الفصل الرابع عشر

بناء قادة ناضجين للعمل في القرن الحادي والعشرين

خلال هذا الكتاب أشرنا إلى القادةِ الشاملين والحاجةِ إلى بناء الشخص الكامل. وعلى الرغم من أن كلمة «شامل» مصطلح مناسب، فقد تكون كلمة «النضج» مصطلحًا أفضل من الناحية التنموية. يُظهِر القادة الناضجون في أغلب الأحيان العقل والقلب والشجاعة على نحوٍ طبيعي؛ فمن منطلق سنوات الخبرة التي اضطُرَّ هؤلاء القادة خلالها إلى التعامل مع المِحَن ومصارعة مجموعةٍ من المشكلات المعقدة، فقد تعلَّموا من التجارب؛ ومن ثَمَّ اكتسبوا الحكمة التي تأتي مع النضج. ونظرًا لكونهم قادةً ناضجين، فإنهم لا يبالغون ببساطةٍ في الاعتماد على أحد عناصر شخصيتهم عند مواجهة قراراتٍ مصيرية، كما يفعل في الغالب القادةُ غير المتمرسين، أو القادة الذين ما زالوا قيد التطوير. إنهم لا يعتمدون حصريًّا على التحليل عند اتخاذ قراراتٍ استراتيجية؛ ولا يُحجمون تلقائيًّا عن خوض المخاطرات في المواقف الضاغطة، ولا يتجاهلون دائمًا مشكلات الأفراد من أجل النتائج. باختصار، إنهم قادرون على إظهار قدرٍ أكبر من الأفعال القيادية المَرِنة، والمناسبة للمواقف، والناجحة. لقد تعلموا من خلال التجربة أن أحاديةَ الفكرِ والتصلُّبَ يؤديان إلى خياراتٍ قياديةٍ سيئة.

ولا يعني النضج أن تصبح شخصيتك مقسَّمة ثلثًا للعقل، وثلثًا للقلب، وثلثًا للشجاعة؛ فلكل شخصٍ أسلوبٌ قيادي طبيعي، وميلٌ فطري إلى الاعتماد على العقل أو العاطفة أو الشجاعة لا يتغيَّر مع النضج. أما ما يتغيَّر «بالفعل» فهو الاستعداد للتفكير في خياراتٍ أخرى لا تتناسب مع الأسلوب الطبيعي للشخص. وما يتغير أيضًا هو القدرة على تجربة طرقٍ جديدةٍ لقيادة الآخرين؛ ومن ثَمَّ توسيع الإمكانيات القيادية للشخص. في أغلب الأحيان لا يكون ذلك خيارًا واعيًا؛ فالنضج يُعلِّمنا دروسًا ندرجها لا شعوريًّا ضمن إمكانياتنا القيادية؛ فبعدما عانينا من عددٍ كافٍ من العقبات إثر الإصرار على استخدام مهارات العقل المعرفي بلا جدوى، أدركنا أنه قد توجد طرق أخرى يُحتمل كونها أكثر نجاحًا، وأنه ربما آنَ الأوان للتفكيرِ جديًّا، واستخدامِ الشفقة، ومحاولةِ التواصل مع الآخرين عاطفيًّا وعلى نحوٍ متعاطف، وامتلاكِ شجاعة إظهار المزيد من الشفافية فيما يتعلق بشخصيتنا الحقيقية. إننا نتعلم مع مرور الوقت الدفاع عمَّا نشعر بأنه صائب، بدلًا من الاستسلام لما يتوافق مع رغبات الجميع؛ لأنه كلما زادت معرفتنا بالقيادة الحقيقية، زاد إدراكنا بأنه لا يوجد خيار حقيقي آخر.

لكن مع الأسف، لا يسع الشركاتِ الانتظارُ حتى يصبح قادتها كافةً ناضجين. ومن المفارقة أنه عندما تتمكَّن الشركات أخيرًا من تجميع مجموعةٍ من القادة الناضجين، فإنها تبدأ عادةً في السعي الحثيث من أجل ضم جيلٍ تالٍ من القادة أكثر شبابًا وحيويةً وحماسًا. إن انتظار تَحوُّل قائدٍ شابٍّ عنيدٍ إلى رجلٍ حكيمٍ بالغٍ من العمر ستين عامًا، ليس منطقيًّا لكثيرٍ من الأسباب، أهمها أن المسئولين التنفيذيين الشباب على الأرجح سوف يتركون الشركة قبل أن يصلوا إلى النضج بفترةٍ كبيرة. علاوةً على ذلك، فالقادة ينضجون في أعمارٍ مختلفة؛ ولذلك قد يكون قائدٌ عمره خمسة وثلاثون عامًا أكثرَ نضجًا من قائدٍ عمره ستون عامًا (وبعض الناس قد لا يكتسبون النضج القيادي مطلقًا).

ولذلك، فإن مساعدة القادة من جميع الأعمار على اكتساب هذا النضج أمر ضروري ومطلوب في معظم الشركات من أجل الاحتفاظ بالميزة التنافسية. إن امتلاك مجموعةٍ من القادة المَهَرة المتحدين معًا، الذين يفهمون الاستراتيجية ويجسدون قِيَم المؤسسة، لَهُوَ ميزةٌ يجب بناؤها بدلًا من شرائها.

السؤال الذي يواجه جميعَ الشركات تقريبًا في الوقت الحاضر هو: كيف نُطوِّر النضج القيادي؟ في كل فصلٍ من الفصول السابقة قدَّمْنا خياراتٍ لاكتساب كل إمكانيةٍ من تلك الإمكانيات. وفي هذا الفصل نريد أن نركِّز تحديدًا على بعض الطرق التي من خلالها يستطيع القادة بلوغ النضج «قبل الأوان»، أي طرق يمكن من خلالها التعجيل بعملية التطوير على يد القادة أنفسهم، وأيضًا من خلال البرامج الرسمية التي ترعاها المؤسسة. وَلْنبدأْ بنصيحةٍ بسيطةٍ لكنها تغيب عن الأذهان في أغلب الأحيان، أَلَا وهي: «اعرف ما إذا كانت شركتك تتبنَّى ثقافة العقل أم القلب أم الشجاعة.»

(١) ما تحتاجه الشركات

يجب ألَّا يركِّز أيُّ قائدٍ على اكتساب قدرٍ متساوٍ من كلٍّ من مهارات العقل والقلب والشجاعة كما لو كانت تلك الصفات مقاديرَ مدوَّنةً في وصفةٍ لإعداد الكعك. ويجب ألَّا تعتقد الشركات أنها تحتاج إلى برامج تنموية تُخصِّص حصةً متساوية من الوقت للموضوعات المتعلقة بالعقل والقلب والشجاعة؛ فلا توجد صيغة مناسبة لجميع الشركات وجميع القادة. وعلى الرغم من أن الهدف العام للتطوير يجب أن يكون دعْمَ الوعي بهذه الصفات الثلاث والقدرة على اكتسابها لدى القادة، فإن الهدف الأكثر تحديدًا هو تصميم منهجٍ مناسبٍ لثقافة الشركة وللفرد.

على صعيد الثقافة، فإن غالبية الشركات تتبنَّى توجُّهًا يعتمد على العقل؛ فالشركات تعتمد على البيانات وتركز على النتائج، كما هو متوقع على الأرجح في عالمنا المهووس بالأداء. وعلى الرغم من ذلك، توجد أقلية ملحوظة تتبنَّى توجُّهَ القلب، لا سيما الشركات غير الهادفة للربح، وعددٍ متزايدٍ من الشركات التي يقودها مسئولون تنفيذيون أصحاب قِيَمٍ قويةٍ تُعنى بالأفراد. أما الشركاتُ الناشئة وشركاتُ التكنولوجيا الحديثة التي تعجُّ بالقادة الشباب، وشركاتُ الثقافات الريادية، فغالبًا يكون توجُّهها قائمًا على الشجاعة؛ أيْ إن موظفيها من الأفراد لا يجدون حرجًا في التعبير عن آرائهم، واتخاذ إجراءاتٍ خطيرةٍ ومعتمدةٍ على معتقداتهم القوية أيضًا. وعلى الرغم من أن الشركات لا يمكن دائمًا تصنيفها بدقةٍ كشركاتٍ تابعةٍ لإحدى هذه الفئات الثلاث، فإنها عادةً تكون لديها ثقافة مسيطرة واضحة لكل العاملين بها.

ولذلك، يجب أن تركز عملية التطوير على مساعدة مجموعة القادة على زيادة قدرتهم في الجوانب الأقل هيمنةً. وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك نادرًا ما يحدث للأسف. وعادةً يهدف تطوير القيادة إلى إبراز التوجُّه الثقافي السائد، وتقديم تعليم متسق مع تحيزات مجموعة القادة بدلًا من توسيع وتحفيز الجوانب الأخرى.

لكنْ تأمَّلْ كيف قلَّلَ عمدةُ مدينة نيويورك السابق رودي جولياني وإدارةُ شرطة مدينة نيويورك الجريمةَ في مدينتهما على نحوٍ مثيرٍ للدهشة؛ فعلى مدار سنواتٍ امتلك قادة إدارة شرطة مدينة نيويورك توجُّهًا قوامه الشجاعة، لا يختلف عن توجُّه معظم قادة إدارات الشرطة في المدن. وركَّز الأسلوب القيادي شبه العسكري على توحيد الصفوف، واتخاذ مواقف قوية، وإظهار الشجاعة، وكانت توجد ثقافة ذكورية بين الصفوف. وعلى الرغم من ذلك، طوَّرَ جولياني أداء إدارة الشرطة من خلال مساعدة القادة على اكتساب منهجٍ (معرفي) أكثر ميلًا إلى التحليل في عملهم. طبَّقَ القادة ممارساتٍ إداريةً منضبطة، وأجرَوْا فحوصًا معقدة لبيانات الجرائم، واستهدفوا جماعاتٍ معينةً اعتمادًا على أنماط جرائم محددة، ونشروا قوات الشرطة وغيرها من قوات الإدارة اعتمادًا على تلك التحليلات. شُجِّع القادة على استخدام مجموعةٍ متنوعةٍ من الأدوات من أجل مكافحة الجريمة، لكن خياراتهم كانت دائمًا تُوجِّهها البيانات. وأرجَعَ معظمُ المراقبين هذا الانخفاضَ الكبير في الجريمة في نيويورك، جزئيًّا على الأقل، إلى تلك الممارسات. ومن خلال استخدام عقولهم بالإضافة إلى شجاعتهم، خلقت قيادة إدارة شرطة مدينة نيويورك نموذجًا أصبح مطبَّقًا الآن في الإدارات الشرطية الأخرى في هذه الدولة وحول العالم.

يقدِّم مجال ضمان التأمين مثالًا آخَر على تحوُّل القيادة من توجُّه الشجاعة والحَدْس في العمل إلى توجُّهٍ تحليليٍّ أكبر؛ إذ كان وكلاء التأمين البارعون هم أولئك الذين يمتلكون حاسة سادسة تُمكِّنهم من تحديد وضع العميل المتقدم، وأولئك الذين نجحوا في المهنة كانوا يُقْدِمون على اختياراتٍ صحيحةٍ أكثر من الاختيارات الخاطئة. واليوم، لا يمكنك النجاح كوكيل تأمينٍ دون مهاراتٍ تحليليةٍ معقدة. والقادة في صناعة التأمين لا بد أن يحثوا على استخدام البيانات وتحليل الإحصاءات واتخاذ القرارات اعتمادًا على الحقائق.

لطالما انصبَّ تركيز بنك أوف أمريكا على التنفيذ، وتمحور اهتمامه حول الأداء. وفي حقيقة الأمر، يطرح هذا البنك مثالًا مميزًا على كيفية إعادة هيكلة العمليات المعقدة من أجل تحقيق تحسُّنٍ هائلٍ في خدمة العملاء، والجودة، وتقديم الخدمات. وعلى الرغم من ذلك، فالصناعة المصرفية، كما هي الحال مع قطاعات البيع بالتجزئة والطيران والضيافة، تعتمد على «نموذج المصنع» في تقديم الخدمات؛ إذ يتفاعل عدد كبير من موظفي الخطوط الأمامية مع العملاء يوميًّا، لكن احتياجاتهم التطويرية وطموحاتهم المهنية تلقى تجاهلًا في أغلب الأحيان. واليوم، من التحديات التي تواجه بنك أوف أمريكا كيفيةُ تكوين وتطوير شراكةٍ مع موظفي الخطوط الأمامية. معظم الشركات تعلم أن العلامة التجارية وقِيَم الشركة تنعكس من خلال الموظفين الذين يتعاملون مع العملاء مباشَرةً، وتحقيق ذلك على النحو الصحيح يتطلَّب البيانات الهادفة إلى تحليل التأثير المحتمل الذي قد تُحدِثه هذه العلاقة على رضا العميل (العقل)، ويتطلَّب أيضًا الارتباط (القلب)، خاصةً مع الموظفين الذين قد يتركون الشركة بسهولةٍ وينضمون إلى شركةٍ أخرى بسبب انخفاض الأجر وقصر مدة البقاء في الوظيفة. ويستحق البنكُ الثناءَ، بصفته رائدًا في الصناعة المصرفية، على تقديم برامج تطويرِ قيادةٍ واسعة النطاق لموظفيه من أجل الجمع بين إمكانيات العقل والقلب والشجاعة، وزيادة الحصة السوقية، والاحتفاظ بالموظفين المهمين، ولكي يظل مبتكرًا في مجال الخدمات المالية.

أما شركة إيفون برودكتس، فقد يصفها غالبية الناس بأنها تتبنَّى ثقافةَ قلبٍ تقليديةً لعبت فيها العلاقاتُ دورًا محوريًّا في طريقة إدارة الشركة. إن تركيز الشركة المستمر على خبرة مندوبيها طالما كان واحدًا من العوامل الرئيسية التي أدَّتْ إلى نجاحها. وعلى الرغم من ذلك، فقد أدركت القيادةُ في إيفون أن هذا النوع من الثقافة ليس كافيًا لاستمرار نموها؛ ومن ثَمَّ تتجه حاليًّا إلى نموذجٍ يمكن وصفه بأنه أكثر تركيزًا على العقل والشجاعة؛ فالقادة مضطرون الآن — دون أن يتخلَّوْا عن مهارات القلب — إلى إظهار قدرٍ أكبر من الانضباط التحليلي والشجاعة في اتخاذ القرارات الصارمة أكثر من أي وقتٍ مضى. واليوم أصبح لزامًا على قادة إيفون التمتع بالقدرة على اتخاذِ قراراتٍ صارمةٍ اعتمادًا على الحقائق وخوْضِ مزيدٍ من المخاطرات، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بقيم الثقافة التي جعلت من إيفون شركةً رائعة.

تستفيد معظم الشركات من ثقافاتها القوية، وتقع ضحيةً لها أيضًا؛ ما يمنع القادة في أغلب الأحيان من الاعتراض على منظومة المعرفة التقليدية، أو الممارسة المتبعة، أو العُرْف. وتُعتبَر ليفي شتراوس مثالًا جيدًا على شركةٍ عائليةٍ عطوفةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ، كان من الصعب عليها طرد الموظفين الأمريكيين، مع الانتقال السريع لصناعة النسيج إلى دولٍ تكلفةُ العمالة فيها منخفضة. وعندما أدركت شركة ليفايس مؤخرًا أنه من المستحيل الحفاظ على السعر التنافسي بسبب ارتفاع التكاليف الإدارية الثابتة، كان الأوان قد فات بالفعل؛ فقد انخفضت الإيرادات من ٧ مليارات دولارٍ أمريكيٍّ إلى ٤ مليارات دولارٍ تقريبًا، ولم تَعُدْ منتجاتها تلتزم بمعايير الصناعة القياسية. ولحسن الحظ، تعيد الشركةُ اليومَ بناءَ مكانتها المميزة في عالم الأزياء وحصتها السوقية؛ بَيْدَ أن تدهورها سبَّبَ على الأرجح خسارةً كبيرة في الوظائف والحصة السوقية بسبب إظهارها لقدرٍ زائدٍ من التعاطف والمشاعر.

أما المثال المناقض فهو شركة إنرون التي صنعتْ ثقافةً عديمةَ الشفقة تركِّز على العقل، وكان تركيزُ الشركة الحصري على توظيف وتنمية أذكى الأشخاص لديها وبالًا عليها. تواجه كل صناعةٍ معضلةَ إدارةِ التعاطف واتخاذ قراراتٍ صارمة، لكن الحفاظ على توازن كلا البُعْدين هو ما يجعل القيادة فنًّا وتحديًا.

من زاوية الفرد، يميل بعض القادة إلى التصرُّف اعتمادًا على العقل أو القلب أو الشجاعة في المقام الأول، ويتوجب عليهم معرفة الصفة المفضلة بالنسبة إليهم، وأن يعملوا على توسيع أدواتهم القيادية؛ فقد يكون القائد ذو التوجه العقلي مسئولًا عن فريقٍ لأحد المشروعات يضمُّ أفرادًا متشابهين في العقلية، لكن الإدارة تدرك أن إنجاح هذا المشروع يتطلَّب الشجاعة؛ فالقدرة التحليلية وحدها لن تُوصِل هذا الفريق إلى وجهته المقصودة. ولا بد لهذا القائد ذي التوجه العقلي أن يكتسب الشجاعةَ، وإلا فهو محكوم عليه بالفشل.

معظم الناس يستطيعون أن يحدِّدوا بسهولةٍ ميولَهم القيادية من حيث العقل أو القلب أو الشجاعة. وعلى الرغم من أن الكثير قد يخادعون أنفسهم حول مستوى مهارتهم في استخدام النمطين الأقل هيمنةً في شخصيتهم، فإن في وسعهم عادةً إخبارك بالجانب الذي يعتمدون عليه عند اتخاذ قراراتٍ قياديةٍ رئيسية؛ ولذلك، فإن من أهداف اكتساب النضج القيادي مساعدةَ القادة على إدراك أن الاعتماد الزائد على نمطهم القيادي السائد يمنعهم من تحقيق النجاح. ويمكن تحقيق ذلك الهدف من خلال التوجيه، وأيضًا من خلال برامج التنمية القيادية الأكثر رسميةً. وفي بعض الأحيان يستطيع تحقيقَ ذلك الأشخاصُ الذين يتأمَّلون كثيرًا في مكنونات أنفسهم، وذلك من خلال التفكير في إخفاقاتهم وفهْم كيف جعَلَهم منهجُهم القيادي الأحادي يرتكبون أخطاءً خطيرة.

أما ما يحفز القادة على الرغبة في تطوير أنفسهم خارج نطاق نمطهم القيادي المفضل، فهو إدراك مخاطر عدم التطوير. إليكم ثلاثة من الأسباب الشائعة لفشل القيادة الأحادية:
• «الاختلاف بين ما يعرف القائد أنه من الضروري فعله وما يفعله في واقع الأمر»: في كثيرٍ من الأحيان، عندما نسأل أحد القادة عن سبب اتخاذ قرارٍ كان واضحًا أنه خاطئ، وماذا كان يفكِّر فيما يتعلق بهذا القرار، فإنه يجيب بشيءٍ من قبيل: «لقد علمتُ أن ذلك الأسلوب كان خاطئًا، لكنه الطريقةُ التي طالما عملت بها ولم أستطع رؤيةَ بدائلَ أخرى.» إن هذا النطاق المحدود من الاستجابات يمكن أن يقلل من قدرة أي قائدٍ على النجاح، خاصةً عند الوضع في الاعتبار المواقف والتحديات الكثيرة التنوُّع التي يواجهها معظمُ القادة كجزءٍ من وظائفهم. وعلى النقيض من التوقعات، كثيرٌ من القادة يدركون ضرورةَ تَخلِّيهم عن طريقتهم المعتادة في العمل، لكنهم وقعوا في أَسْر نمطهم القيادي الروتيني. ولتخليص أنفسهم يجب أن يدركوا أساليبَ حلِّ المشكلات التي تتضمَّن أنماطًا قياديةً أخرى، ويبذلوا جهدًا لا يكل من أجل توظيف تلك الأنماط عند الضرورة.
• «التشخيص الخاطئ»: قد ينشأ الفشل عن ضعف القدرة على تحديد ما إذا كانت قيادة العقل أم القلب أم الشجاعة هي الأسلوب المطلوب في موقفٍ معين. وعبر الثقافات نجد أن قادة أمريكا الشمالية يخطئون في التشخيص على نحوٍ متكرر؛ فعلى سبيل المثال: حاولتْ أكثر من شركة الدخولَ إلى سوقِ أمريكا اللاتينية المعتمِدةِ على القلب، مستخدمةً نهجًا معرفيًّا؛ ومن ثَمَّ انتقل قادةُ الشركات الأمريكية إلى هناك مسلَّحين بجداول البيانات ومواصفات المنتجات، وأرادوا أن ينخرطوا في محادثاتٍ قائمةٍ على البيانات مع زملائهم اللاتينيين كطريقةٍ لتحسين الأداء. لكن ما احتاجه كثير من المسئولين التنفيذيين في أمريكا الجنوبية هو معرفة الأشخاص الذين سيعملون معهم، فهم يريدون أن يفهموا هويةَ الأشخاص الآخرين، ويتعرَّفوا على أُسَرهم، ويُكوِّنوا معهم علاقاتٍ شخصيةً على نحوٍ أكبر قبل البدء في العمل. توجد اختلافات ثقافية شبيهة في جميع أنحاء العالم تقريبًا، وكثيرٌ من القادة لا يرَوْن تلك الاختلافات ولا يأخذونها على محمل الجد إلا عندما تبدأ في إعاقة قدرتهم على إنجاز المهمة. إن العجز عن تطبيق الصفات الثلاث كلها — العقل والقلب والشجاعة — يمكن أن يُسبِّب مشكلاتٍ كبيرةً عند العمل عبر الحدود الثقافية.
• «خلْق توقُّعاتٍ زائفة»: بعض القادة قادرون على العمل من منطلق الأنماط القيادية الثلاثة كلها، لكنهم يفتقرون إلى الشفافية اللازمة لإيصال تلك الحقيقة إلى الآخرين؛ فيبدو أحدهم صارمًا وغير ودودٍ ومهتمًّا بالنتائج في المقام الأول، لكن وراء هذا المظهر المهني يخفق قلب قائدٍ ينصبُّ اهتمامه على القِيَم وتوجهه نحو المهمة. وعلى الرغم من ذلك، فعندما يُظهِر ذلك القائد تعاطفًا، ويتجاوز دوره كمديرٍ ويسمح بالتواصل العاطفي مع الآخرين، يُصاب الأشخاص بالحيرة؛ فهم لا يتوقَّعون من مديرهم التصرُّفَ بهذه الطريقة؛ بل قد يرَوْن أن هذا السلوك غريبٌ، ويفشلون في الاستجابة على النحو المتوقع؛ ولذلك لا يحقِّق ذلك السلوكُ التأثيرَ المرغوب. ويتردَّد المرءوسون المباشِرون الحائرون في الثقة في هذا النوع من القادة؛ لأنهم قد يشعرون أنه يتلاعب بهم، أو أنه على الأقل يناقض نفسه. على الجانب الآخر نجد أن القادة الناضجين أكثر شفافيةً في التعبير عن ماهيتهم وعن طريقتهم القيادية؛ فهم يطبِّقون الأنماطَ القيادية الثلاثة على نحوٍ ملائمٍ حسبما يقتضي الموقف، ويقلِّلون خطر إرباك الآخرين.

ومع وضع كل ما سبق في الاعتبار، يجب أن تجعل الشركاتُ من أولوياتها تجاوُز العُرْف التطويري، ومساعدة القادة في اكتساب القدرة على إظهار مهارات العقل والقلب والشجاعة بصفتهم قادة كاملين، في الأوقات المناسبة وفي المواقف المناسبة. وإليكم مجموعة من الطرق التي تُمكِّنهم من فعل ذلك:

(٢) كيف يمكن للمؤسسات أن تساعد القادة في النضج

كتبت لورا تايسون ونايجل أندروز مقالةً أشرنا إليها في السابق. وقد لاحظَا كيف أن حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال في الوقت الحاضر غير مؤهلين لأن يصبحوا قادةً عالميين. وعلى الرغم من اعتراف الكاتبَيْن بأن كثيرًا من حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال كانوا أذكياءَ للغاية، فقد اختتما المقالة قائلَيْن إن ثَمَّةَ أمورًا أخرى أكثر من القدرة العقلية مطلوبة للنجاح كقائدٍ عالمي؛ فعلى القدر نفسه من الأهمية تأتي الصفات الشخصية التي يتمتع بها قادةُ المستقبل هؤلاء. ونظرًا لأن برامج ماجستير إدارة الأعمال تركِّز على التعليم المعرفي، فإن الطَّلَبة يتخرجون مزوَّدين بأساسٍ معرفيٍّ قوي، لكن من ناحية الصفات الأخرى التي تناولناها المتعلقة بالقلب والشجاعة، فإنهم يكونون غير مستعدين لمواجهة تحديات القيادة في بيئةٍ عالمية، ولن يتمتعوا بالمهارة اللازمة لإدارة الاختلافات الثقافية، والعمل مع أشخاصٍ من خلفيات متنوعة، والتعامل مع المواقف التي يكتنفها الغموض وعدم اليقين.

بالطبع فإن حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال هم مجموعة واحدة فقط من المرشحين الذين تختار منهم الشركات قادتها المستقبليين، وعلى الرغم من ذلك فإنها مجموعة مهمة. وللأسف، فإن هذه المجموعة قد لا تضمُّ مرشحين متميزين عند الحاجة إلى توظيف أشخاصٍ يمتلكون القدرةَ على أن يصبحوا قادةً ناضجين. وسواءٌ أكانت الشركة توظِّف حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال، أم حديثي التخرج، أم محترفين خبراء، فنحن نزعم أنها تحتاج إلى وضع معايير توظيف تتجاوز الذكاء والمهارات التقنية. وعلى الرغم من أننا نؤمن بشدةٍ بإمكانية اكتساب صفات العقل والقلب والشجاعة، فإننا نعتقد أيضًا أن اكتسابها أسهل بكثيرٍ لدى أشخاصٍ معينين مقارَنةً بغيرهم؛ وهذا يقودنا إلى مقترحنا الأول:
• «التوظيف على أساس معايير متعلقة بالعقل والقلب والشجاعة»: قد يبدو ذلك مهمة مرهقة؛ فكيف تحدد ما إذا كان شخصٌ حديث التخرج في إحدى كليات الأعمال لديه نوع الشجاعة الذي تطلبه الشركات؟ إن الأمر أسهل في الواقع عمَّا قد يبدو عليه؛ فعلى سبيل المثال: إذا أردتَ أن تعرف إذا كانت لدى أحد الأشخاص مهارةُ القلب، يجب على المُحاوِر في مقابَلةِ التوظيف أن يسأل المرشحين أسئلةً قائمة على عناصر الذكاء العاطفي الأربعة على النحو التالي:
  • (١)
    الوعي بالذات:
    • كيف يصف الأشخاص الذين يعرفونك جيدًا نقاطَ قوتك ونقاط ضعفك؟

    • كيف طبَّقتَ ما تعرفه عن نفسك من أجل تحقيق النجاح، سواءٌ في المدرسة أم في العمل؟

    • لماذا تعتقد أنه من المهم أن يكون المرء واعيًا بذاته؟ ما الفارق الذي يُحدِثه ذلك؟ هل أحدَثَ ذلك فارقًا بالنسبة إليك؟

  • (٢)
    ضبط النفس:
    • ما هو رد فعلك عندما تكون تحت ضغط؟

    • كيف تكون في أسوأ حالاتك؟ ما هي المشاعر التي يمكن أن تقلِّل من نجاحك إذا لم تُدِرها بنجاح؟

    • ما أنواع المواقف التي تسبِّب لك أكبرَ قدرٍ من التوتر؟ وما المواقف التي في ظلها تكون في أقصى حالات ضعفك؟

  • (٣)
    التعاطُف:
    • ما مدى تمكُّنك من وضع نفسك في مكان الآخرين وفهم ما يمرون به على نحوٍ فعَّال؟

    • ما المنهج الذي تتبعه لتفهُّم وجهات نظر الآخرين؟

    • إلى أي مدًى تستطيع تفهُّم مشكلات الآخرين، حتى لو كانت مختلفةً إلى حدٍّ كبيرٍ عن مشكلاتك؟

    • كيف تعبِّر عن فهمك وتعاطُفك بطريقةٍ تساعد الآخَرين؟

  • (٤)
    إدارة الصراع والتأثير:
    • إلى أي مدًى تجيد التعامُلَ مع الأشخاص الذين لا يتفقون معك؟

    • كيف تستطيع أن تختلف مع الآخرين دون أن يتفاقم الموقف إلى حربٍ مفتوحة؟

    • ما هي أنواع الصراعات الأصعب في الإدارة بالنسبة إليك؟

    • ما الطرق التي تكتسب من خلالها تأثيرًا على الآخرين، لا سيما أولئك الذين ليس لك عليهم سلطةٌ مباشِرة؟

من الواضح أن هذه الأسئلة يمكن تعديلها بحسب اختلاف الأشخاص والمواقف. وكما يعلم أيُّ شخصٍ أجرى مقابلاتٍ لاختيار الموظفين، من المهم الحثُّ على ذِكْر أمثلةٍ على الصفات التي أقَرَّ الأشخاص بامتلاكهم لها. وعلى الرغم من ذلك، فالمقصود هو أنه من الممكن، ومن المرغوب أيضًا، اختيار الأشخاص اعتمادًا على قلوبهم.
وبالمثل، يمكن تقييم الشجاعة من خلال طرح أسئلةٍ من هذا القبيل:
إذا اضطُررتَ إلى الاختيار ما بين تقليل عدد العمالة ومواجَهة موقفٍ ماليٍّ خطير، فهل ستكون مستعِدًّا للتخلِّي عن أشخاصٍ عملتَ معهم لسنواتٍ وكانوا مقرَّبين منك شخصيًّا؟ كيف ستتعامل مع هذا الموقف؟
إذا لاحتْ فجأةً فرصةٌ لشراء شركةٍ كبيرةٍ عهدت إليها بالكثير من الأعمال، فكيف ستضمن التحرك بالسرعة الكافية لاقتناصها على الرغم من افتقارك إلى الوقت اللازم لجمع جميع المعلومات التي قد تريدها للمُضي قدمًا؟
هل يمكن أن تصف موقفًا من حياتك الشخصية اتخذتَ فيه قرارًا كان ينطوي على قدرٍ معينٍ من المخاطرة؟ ما الأمر الذي كان معرَّضًا للخطر؟ كيف تعاملتَ مع الموقف؟ كيف حللتَ المكاسب والخسائر المطروحة؟ كيف كانت نتيجة الأمر؟
فيما يتعلَّق بالفكر والمعرفة (العقل)، تحتاج الشركات إلى تجاوز التقييم التقليدي للمرشح للوظيفة. من المهم قطعًا معرفة ترتيب المرشح في صفه الدراسي، وأنواع القدرات العقلية التي انعكست على أدائه في قاعة المحاضرات. وعلى الرغم من ذلك، يجب أن يتناول ذلك التقييم بعض السمات الأقل تقليديةً التي عددناها؛ على سبيل المثال: هل من المحتمل أن يفكِّر بطرقٍ غير تقليديةٍ فيما يتعلَّق بالحدود المؤسسية التقليدية؟ هل أظهَرَ قدرةً على فعل ذلك في الكلية وفي جوانب أخرى من حياته؟ كيف أظهَرَ قدرةً على الحكم العملي؟ هل أظهَرَ قدرةً على الفعل بدلًا من الاكتفاء بالتفكير؟ ما الذي أنجَزَه خارج الكلية؟ هل شارَكَ في أنشطةٍ حقَّقت إسهاماتٍ حقيقية؛ أيْ أظهرتِ القدرةَ على تحويل الفكرة من التصوُّر إلى الواقع؟
•«تشجيع الموظفين على ألَّا يكونوا أسرى لخبراتهم»: الخبرة مهمة لاكتساب النضج القيادي، لكنها تصبح ذات تأثيرٍ عكسيٍّ عندما تكون محدودةً، أو عندما لا يبذل الموظفون جهدًا للتعلم منها. ومهارات العقل والقلب والشجاعة تنشأ من نطاقٍ كبيرٍ من الخبرات والانفتاح على التعلُّم من تلك الخبرات؛ ولذلك توضِّح الشركات في الوقت الراهن أنه متوقَّعٌ من القادةِ التفكيرُ والتصرفُ على مستوًى عالمي، والسفرُ، والاستعدادُ للاضطلاع بمهامَّ عالمية، والانضمام إلى فرقٍ متعددة التخصصات، والدخول إلى المجالات والاضطلاع بالمهام التي يكون خطر الفشل فيها كبيرًا. وفي أغلب الأحيان تُعرِب الشركات على نحوٍ واضحٍ أو خفي أن تجنُّبَ الفشل وبناءَ النجاح فوق النجاح في أحد التخصُّصات هما مفتاح المُضي قُدمًا. وإليكم ثلاثة أساليب لتشجيع الموظفين على الخروج من نطاق الخبرة المحدودة:
– «إشراكهم في خبرات التعلُّم بالعمل التي تجبرهم على الاضطلاع بمهامَّ جديدةٍ وباعثةٍ على التحدي»: إننا ننظم برامجَ تعلُّمِ بالعمل أسبوعيًّا لصالح شركاتٍ حول العالم، وقد تعلَّمنا أن تصميمات البرامج الإبداعية التي تتضمَّن وضْعَ الأفراد في نظامٍ مؤقتٍ يتضمَّن قِيَمًا وطرقًا جديدة لإنجاز المهام، يمكن أن تثير أفكارًا كاشفة حول الذات، والشركة، والعالم. ويمكن للتعلم بالعمل أن يخلق ظروفًا تتكامل في ظلها مهاراتُ العقل والقلب والشجاعة من خلال الصراع، والتعقيب، والتقييم، والعمل الحقيقي، وغيرها من الطرق. وقد تجبر هذه البرامج أحدَ القادة المعتمدين على القلب أن يواجه مواقف تعلُّمٍ، يكون فيها الطريقُ الوحيد للنجاح هو الموازنة بين المخاطرة والمكافأة، أو اتخاذ موقفٍ قويٍّ اعتمادًا على القِيَم داخل مجتمع التعلم. ووجدنا أن التعلُّم بالعمل يمكن أن يطوِّر الأشخاصَ على عدة مستويات، ويتطلَّب في الغالب من المشتركين استخدام القدرات التي نادرًا ما تكون مطلوبةً في «وظائفهم اليومية».
– «تعيين الأشخاص في وظائف قبل أن يكونوا مستعدين للاضطلاع بها»: من الواضح أن هذا الإجراء يتطلَّب حذرًا في تنفيذه؛ فإذا كانت غالبيةُ موظفي المؤسسة في مهامَّ تتحدَّى قدراتهم، فسوف تحدث مشكلات كبيرة. وعلى الرغم من ذلك، تستطيع الشركة على نحوٍ انتقائيٍّ تطويرَ قادةٍ معينين، يبدو أنهم يمتلكون القدرة على الجمع بين سلوكيات العقل والقلب والشجاعة، لكن لم تُتَحْ لهم فرصةُ فعْلِ ذلك لأن وظائفهم السابقة لم تتحدَّهم على النحو الكافي، أو أنهم لا يُوضعون في مناصبَ قياديةٍ جديدةٍ إلا عندما يصبحون «مستعدين الآن». وعبر تكليفهم بأدوارٍ غير مستعدين لها إلى حدٍّ كبير، سوف يُضطرون إلى التعلم أثناء ممارسة الوظيفة، وسوف يعتمدون على الأرجح على ما هو أكثر من خبرتهم المكتسبة، وسيُضطرون إلى تجربة سلوكياتٍ جديدةٍ للاضطلاع بالمهام.
– «إمداد الموظفين بالتوجيه وغيره من الوسائل التي تسهل التعلم من الخبرة»: من الممكن أن يوجد شخصان لديهما الخلفية نفسها، ولديهما خبرات عملية متشابهة جدًّا، لكن أحدهما يَبرز كقائدٍ ناضجٍ دون الآخَر. فما السبب؟ يحدث هذا عادةً لأن أحد الشخصين يكون قادرًا على إظهار ودمج التعلم المكتسَب من الخبرة؛ وهذا يعني أنه بذَلَ جهدًا واعيًا في تحليل الخبرات الرئيسية وتحديد الأمور التي أنجزها على نحوٍ صائب، والأمور التي أنجزها على نحوٍ خاطئ، وكيف يمكن التعامل مع تجربةٍ مشابهةٍ على نحوٍ أفضل في المرة القادمة. وهذا النوع من التعلم يتطلَّب المساعدة في أغلب الأحيان. وبمنتهى الأمانة، فإن المناقشات الصريحة البعيدة عن المجاملات يمكن أن تدعم التعلم. وفي أغلب الأحيان، تكون المحادثاتُ بين أعضاء الفريق، أو حتى بين المديرين والمرءوسين المباشِرين، مراوغةً ومغلفة بالمجاملات؛ فلا أحد يقول لقائدٍ محتمل: «لقد كدنا نتخلف عن الموعد النهائي لإنجاز المهمة بسبب حرصك الزائد.» فالأشخاص يقلقون من تجاوز الحدود والانتقاد الشخصي. وعلى الرغم من ذلك، فالتعلم الحقيقي يتطلَّب من الناس مواجَهة نقاط ضعفهم؛ إنهم في حاجةٍ إلى فهم نواقصهم المتمثِّلة في المواقف التي يظهر فيها افتقارُهم إلى القلب، أو عدم جدوى التحليل الذي قاموا به لأنهم لم يتبعوه بالإجراءات. ويدعم التوجيه تلك الأنواع من المحادثات الكاشفة ويقدِّم فرصًا للتأمل. والموجِّهون ماهرون في جعْل الأفراد يفكرون ويتحدثون بصراحةٍ عن تجاربهم، ويمكن لذلك أن يُمكِّنهم من استقاء التعلُّم من أحد المواقف الذي لم يكونوا لينتبهوا إليه في ظروفٍ أخرى.
– «تطوير القادة مع وضع صفات العقل والقلب والشجاعة في الاعتبار»: إن الصفات التي تناولناها في الفصول السابقة ليست هي الوحيدة التي تساعد في تطوير قادةٍ ناضجين، لكنها تقدِّم أساسًا جيدًا لذلك. لقد اخترنا تلك الصفات تحديدًا لأنها تمثِّل مجموعةً من مهارات العقل والقلب والشجاعة، ولأننا شهدنا مدى فائدتها في مساعدة القادة على التفكير والتصرف بطرقٍ أكثر شموليةً.

وأخيرًا، يجب أن نكرِّر أمرًا أوضحناه في الفصل الثاني، أَلَا وهو: تطوير الموظفين مع وضع إطار عملٍ أكثر اتساعًا في الاعتبار. إن الثقافة التي تعتمد على القلب تحتاج إلى تطوير قادتها على نحوٍ مختلفٍ، عن طريقة الثقافة المعتمدة على العقل. وبالمثل، فإن شركة مخضرمة — من الشركات المصنفة في قائمة مجلة فورتشن لأكبر ٥٠٠ شركة — تعاني من نتائجَ ماليةٍ متواضعةٍ، تختلف احتياجاتها التنموية عن احتياجات شركةٍ رياديةٍ شابةٍ ترغب في الاحتفاظ بأفضل وأنجب موظفيها أثناء نمو الشركة. وبطبيعة الحال، فإن المسئول التنفيذي المغرور الذي يعتمد على إصدار الأوامر والسيطرة قد يحتاج إلى التركيز على أمور القلب، في حين أن القائد الشديد الحرص قد يحتاج إلى توعيةٍ بجوانب الشجاعة.

ولوضع كل هذه العناصر في الاعتبار نستخدم في الغالب إطارَ عملٍ يساعد الشركات في تحليلِ احتياجات المؤسسة في المستقبل القريب، وتوضيحِ كيف تؤثِّر هذه الاحتياجات على متطلبات القيادة، وما هي تلك المتطلبات (المناصب، والمهارات، والمعرفة، والسلوكيات). ويتناول إطار العمل أيضًا بنيةَ تطوير القيادة التي تتضمَّن موضوعات تنمية الأفراد وعمليات التعلُّم الجماعي، ويدمج أيضًا القضايا التنظيمية، فيُلقِي نظرةً على كل شيءٍ؛ من التخطيط للتعاقب الوظيفي وحتى إدارة الأداء.

وسواءٌ استخدمتَ هذا النوع من أُطُر العمل أم استخدمتَ منهجًا آخَر، يجب أن تعلم أنك لا تستطيع تطويرَ قادةٍ يمتلكون مهارات العقل والقلب والشجاعة دون فَهْم جميع النقاط التي تؤثر على مؤسستك. وإذا لم تُطوِّر الأفراد على نحوٍ نظامي — أيْ إذا تجاهَلَ منهجُك جميعَ الأنظمة والعمليات التي تؤثِّر على التطوير — فمن غير المحتمل أن تحقِّق هدفَ دعم مؤسستك بالنضج القيادي.

(٣) الخطوة التالية في تطوير القيادة

نظرًا للبحث المستمر عن المواهب، وتزايُد أهمية القادة المتعددي الجوانب الذين يتغيَّر أسلوبهم بحسب المواقف؛ يجب أن تركِّز المؤسساتُ على تطوير القيادة أكثر من أي وقتٍ مضى. فلم يَعُدْ كافيًا استخدامُ برامج التطوير الجاهزة، أو افتراضُ أن تسجيل أحد الأشخاص في أحد برامج كليات الأعمال أو تكليف القادة المحتملين بمهامَّ مختلفةٍ سيَفِي بالغرض. وفي الواقع، تخدع الشركات نفسها باعتقاد أن تلك الطرق المحدودة الغرض تُسفِر عن أي نتائج تفوق بضعة مكاسبَ صغيرةٍ تدريجيةٍ في القيمة القيادية.

نحن لا نلوم المؤسسات وحدها على هذا المنهج التخطيطي؛ فنحن — العاملين في مجال تطوير القيادة — تعجَّلنا للغاية في تطبيق حلولٍ وأدواتٍ دون التفكير في الصورة الكبرى. وعلى الرغم من الفائدة التي يمكن أن يحقِّقها التقييمُ الشامل وغيره من الطرق، فإنها لا تمثِّل تقدُّمًا. وفي الحقيقة لم نشهد أيَّ تقدُّمٍ كبيرٍ في منهجية التطوير خلال الخمس والعشرين سنةً الماضية.

نحن نؤمن بأن إطار العقل والقلب والشجاعة يمثِّل تقدُّمًا طيبًا، من حيث وصفه، بطريقةٍ مباشِرةٍ إلى حدٍّ معقولٍ، رأيَ الغالبية العظمى من الرؤساء التنفيذيين الأذكياء؛ حيث يقولون: «اجلبوا المزيد من القادة الأذكياء، والماهرين في التعامل مع الناس، والذين يتمتعون بشجاعة التصرُّف وفقًا لمعتقداتهم.» إنهم لا يريدون إحدى هذه الصفات فحسب، بل يريدون أيضًا الصفات الثلاث كافةً. هؤلاء الرؤساء التنفيذيون لا يستطيعون الانتظار حتى ينضج هؤلاء القادة ويتطوَّرون على مدار فترةٍ تمتد لسنواتٍ كثيرة؛ إنهم يحتاجون إلى تسريع هذه العملية، ولا يوجد سبيلٌ متاح يساعدهم على تحقيق ذلك.

تعجُّ معظم المؤسسات بقادةٍ جزئيين مثل المسئول التنفيذي الفائق الذكاء الذي لا يُصرِّح أبدًا بما يعتقده، أو نائب الرئيس التنفيذي المتعاطف الذي لا يستطيع إنجاز المهام. ما نريده جميعًا هو القادة الكاملون، وقد بدأتِ الشركاتُ تدرك تدريجيًّا أن هذا النوع من القادة لا يمكن تطويره من خلال التدريب في قاعات المحاضرات؛ وخطوة فخطوة، بدأت الشركات تحدد الأشخاص القادرين على إظهار مهارات العقل والقلب والشجاعة، وتنشرهم في المؤسسات تعزيزًا لها. ومع مرور الوقت سنكون جميعًا قادرين على تطوير الأدوات، والرؤى، والوسائل اللازمة لتوظيف وتدريب وتطوير القادة الكاملين القادرين على تقديم حلولٍ متكاملة — غير مثقلة بأساليب وفلسفات القيادة الجزئية — لتحديات العالم. وعندما يحدث ذلك سنكون كلنا أكثر سعادةً، وسيصبح العالم مكانًا أكثر وفرةً وازدهارًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤