراد وبالعمل، وإذا كانوا يميلون إلى التحكم في تفاصيل عمل موظفيهم؛ أي إن الأشخاص الذين «يفتقرون» إلى العقل والقلب والشجاعة، تزداد احتماليةُ تَعرقُلِ مسيرتهم مقارَنةً بأولئك الذين يمتلكون تلك الصفات.

ومن ثَمَّ فإن فكرة ضرورة تمتُّع القادة بالقدرة على تجاوز قدرتهم المعرفية وإظهار إمكانياتٍ أخرى، لَهِي فكرة مدعومة جيدًا بالأدلة، حتى إنْ كانت لا تُطبَّق كثيرًا كما ينبغي. وبطبيعة الحال، فإن القائد الذي يعتمد بصورةٍ أساسيةٍ على القلب أو الشجاعة هو على القدر نفسه من عدم الكفاءة. وعلى الرغم من ذلك، فمعظمُ الأشخاص الذين يشغلون مناصبَ قياديةً في الإدارة العليا في الشركات في الوقت الحاضر هم أشخاصٌ يعتمدون على العقل؛ أما المديرون المعتمدون على القلب أو الشجاعة، فيُوصَمون بهذه الصفة أو يُستبعَدون قبل وصولهم إلى منصبٍ قياديٍّ رفيع، أو تُخصَّص لهم وظيفة أدنى درجة مناسِبة إلى حدٍّ كبيرٍ لتوجُّههم (وهذا يعني أن قادة القلب جرت العادة على نقلهم إلى مناصبَ متعلقةٍ بالموظفين أو بالموارد البشرية في أدوار «مساعدة»).

إن إضافة العقل والقلب والشجاعة إلى القيادة لَهِي فنٌّ وعِلْم أيضًا. ولاحقًا سوف نرى ما الذي تتضمنه هذه الإضافة، لكننا نحب أولًا أن نُبيِّن الأسباب التي جعلت القيادة الكاملة ضروريةً للغاية في عالمنا المعاصر.

(١) العوامل الدافعة لتبنِّي هذا الاتجاه القيادي

لقد لاحظنا أعددًا مذهلة من الرؤساء التنفيذيين الذين اتصفوا بالذكاء البالغ وشدة الفطنة، ومع ذلك فشلوا فشلًا مدوِّيًا في السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال: كان ديرك جاجر من شركة بروكتر آند جامبل، ومايك مايلز من شركة فيليب موريس، وفيل بيرسيل من مؤسسة مورجان ستانلي، أشخاصًا أذكياء ونجباء للغاية (وأمناء أيضًا)، وعلى الرغم من أن بعض إخفاقاتهم نتجت عن أحداثٍ خارجةٍ عن سيطرتهم، فإن كثيرًا منها يمكن أن يعود إلى أتباعهم كرؤساء تنفيذيين لمنهج قيادةٍ أحادي التفكير. وعلى الرغم من حماسهم وإصرارهم، فإن الافتقار إلى المشاركة الوجدانية، والشجاعة، والحَدْس، والاستعداد للاعتراف بضعفهم؛ أدَّى إلى عرقلة مسيرتهم، ومسيرة مؤسساتهم في بعض الأحيان.

في الماضي، كان من المحتمل إلى حدٍّ كبيرٍ ألَّا تتعرقل مسيرتهم. وحتى وقتٍ قريبٍ للغاية، لم يكن باستطاعة القادة الجزئيين الحفاظ على مناصبهم فحسب، بل كانوا يستطيعون الازدهار أيضًا. وقبل أن تصبح الأسواق العالمية أكثر شفافيةً، وتقلُّبًا واعتمادًا على شبكة الإنترنت، كانت القيادة الأحادية البُعْد كافيةً في الغالب، ولم يكن من الغريب أن تجد مسئولين تنفيذيين يديرون شركاتٍ من خلال الأوامر والسيطرة. لقد كان الرؤساء التنفيذيون الذين يتجنَّبون المخاطَرةَ هم القاعدةَ إلى حدٍّ كبيرٍ وليسوا الاستثناء، وكان القادة المتعاطفون والذين يُظهِرون المشاعرَ يُعَدُّون قادةً «ضعفاء».

لكن تغيَّرَتِ الأحوال، وفيما يلي تحديدٌ لبعض العوامل الدافعة إلى التغيُّر نحو القيادة الكاملة التي لاحظناها:

(١-١) الترابُط العالمي

في مقالةٍ بعنوان «حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال والصعود للمستوى العالمي»، أعلن نايجل أندروز ولورا دي أندريا تايسون نتائجَ استقصاءٍ سُئِل فيه مائة من القادة حول العالم عمَّا يحتاجه المسئولون التنفيذيون الشباب كي يحقِّقوا النجاحَ في الوقت الحاضر. أندروز هو عضو مجلس إدارة كلية لندن للأعمال، وتايسون هي عميدة كلية لندن للأعمال، وأجريا هذا الاستقصاء بدافع القلق من أن يكونوا لا يُعلِّمون طَلَبةَ ماجستير إدارة الأعمال الأمورَ التي يحتاجون إلى تعلُّمها كي يصبحوا ناجحين في سوق العمل العالمية. وكان قلقهما مبرَّرًا، وفقًا لنتائج الاستقصاء؛ إذ كان المسئولون التنفيذيون حول العالم يعتقدون أن تركيز الأساتذة في الكلية على المحتوى — أيْ تدريس الطَلَبة ما يحتاجون إلى معرفته — ليس كافيًا. وقال أندروز وتايسون إن القادة العالميين في المستقبل سوف يحتاجون أيضًا إلى ما أطلقا عليه مصطلح «المهارات والصفات» إلى جانب المعرفة. وهذه المهارات والصفات تشمل مهارات التعليق على الأداء، والاستماع، والملاحظة. وتحتاج الشركاتُ العالمية إلى قادةٍ ومديرين يزدهرون في ظل التغير، وتعكس أفعالُهم أعلى مستويات النزاهة (وهذه هي الصفات). ويمكن ترجمة كثيرٍ من الصفات التي ذكراها إلى القلب والشجاعة، بالإضافة إلى العقل «الواسع الأفق».

وينطبق ما اكتشفاه على أرض الواقع، خاصةً عند تأمُّل مقتضيات إدارة إحدى الشركات العالمية أو العمل بها. أولًا: يشيع توجُّه تكوين علاقاتٍ شخصيةٍ في مجال الأعمال في معظم الدول خارج الولايات المتحدة؛ فشخصية وطبيعة القادة لا تقلان أهميةً عن المنتجات والخدمات التي يبيعونها. فإذا كانت لديك معاملات تجارية مع دولٍ أخرى، فلا بد أن تُظهِر صفاتٍ معينة (الاحترام، التواضع، الثقة) يتوقَّعها ويُقدِّرها قادةُ الشركات الأجنبية لا شعوريًّا؛ ومن ثَمَّ يُعَدُّ توظيف القلب صفةً ضرورية.

ثانيًا: إذا كنت تعمل على نطاقٍ عالمي، فستكون المخاطرُ بطبيعة الحال أكبرَ ممَّا ستكون عليه إذا كنتَ تعمل في مؤسسةٍ محلية. إن التعقيد والغموض اللذين يكتنفان المعاملات الدولية أو العمل في ثقافةٍ مختلفةٍ، لهما تأثير كبير، ويتطلبان اتخاذَ قراراتٍ دون الدرجة المعتادة لليقين من صحتها؛ ذلك اليقين الذي نشعر به في بيئة العمل المحلية المألوفة. إن أفضل القادة العالميين يشعرون بالراحة أثناء العمل في ظل بيئةٍ يكتنفها الغموض، وهم قادرون على جعْل المخاطرات مثمرةً؛ تلك المخاطرات المعتمدة على الحَدْس والعلاقات الشخصية قدر اعتمادها على مهاراتهم التحليلية. فتقلُّب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سوق العمل العالمية، يتطلَّب قادةً يستطيعون التعايُش مع هذا التقلُّب، بل الاستفادة منه أيضًا. أما القادة الذين يتجنبون المخاطَرة في مواجَهة الأوضاع الملتبسة والظروف المتغيرة، فلا يصبحون قادةً عالميين أكْفاءً.

ثالثًا: قائد الإدارة العليا العالمي لا يمكن أن يركِّز فقط على إجراءات واستراتيجيات الجوانب التقنية. والأشخاص في المناصب القيادية في الشركات العالمية يفشلون عندما تقتصر معرفتُهم على مجالات تخصُّصهم؛ فعندما يتناول المسئولون التنفيذيون الأمريكيون العشاءَ مع قادةٍ أوروبيين، على سبيل المثال، يجب ألَّا تكون وجهةُ نظرِهم وفهمُهم محيطَيْن علمًا بقضايا الأعمال فحسب، بل يجب أن يتضمَّنَا الاتجاهات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية أيضًا؛ فهؤلاء القادة لا بد أن يتحلَّوْا كذلك بِسِعة الأفق، وأن يكونوا قادرين على تفهُّم القِيَم الثقافية والأنماط السلوكية المتنوعة.

(١-٢) زيادة تعقيد التنفيذ

توجد خرافة يعتنقها الكثيرون، تقول إن الأشخاص الذين «ينجزون المهامَّ» في المؤسسات يعملون اعتمادًا على عقولهم في المقام الأول، وإنهم أناسٌ آليون جادُّون شديدو العزم، يوجِّهون كلَّ شيءٍ ويقيسونه من أجل تحقيق نتائج ممتازة. وعلى الرغم من أن التنفيذ يتطلَّب بالفعل توجيهًا وتركيزًا، فقد قدَّمَ لاري بوسيدي ورام تشاران أدلةً كافيةً على أن التنفيذ يتضمَّن أيضًا مهاراتِ تفاعلٍ اجتماعيٍّ قويةً واستعدادًا للمخاطرة. وفي كتابَيْهما «التنفيذ» و«مواجهة الحقيقة»، يوضحان أن الذكاء العاطفي يلعب دورًا مهمًّا في إنجاز المهام، وأن القدرة على تشجيع الآخَرين على إنجاز المهام أمرٌ ضروري. ويتناولان كذلك الشجاعة كصفةٍ للأشخاص الذين يُحقِّقون أهدافًا طموحة، مشيرَيْن إلى أن تنفيذ الأمور الصعبة يتطلَّب ما هو أكبر من مجرد قدرٍ قليلٍ من الشجاعة.

إن تركيبة التنفيذ في الوقت الحاضر أعقد ممَّا كانت عليه منذ سنوات؛ ففي الماضي عندما كانت السلطة أكثر تمركُزًا، كان الرؤساء التنفيذيون وغيرهم من قادة المؤسسات يستطيعون إصدارَ توجيهاتٍ وهم يتوقَّعون تنفيذَها بسرعةٍ وباجتهاد. وبالمثل، كانت بيئةُ الماضي خاضعةً لقدرٍ أقل من سيطرة الشركات العالمية، والتغيُّر التكنولوجي المستمر، والعقبات الأخرى التي قد تظهر في طريق تنفيذ الأهداف. أما في الوقت الحاضر، فالتنفيذ يتطلَّب في أغلب الأحيان مزيجًا من السلطة والتأثير، ومن المخاطرة والتحليل، ومن الإيضاح (أو إقناع الناس) والإلهام (أو الاستحواذ على قلوبهم).

(١-٣) النمو

يتطلَّب النمو ما هو أكثر من مجرد استراتيجيةٍ جيدةٍ هذه الأيام. وعلى الرغم من أن الاستراتيجية قد تكون ذكيةً ومتوافِقةً مع المعلومات حول تفضيلات العملاء، ومع اتجاهات السوق، فإنها نادرًا ما تنجح اعتمادًا على مزاياها الاستراتيجية فحسب. والاستراتيجية المفروضة هي استراتيجيةٌ يمكن تنفيذها بكفاءةٍ لكن دون حماسٍ أو طاقة أو ابتكار أو فعالية. من واجب القادة أن يثيروا حماسَ الأشخاص إزاء استراتيجية النمو، وأن يقنعوهم بأن يثقوا في رؤية القيادة لمستقبل الشركة، وأن يشعروا بأنهم سيكونون قادرين على الإسهام في تحقيق تلك الرؤية. إن الأشخاص الذين يعملون في المؤسسات أصبحوا أكثر وعيًا من أي وقتٍ مضى من خلال شبكة الإنترنت، ومدة الخدمة الأقصر، والتبادُل المستمر للبريد الإلكتروني؛ وهم أيضًا أكثر تشكُّكًا وأقل ثقةً؛ ومن ثَمَّ لن يقدِّموا الالتزام، والجهد الإضافي، والتفكير الابتكاري التي يتطلَّبها النمو، إلا إذا آمنوا بالرؤية، وإنه لَمنوط بالقادة المساعَدة في خلق هذا الإيمان وهذا الالتزام.

النمو ينطوي أيضًا على المخاطرة. قليلة هي الشركات التي تنعم بميزةٍ تنافسيةٍ في القرن الحادي والعشرين نتيجةً لتقديم منتجاتٍ أفضل، أو السيطرة على السوق، أو امتلاك قدرةٍ تسعيرية، كذلك لا يوجد سوى عددٍ قليلٍ جدًّا من العناصر المؤكدة في مجال استراتيجيات التوسُّع؛ فعلى الرغم من أن الشركات قد تبدأ في الاستحواذ على شركةٍ أخرى أو تُقدِّم منتجاتٍ جديدةً بثقةٍ، فإنها أيضًا تخاطر في كل مبادَرةِ نموٍّ. قد تتجنَّب القيادةُ المحافِظة مثلَ هذه المبادرات؛ نظرًا لعلمها بأن احتمالات النجاح أقل ممَّا كانت عليه منذ عشر سنوات، وربما تفضِّل استراتيجيات تُقدِّم نموًّا أقل ومخاطَرةً أقل بكثير. إن الركودَ تهديدٌ حقيقي للشركات التي تتبنَّى هذه العقلية؛ ما يُحتِّم على القادة أن يكونوا مستعدين لدعم وتنفيذ استراتيجيات النمو التي يؤمنون بها حقًّا.

(١-٤) الحاجة إلى الابتكار

طالما كان تعريف «الإبداع» أنه نظرةٌ فريدة على أحد المواقف تُسفِر عن حلٍّ أفضل. وكان تعريف «الابتكار» أنه تطبيق هذه النظرة الفريدة على المؤسسة وتغيير طريقة أدائها. وربما كان التعريف الأول جيدًا في السنوات الماضية، لكن التعريف الأخير أصبح تبَنِّيه لزامًا على القادة في الوقت الحاضر. إن القادة المبدعين الذين يستخدمون عقولَهم ويأتون بحلولٍ أفضل هم قادة جيدون، لكنهم في الغالب يجدون لإبداعهم تأثيرًا ضئيلًا على طريقة أداء الشركة.

تعجُّ الشركات في الوقت الحاضر بأفكارٍ تقدُّميةٍ تتحطَّم في الغالب أثناء انتقالها من مرحلة التطوير إلى مرحلة التنفيذ. ولا تربو في النهاية عن شراراتِ برقٍ لامعةٍ خاطفةٍ أضاءت في الظلام؛ أيْ ببساطةٍ تفشل هذه الأفكار في تحقيق ما هو أكثر من خلْق إثارةٍ مبدئيةٍ حول منتجٍ جديدٍ واعد، أو خدمة، أو عملية، أو سياسةٍ واعدة، وتتبدَّد بعد ذلك في خضم توقُّعاتٍ غير مُحقَّقَة.

والتحدِّي اليومَ يكمن في خلق مناخٍ من الابتكار، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا اجتمعتْ قيادةٌ تُوظِّف القلب والشجاعة مع قيادةٍ تُوظِّف العقل. إن أنظمة إدارة المعرفة ليست ذات قيمةٍ كبيرةٍ إنْ لم تتضمَّن عملياتِ تبادُلٍ معرفيةً دقيقةً وعلنيةً تتجاوز الحدودَ الداخلية؛ ففي كثيرٍ من الشركات، يحتفظ الموظفون بالأفكار الجيدة لأنفسهم، ويخافون من الإعلان عن عملهم المبدع خشيةَ عدمِ تلقِّي التقدير أو العجز عن التحكُّم في التطبيق. ويظل بعض الأشخاص متردِّدين في مشاركة أفكارهم مع الآخرين في الوظائف أو المكاتب الأخرى أو في المستويات الإدارية المختلفة عن مستواهم؛ نظرًا لضعف علاقاتهم معهم أو عدم ثقتهم في حماية الآخَرين للأفكار واستخدامها بحكمة.

تبحث الشركات في الوقت الحاضر عن قادةٍ يخلقون بيئةً لا يُثبطُ فيها الخوفُ أو القلقُ الموظفين، بيئةً لا يتحمَّسون فيها لمشاركة وجهة نظرهم فحسب، بل يتقبَّلون كذلك سماعَ أفكار الآخرين وتبنِّيَها، حتى إن كانت من مصادر خارج شركاتهم. وترغب الشركات أيضًا في قادةٍ قادرين على فرض الانضباط على عملية توليد الأفكار؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، في أثناء البحث الخاطئ عن الابتكار، يتبنَّى القادة كلَّ الأفكار الجديدة خوفًا من أن يثنيَ الرفضُ الموظفين عن المساهمة بالأفكار. أو قد يحابون الأفكار الصادرة عن أصحاب المناصب والسلطة على حساب الأفكار المولَّدة من خلال الاكتشاف المنظَّم. وتلزم الشجاعة لقتل الأفكار التي تستحق القتل، وتصعيد الأساليب الجديدة المفيدة حقًّا إلى المستوى التالي، ورفض الأخرى التي تفتقر إلى احتمالية النجاح. وبالطريقة نفسها، يحتاج القادة أيضًا إلى الشجاعة اللازمة لتحمُّل قدرٍ معقولٍ من الفشل والتعلُّم من أخطائهم؛ فبعض الأفكار الرائعة تنتهي بها الحالُ بالفشل، ولا بد أن يعلن القائد أن قدرًا معينًا من الفشل يلازم مجالَ الابتكار.

(١-٥) ارتفاع سقف التوقعات

يتوقَّع معظم الموظفين أكثر من مجرد قائدٍ أحاديِّ البُعْد. ونظرًا لأن الأشخاص العاملين في الشركات أصبحوا أكثر تعقيدًا ووعيًا بقضايا القيادة والتنمية، من خلال وسائل الإعلام التقليدية وشبكة الإنترنت وحواراتهم مع الزملاء والأصدقاء، فإن الموظفين يضعون معايير أعلى لقادتهم. منذ فترةٍ قريبةٍ لا تتجاوز عشر سنوات، كان أغلب موظفي المكاتب ذوي الياقات البيضاء خاملين إلى حدٍّ كبير؛ إذ كانوا يتوقَّعون الحصولَ على مُرتَّب معقول، والحصول على مزايا معقولة، والاحتفاظ بوظيفتهم لسنواتٍ ما داموا يقومون بالأعمال المنوط بهم إنجازها. وقليل منهم كان يتوقَّع الخضوع للتوجيه أو التطوير؛ وعدد أقل كان يتوقَّع من قادته التفهُّم، أو توظيف الحَدْس، أو بث الحيوية، أو إزالة العقبات وتسهيل تدفُّق المعلومات.

واليومَ، أصبح لدى الموظفين قدرٌ أكبر من المعلومات ويتوقَّعون أكثر من مجرد توجيهاتٍ وقرارات، وهو ما يرجع إلى حدٍّ كبير إلى شبكة الإنترنت وغيرها من وسائل التكنولوجيا. إنهم يريدون أن يعرفوا لماذا تحدث الأحداث، ويتوقَّعون الذكاء أو الكفاءة في قادتهم، ويدركون أن قرارات القيادة يمكن أن تؤثِّر مباشَرةً على الحوافز، وزيادة المرتبات، والوظيفة التي قد يشغلونها أو قد لا يشغلونها في الغد. فلقد رأَوْا مؤسساتٍ بَدَتْ لا تُقهَر تتعرَّض للفشل بسبب قِصَر نظر قادتها، أو انفصالهم عن الموظفين، أو عدم أمانتهم. ونتيجةً لذلك، فإنهم يسعَوْن للعمل مع قادةٍ يتمتَّعون بنطاقِ قدراتٍ أكبر ممَّا كان عليه الوضع في الماضي.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإنهم يرغبون في قادةٍ يستطيعون قيادة الشركة في بيئةٍ تتسم بالخطر والتقلب؛ فالصناعات التي كانت في السابق لا تُقهَر مثل الصناعات الدوائية، والخدمات المالية، والبضائع الاستهلاكية التي استمتعتْ بسنواتٍ من النمو والربحية، أصبحتْ فجأةً مهدَّدةً بمنافسين جدد، وتشريعاتٍ جديدة، وتقنياتٍ جديدة. أيضًا، الإرهاب والأمن والأعاصير والكوارث الطبيعية ونقص الطاقة؛ كلها عوامل تزيد التحدِّي التنافُسي الذي يواجه كلَّ الشركات. قد يحيط بنا الخوفُ من جميع الاتجاهات؛ ومن ثَمَّ يحتاج الأفراد إلى قادةٍ يستطيعون الثقةَ في قدرتهم على مساعدتهم في المُضي قدمًا. لقد أصبح الموظفون بطبيعة الحال يشعرون بأنهم معرَّضون للخطر أكثر من ذي قبلُ، ولهذا السبب يتوقَّعون أن يكون قادتهم أكثرَ من مجرد مخطِّطين استراتيجيين بارعين؛ إنهم يتوقَّعون من قادتهم أن يحموهم، ويوجِّهوهم، وأن تكون لديهم قوةُ الشخصية اللازمة لفعل الصواب.

(٢) صفات القائد الكامل

مَن القادة الكاملون في وقتنا الحاضر؟ إنهم حولنا في كل مكان. عندما نفكِّر في قائدٍ كاملٍ يبرز رودي جولياني عمدة نيويورك السابق فورًا في أذهاننا؛ فبعدَ أحداث ١١ سبتمبر، أظهَرَ مزيجًا استثنائيًّا من العقل والقلب والشجاعة، ويرجع هذا الوصف إلى حدٍّ كبيرٍ إلى أن جانب القلب من شخصيته القيادية نادرًا ما كان يظهر في الماضي. لقد كان معروفًا بأنه صارم، وذكي، بل كان يُعتبَر أيضًا متحجِّر القلب إلى حدٍّ ما بسبب صرامتِه في التعامُل مع الجرائم، وإجراءاتِ طلاقه التي نالت قدرًا كبيرًا من اهتمام الجماهير، وطموحِه الذي لا حدودَ له.

وعلى الرغم من ذلك، ففي ظل التغطية الإعلامية المكثفة التي أعقبت الهجوم الإرهابي، أظهر جولياني ترابُطه العاطفي وضعفه للعالَم؛ فهو لم يكن حاضرًا فحسب في مسرح الجريمة يُقدِّم الدعمَ لرجال الإطفاء وأُسَر الضحايا، بل إن مؤتمراته الصحفية أظهرتْ واستثارَتْ تعاطُفًا صادقًا وإحساسًا حقيقيًّا. وعندما سأله أحدُ المراسلين عن أقصى عددٍ متوقَّعٍ للضحايا، أجاب قائلًا: «عندما نحصل على العدد النهائي، سيكون أكبر ممَّا يمكننا احتماله.» أظهر جولياني كذلك الشجاعة والمخاطرة في ردِّ فعله تجاه تلك المأساة؛ إذ قيَّدَ حركةَ الدخول والخروج في نيويورك، على الرغم من أن هذا الأمر أزعَجَ ملايين من الأفراد وضايَقَ العديد من الشركات. وكان مستعِدًّا لقول: «لا أعلم.» في مواقف عديدة، وهذا غالبًا يُعتبَر أسلوبًا خطيرًا بالنسبة إلى قائدٍ يريد أن يراه الناسُ مسيطرًا على الموقف.

وعلى الرغم من ذكاء جولياني وما أبداه دومًا من قدرةٍ على التحليل والتفكير بوضوحٍ في المشكلات التي واجَهَها، فإنه لم يستخدم عقله بالطريقة الضيقة الأفق التي يتبعها بعضُ القادة، بل كان متفتِّحَ الذهن وصريحًا في ردوده على الإعلام، فلم يُظهِر شخصيته التحليلية الجافة غير العاطفية باعتباره مدَّعِيًا عامًّا سابقًا؛ ولم يلجأ كذلك إلى إضفاء الغموض على الموقف أو اللجوء إلى التعميم، كما يفعل كثيرٌ من السياسيين عند الرد على الأسئلة الصعبة؛ كما لم يتخذ موقفًا دفاعيًّا. لقد مزج القصصَ بالبيانات، ومزج المعلومات الجيدة التوقيت بتفسيراته الشخصية، وعلى هذا النحو قدَّمَ رؤًى نادرًا ما يُقدِّمها السياسيون.

على صعيد الأعمال، تُمثِّل أندريا يونج، الرئيس التنفيذي لشركة إيفون، قائدًا يمزج ببراعةٍ بين العقل والقلب والشجاعة، ونحن نعرفها جيدًا. منذ عدة سنوات عندما كانت إيفون في حالة تغيُّرٍ جذري، كانت القدرة الاستراتيجية لِيونج تلعب دورًا محوريًّا؛ إذ كان منوطًا بها وضعُ استراتيجيةِ تسويقٍ ووضعُ خطةِ عملٍ سليمةٍ لاستعادة ثروات شركة تُحتضَر. وعندما أعَدَّتْ هي وفريقها الاستراتيجيةَ المطلوبة — وكانت استراتيجيةً تهدف إلى تحويل التوجُّه التقليدي للشركة من الاهتمام بالناس إلى تبنِّي عقليةٍ تهتمُّ بالأداء — كانت أندريا يونج، بصفتها الرئيس التنفيذي، مغامِرةً ذكية؛ فاستعانت بحملةٍ إعلانيةٍ مبتكَرةٍ، وتخلَّصت من العلامات التجارية غير المربِحة، وأغلقت بعض المصانع، واتخذت خطواتٍ أخرى لتنشيط الأداء. وفي الوقت نفسه، لم يكن الأفراد المتشبِّعون بثقافة إيفون ليوافِقوا على استراتيجيتها لو لم تكن شخصًا محلَّ ثقة. إن تركيزها على التواصُل وبناء العلاقات، بالإضافة إلى إصرارها على ضرورة أن يتمتَّع كلُّ فردٍ في فريقها بالذكاء العاطفي ويُظهِره؛ دعَمَ هذه الثقة. ومع مرور السنوات، اضطُرَّتْ أندريا إلى اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ متعلِّقة بالأفراد، واستطاعت أن تحافظ على ولاء واحترام موظفي إيفون، على الرغم من تسريح الموظفين القدامى. إن اتخاذ مثل هذه القرارات تطلَّبَ الشجاعةَ، والحفاظُ على الروح المعنوية المرتفعة بعد اتخاذ تلك القرارات تطلَّبَ توظيفَ القلب.

(٣) القيادة السياقية

في كلٍّ من المثالين السابقين، قد تلاحظ أن استجابةَ يونج وجولياني كانت محدَّدةً بسياقِ موقفٍ معين؛ لقد تمكَّنَا من الانتفاع بسلوكياتٍ توظِّف العقل والقلب والشجاعة حسبما اقتضت الأحداث. ومن المفيد استعراض هذه المرونة القيادية من زاوية «السياق مقابل المحتوى».

لقد أجْرَتْ شركتنا (ميرسر دلتا) مؤخرًا دراسةً على عددٍ من الرؤساء التنفيذيين حول قيادة السياق مقابل قيادة المحتوى، واكتشفنا أن قادة السياق كانوا أكثر كفاءةً من قادة المحتوى بمعدل ثلاثة أضعاف؛ فقادة المحتوى ينتمون إلى نوع القيادة التقليدي الذي يعتمد على العقل؛ فهم يشعرون بالحاجة إلى استخدام معرفتهم لإضافة قيمةٍ عند مقابَلة الآخَرين. أما قادة السياق فيضيفون القيمة من خلال التعرُّف على الموارد الأخرى المتاحة عند دخول إحدى القاعات واستخدامها بكفاءة. إن الإدارة وفق السياق تتطلَّب القلب والشجاعة؛ فهؤلاء القادة يحتاجون إلى المخاطرة بالاعتماد على غيرهم لإضافة القيمة، ويجب أن يتواصَلوا مع الأشخاص الآخرين كي يكونوا مستعِدِّين لمساعدتهم في تحقيق أهدافهم. بيل ويلدون من جونسون آند جونسون، وجيف إميلت من جنرال إليكتريك، وستيف راينمند من شركة بيبسي؛ كلهم رؤساء تنفيذيون يتبعون نهج قيادة السياق. إن الظهورَ بمظهر الشخص الأذكى في المكان أقلُّ أهميةً بالنسبة إليهم من القدرة على استخدام العقل والقلب والشجاعة حسبما يقتضي الموقف.

يلعب السياق دورًا محوريًّا لأي قائدٍ يعمل في بيئة عالمية. في الماضي، كان بإمكان القادةِ الاعتمادُ على معرفتهم لحل معظم المشكلات والتعامل بكفاءةٍ في معظم المواقف؛ وفي أغلب الأحيان، كان القادة يعملون في إطار بيئةٍ أو مجموعةٍ من التخصُّصات المحدودة والثابتة نسبيًّا. أما اليوم، فيتغيَّر السياق باستمرار؛ ففي أحد الأيام، قد يكون من المهم للرئيس التنفيذي إظهارُ التعاطُف عند إعلان تصفية أو إغلاق أحد المصانع؛ وفي اليوم التالي قد يركِّز على إبرام تحالُفٍ مع شريكٍ صينيٍّ أو آسيويٍّ لخلق فرصةٍ رائعةٍ للنمو. وفي كلا الموقفين، يجب أن يقرِّر الرئيس التنفيذي مسارَ عملٍ، واضعًا في اعتباره أنه في جميع المواقف تقريبًا التي تتطلَّب اتخاذَ قرارٍ ما، ينطوي الجانب الإيجابي على جانبٍ سلبي، وأن القدرةَ على اتخاذ القرار السليم، اعتمادًا فقط على تحليل المعلومات الموجودة، مستحيلةٌ تقريبًا. يجب أن يمتلك حسَّ مخاطَرةٍ يكاد يكون فطريًّا كي يحدِّد ما إذا كانت المخاطرة أم تقليل التكاليف هو الحلَّ المفيد؛ وفي اليوم الثالث، قد يواجه دعوى قضائيةً بسبب الملكية الفكرية، أو مطالبات المساهمين أو الموظفين، ولتقليل الضرر الذي قد يخلفه أيٌّ من هذين الأمرين، قد يحتاج إلى إظهار اعتمادٍ متساوٍ على كلٍّ من العقل والقلب والشجاعة لإدارة المشكلات الناشئة.

إن نوعية القائد التي نصفها ليست مثاليةً أو خاليةً من نقاط الضعف؛ فمن الممكن أن يبالغ في إبداء الشجاعة في وقتٍ يتطلَّب الاعتمادَ على الذكاء. وقد يميل بفطرته أيضًا إلى جانب القلب أكثر من جانبَيِ العقل والشجاعة، ويحتاج إلى أن يملك وعيًا بالغًا بجميع وجوه شخصيته القيادية؛ وربما يحتاج إلى بذل مجهودٍ أكبر لاستخدام الجانبَيْن الآخَرين من شخصيته اللذين لا يَظهران بسهولةٍ مثل تعاطُفه، وقدرته على التواصُل ومهارته في الاستماع؛ ولذلك، فالحل هو استخدام كلٍّ من الأجزاء الثلاثة للإمكانيات القيادية؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، يعتمد القادة تلقائيًّا على أسلوبهم الذي أثبت جدارةً في حل المشكلات أو تكوين العلاقات أو الاستفادة من الفرص؛ أي الإمكانيات والصفات التي نجحت معهم في الماضي. وهكذا يبالغون في الاعتماد على خبرتهم الماضية، ويفترضون تلقائيًّا أن بإمكانهم التعامُلَ مع التحديات بالطريقة التي طالما اتبعوها؛ فيصبحون في النهاية قادةً جزئيين، وهذا كما سنرى، يمكن أن يخلق مشكلاتٍ عويصةً في حياتهم المهنية وداخل شركاتهم.

(٤) عيب الكفاءة الجزئية

لا نريد أن نعطيَ انطباعَ أن القادة الجزئيين غيرُ قادرين على النجاح؛ فلقد عملنا مع الكثير من كبار التنفيذيين النابهين الذين قادوا فِرَقَ عملٍ تمكَّنتْ من وضع استراتيجياتٍ عالية الربحية والنجاح في تنفيذها. إن الأشخاص الأذكياء قادرون في الغالب على الإتيان بأفكارٍ مبتكرةٍ تُسفِر عن منتجاتٍ وخدماتٍ ناجحة، وهم قادرون على تحليل البيانات، وتكوين الشراكات والتحالفات، واستخدام القدرة العقلية الخالصة بمائة طريقةٍ مختلفةٍ لقيادة المؤسسات.

في بعض الأحيان قد يَفرض السياق قيادةً تعتمد على العقل؛ فعلى سبيل المثال: قد تكون الشركات هي الأولى في السوق (في الوقت الحاضر على الأقل)، وتحتاج إلى رئيسٍ تنفيذيٍّ يكون مفكرًا استراتيجيًّا قويًّا وماهرًا في الأمور المالية. أو قد يَفرض الوضعُ نوعًا آخَر من القيادة الجزئية؛ فالمؤسسات غير الهادفة للربح، على سبيل المثال، جرَتِ العادةُ على إدارتها من قِبَل رؤساء تنفيذيين يركِّزون على جانب القلب لأنها سعتْ لأنْ تكون شركاتٍ تَوَجُّهها مُنْصَبٌّ على الناس في المقام الأول، وعلى جني المال في المقام الثاني؛ ممَّا أدَّى إلى ارتفاع نفقات جمع التبرعات وغيرها من المصاريف وانخفاض المصداقية. إذا لم تكن الظروف آخِذة في التغيُّر، فإن القيادة الجزئية ستكون لا بأسَ بها. لكن، كما نعلم جميعًا، الأمور تتغيَّر أسرع ممَّا يمكن أن نتخيَّل.

ولأن البيئة الحالية تعجُّ بالتغيير والمتطلبات المعقدة، فإن أسلوب الإدارة الجزئية يكشف نقاطَ ضعفِ القائد. عندما يكون الأفراد ضعفاء في مجالٍ أو مجالين من المجالات الثلاثة للإدارة الكاملة، ينتهي بهم المطاف بالتعرُّض لمواقف يفتقرون فيها إلى مجموعة خيارات لازمة للتعامُل مع تحدياتهم بكفاءة. وتؤيد دراساتُ القيادة هذا الرأي؛ فقد وجدَتْ شيلي كيركباتريك وإيد لوك أن القادة الأكْفاء لديهم معدلُ ذكاءٍ مرتفعٌ ومعرفةٌ واسعةٌ بمجالات عملهم (العقل)، ويديرون بنزاهةٍ وثقةٍ (القلب)، ويُظهِرون الإصرارَ والعزيمةَ (الشجاعة).

لنُلْقِ نظرةً على بعض التبعات التي تحدث عندما يتولَّى الأفراد القيادةَ مستعينين على نحوٍ أساسيٍّ بنقاط قوتهم المعرفية أو قدرتهم التحليلية؛ أيْ بعقولهم. وعلى وجه التحديد، هذا ما يحدث عندما يفعل الرؤساء التنفيذيون ما يلي:
• «إخافة الأفراد بذكائهم»: إن النبوغ الفكري بلا مهاراتِ تواصلٍ مع الأفراد أو شجاعةٍ يتحوَّل إلى نبوغٍ باردٍ مبهر، ويدعم ثقافة مؤسسية تستنسخ شخصية القائد. ونحن نعرف أحد الرؤساء التنفيذيين كانت لديه قدرة مخيفة على استدعاء بياناتٍ غامضةٍ أو محادثاتٍ تعود لعامٍ مضى في لحظةٍ خاطفة. وعندما يختلف معه مرءوسوه كان يُفحِمهم بالإحصاءات.
إنَّ عَجْز الرئيس التنفيذي عن الاستماع بإمعانٍ أو التحكم في غروره، جعَلَ فريق إدارته في نهاية الأمر ينصاع إلى تحليله في جميع الحالات؛ فلم يعارضه أحد، ونظرًا لأن الشركة كانت تعمل بنجاح، وتسيطر على حصتها السوقية، وتمنع المنافسين من الفوز بميزةٍ استراتيجية، كانت الأمور على ما يرام. لكن عندما دخل الاقتصاد في حالة ركودٍ بعد أحداث ١١ سبتمبر، وقدَّم المنافسون الأجانب تكنولوجيا متفوقة، كان هذا الرئيس التنفيذي عاجزًا عن استنفار فريقه للعمل فورًا واتخاذ الإجراءات التي قرَّر أنها مطلوبة؛ فلم يخسر فحسب الكثيرَ من كبار الموظفين، لكنه عجَزَ أيضًا عن دفع الشركة نحو دعم استراتيجيته لتغيير الموقف للأفضل، على الرغم من احتمالية كونها استراتيجيةً ذكية.
• «تشويش الأمور عبر تعقيد الموضوعات»: الأشخاص الذين يقودون باستخدام عقولهم فقط معرَّضون لخطر المبالغة في التفكير في المشكلات والمبالغة في تحليل الفرص؛ فبدلًا من تحديد الخيارات بوضوحٍ أو تقديم بياناتٍ كافيةٍ فحسب لاتخاذ القرار، يعتقد هؤلاء الأشخاص أن أي مشكلةٍ هي مجموعة من التحديات العقلية؛ ومن ثَمَّ يُثقِلون كاهل الجميع بالإحصائيات، والأفكار، والبدائل. وقد يفتقرون إلى شجاعةِ مواجَهةِ الجوانب العاطفية في الموقف، أو يتأخرون في اتخاذ القرار. وهذا الأسلوب المعقَّد يجعل الأشخاص يشكِّكون في أفكارهم الأبسط (والأكثر فاعليةً في أغلب الأحيان)، ويذعنون إلى التعقيد.
• «السيطرة على المحادثات»: لا شك أنك قابلتَ مسئولين تنفيذيين مغرمين بسماع أصواتهم؛ فهؤلاء يخطبون ويُفتون، ويستمتعون كذلك باستعراض معرفتهم وآرائهم المتبحِّرة، ويفتقرون إلى شجاعة السماح للآخرين بالتعبير عن آرائهم (فهم يخشَوْن أن يُثبِت أحدهم أنهم على خطأ)، ويفتقرون كذلك إلى القلب الذي يشعر بالآخرين ويعترف بقيمة ما يمكن أن يسهموا به. قد يتمتَّع هؤلاء القادة بفصاحةٍ وقدرةٍ هائلةٍ على الإقناع، لكنهم في النهاية يَثْنُون مرءوسيهم المباشِرين عن مشاركة مشاعرهم أو أفكارهم الحقيقية. إن القائد المسيطر يجعل الآخرين يتوهمون أنه مسيطر تمامًا ويعرف كل شيء، لكن هذا الوهم ينتهي في الغالب بإيذاء الشركات التي تتخذ قراراتٍ اعتمادًا على معلوماتٍ ناقصةٍ لدى الإدارة العليا، أو اعتمادًا على النظرة الضيقة لفردٍ واحد.
• «تغيير الاتجاه دون التزام الشفافية»: يتمتع هذا القائد بذكاءٍ شديدٍ ويدير الكثير من الأمور داخل عقله، حتى إن الموظفين لا يدركون أنه غيَّرَ من استراتيجيته المتبعة. لا يدرك هذا القائد أن الآخرين تائهون؛ ولا يرى أنه يتجه نحو اليسار وأنهم يتجهون نحو اليمين. ولا يفطن كذلك إلى الإشارات المهمة الكامنة ضمن ثقافة الشركة، وبعض هذه الإشارات سببها تصرُّفه أو عدم تصرُّفه. إن القائد المعتمد على القلب يستطيع قراءة الناس جيدًا والشعور بهم عندما يتخلَّفون عن الركب، لكن الأشخاص الذين يقودون معتمدين تمامًا على العقل يمتلكون في الغالب قدرًا قليلًا من فهم الآخرين. وفي نهاية المطاف، عندما لا يتعاون القائد وفريقه، تتراكم الأخطاء.
• «الفشل في ربط خبرة الأشخاص الآخرين بالاتجاه الذي تتوجَّه إليه الشركة»: في بعض الأحيان، تَكمن مشكلة القائد في عدم القدرة على جعْل الآخرين يتبنَّوْن التغيير في السياسة أو في الاستراتيجية. وقد يبذل القادة مجهودًا رائعًا في شرح الاتجاه الجديد، لكنهم يعجزون عن تحفيز الناس لتبنِّي التغيير؛ فهم لا يستطيعون إثبات أن الاتجاه الجديد سيؤثر على الأشخاص الآخرين تأثيرًا إيجابيًّا. ويعجزون كذلك عن فهم استجابات مختلِف الأفراد؛ فعلى سبيل المثال: قد لا يفهمون لماذا يُبدِي نائب الرئيس قلقًا بالغًا حيال التأثير الذي سيُحدِثه الاتجاهُ الجديد على مؤسسته، أو موارده، أو إمبراطوريته؛ أو لِمَ يعتقد أحد الموظفين أن هذا الاتجاه سيتطلَّب منه فعلَ أمورٍ لم يفعلها قطُّ من قبلُ؛ أو كيف أن شخصًا ثالثًا ربما يركِّز على خبرةٍ سابقةٍ لا علاقةَ لها تقريبًا بالاتجاه الجديد؛ ونتيجةً لذلك، سيكون تبنِّي الناس للاتجاه الجديد فاترًا لأن القائد لم يتفهَّم أسبابَ مقاومتهم له.
• «الحث على الأداء دون دمج قِيَمٍ أخرى»: إن العقلية التي تركِّز على النتائج فقط هي ضرب من الماضي، والمؤسسات التي يديرها أشخاصٌ يتبنَّوْن عقلية الأداء مهما كان الثمن تجعل الموظفين متشكِّكين. وعلى الرغم من صعوبة تحقيق التوازن بين التركيز على النتائج وبين قِيَمٍ مثل الأمانة والتعاطف والثقة، فإن القادة الكاملين يبذلون جهدًا واعيًا وجليًّا من أجل تحقيق ذلك. وحتى إن لم ينجحوا بالكامل، فسوف يعكسون أهمية هذا التوازن بالنسبة إليهم؛ ما يؤدِّي إلى بيئة عملٍ سيشعر فيها الناس بالاحترام، وسيصبح فيها كونُ المرء عضوَ فريقٍ جيدًا أو شريكًا جيدًا أمرًا مهمًّا مع مرور الزمن. وسيستمر الموظفون في السعي نحو تحقيق نتائجَ متميزةٍ، لكن ليس لدرجةٍ تمنع الاهتمام بأي شيءٍ آخَر. وفي أفضل الحالات، فإن المؤسسات المهووسة بالنتائج هي عادةً أماكنُ عملٍ بغيضةٌ. وفي أسوأ الحالات، سوف تلقى مصير شركة إنرون التي أفلست بسبب ممارساتها المريبة.
• «الفشل في خلق منظومةٍ لإعداد القادة وتزويدها بالقادة المحتملين»: لقد أبقينا أسوأ مشكلات القيادة الجزئية للحديث عنها في النهاية. إن القادة الذين يعتمدون على العقل فحسب، عادةً ما تستحوذ عليهم قدراتهم المعرفية لدرجة أنهم لا يفهمون كيف يوظفون ويصنعون قادةً آخَرين على نحوٍ ناجح. وفي بعض الأحيان، يتحالف عقلهم مع غرورهم لإقناعهم أنهم لا يُقهَرون. والشركاتُ التي تتوارثها العائلاتُ، والمؤسسات المنغلقة المقتصرة على جماعةٍ معينةٍ؛ معرضةٌ بصفةٍ خاصةٍ لذلك؛ فالقادة في هذه الحالات يبلغ بهم الغرور في بعض الأحيان مبلغًا يجعلهم يعتقدون أنهم سيقودون إلى الأبد. لكن عندما يتركون مناصبَهم أو يُجبَرون على تركها، يكتشفون أنهم لم يُعِدُّوا أيَّ شخص ليحلَّ محلهم. إن عدم وجود مَن يخلف القائد قد يُحدِث تأثيرًا مدمِّرًا على الشركات، خاصةً لو غادَرَ القائد المعتمد على العقل فقط أثناء إحدى الأزمات، وهذا يفسِّر ما شهدناه في بضع السنوات الماضية من حالاتٍ كثيرةٍ، اضطُر فيها رؤساء مجالس إدارات الشركات إلى إطلاق عملياتِ بحثٍ خارجيةٍ موسعةٍ، من أجل إيجاد خلفاء للرؤساء التنفيذيين.

في بعض الحالات تستطيع الشركات الازدهار تحت قيادة هذا النوع من الرؤساء التنفيذيين، لكن عندما يترك الشركة، فإنها تنهار؛ لأن القادة في الإدارة العليا لم يتطوَّروا على نحوٍ كافٍ لإدارة المؤسسة دون شخصيتهم المسيطرة. ونظرًا لأن قيادته كانت معتمدة بصورة مفرطة على مهاراته التحليلية وحكمه الشخصي وشخصيته المهيمنة، فإن غيابه يخلق فراغًا يستغرق الآخَرون وقتًا لملئه؛ ولا يمكن ملء هذا الفراغ فجأةً.

(٥) هل مؤسستك تميل إلى القيادة الكلية أم إلى القيادة الجزئية؟

نعترف بأن السؤال المطروح في هذا العنوان من الصعب إجابته؛ إذ تجمع المؤسسات كافةً بين كلا النوعين من القادة. وعلى الرغم من ذلك، فإن عددًا متفاقمًا من الشركات لا يدرك كَمَّ القادة الجزئيين العاملين بها، خاصةً في المناصب القيادية الرئيسية. ومساعدةً في تشخيص نوع القادة الموجودين في مؤسستك، فكِّرْ في الأسئلة التالية:
  • (١)

    ما نسبة الأشخاص الموجودين في مناصبَ قياديةٍ، الذين من الممكن تصنيفهم تحت فئة «أذكى شخصٍ موجودٍ في الغرفة»؟

  • (٢)

    هل شركتك تضع اعتبارًا لمعيارَي القلب والشجاعة في عملية التوظيف؟ هل تبحث عن أشخاصٍ يتمتعون بمجموعةٍ من الكفاءات المعرفية، أم تتجاوز المواصفات المطلوبة وتنظر بعين الاعتبار إلى نطاقٍ أوسع من الصفات، تظهر من خلال مجموعةٍ من السياقات المختلفة؟

  • (٣)

    هل عملية تقييم الأداء في مؤسستك تتضمَّن معيارَي القلب والشجاعة؟

  • (٤)

    هل عملية تطوير المسئولين التنفيذيين تركِّز حصريًّا على اكتساب المهارات والمعرفة، أم تُولِي القدر نفسه من الاهتمام إلى اكتساب مهاراتِ التفاعُل مع الأفراد، والقدرة على المخاطرة، والذكاء العاطفي؛ المكتسَبةِ من خلال الخبرات، والتوجيه، والعلاقات المحورية، والاعتراف بالفشل؟

  • (٥)

    ما الصفات المستخدَمة عادةً لوصف الرئيس التنفيذي في الشركة؟ أهي عادةً أوصافٌ على غرار أنه «مخطِّط استراتيجي عبقري، ذو قدراتٍ تحليليةٍ عالية، يركِّز على النتائج، يهتم بالتفاصيل»، أم «متعدِّد الخبرات، صارم لكنه عطوف، يركِّز على النتائج ويهتم بالآخرين، يتمتع بذكاءٍ اجتماعيٍّ عالٍ، شجاع»؟

  • (٦)

    بالنظر إلى الأشخاص في مستوى القيادة العليا، ما السمات السائدة لدى غالبيتهم؟ هل هي سمات العقل، أم سمات القلب، أم سمات الشجاعة، أم الثلاث؟

  • (٧)

    هل يمكن تصنيف ثقافة المؤسسة على أنها ثقافة تتبع العقل، أم القلب، أم الشجاعة في الأساس؟ هل تسيطر إحدى هذه السمات، أم مزيج من سمتين، أم الثلاث؟

  • (٨)

    إذا سألك أحد الأشخاص كيف أصبحتَ رئيسًا تنفيذيًّا في مؤسستك، فهل ستنصحه بأن (١) يُظهِر القدرة على الإقدام على المخاطرات المثمِرة. (٢) يُكوِّن روابطَ ثقةٍ مع الناس. (٣) يصبح مخطِّطًا استراتيجيًّا شديدَ الكفاءة؟ أم ستنصحه بالأمور الثلاثة جميعها؟

  • (٩)

    هل تساءلَتْ شركتك من قبلُ عن المزيج الصحيح بين العقل والقلب والشجاعة، المطلوب للوفاء بمتطلبات ثقافة الشركة وتحديات الأعمال في المستقبل؟

إذا أظهرَتْ إجاباتك عن هذه الأسئلة ميلًا إلى القيادة الجزئية، فإن الفصول القادمة سوف تساعدك على فهم كيف تجعل عملياتُ التطوير هذا النوعَ من القيادة مترسِّخًا. ولحسن الحظ، فإننا سنقترح أيضًا طرقًا يمكن أن يدفع فيها التطويرُ الشركاتِ في طريق القيادة الكاملة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤