الفصل الخامس

إنجاز المهام

في السنوات الأخيرة، كثر الحديث حول موضوع إنجاز المهام. وبالتأكيد أثار كتاب «التنفيذ» الأكثر بيعًا، للمؤلفَيْن لاري بوسيدي ورام تشاران، النقاشَ حول القادة الذين يتصفون بكونهم مفكرين عظماء لكنهم ليسوا ماهرين في التنفيذ إلى حدٍّ كبير. وعلى الرغم من ذلك الحديث، فلقد وجدنا أن قدرًا كبيرًا من التشوش لا يزال يحوم حول هذه القدرة. في بعض الأحيان، يبالغ القادة في تبسيط الموضوع ويرَوْن أن التنفيذ مسألةُ سيطرةٍ وضغطٍ على الأفراد كي يكدُّوا في العمل. وفي أمثلةٍ أخرى، يتَّخذ القادةُ الموقفَ المعاكس ويحاولون استخدام التأثير لجعْل الآخرين ينفِّذون بكفاءة ما يُطلَب منهم.

وعلى الرغم من ذلك، وكما هي الحال مع معظم المهارات القيادية، فإن التنفيذ أكثر تعقيدًا مما يوحي به أيٌّ من هذين الأسلوبين. ولإنجاز المهام، يحتاج القادة إلى فهم تعقيد المهمة وإيجاد طريقةٍ لوضع الصعوبات المرتبطة بالتنفيذ في الاعتبار. إن القادة الذين يجمعون بين مهارات العقل والقلب والشجاعة يستطيعون فعل ذلك، والسبب يعود جزئيًّا إلى أنهم يدركون أن مشكلاتِ الأفراد والمخاطرةَ يمكن أن تؤثِّرا على المهام المُنجَزة.

ربما أفضل طريقةٍ لبدء استعراض هذه القوة المعرفية هي استعراض أسلوبين شائعين من أساليب القيادة، وملاحظة طريقة تعامُل هذين النوعين (الأسلوب الاستراتيجي والأسلوب التشغيلي) مع التنفيذ.

(١) إما الأسلوب الاستراتيجي وإما التشغيلي، فنادرًا ما يجتمعان

بعض القادة مخطِّطون استراتيجيون على نحوٍ بحت، ومحللون رائعون للبيانات، وبارعون في تحديد الاتجاه. ومن الممكن أن يكونوا حالمين، وقادرين على تجاوز التفكير التقليدي وخلق شيءٍ جديدٍ ومختلفٍ لمؤسساتهم. وقد يكونون ماهرين في إلهام الأفراد وتحفيزهم على تبنِّي استراتيجياتهم، لكنهم ليسوا ماهرين إلى حدٍّ كبيرٍ في معرفة كيفية تنفيذ تلك الاستراتيجيات؛ فهم في الغالب يَمَلُّون من التفاصيل المرتبطة بوضع المهام في حيز التنفيذ، ويتركون هذه المهمة لغيرهم، بل إن بعضهم قد يعتقد أنه إذا كانت الاستراتيجية صحيحةً، فمن المفترض أن تُنفِّذ نفسها بنفسها تقريبًا.

بعض القادة تُحركهم مهامُّ التشغيل؛ فهم يحبون الانخراط في مجريات العمل، ويبلغون ذرى النجاح عبر إيجاد الحلول للمشكلات الصعبة، ويستمتعون بالتفاصيل. وهؤلاء يفكرون دائمًا في كيفية الوصول من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» بأسرع وأوفر طريقةٍ ممكنة. إنهم يتسمون بالعملية والتركيز، وفي العادة ليسوا من النوع المهتم ﺑ «الأفكار العظيمة». ولإنجاز المهام، يعمل هؤلاء القادة بجدٍّ ويجعلون الناس يعملون بجدٍّ، ويفشلون عادةً في فهم كيف يمكن لفكرةٍ أن تأسر خيال الأفراد وتدفعهم نحو العمل بمزيدٍ من الاجتهاد وبمزيدٍ من الابتكار أكثر من أي وقتٍ سابق. وعند الاختيار بين أسلوبٍ مبتكَرٍ لكنه متوسط الخطورة، وأسلوبٍ نمطيٍّ لكنه أقل خطورةً، فإنهم يختارون الخيار الأخير في كل مرة.

في الفترة ما بين ثمانينيات القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين، سادت وجهةُ نظرٍ قويةٌ في صحافة الأعمال — دعمتها البرامج التنفيذية المقدَّمة من قِبَل كليات الأعمال — تقول إن القادة ينبغي أن يكونوا استراتيجيين، وإن العمليات التشغيلية وظيفة وليست مجموعة أنشطةٍ قيادية، وإنه يكفي القادةَ وضعُ استراتيجيات سليمة. في الحقيقة، كان المعتقد السائد هو أن من الأفضل لو ابتعد القادة الأقوياء عن التفاصيل التنفيذية؛ إذ إنهم من الممكن أن يعترضوا سبيل الأفراد الذين يعرفون جيدًا ما يقومون به. وكان التركيز منصبًّا على القيادة القائمة على الرؤية، وكثيرٌ من الرؤساء التنفيذيين في هذه الفترة كانوا محلَّ احتفاءٍ بسبب رؤيتهم الاستراتيجية.

ساعَدَ كتاب بوسيدي وتشاران في تغيير هذا الفكر السائد؛ إذ أكدا على ضرورة إطلاع القادة على التفاصيل التشغيلية إذا أرادوا التنفيذ الناجح. وظهر إطار عملٍ للتنفيذ أكثر اهتمامًا بالأداء ويتطلَّب الكثيرَ من القادة مقارَنةً بالماضي. لم يَعُدْ كافيًا أن يكون لدى القائد موظفون أكْفاء في القاعة عند صياغة الاستراتيجية، حسبما يقول تشاران؛ فيجب إجراء المحادثات الصحيحة مع الأشخاص المناسبين، ويجب أن يكون هؤلاء الأشخاص في مناصبهم المناسبة، ويجب على القائد أن يمتلك أدوات المتابعة الصحيحة للتأكُّد من قيام الموظفين بمهامهم على أكمل وجه.

هذه ليست عقلية تشغيلية. وعلى الرغم من أهمية التفاصيل التشغيلية، قد تصبح مهمة أكثر من اللازم وتعيق التنفيذ. إننا نعرف عددًا من المسئولين التنفيذيين الذين يضعون أهدافًا لفِرَقهم ثم يقدِّمون لهم طرقَ تحقيقِ تلك الأهداف؛ فالعامل المحوري هو الوعي بالتفاصيل وليس استخدام التفاصيل لتعجيز المؤسسة.

لا يمكننا إنكار ما ينطوي عليه هذا الاقتراح من صعوبةٍ محتملة. فإذا كنتَ رئيسًا لإحدى الشركات، ورأيتَ إحدى وحدات العمل الرئيسية بدأت تتدهور، أو أن أحد الموظفين المعروفين بالأداء المرتفع بدأ أداؤه في الانخفاض؛ فهل ستتدخل، وتتولَّى المسئولية، وتنتهك التسلسل القيادي؟ أم ستتنحَّى جانبًا وتتمنَّى أن تنصلح الأمور من تلقاء نفسها؟ يميل الناس إلى الإجابة عن هذه الأسئلة إما بتبنِّي موقفٍ متطرفٍ من الموقفَيْن المطروحَيْن، وإما بالتأرجح بين الموقفين؛ فهم دائمًا إما يهتمون بالتفاصيل (التطرف التشغيلي)، وإما يرفضون تحمُّل مسئولية أي شيءٍ متعلقٍ بالتفاصيل (التطرف الاستراتيجي).

بَيْدَ أن الأسلوب الأكثر فعاليةً إلى حدٍّ كبيرٍ هو إيجاد التوازن بين هذين الموقفين؛ فالقدرة على معرفة الوقت اللازم للاستعانة بالأسلوب التشغيلي، والوقت اللازم للاستعانة بالأسلوب الاستراتيجي، لَهِيَ أمر حاسم. إن إنجاز المهام يتطلَّب في أغلب الأحيان أن تعرف متى تُنْجِز المهام عن طريق تولِّي المسئولية وإعطاء التعليمات، ومتى تَتنحَّى جانبًا وتثق في الآخرين وتُقدِّم لهم التوجيه. ويتضمَّن أيضًا التنقلَ ذهابًا وإيابًا بين هذين الموقفين بسرعة.

وقد أجاد كين لويس — رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لبنك أوف أمريكا — تحقيقَ التوازن بين التشغيل والاستراتيجية، فضلًا عن براعته في إنجاز المهام؛ إذ تولَّى قيادة مؤسسةٍ تعتمد على الرؤية كان يقودها مدير بارع في عقد الصفقات، وحوَّلها إلى شركةٍ تعتمد على منهج سيجما ٦ الذي يحقِّق فيه الأفراد ما وعدوا بتحققيه، ويعلمون بدقةٍ الأمورَ المتوقَّعة منهم. ومن خلال إعطاء الموظفين على المستويات كافةً أدواتٍ ومقاييسَ محددةً مستوحاةً من منهج سيجما ٦، فعَّلَ لويس عملية اتخاذ القرارات استنادًا إلى الحقائق. والآن أصبح القادة في جميع مستويات بنك أوف أمريكا يُقدِّرون التزاماتهم بعضهم تجاه بعض، وينخرطون في اجتماعاتٍ منضبطة، ويتخذون قراراتٍ تستند إلى الحقائق، ويقيسون التقدُّم في ضوء الأهداف الموضوعة. إن التغيُّر في ثقافة البنك أمر لافت للانتباه، وانعكس في قيمته السوقية. علاوةً على ذلك، غيَّر كين ما يزيد على نصف كبار الموظفين وأحلَّ محلهم الأشخاص المناسبين، بصرف النظر عن البنك الذي كانوا يعملون فيه سابقًا، وأسَّس ثقافة شديدة التنافسية، هادفة إلى النمو، قائمة على التنفيذ. نجح لويس في دمج البنوك الجديدة التي يستمر في شرائها دون صعوبةٍ تُذكَر، وتَمكَّن من تحقيق الوعود التي قطعها لوول ستريت، وهو ما ثبت منذ وقتٍ قريبٍ للغاية من خلال الاستحواذ على مصرف فليت بنك ومؤسسة إم بي إن إيه المصرفية.

ولكيلا تعتقدوا أن لويس كان مجرد قائدٍ تشغيلي، فقد غيَّر ببراعةٍ استراتيجيةَ مؤسسته مؤخرًا كي تُركِّز على النمو العضوي. إن أسلوبه التشغيلي السابق ساعَدَ الشركة في تحقيق هدفها الذي تَمثَّل في أن تصبح أكثرَ الشركات إثارةً للإعجاب في الخدمات المالية، لكن هدفه التاليَ تَمثَّل في أن يجعل بنك أوف أمريكا واحدةً من أكثر الشركات «في العالم» إثارةً للإعجاب، ومن أجل ذلك كان في حاجةٍ إلى تغيير رؤيته الاستراتيجية من التنفيذ إلى التوصُّل إلى طريقةٍ لزيادة إيراد البنك دون الاعتماد التام على عمليات الاستحواذ؛ ونتيجةً لذلك، ركَّز على تطوير القادة، والعمل عبر الحدود، وخلق نموذج وعقلية «بنك عالمي» كوسائل لتحقيق النمو العضوي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوب لويس باعتباره قائدًا يعكس هذا التحوُّل؛ فالقائد التشغيلي السابق الذي كان يركِّز على التفاصيل، قد أصبح باعترافه أقلَّ تدخُّلًا، وأكثر تفكُّرًا وتركيزًا على الاستراتيجية ذات المدى الطويل، وسمح لأصحاب الأداء الرائع من الموظفين الذين أحاط نفسه بهم بتحقيق النتائج.

وفي المستقبل، من الممكن أن يعود لويس إلى أسلوبه التشغيلي السابق، وهو أسلوب جيد إذا كان يناسب الموقف. إلا أن الفكرة المقصودة ها هنا هي أن قدرته على التنقُّل بين الأسلوب التشغيلي والأسلوب الاستراتيجي تعزِّز من قدرته على إنجاز المهام.

(٢) ما يَحُول دون تطبيق عقليةٍ مثل عقلية لويس

إن اكتسابَ القدرة على التفكير بكلا الأسلوبين التشغيلي والاستراتيجي، وتحقيقَ أهدافٍ طموحةٍ، كانا سيصبحان أسهل لولا أربعة عوامل تؤثِّر على كل قائد. دعونا نستعرض هذه العوامل (التحيُّز الوظيفي، والحاجة إلى السيطرة، وفرض الأسلوب والتفضيلات، وزيادة العمليات)، ونتعرف على أسباب منعها الأفرادَ من التنفيذ بالمستوى الممكن الوصول إليه في ظروفٍ أخرى.

(٢-١) التحيُّز الوظيفي

إن الوظيفة تجعل الأفراد ميَّالين إما إلى الأسلوب التشغيلي، وإما إلى الأسلوب الاستراتيجي على حسب الخبرات التطوُّرية الأولى؛ فإذا كنتَ قادمًا من وظيفة التسويق، فستكون مدفوعًا لدراسة ميول العملاء وأنماطهم، وستميل إلى النظرة الواسعة ذات المدى الأطول مقارَنةً بالنظرة المهتمة بالتفاصيل؛ ممَّا سيجعلك مفكِّرًا استراتيجيًّا إلى حدٍّ كبير. وإذا كنتَ قادمًا من وظيفةٍ ماليةٍ وتعاملتَ مع مشكلاتٍ ماليةٍ معقَّدة، فمن المحتمل أن تكون أكثر ميلًا إلى الأسلوب التشغيلي لأن خلفيتك في المحاسبة أو القياس تشكِّل هذا الأساس. يميل الشخص القادم من وظيفة التسويق إلى النظر إلى العالم من منظور خبرته الوظيفية؛ فيحلِّل المواقف ويأتي بالأفكار للتعامُل مع المشكلة، لكن من غير المحتمل أن يُلقيَ التعليمات على موظفيه أو «يتدخَّل بنفسه في التنفيذ»؛ نظرًا لأنه معتاد على التأثير من خلال التفكير التصوُّري والاستراتيجي. أما الشخص القادم من وظيفة المالية فيركِّز عادةً على القياسات، بما أن الخطأ الصغير في المجال المالي يمكن أن يقود إلى أخطاءٍ أكبرَ في الحساب وإعداد التقارير. وفي ظل المناخ الاقتصادي والتنظيمي الحالي، يوجد تشديد كبير على حساب الأرقام بدقةٍ وتحقيق الأهداف المالية القصيرة المدى؛ ومن ثَمَّ، قد لا يرتكب هذا الشخص أخطاءً، لكنه قد يحتاج إلى التشجيع كي يتوقَّف ويحل المشكلات من خلال التفكير الابتكاري.

إن التحيُّز الوظيفي يَحُول أيضًا دون إنجاز الأفراد للمهام من خلال الآخرين. تُحفِّز التكنولوجيا على العمل الجماعي والإنتاجية في الوقت الحاضر، وإذا لم تكن تتمتَّع بمعرفةٍ تكنولوجيةٍ تتجاوز معرفة استخدام البريد الإلكتروني والإنترنت، فأنت في حاجةٍ إلى الاعتماد المتزايد على أصحاب الخبرة في هذا المجال. في واقع الأمر، لقد أصبح التعاون فيما بين الوظائف المختلفة مهمًّا للغاية، لدرجة أنك إذا التزمتَ عقليةَ الصومعة فستجد صعوبةً في تحقيق الكثير من المهام خارج نطاق خبرتك الضيق. وسواءٌ أكنتَ تنحاز إلى الأسلوب الاستراتيجي أم التشغيلي، فأنت في حاجةٍ إلى خلق علاقاتٍ ثنائيةٍ قائمةٍ على الثقة، ليس فقط مع الأفراد في الوظائف الأخرى، لكن أيضًا مع الموردين والعملاء والمنافسين. إن القادة الذين يعملون في نطاقٍ ضيقٍ وظيفيًّا على نحوٍ يجعلهم غير قادرين على تكوين مثل هذه العلاقات؛ سرعان ما يعانون عند وضعهم في مواقفَ تتطلَّب تعاونًا حقيقيًّا.

(٢-٢) الحاجة إلى السيطرة

على الرغم من التوجُّه العام نحو اقتصادٍ يقوم على المعرفة، فإن الممارسات الإدارية التي تَرجع إلى عصر الثورة الصناعية لا تموت بسهولة؛ ففي عالَم النتائج غير الملموسة المتقلِّب والمعقَّد وذي العلاقات المعتمدة بعضها على بعض، يصبح رد فعل القيادة المعتاد هو فرضَ السيطرة. إلا أن رد الفعل هذا يمكن أن يكون له تأثير عكسي. وفي الحالات القصوى، يَحرم القادة «المهووسون بالسيطرة» الآخَرين من روح المبادرة والإبداع، ويُعزِّز أسلوبُ الإدارة التفصيلية الذي يتبعونه نزعةَ التشكُّك وتجنُّب المخاطرة. وعلى الرغم من أن المبالغة في السيطرة محتمَل حدوثها على نحوٍ أكبر لدى العقلية التشغيلية مقارَنةً بالعقلية الاستراتيجية، فإنها قد تؤثِّر على كلا النوعين من القادة؛ فالقادة الاستراتيجيون من الممكن أن يصبحوا مهووسين بكل اختلافٍ طفيفٍ في الاستراتيجية، فيتقدَّمون ببطءٍ شديدٍ بينما يحاولون جمع المزيد والمزيد من المعلومات لدعم كل عنصرٍ في الاستراتيجية. وعلى الرغم من الجودة المحتملة لرؤيتهم، فإنها تُنفَّذ ببطءٍ شديدٍ أو تعجُّ أكثر من اللازم بالأبحاث والدراسات كي تخلق تأثيرًا. أما القادة التشغيليون الذين يركِّزون على السيطرة فيتسبَّبون في حالةٍ من الانفصال. يفقد القادة التشغيليون المتقلِّبون أعصابَهم حتى عند أتفه الأخطاء، أو ينغمسون في التفاصيل لدرجةٍ تجعلهم يغفلون عن هدفهم الأكبر؛ فعلى سبيل المثال: من الممكن أن يبذل هؤلاء القادة قدرًا كبيرًا من الجهد في تنفيذ عمليةِ توجيهٍ جديدةٍ قبل موعدٍ نهائيٍّ محددٍ، لكنهم يفشلون في التفكير في أفضل طريقةٍ لنشر هذه السياسة في أرجاء الشركة كافةً كي يفهمها الموظفون ويدعموها.

نحن لا نقترح أن التخلِّيَ عن السيطرة وسيلةٌ أساسية للتنفيذ؛ فمن الواضح أن القائد يحتاج إلى فرض السيطرة كي يظل مُلِمًّا بالتفاصيل ويمتلك المقاييس اللازمة لقياس التقدُّم المحرَز. إلا أنه إذا أصبحت السيطرة هدفًا لا وسيلةً لغايةٍ أكبر، فعندها يعاق التنفيذ.

إننا نعرف أحد القادة الماهرين المهووسين بالتفاصيل التي تخص مؤسسته؛ كان هذا القائد يستمتع بإجراء اجتماعاتٍ ذات جداول أعمالٍ دقيقة، وكان يفتخر بإلمامه بتفاصيل وظائف الجميع، وبمعرفته بكل كبيرةٍ وصغيرةٍ في الميزانية. إنه مُصلِّح هاوٍ، يعتقد أن «الآلة إذا عُدِّلت جيدًا» فإن المؤسسة سوف تُنتِج. لكنه يغفل عن الطاقة البشرية التي يخلقها التحفيز الحقيقي؛ فمحاولاته لقياس الإنتاج تعيق الابتكار، ولا يستطيع تحفيز الشغف والالتزام اللذين يقودان التنفيذ الحقيقي.

(٢-٣) فرض الأسلوب والتفضيلات

يتناقض هذا الأسلوب مع مبدأ تكييف أسلوبك وتفضيلاتك وفقًا للوظيفة. تاريخيًّا، كانت الفلسفة السابقة (فرض الأسلوب) هي الطريقة المتبعة من قِبَل القادة في مجال الأعمال في أداء أدوارهم؛ فالشخص العنيد بطبعه كان يُظهِر هذا العناد باعتباره مديرًا وباعتباره قائدًا، وفي معظم الأحيان لم يكن هذا الأمر عقبةً كبيرةً في سبيل إنجاز المهام. وفي الواقع، لقد ساعَدَ هذا الأسلوب القادةَ على تحقيق أهدافٍ معينة.

لكن في الوقت الراهن، قد يصبح هذا العناد نفسه عقبةً كبيرة؛ ففي ظل بيئةٍ تعتمد عناصرُها بعضها على بعض، يحتاج القادة إلى أن يدركوا متى يصبح أسلوبهم وتفضيلاتهم معيقة للتنفيذ. إنهم ليسوا في حاجة إلى تغيير شخصياتهم ١٨٠ درجة، لكنهم يحتاجون إلى الانتباه إلى المواقف حيث يصبح أسلوبُهم المسيطر غيرَ فعَّال؛ فعندما يدركون أن تفكيرهم الأحادي يَحُول دون حل مسألةٍ مهمة، فمن الممكن أن يتراجعوا ويسألوا أنفسهم إذا ما كانت هذه الصفة نقيصةً أكثر منها إضافةً في موقفٍ ما. وقد يساعدهم هذا على الانسحاب وبذل جهدٍ أكبر لحل هذه الورطة.

لكل قائدٍ أسلوبُه الخاص، لكنه في كثيرٍ من الأحيان يرفض تغييره لأنه تأصَّلَ فيه لا شعوريًّا من خلال نجاحٍ سابقٍ، أو لأنه غير مدركٍ لأثره. إن المرونةَ والوعيَ ضروريان في الوقت الحاضر لتنفيذ الحلول الفعَّالة. تستثمر شركات عديدة أموالًا كثيرة في مساعدة قادتها على فهم أسلوبها المفضَّل، من خلال اختبارات التفضيلات مثل اختبار مؤشر مايرز بريجز لأنماط الشخصية، أو اختبار نظرية التوجُّهات الأساسية للعلاقات البشرية، أو غيرها من الأدوات الكثيرة. وهذه التقييمات يمكن أن تساعد القادة في فهم أن أسلوبهم القيادي المفضل قد لا ينفع في جميع المواقف، ومن دون التمتع بالمرونة وامتلاك مجموعةٍ متنوعةٍ من الأساليب القيادية، فإن أي أسلوبٍ قياديٍّ مفضلٍ يمكن أن يكون نقطةَ ضعفٍ كبيرةً إذا افتقر القائدُ إلى الوعي والتكيُّف.

وأخيرًا، فإن القادة في أغلب الأحيان لا يدركون أن الظروف المختلفة تتطلب أنواعًا مختلفةً من الأساليب القيادية؛ فالنوع نفسه من الأسلوب التوجيهي الذي قد يكون ضروريًّا أثناء إدارة أزمةٍ تتضمن تغييرًا شاملًا، لن يكون فعَّالًا على الإطلاق إذا كان التحدِّي هو تمكينَ المؤسسة من توليد أفكارٍ يمكنها دفع النمو. وبالمثل، فإنَّ تَقلُّد أحد المناصب المتعلقة بشئون الأفراد، التي لا تنطوي إلا على قدرٍ قليلٍ من السلطة، يختلف جذريًّا عن الاضطلاع بمسئولية الإنتاج وتحمُّل المسئولية النهائية عن الأداء المالي؛ فالوظيفة الأولى تركز إلى حدٍّ كبيرٍ على القدرة على التأثير على الآخرين وتتطلَّب أسلوبًا قياديًّا مختلفًا تمامًا. وقد عرفنا قادةً استثنائيين كانوا يواجهون صعوبةً عندما يجدون أنفسهم في موقفٍ يتطلَّب منهم تغيير أسلوبهم القيادي.

(٢-٤) الزيادة المفرطة في العمليات

من المفهوم أن الرؤساء التنفيذيين وغيرهم من القادة يريدون في الغالب وضع عمليةٍ جديدةٍ أو نظامٍ جديدٍ من أجل زيادة القياس والأداء أو تحسينهما. وقد يؤدي التطوير التكنولوجي إلى عملية تصنيعٍ جديدة، أو تحسين إمكانية الدخول إلى إحدى قواعد بيانات العملاء، أو إلى طُرُق محاسَبةٍ ماليةٍ مطوَّرة. ظاهريًّا، الاستثمار في برنامجٍ جديدٍ وإجراءاتٍ جديدةٍ يساعد في إنجاز المهام بقدرٍ أكبر من السرعة والجودة. وعلى الرغم من ذلك، فلا بد من الانتباه إلى أن عددًا أكبر من اللازم من العمليات يمكن أن يُثقِل كاهل المؤسسة ويصرفها عن التنفيذ بدلًا من دعمه. إن المؤسسات التي تُعاني من زيادة العمليات يصبح تركيزها منصبًّا على الداخل؛ فتُوجِّه الكثيرَ من الانتباه إلى العمليات والقياسات لدرجةٍ قد تجعلها تهمل السلوكَ الأساسي الذي يحقِّق النجاح؛ على سبيل المثال: قد تفقد المؤسسة تركيزها الخارجي وتُولِي انتباهًا أقل للعملاء والفرص، ومن الممكن أن تركِّز كل انتباهها على إنجاح العمليات الجديدة.

كم عدد العمليات التي تُعَدُّ عبئًا زائدًا؟ لا يمكننا تحديد رقم، لكننا شهدنا كثيرًا من الشركات في وقتنا الحاضر يعاني من زيادة مفرطة في العمليات. وإذا كنتَ لا تستطيع تحديد عدد العمليات التي تمارسها فعليًّا، فمن المحتمل أنك تشجِّع زيادةَ العمليات. من خلال إجراء تشخيصٍ للمؤسسة واستقصاءٍ حول التوجُّهات، سوف تعرف ما إذا كان الأفراد مثقلين من اعتماد العمليات بعضها على بعضٍ، ومن متطلبات التواصُل التي تفرضها الأنظمة الجديدة التي وضعتها الشركة. وإذا كان الموظفون مثقلين، فإنهم لن يكونوا قادرين على تنفيذ المهام بالكفاءة المحتملة؛ لأنهم سيكونون قد صرفوا انتباههم عن أصحاب المصلحة الخارجيين الذين يحاولون من أجلهم تنفيذ تلك المهام. إننا نرى في الوقت الحاضر الكثيرَ من الاستقصاءات التي تستطلع التوجهات في المؤسسات، وقد وجدنا أن تعقيد العمل الناتج عن زيادة العمليات شكوى مشترَكةٌ بين هذه الاستقصاءات.

(٣) إنجاز المهام في بيئةٍ فوضويةٍ لا ترحم

إذا استطعتَ التغلُّب على العقبات الأربع التي تناولناها للتو، فإنك ما زلتَ تواجه تحدياتٍ بيئيةً في سبيل التنفيذ الفعَّال؛ فالأُطُر الزمنية أصبحت أقصر، والمعايير أصبحت أعلى، والضغط من أجل إحراز نتائجَ أعلى من نتائجِ ربعِ السنة الماضي أصبح أكبر، والبيانات المقارنة موجودة دائمًا. ومع وجود هامشٍ أصغر للخطأ وحاجةٍ أكبر للإقدام على مخاطراتٍ ذكية، لا يمكن للقادة التنفيذ باستخدام الأساليب التخطيطية نفسها التي استخدموها في العام الماضي بل حتى في ربع السنة الماضي؛ ولذلك، فإن أول شيءٍ يجب أن يفعله القادة هو اتباع توصيتنا السابقة بإيجاد توازنٍ بين العقلية الاستراتيجية والعقلية التشغيلية. وإذا كنتَ لا تدرك العقلية المسيطرة عليك، فاطلب التقييم من مرءوسيك؛ فهم عادةً مدرِكون إلى حدٍّ كبيرٍ أسلوبَك المفضَّل في القيادة. إن إيجاد توازنٍ في أسلوبك سوف يتيح لك خياراتٍ في المواقف حيث لا يحقِّق أسلوبك السائد في القيادة جدوى. وفي بيئةٍ سريعة، كثيرة الأعباء، دائمة التواصل، تَوقَّعْ أن أسلوبك القيادي السائد لن ينفع في كثيرٍ من المواقف، بل توقَّعْ أنك قد تصبح سجينَ خبرتك.

الخطة الثانية التي أشرنا إليها تتضمَّن تكوين النفوذ من خلال العلاقات الأفقية بغية إنجاز المهام. وقد يبدو هذا مناقِضًا للحَدْس بالنسبة إلى القادة التقليديين الذين اعتادوا على التنفيذ الرأسي، لكن القدرة على الاستعانة بالآخرين والتأثير عليهم دون سلطةٍ مباشِرةٍ أصبحت مكونًا أساسيًّا للنجاح في البيئات المعقدة. إن العملَ داخل فِرقٍ من وظائفَ مختلفة، وتكوينَ شراكاتٍ مع الموردين مربحةٍ للطرفين، وتكوينَ تحالفاتٍ مع شركاتٍ في صناعاتٍ أو مجالاتٍ وثيقة الصلة بعملك، وحتى الدخول في مشاريع مشتركة مع المنافسين؛ يمكن أن تحقِّق نتائجَ مثمرةً دون الحاجة إلى امتلاك الموارد أو السيطرة عليها.

أما الخطوة الثالثة فهي خلْق مناخٍ يتبنَّى قيمة المُساءلة؛ فعندما يقدِّم الموظفون إسهاماتهم لأنهم يشعرون بأنهم مضطرون إلى ذلك — أي إن الشركة تُجبرهم على الإنتاج — فإنهم يفتقرون إلى الالتزام والابتكار الضروريَّيْن للتنفيذ الكفء. ويطلق أحد القادة الذين نعرفهم على هذا الأمر اسم «الإذعان الناقم»! إن ترسيخ المُساءلة يعني إرساءَ عواقبِ أداءٍ منصفة، وهذا يتضمَّن أيضًا أن يصبح القادة نموذجًا للوفاء بالالتزامات وقَبول العواقب، وأن يُبَثَّ هذا الإحساس بالالتزام والمسئولية في نفوس الموظفين. من المفيد ها هنا الاستعانة بأحد مفاهيم علم نفس الأطفال، أَلَا وهو مفهوم الطفل «الذاتي الغاية»؛ فكثير من الأطفال يُبلون بلاءً حسنًا في المدرسة بسبب حافزٍ خارجي، مثل رغبتهم في إرضاء الوالدين أو المعلمين، أو كردِّ فعلٍ لتهديداتٍ من الوالدين. لكن وصف «الذاتي الغاية» يعني أن حافزهم داخلي، أيْ إنهم ينجزون بسبب شيءٍ داخلهم. إن تكوين هذا الحافز الداخلي نفسه في المؤسسة هو ما تعنيه المُساءلة. ولدى القوى العاملة الذاتية التوجيه قدرةٌ أكبر على إنجاز المهام.

أما التوصية الرابعة فهي تقدير المثابرة وإظهارها؛ فلا بديل عن المثابرة. من السهل أن يصبح القادة مشتتين ومحصورين في دائرة رد الفعل في عالم الأعمال المعاصر، عندما تنهمر عليهم المؤثرات ووسائل الاتصال والطلبات والمعلومات والخيارات. وكلنا نعرف على الأرجح أكثر من قائدٍ ممَّن يبدءون المشروعات ولا ينهونها أبدًا. إن المثابرة إحدى خصال الشجاعة المستخدَمة في خدمة المعرفة؛ فإذا أردت إنجاز المهام، فأنت في حاجةٍ إلى إظهار شجاعة معتقداتك. ولا شك أن القادة ينجذبون إلى التراجع عند ظهور أحد العيوب في مشروعهم المفضَّل، أو عندما يفقد أحدُ البرامج تأييدَ المؤسسة. وعلى الرغم من ذلك، فإذا كان القادة مؤمنين حقًّا بمشروعهم أو برنامجهم، فلزامًا عليهم التمسُّك به، وهذا لن يساعدهم فحسب في تحقيق الهدف الذي يرَوْن أنه جدير بالتحقيق، لكنه سيبعث رسالةً أيضًا إلى الموظفين تخبرهم أن المثابرة صفة يُقدِّرها القادة. في كثيرٍ من الدراسات التي تدور حول المنتجات المبتكرة والأفكار الجديدة في الشركات، يوجد دليل واضح على ما يُطلَق عليه «تأثير لعازر»؛ الذي يشير إلى المناصر القوي لأحد الأفكار الذي يرفض السماح بموت فكرة منهجٍ أو منتجٍ جديدٍ، ويحقق نجاحًا في النهاية من بدايةٍ بائسةٍ وبعد مقاومةٍ أولية.

الخطوة الخامسة هي تعزيز نقاط القوة لدى الموظفين بدلًا من مساعدتهم على إصلاح نقاط ضعفهم. هذه سمة من سمات قيادة القلب تخدم عملية التنفيذ. كثير من برامج تطوير القيادة تدور حول إصلاح الأفراد، ولا شك أن بعض القادة يحتاجون إصلاح موظفيهم، إلا أن المشكلة تكمن في التوجُّه؛ فعندما يتبنَّى القادةُ وجهةَ النظر الزاعمة بوجود مشكلةٍ لدى الآخرين، فإنهم يجردونهم من قوتهم حتى عندما يحاولون مساعدتهم. وقد وجدنا أن معظم الأفراد مستعدون لتقديم التضحيات من أجل نظامٍ يهتمُّ بهم، ويعتبرهم أصولًا تستحق التطوير، لكنهم غير مستعدين لتقديم تضحياتٍ لنظامٍ يراهم مَعيبين وضعفاء. إن التنفيذيين الشديدي الصلابة يتحدثون كثيرًا عن «التنفيذ الضخم لأحد المشاريع»، لكنهم يقولون إن موظفيهم غير مهتمين؛ إذ إن الخوف والحديث الصارم سيؤديان إلى إنجاز الأفراد للكثير من المهام فحسب، لكن تطوير نقاط القوة لدى المرءوسين يعني التعاون معهم، والاستفادة من مهاراتهم والإضافة إليها من أجل تحقيق هدفٍ مشترك. ومن المهم إبراز السلوكيات التي تحتاج إلى التعديل أو التغيير ومواجهتها، لكن يجب ألا يكون هذا هو نقطةَ التركيز الأساسية لعملية التطوير.

أدرك ساندر فلاوم — الذي يعمل حاليًّا مستشارًا للصناعات الدوائية والبيوتكنولوجية — كيفية إنجاز المهام. وعلى الرغم من أن قصته حدثت منذ عدة سنوات، فإنها تُعَدُّ مثالًا مهمًّا لأنها تتضمَّن سماتٍ معينةً ناقشناها للتو، لا سيما المثابرة وتعزيز نقاط القوة لدى الأفراد من أجل تحقيق الأهداف.

عندما أصبح فلاوم رئيسًا تنفيذيًّا لشركة روبرت إيه بيكر، إحدى وكالات الإعلان في مجال الرعاية الصحية، كانت تلك الشركة تعاني من أزمةٍ خطيرة، وعلى وشك فقْدِ اثنين من أكبر عملائها. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، أصبح لدى الوكالة تقريبًا عميلٌ واحد كبير فحسب — بريستول مايرز — وكان التعاقد مع هذا العميل مهددًا بالإلغاء. في البداية، لم يكن أحدٌ يجيب على مكالمات فلاوم الهاتفية، وأخبره الجميع بأنه ارتكب خطأً بالانضمام إلى شركة بيكر، وأنه يجب أن يترك تلك الشركة قبل فوات الأوان.

وعلى الرغم من ذلك، كان فلاوم قائدًا كاملًا يعرف كيف يُنجز المهام؛ فبدأ بخلق ثقافةٍ سمَّاها «ثقافة المثابرة»؛ فغرس داخل الموظفين فكرة أنهم في يومٍ من الأيام سيعملون لحساب عملاءَ من أصحاب أكبر منتجاتٍ في صناعة الدوائيات. وأكَّد على الحاجة إلى المثابرة، حتى في وجه الرفض المبدئي، وأظهر هذه المثابرة عندما لم تطلب بريستول مايرز اشتراكهم في مناقصة العروض الترويجية لعقَّار بوسبار المضاد للقلق. وبدلًا من قَبول هذا الرفض، حاول فلاوم وفريقه إقناع رئيس منتجات بريستول مايرز بفكرةٍ تلو الأخرى عن المشروع، إلى أن طُلِب منهم في النهاية تقديم عرضٍ ترويجي. وعندما فازوا بالمشروع، حقَّقت الحملة الناتجة المروجة لعقَّار بوسبار زيادةً هائلةً في المبيعات.

يبدو واضحًا أيضًا أن فلاوم كان ثاقبَ الفكر عندما عزَّز نقاطَ القوة لدى موظفيه المتمثلةَ في الإتيان بالأفكار. إن الأفكار المبتكرة هي بضاعة وكالات الإعلان، لكن فلاوم وجد أنه من الممكن أن يحصل من الموظفين على أفكارٍ أكثر وأفضل، إذا شجَّعهم على استخدام قدرتهم الإبداعية في كل فرصة. كما كتب فلاوم: «إياك أن تتصل بعميلٍ دون أن تكون لديك فكرة كبيرة.» وأصبح ذلك شعارَ الوكالة؛ ونتيجةً لذلك، اشتهرت بيكر بأنها الأفضل في الإبداع، وجذبت عملاء لم يكونوا يجيبون مطلقًا على مكالمات الوكالة أثناء فترة أزمتها، وأصبحت بيكر أفضل وكالة دعايةٍ وإعلانٍ في ذلك العام، وحصلت على سبعة عملاء من أهم عشر شركاتٍ في مجال الصناعات الدوائية.

ومن المثير للاهتمام أن فلاوم كتب في إحدى مقالات مجلة «فارماسوتيكال تايمز» قائلًا: «لقد فعلنا ذلك بعقولنا وقلوبنا، لكن الأهم من ذلك أننا فعلنا ذلك بكدِّنا وعَرَقنا.» ويمكننا أن نترجم معنى «كَدٍّ وعَرَق» إلى أن فلاوم امتلك شجاعةَ التصرف وفقًا لمعتقداته، وكان مستعِدًّا للعمل بمثابَرةٍ مدهِشةٍ كي يحقِّق أهدافه.

(٤) نبذ النموذج القديم للقائد الذي ينفذ

على الرغم من كل ما تعلَّمناه عن كيفية إنجاز المهام، ما زالت المؤسسات تنجذب نحو القادة «الصارمين» (أي المسيطرين والموجهين) عندما يكونون في حاجةٍ ماسةٍ إلى تحسين الأداء. إنهم يرغبون في شخصٍ لا يخاف من اتخاذ الإجراءات، شخصٍ يمضي قدمًا، ولا يُظهِر الضعف. واتخاذ «الإجراءات» يعني تقليل الميزانية وخفض عدد الموظفين، وفوق ذلك بدء استراتيجيةٍ جديدة، ودفع الناس نحو تحقيق نتيجة. ونحن نُذَكِّر تلك المؤسسات بالاعتبار من مصير مؤسسة صن بيم عندما أسندت القيادة إلى ألبرت دنلاب الملقَّب ﺑ «المنشار الكهربي»، وهو رجل صارم وبارع في تقليل التكاليف. استمر دنلاب في القيادة لمدةٍ تقل عن عامين، وتسبَّب في طرد نصف القوى العاملة، وجعل الموقف السيئ أكثر سوءًا؛ وأعلنت صن بيم إفلاسها بعد سنواتٍ قليلةٍ من طرده من الشركة.

وعلى الرغم من أن إنجاز المهام وزيادة الأداء قد يتطلبان تقليلَ عدد الموظفين وتقليل التكاليف، فإنه يجب ألَّا تصبح هاتان الوسيلتان هما الاستجابةَ التلقائية. لا بد من إدخال القلب والشجاعة إلى المعادلة، والقادة الصارمون القساةُ القلبِ أو الرؤساء التنفيذيون القَلِقون يُظهِرون قدرًا قليلًا من الشجاعة وقدرًا أقل من المشاعر. يجب أن تستعين المؤسسات بكلٍّ من كين لويس وبيل ويلدون وأندريا يونج باعتبارهم نماذج للقادة الذين يُنفذون جيدًا، القادة الكاملين الذين ينجزون المهام؛ ليس فقط لأنهم أذكياء في طريقة التنفيذ، بل لأنهم يُلهمون الموظفين كي يعملوا بمزيدٍ من الجد وعلى نحوٍ أفضل، ولأنهم يُظهرون الشجاعة التي تتطلبها المثابرة حتى النهاية.

من الممكن إعداد قادةٍ قادرين على التنفيذ، فقط إذا حلَّتْ عمليةُ التطوير النموذجَ الجديد محلَّ القديم. وقد تتناقض هذه الخطوة مع الحَدْس، لكن الأمور لن تُنجز بالاعتماد على القوة والخوف. يجب أن تقدم عملية التطوير نماذج من داخل الشركة عن طريق توضيح هذه النقطة؛ فيجب أن تمنح المشاركين فرصةَ فهمِ طريقةِ التنفيذ الجيد التي تتبعها وحدات العمل الداخلية، أو تمنحهم فرصةَ زيارةِ الشركات الخارجية التي تُنفذ المهام بطريقةٍ جيدةٍ بسبب مزج قادتها بين العقل والقلب والشجاعة، من أجل خلق ثقافةٍ يرغب أفرادها في إنجاز المهام. ويجب أن تمنح كلَّ قائدٍ فرصةَ مراجعةِ تصوُّره عن كيفية التنفيذ. وهذه النقطة الأخيرة يمكن أن تكون صعبة، وربما تتطلَّب تجارب واقعية (مثل تجارب برامج التعلُّم بالفعل)، يُكلَّف فيها الأفراد بمهمةٍ طموحةٍ لا يمكن إنجازها إلا عبر استخدام الصفات الثلاث للقائد الكامل. ويجب أن يتعلَّم الأفراد — لا سيما الأفراد المتصلبي الرأي — أن بعض المواقف تتطلَّب المخاطرة والتعاطف لا مجرد خطةٍ قويةٍ تُبلَّغ للموظفين بلهجةٍ صارمة. وفي بعض الأحيان، يكون لِزامًا حدوث فشلٍ عامٍّ — مثل موقفٍ لا يُسفِر فيه الصراخ والقرارات الصارمة عن إنجاز المهام — حتى يصبح الأفراد مستعدين لإعادة التفكير في أسلوبهم القيادي؛ فعند حدوث ذلك، يكون القائد أكثر ميلًا إلى تجربة أساليبَ أخرى لتحقيق أهدافه.

•••

في الفصل التالي، سوف نكمل تغطيتنا الرسمية للجانب المعرفي من القيادة — ما نطلق عليه قيادة العقل — من خلال توضيح كيف تستفيد الشركة من تكوين وجهة نظر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤