الفصل الثامن

تقديم حلول متكاملة من خلال الثقة

توجد مساحات بيضاء بين الوظائف والمستويات الهرمية والإدارات والأقسام والتقسيمات الجغرافية؛ إنها مناطق مهجورة تكون فيها المسئوليات غامضةً. تحتوي هذه الفجوات الآن على الكثير من الفرص المتعلِّقة بالعملاء والأسواق أكثر من أي وقتٍ مضى، ومن السهل خسارةُ تلك الفرص أو الفشلُ في حل المشكلات؛ لأن القادة يتعاملون مع النظام المؤسسي باعتباره خريطةَ أراضٍ مسجلة الملكية. إنهم يديرون المساحات البيضاء بعقولهم فقط. على سبيل المثال: قد تقع مسئولية المشروع مباشَرةً ما بين قسمَي التسويق والتصنيع، فيفرض نائب رئيس التسويق سيطرتَه على المشروع ويحاول أن يُمليَ أوامره على قسم التصنيع؛ أو على القدر نفسه من الإشكالية، قد يتنازل نائب رئيس التصنيع عن السيطرة على المشروع لصالح التسويق، ولا يخصِّص مواردَ كافيةً ولا يُقدِّم دعمًا كافيًا لإنجاح المشروع.

في وقتنا هذا الذي يجب أن يعتمد فيه المزيد والمزيد من المؤسسات على شبكة التنظيم الأفقية والهياكل التنظيمية المصفوفية المترابطة، زاد انتشارُ المساحات البيضاء. ومع انتشار تلك المساحات يتزايد عدم اليقين فيما يتعلَّق بهوية الأشخاص المسئولين عن المهام المختلفة، وبالطريقة التي سيُنجَز بها العمل. ويؤدي ذلك — بالإضافة إلى زيادة استخدام القياسات ولوحات المتابعة لقياس النتيجة — إلى الحاجة إلى طرقٍ جديدةٍ للقيادة والتأثير. ومع الدفع بمسئولية اتخاذ القرارات إلى مستوياتٍ إداريةٍ أقل، واضطلاع الفِرَق والشبكات بمهامَّ كان من المعتاد إنجازها داخل صوامعَ تنظيميةٍ أو عبر الجهود الفردية؛ يجب أن يتعلم القادة أن يفعلوا ما هو أكثر من التوجيه والمكافأة والتشجيع ومراقبة الأداء. إن القدرة على التعاون هي أهم الأمور المطلوبة للنجاح في المساحات البيضاء؛ وهذا يعني تكوين العقلية ومهارات العلاقات الشخصية اللازمة للعمل مع الآخرين، الذين لا توجد للقائد سلطةٌ مباشِرة عليهم من أجل تحديد الأهداف والفرص المهمة لدى كلا الطرفين.

يتطلَّب التعاونُ صفتين مهمتين على الأقل؛ أولى هاتين الصفتين هي القدرة على فهم ماهية الفرص (أو المشكلات)، وهذا يعني أن القادة الناجحين يحتاجون إلى امتلاك القدرة على استخدام عقولهم لتحليل الموجود في المساحة البيضاء. وثانيًا، أنهم يحتاجون إلى استخدام قلوبهم كي يستطيعوا منح الثقة للآخرين، لا سيما أولئك الذين لا يعملون مباشَرةً تحت إمرتهم. من الناحية النظرية، اكتسابُ القدرة على العمل عبر الحدود المؤسسية لن يساعد فحسب على تحقيق الأهداف القصيرة المدى، بل سوف يوفر أيضًا فوائدَ على المدى الطويل، من خلال خلق ثقافةٍ يصبح فيها التعاونُ القاعدةَ وليس الاستثناء. وعلى الرغم من ذلك، فإن القول يكون في أغلب الأحيان أسهل من الفعل. إن التنازلَ عن السيطرة والثقةَ في تحقيق الآخرين للمهام يمكن أن ينطويَا على قدرٍ مؤكدٍ من الخطر. وباختصار، قد يكتنف إدارةَ المساحات البيضاء قدرٌ من الصعوبة. ولكي نساعدكم على فهم كيفية إجادة التغلُّب على هذه الصعوبة، دعونا نبدأ أولًا بالنظر إلى إدارة المساحات البيضاء من منظورٍ تاريخي.

(١) إعادة تعريف المساحة البيضاء عبر الزمن

أوضح آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» فوائد تقسيم المؤسسات إلى أقسامٍ متخصِّصة، وقد تمسكت المؤسسات على مدار ما يقرب من مائتَيْ سنةٍ بهذا التنظيم. وقد بيَّن فريدريك تايلور قيمةَ العمليات القابلة للتكرار، وهكذا وُلِد التنظيم الصناعي المعقد وما زال موجودًا. ومع تطوُّر تكنولوجيا الكمبيوتر في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدأت الشركات في أتمتة المهام الروتينية، وزادت إلى حدٍّ هائلٍ سرعةُ تسليم العمل من قسمٍ إلى ما يليه؛ ممَّا زاد من أهمية الحركة الأفقية (مقابل الرأسية الهرمية) داخل المؤسسات. في ثمانينيات القرن العشرين، طَوَّرت صناعةُ السيارات اليابانية هذا المفهومَ الأفقي إلى مستوًى أعلى عبر نظام إدارة الإنتاج الآني والتصنيع الرشيق، وبدأ الناس يهتمون «بالمساحات» الموجودة بين المؤسسات وبين بيئتهم الخارجية، وأداروا المساحة البيضاء المتمثِّلة في التنسيق بين المصنع والموردين (وأحيانًا أدت الشراكات بين المجموعتين إلى جلب المورد إلى المصنع)، وأمدت هذه المساحةُ البيضاء الشركاتِ بميزةٍ تنافسيةٍ من خلال تقليل الوقت والبضائع المخزونة.

بعض الشركات اقتنصت أيضًا الفرصَ الموجودة في المساحة البيضاء بينها وبين العملاء، ومرةً أخرى، حقَّقت شركاتُ السيارات اليابانية أقصى استفادةٍ من هذا المفهوم قبل غيرها؛ فنجد أن شركة تويوتا قلَّلَتْ وقتَ تسليم السيارات من ستةٍ وثلاثين يومًا في المتوسط إلى ثمانيةَ عشرَ يومًا.

وفي السنوات العشر الأخيرة، باستثناء إدارة سلسلة التوريد، دارت المناقشات المتعلِّقة بالمساحة البيضاء حول قضايا داخلية؛ إذ إن الحلول المتكاملة المقدَّمة للعملاء جعلت من الضروري أن تعمل الوظائف والإدارات والفِرَق كوحدةٍ متكاملة؛ فعندما يحتاج فريقُ تصميمٍ في نيويورك فريقًا هندسيًّا في ميونيخ للعمل على مشروعٍ لأحد العملاء، يجب أن يحدث الانتقال بسلاسة. وتوفر شركاتٌ، مثل يو بي إس وبنك أوف أمريكا، لعملائها خدماتٍ مصرفيةً آليةً كاملة، وهذا يعني أنه عندما يقترض أحد العملاء من بنكٍ تجاريٍّ، لكنه يوضِّح أنه يرغب في إدارة ثروته الشخصية على نحوٍ يحقِّق مزيدًا من الربح، فإن البنك يسلِّم الحساب بسلاسةٍ إلى مؤسسةٍ مصرفيةٍ خاصة؛ أيْ إن المساحة البيضاء بين وحدة العمل التجارية الموجودة في سانت لويس — التي جمعت الإقرارات الضريبية الخاصة بالعميل مع بيانات صافي الأصول، وبيانات الدخل — ووحدة العمل البنكية الخاصة التي يوجد مقرُّها في بوسطن؛ قد أُديرت بسلاسةٍ من أجل تلبية احتياجات العميل. وما قد يبدو طبيعيًّا ومنطقيًّا من وجهة نظر العميل يمكن أن يكون في غاية التعقيد بالنسبة إلى شركة خدمات؛ نظرًا لأن المؤسسات الكبرى لديها الكثير من الوظائف والأقسام والمكاتب المختلفة حول العالم، التي قد تحتاج إلى التنسيق بينها.

تختلف المساحة البيضاء في مؤسسةٍ تُقدِّم منتجاتٍ، عنها في شركةٍ تقدِّم الخدمات؛ على سبيل المثال: يبيع موظف المبيعات أحد المنتجات للعميل ويضمن التسليم في غضون أربعة أسابيع، ومن أجل الوفاء بهذا الالتزام، يجب أن يحرص قسمُ الإنتاج على أن تكون البضائع كافيةً لتلبية الطلب، ويجب أن يضمن قسمُ الشحن وصولَ المنتج بالفعل إلى العميل، ويجب أن يتتبع قسمُ الماليةِ الفواتيرَ ويضمن الحصولَ على مقابل الشراء في الوقت المناسب. وإذا لم تُنسَّق المساحةُ البيضاء الموجودة بين هذه الوظائف على نحوٍ ناجح، فلن يستطيع موظفُ المبيعات الوفاءَ بالتزامه، والأهم من ذلك أن عملاء الشركة لن يكونوا سعداء.

في القرن الحادي والعشرين، بينما أصبحت شبكات العلاقات الأفقية ذات نطاقٍ عالمي، اتَّخَذَتْ إدارةُ المساحات البيضاء بُعدًا آخَر؛ فلا توجد المساحات البيضاء بين الوظائف والإدارات فحسب، بل توجد عبر التقسيمات الجغرافية حول العالم؛ فعلى سبيل المثال: تُعَدُّ شركة فريتلاينر — وهي قطاع تصنيع الشاحنات التابع لمجموعة دايملر كرايسلر — مثالًا تقليديًّا على التنظيم الحديث، المتكامل، الأفقي، العالمي؛ فالتصميم الهندسي يتم في فرانكفورت وبورتلاند، والتصنيع يتم في المكسيك وديترويت وساو باولو وشارلوت وكليفلاند وتشارلستون. والإدارة المالية مقرها بورتلاند لكنها تحت إشراف فرع فرانكفورت. ويتطلَّب التنسيق الداخلي لهذا التنظيم المعقَّد مهاراتٍ جديدةً ومَقدرةً قيادية.

في أي شركةٍ في وقتنا الحاضر، قد تؤدِّي إدارةُ المساحة البيضاء على نحوٍ فعَّالٍ إلى تحقُّق فوائدَ هائلةٍ. ولننظر إلى الموضوع من زاوية البحث والتطوير؛ فمن الممكن الآن أن يعمل المهندسون في الصين في مشروعٍ لتطوير إحدى البرمجيات خلال النهار، وعندما يخلدون إلى النوم فإنهم يمرِّرون العملَ إلى زملائهم في بالو ألتو الذين يستمرون في العمل حتى يغادروا المكتب، ثم يمرِّرون عملهم إلى زملائهم في تل أبيب الذين يكملون العملية. وهكذا في جوهر الأمر، فإن هذه الشركة تعمل على مدار الساعة. وعندما تدار المساحة البيضاء بكفاءة، يحدث التسليم بسلاسة، ويقل وقت التطوير، وتصبح الشركةُ رائدةَ السوق.

لذلك أصبحت إدارة المساحات البيضاء في وقتنا الحاضر أكثر تعقيدًا وغموضًا إلى حدٍّ كبيرٍ عن أي وقتٍ مضى. فكِّرْ في الاختلافات الثقافية بين فِرَق التطوير الصينية والأمريكية والإسرائيلية؛ فكِّرْ في مشكلات التواصُل؛ فكِّرْ في إمكانية نشوب الصراع بين المجموعات بسبب عدم وجود حدودٍ واضحةٍ للمسئولية؛ تلك الحدود التي تُعَدُّ جزءًا من كل مشروع. إذا حاولتَ إدارةَ هذه المساحة البيضاء بعقلك فقط، فلن تحقِّق النجاح؛ فإذا حاولتَ، بصفتك قائدًا، المبالغةَ في السيطرة على العملية من خلال توجيه الفِرَق الثلاث للعمل معًا، أو إذا هدَّدْتَهم بعقوباتٍ سلبيةٍ إنْ لم ينصاعوا ثم راقبتهم عن كثب؛ فربما يستجيبون بتقديم عملٍ مثمرٍ على المدى القصير، لكنهم سوف يصابون بالفتور، وفقدان الحماس، وفقدان الخيال. والأشخاص الموهوبون سوف ينتقلون ببساطةٍ إلى فرصِ عملٍ أخرى إذا لم يجدوا العمل متحديًا ومجزيًا، لا سيما في الدول النامية التي يكثر فيها الطلب على مهندسي البرمجيات. أما إذا كنتَ قادرًا على منح الثقة، وخلق بيئة عملٍ تشجِّع الناس على العمل معًا، ووجدتَ طرقًا لتحفيزهم وإلهامهم عبر الحدود، سواءٌ أكانت تلك الحدود داخلية، أم جغرافية، أم ثقافية، فستمتلك ما يلزم للنجاح في هذا العالم الناشئ ذي الاعتمادات المتبادلة المعقدة.

(٢) فهم ما تتضمنه الثقة، ولماذا يواجه كثيرٌ من القادة صعوبةً معها

كثيرًا ما يقال إن الثقة تتكوَّن من ثلاثة عناصر، وهي: الشخصية، والكفاءة، واتساق السلوك. وبالنسبة إلى القادة الذين يستطيعون العمل بكفاءةٍ في المساحة البيضاء، فإن هذا يعني ما يلي:
• تزويد الموردين بمعلوماتٍ حساسةٍ إيمانًا منك بأنهم لن «يُسرِّبوا» تلك المعلومات إلى المنافسين (الشخصية).
• مشاركة العملاء الموثوق فيهم علنًا مع الزملاء في الوحدات الأخرى لزيادة فرص العمل المحتملة للشركة كلها؛ لأنك تثق في كفاءتهم في تحقيق المهام (الكفاءة).
• منح المرءوسين المباشِرين حرية العمل باستقلاليةٍ من المنزل؛ لأنك متأكد من أنهم سيظلون متحمسين ذاتيًّا باستمرار، وسيُنجزون المهام في أي مكانٍ يوجدون فيه (اتساق السلوك).

إن البيئة الحالية تُصعِّب على القادة خلق هذه الثقة؛ فمع استحواذ الشركات على غيرها واندماجها وتوسُّعها عبر العالم، ومع ازدياد التواصل الافتراضي، ومع تزايد الضغوط على جداول مواعيد الأشخاص، أصبح الحفاظ على العلاقات التقليدية صعبًا. وعدم وجود تفاعلٍ منتظمٍ شخصيٍّ وغير محدودٍ يَحُول دون خلْق هذه الثقة. وأصبحت التفاعلات الشخصية التي تساعد في خلق الشخصية، والكفاءة، واتساق السلوك محدودةً.

إن خلق الثقة داخل المساحات البيضاء أمر صعب بصفةٍ خاصةٍ بالنسبة إلى القادة المعتمدين تمامًا على الجانب المعرفي، أو بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعملون في ثقافات تعتمد تمامًا على التحليل والحقائق؛ فهؤلاء يُركِّزون بشدةٍ على القياس والأداء لدرجة أنهم يتجاهلون الحاجة إلى بث روح الالتزام بين موظفيهم، أو يفشلون في منحهم الاستقلال الضروري للقيام بوظائفهم. ومن الممكن أن يصبحوا كذلك مركزين على نحوٍ غير معقولٍ على الأنشطة القصيرة المدى القابلة للقياس، في محاولةٍ لإدارة الغموض والتعقيد؛ فيعجزون عن رؤية الأمور المطلوبة للحفاظ على الأداء على المدى الطويل.

في إحدى شركات الصناعات الدوائية الكبرى، فُوجِئ مدير فرع الشركة في إحدى الدول — كان يُدعَى بيل — عندما علم أن الحكومة في هذه الدولة خفضت فجأةً ٢٠٪ من دعم التأمين الصحي لعقَّارٍ يحقِّق مبيعاتٍ هائلة؛ ونتيجةً لذلك، سجَّلت وحدة العمل التي يديرها انخفاضًا كبيرًا في إيرادات الربع الرابع من العام. قام جون — المسئول التنفيذي التابع له بيل — بمواجهة بيل علانيةً بسبب عدم تحقيق أهدافه. وعلى الرغم من أن بيل شرح له أن سياسة الحكومة تغيَّرت تجاه التأمين الصحي، فإن جون رفض قَبول هذا العذر، واستمر في تحميل بيل المسئولية، مشكِّكًا في كفاءته والتزامه بتحقيق الأهداف على نحوٍ ثابتٍ، بصرف النظر عن العقبات التي تواجهه؛ وهذا جعل بيل يبدأ في البحث عن وظائفَ أخرى خارج الشركة. ولسوء حظِّ جون سرعان ما وجد بيل فرصةً جديدةً لدى قائدٍ موهوب. لقد استخدم جون عقله في إدارة المساحات البيضاء بين مقر المؤسسة وبين المكتب المحلي، وفشلُه في استخدام قلبه لفهم تأثير أفعاله كلَّفَ الشركةَ خسارةَ واحدٍ من أكثر القادة موهبةً وإنتاجًا.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الأشخاص على شاكلة جون يؤكدون في أغلب الأحيان أن منح الكثير من الثقة هو طريق الانحدار نحو الأداء الضعيف، ويزعمون أنه بمجرد أن يعتقد الناس أنَّ لديهم عذرًا لعدم الوفاء بأحد الالتزامات، فإنهم يبدءون في تبرير ضعف أدائهم ويرفضون أن يُحمِّلوا أنفسهم المسئولية. ويصرُّ هؤلاء القادة على أن مد الثقة عبر المساحات البيضاء إلى الموردين، والمرءوسين المباشِرين، وغيرهما من التخصُّصات؛ يمنحهم عذرًا للتقصير في تحقيق الأهداف المنوطة بهم. وعلاوةً على ذلك، فعندما يقصِّر الأفراد فإنهم يتوقَّعون التفهُّمَ والتعاطفَ معهم بدلًا من تعريضهم للمُساءلة!

وبعض القادة يقولون إنهم يثقون في الأشخاص، لكنهم يعارضون ما يقولون بما يفعلون. وعلى وجه التحديد، فإنهم يفرضون أنظمةَ سيطرةٍ غير مباشِرة؛ فيخبرون الموردين أنهم شركاء معهم، لكنهم بعد ذلك يراقبون كل جانبٍ من جوانب كل معاملةٍ تجارية، ويتعقبون كل خطوةٍ من خطوات شركائهم المزعومين. وبعد ذلك يبدأ الناس في العمل إرضاءً للضوابط بدلًا من العمل من منطلق روح الفريق أو الرغبة في تحقيق المحصلة النهائية. ويصرُّ هؤلاء على قول إنهم يثقون في الآخرين، لكنهم مضطرون إلى «التأكُّد» من خلال فرض الضوابط، ويقولون إنهم إن لم يفعلوا ذلك، فهذا سيدعو الناس إلى استغلالهم.

إن هذا المنهج العقلاني الصِّرف ليس خاطئًا تمامًا؛ فلا أحد يرغب في أن يستغله الآخَرون، وفي بعض الأحيان يكون قدرٌ سليم من الشك مطلوبًا. إن القادة الذين يُفرِطون في الثقة بالآخرين يصبحون مذعنين ومَرِنين إلى حدٍّ مُبالغ فيه، وإذا وثقوا في الآخَرين عندما تشير الأدلة بوضوحٍ إلى ضرورة عدم الثقة، فإنهم يقعون في المشكلات.

ولذلك، يجب توظيف القلب بتعقُّلٍ وعلى حسب الظروف عند إدارة المساحات البيضاء، ويلزم أن يكون استخدام مهارات القلب خيارًا وليس مطلبًا. بطبيعة الحال، تكمن المشكلة في أنه في ظل هذا العالم الذي يُحرِّكه الأداء، يتردد كثير من المديرين في إظهار قدرٍ ولو قليلًا من مشاعر الثقة؛ فهم يعتقدون أن مخاطر منح الثقة أكبرُ بكثيرٍ من مخاطر فرض الضوابط. وعلى الرغم من ذلك، فقد وجدنا أنه في معظم الأحيان عندما يثق القادة في الناس، تكون نتيجة الأداء أكبر بكثيرٍ منها عندما يعتمدون حصريًّا على الضوابط. وبافتراض أن أحد الأشخاص يمتلك المقوماتِ الصحيحةَ لإحدى الوظائف، فإنه في نهاية المطاف سوف يؤديها جيدًا، حتى إن لم يؤدِّها على النحو الصحيح في المرة الأولى. ومعظم الأشخاص يرغبون في فعل الأمر الصواب ويكرهون فكرة خذلان المدير، إذا أظهَرَ المدير اهتمامه بأمرهم وثقته في قدرتهم على تحقيق الأهداف.

من المؤكد أن مد الثقة عبر المساحات البيضاء يتطلَّب مقايضاتٍ، وينطوي على قدرٍ معينٍ من خطر استغلال المورد لحسن نيتك، أو استغلال أحد القطاعات الأخرى لثقتك من أجل خدمة مصالحه الشخصية. هل القادة معرَّضون لخطر خذلان الناس لهم عبر خيانتهم لثقتهم؟ بالتأكيد. وعلى الرغم من ذلك، فإن الميزة المقابلة هي أن منح الثقة سوف يحقِّق في النهاية الولاءَ بين الأشخاص الذين يمكن أن يقدِّموا سنواتٍ من القيمة للمؤسسة. إن تفضيل منح الثقة يبدو مخاطَرةً أفضل من فرض ضوابط غير ضروريةٍ، قد تجعل الأشخاص يؤدون المهام على المدى القصير (من منطلق الخوف) لكنها تؤدِّي إلى إصابتهم بالإنهاك على المدى الطويل.

(٣) اكتساب القدرة على إدارة المساحات البيضاء

إقرارًا بالحقيقة، قد يصبح من الصعب مساعدة بعض القادة على إدراج الثقة ضمن مجموعة أدواتهم المستخدَمة في إدارة المساحات البيضاء؛ فكثير منهم كانوا منغمسين في ثقافاتٍ عقلانيةٍ داخل الشركات، ومضغوطين للغاية بفعل متطلبات الوقت والأداء لدرجة أنهم يقاومون أيَّ محاولةٍ لتشجيعهم على منح المزيد من الثقة، خوفًا من أن يستغلهم الآخَرون. وحتى في بعض الشركات ذات التنظيم المصفوفي الأفقي، يجد بعض القادة صعوبةً في منح الثقة عند العمل مع الفِرَق وشبكات العلاقات. وحتى دون وجود تنظيم هرمي موضح لحدود المسئوليات، فإنهم يشعرون بأنهم مضطرون للسيطرة على المساحة البيضاء بين الوظائف والإدارات بدلًا من إدارتها، وهم لا يدركون أنه في ظل عدم وجود نظامِ تسلسُلٍ وظيفي، تصبح الثقة ضروريةً. إن القادة الذين يُعظِّمون الضوابط والاهتمام الزائد بالتفاصيل، من الممكن أن يُثبِّطوا بسرعةٍ عزمَ الموظفين ويقلِّلوا من قدرة المؤسسة على النجاح.

وعلى الرغم من مقاومة بعض القادة، فلقد وجدنا أن كثيرًا منهم قادرون على إبداء المزيد من الثقة في علاقات المساحات البيضاء، من خلال ممارسة بعض الأساليب الموصوفة في الأقسام التالية.

(٣-١) تعليم التفويض الواثق

نشأ كثير من القادة في مؤسساتٍ حيث يسود الاعتقاد بأنهم إن لم يفعلوا أحد الأمور بأنفسهم، فإنه لن يُنجَز، أو لن يُنجز على النحو الصحيح (يقصدون على طريقتهم). وبالنسبة إليهم، يصبح التفويض أمرًا موجهًا للمرءوس المباشِر أو للمورد بإنجاز إحدى المهام، ويتضمَّن اتباعَ أسلوب الإدارة التفصيلية لضمان وفائهم بالتوقُّعات. ولمساعدة هؤلاء القادة في إعادة تعلُّم التفويض مع منح الثقة، من المفيد الاستعانة بالعملية التالية الرباعية الخطوات:
  • الخطوة الأولى «وضع الأهداف وإرساء الحدود»: ضَعِ الأهداف وحدِّدِ الحدود بوضوحٍ قدر الإمكان، اعتمادًا على المهمة الموكلة. بعض القادة يتسمون بالغموض الشديد في وصف المهمة الموكلة، وبعضهم يفشل في بيان الحدود؛ أيِ المعايير التي يجب أن تُنجَز المهمةُ وفقًا لها. وفي أيٍّ من الحالتين، فإن هذا الغموض يُفضِي إلى أفعالٍ تُغضِب القادة، ومن ثَمَّ يسحبون الثقة بعد ذلك. وعلى الرغم من ذلك، فعند تحديد الأهداف وإرساء الحدود، يمكن أن يمضيَ القادة قُدمًا وهم متأكدون من أن الموظفين فهموا ما ينبغي تحقيقه، والحدودَ اللازم عدم تعديها. وعند الاطمئنان إلى أن الموظفين يفهمون جيدًا كيف يمضون في طريقهم، سيجد القادة أنه من الأسهل بالنسبة إليهم التخلِّي عن السيطرةِ، والثقةُ في قدرة الآخرين على أداء المهمة.
  • الخطوة الثانية «منح الحرية»: امنح الأفراد حرية التوصُّل إلى طريقة تحقيق الأهداف. إن القيام بهذه الخطوة في حد ذاته هو مظهر من مظاهر الثقة. في المساحات البيضاء، تبدو الحرية أمرًا خطيرًا؛ فقد يستغل الأشخاص هذه الحرية، ويتعدَّوْن على اختصاصاتك في محاولةٍ لتحقيق الأهداف. وقد يُكوِّن المورد علاقة مع شركةٍ أخرى لا توافِق عليها كي يؤمِّن الموارد اللازمة للمُضي قُدمًا. وعلى الرغم من خطورة الحرية ظاهريًّا، فإنها أيضًا تحفِّز الإبداع والمبادرة لدى الأفراد، وهاتان صفتان ضروريتان في المواقف المعقدة الغامضة.
  • الخطوة الثالثة «عرض الدعم»: اعرضِ الدعم وأرفِقْ معه بعض المراقبة. وبدلًا من فرض الدعم، دَعِ الآخَرين يعلمون أن الدعم متاح. من مظاهر الثقة أن تترك المجموعات الأخرى تقرِّر ما إذا كانوا في حاجةٍ إلى دعمك. وفي الوقت نفسه، تسمح لك المراقبة بأن تظل مُطَّلعًا على أحدث تطوُّرات المواقف. والثقة لا تعني الانسحاب؛ فمن خلال مراقبة طريقة إنجاز قسمٍ أو تخصُّصٍ آخَر للمهمة، يمكنك ملاحظةُ إذا ما كانوا يقتربون من نقطة اللاعودة — حيث من المحتمل حدوث ضررٍ بالغ — والتدخلُ مقدِّمًا الدعمَ إذا اقتربوا منها.
  • الخطوة الرابعة «تقدير النتائج وتقييمها»: تتوقع العقلية المعرفية إنجاز المهام على النحو الصحيح، وتشعر أن الأفراد لا يحتاجون إلى تلقِّي التقدير على ما هو متوقَّع منهم إنجازه. وفي التنظيم المصفوفي الذي يقل فيه وضوح ما يُمثِّل أداءً ناجحًا، يجب أن يقدِّم القادة تعقيبًا إيجابيًّا عند إنجاز المهمة على النحو الصحيح، ويجب أن يقدموا تعقيبًا مفيدًا عند الفشل في إنجازها. إن هذه الصراحة تعكس أيضًا الثقة في الآخرين.

(٣-٢) توجيه الناس من خلال الرؤية والقِيَم

من الأسهل كثيرًا على الناس الثقة في الآخَرين عندما يعرفون بوضوحٍ الأمور التي يؤمنون بها في قرارة أنفسهم؛ فعندما يُكوِّن القادةُ رؤيةً خاصة بهم ويتواصلون مع قِيَمهم، فإنهم يصبحون أقل شكًّا أو قلقًا بشأن الأفراد الذين يعملون معهم. وفي المساحات البيضاء الموجودة بين التخصُّصات، يصبحون أكثر ارتياحًا في التعاون مع أولئك القادمين من خلفياتٍ مختلفةٍ، ولديهم فلسفات مختلفة تجاه العمل. وعندما يحدد القادة معتقداتهم الخاصة، فإنهم يكتسبون إحساسًا داخليًّا بما يعنيه العمل بالنسبة إليهم؛ وهذا يجعل الثقة في الآخرين أكثر سهولةً لأنهم وضعوا أساسًا يساعد على ذلك. ومن دون الرؤية الواعية والقِيَم، يشعر الناس في الغالب بعدم الثقة والخوف؛ فيستجيبون للأحداث في لحظتها، دون أي مبادئ توجيهية. وبطبيعة الحال يجعلهم ذلك غير واثقين في الآخرين.

يمكن تكوين الرؤية والقِيَم من خلال برامج تطوير القيادة، بالإضافة إلى التوجيه والإرشاد، لكن التطوير عملية وليس أمرًا يحدث في لحظةٍ من الوقت. وجزء من هذه العملية يتضمن مساعدة القادة على التفكير في معتقداتهم والتعبير عنها. في أغلب الأحيان، تكون تصرفاتُ الناس ردودَ أفعالٍ لأحداثٍ حدثت في المؤسسة، ويتخذون قراراتٍ معتمدين تمامًا على موقفٍ معين؛ وهذا يمكن أن يكون جيدًا في مواقفَ معينة، لكن إدارة المساحات البيضاء تتطلَّب في الغالب أكثر من تحليلٍ للمواقف. كيف تتخذ قرارًا حول الشخص اللازم إسناد مشروعٍ معينٍ إليه، عندما تكون مسئولية هذا المشروع واقعة في المنتصف بين تخصُّصين؟ فأنت تحتاج إلى إنجاز المشروع، لكنك تحتاج أيضًا إلى تكوين علاقةٍ طويلة الأجل مستدامةٍ بين هذين التخصُّصين. كيف ستسهل التعاون بين قسمين لديهما تاريخ حافل بالتنافس المتبادل؟ كيف ستشرح المنطق وراء التعاون داخل المساحة البيضاء كي تُرِي المجموعتين الفوائدَ القصيرة الأجل والفوائدَ الطويلة الأجل؟

في أغلب الأحيان يشعر القادة أيضًا بمزيدٍ من الثقة في المؤسسات التي تقود القيمُ ثقافتَها؛ فشركةٌ مثل جونسون آند جونسون تؤكد على عقيدتها كي يعلم الموظفون المبادئ التي على أساسها تقوم الشركة بعملها؛ ونتيجةً لذلك، فإن كل قائدٍ يدرك جيدًا القيم اللازم التمسُّك بها عند العمل في بيئاتٍ غامضةٍ أو معقدة. وفي شركاتٍ مثل ثري إم وجنرال إليكتريك وميكروسوفت وديل وديزني ونايكي وغيرها، توجد مجموعةُ قيمٍ مشتركةٍ تمثل دليلًا إرشاديًّا في المساحات البيضاء. وحتى عندما يحتار الناس فيما يلزم فعله وفي طريقة التعاون، يمكنهم دائمًا الاعتماد على قوة الثقافة والقواعد الضمنية الراسخة في الثقافات القوية. إن القدرة على فعل ذلك تجعل من الأيسر بكثيرٍ الوثوق في أشخاصٍ من تخصُّصاتٍ وإداراتٍ مختلفة. وفي هذه الشركات، يشعر القادة بقدرٍ كبيرٍ من الارتياح عند تفويض الآخرين بإنجاز المهام المهمة، عالِمِين أن رؤية وقِيَم الشركة سوف توجِّه الأفراد نحو الاتجاه الصحيح.

(٤) إيجاد التوازن في المساحة البيضاء

استمر الجدل حول كيفية الإدارة الفعالة في البيئات غير واضحة المعالم وغير التقليدية لوقتٍ طويل. وعلى الرغم من أن الجدل يركز في الوقت الراهن على استغلال الفرص في الأسواق الناشئة، فلقد احتدم هذا الجدل في صورةٍ أو في أخرى طوال سنوات. وفي عام ١٩٦٠، كتب دوجلاس مكريجر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كتاب «الجانب البشري للمؤسسات»، وهو كتاب يناقش الإدارة باستخدام «النظرية إكس مقابل النظرية واي». ووفقًا لمكريجر، فإن النظرية إكس تفترض أن الأفراد سوف يسيرون في الاتجاه الخاطئ إذا لم توجد ضوابط فعَّالة. وتقول النظرية واي إن الأشخاص إذا مُنِحوا الفرصة، فإنهم سيحاولون بذل قُصارى جهدهم، حتى في حالة غياب تلك الضوابط. وعلى الرغم من أن النظرية واي هي السبب وراء نسبةٍ كبيرةٍ من برامج التدريب القيادي، وأن معظم المؤسسات تتفق على إمكانية الحصول على أداءٍ أفضلَ من جانب الأفراد من خلال الثقة والدعم مقارَنةً بالأداء الصادر عن السيطرة؛ فإن النظرية إكس ما زالت مؤثِّرًا قويًّا، خاصةً عندما يكون الضغطُ من أجل تحقيق الأداء شديدًا.

ونحن لا ندافع عن النظرية إكس ولا عن النظرية واي، لكننا نحاول إيجاد التوازن المناسب بين النظريتين عند إدارة المساحات البيضاء. وفي أغلب الأحيان نجد أن المديرين الذين يعملون في مؤسساتٍ تقليديةٍ تفتقر إلى القِيَم الثقافية القوية، ينزعون إلى المبالغة في وضع الأهداف الباعثة على التحدِّي والاعتماد على آليات السيطرة. إن الفشل في موازنة هذه النزعة ببعض الاهتمام باحتياجات الأفراد يؤدِّي إلى خطر خلق ثقافةٍ غير مستدامة. وبطبيعة الحال، فإن المبالغة في منح الثقة يمكن أن يؤديَ إلى ضعفِ معايير الأداء، والفشلِ في تحقيق أهداف العمل على النحو الملائم.

ومن وجهة نظر المؤسسة، فإن هذه المعضلة تصاغ غالبًا في صورة اختيار ما بين السيطرة المفرطة (النظرية إكس) والمرونة المفرطة (النظرية واي). وفي مراحلَ مختلفةٍ من حياة أي مؤسسة، لا بد من تحقيق التوازن بين السيطرة والمرونة؛ بين الأداء والابتكار.

وتشير تجربتنا أن معظم القادة لا يسعَوْن في الأحوال الطبيعية إلى تحقيق التوازن في المساحات البيضاء، وفي العادة ينجذبون نحو أحد الجانبين أو الآخَر على حسب الخلفية، أو الفلسفة الشخصية، أو قوة الثقافة، أو الأسلوب الشخصي، أو الضغط من أجل تحقيق نتائجَ فورية. ما نقصده هو أنه توجد مخاطر عند التطرُّف في اتباع أي جانبٍ من جانبَيِ الإدارة، وأن القادة يحتاجون إلى إيجاد التوازن المناسب للمؤسسة، بناءً على ما يحاولون تحقيقه على المدى الطويل، وعلى المدى القصير أيضًا. إن الإدارة في المستويات الأفقية تتطلَّب على نحوٍ متزايدٍ أن يوازِن المديرون الاحتياجاتِ الكامنةَ في المساحات البيضاء، بالإضافة إلى تعلُّم الاعتماد على الأفراد الموجودين في أجزاءٍ أخرى من المؤسسة، والثقة في حكمهم على الأمور وقدرتهم على إنجاز المهام.

•••

إن القدرة على العمل مع الآخرين والوثوق بهم لا تُختبَر فقط من خلال غموض المساحات البيضاء الموجودة بين تخصُّصات المؤسسة، بل أيضًا من خلال التنوُّع الثقافي بين الوحدات الجغرافية والمؤسسية المختلفة. وفي الفصل القادم، سوف نستعرض كيف أن القيادة من القلب ضروريةٌ لامتلاك التعاطف والشفقة اللازمَيْن لقيادة الأشخاص أصحاب الخلفيات والقِيَم والمعتقدات المختلفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤