ولي الدين الشاعر

لقد فطن النُّقَّاد في سهولةٍ إلى مكان ولي الدِّين يَكَن في تيارات الشِّعْر العربي المعاصر، ووضعوه بين جماعة المجددين، فقال عنه أنطون الجميل: «وقد نقل حريته هذه واستقلاله في حياته إلى أسلوبه الشِّعْري، ففي الشِّعْر كما في السياسة حزبان: حزبٌ استقلاليٌّ، وحزبٌ استعباديٌّ، وكان ولي الدين في طليعة الحزب الأول؛ لأنَّه كان من القائلين بتحرير المخيلة والشعور من نير العبودية للمألوف الراهن، وهذا التحرير أو الاستقلال أصبح من مميزات الشِّعْر العصري، وله روعته وجماله وإن بلغ حد الغلو والتطرف أحيانًا؛ لأن للحرية عظمة خاصة بها حتى في تهورها، فالشاعر الحر شغفٌ بحرية الوحي الشِّعْري كالسياسي الحر عبدٌ لحرية الرأي السياسي.»

والواقع أن ولي الدِّين يَكَن رغم معرفته الدقيقة الواسعة باللغة العربية وآدابها، لم تستعبده تقاليد الشِّعْر العربي، ولا طغت الذاكرة عنده على القدرة على الخلق وابتكار التعبير أو الصورة أو القالب، وذلك لعدة أسبابٍ منها: تنوع ثقافته الأدبية؛ إذ كان يجيد معرفة الأدبَيْن التركي والفرنسي إلى جوار الأدب العربي، كما كان يلم بالأدب الإنجليزي، مما وسع في أفقه ووقاه خطر استبداد تقاليد الشِّعْر العربي بشعره، وبخاصةٍ وأنه كان نزاعًا إلى الحرية، وكان من الطبيعي أن تمتد هذه النزعة إلى وسائل التعبير والتصوير، فتحررها هي الأخرى من التقاليد والقوالب المُتحجرة، ورُبَّما كان في تحرر مطران من تلك التقاليد والقوالب ما حمل ولي الدين على محبته والإعجاب به، بل والثمل بشعره.

وأخيرًا لا يجوز أن ننسى أنَّ طبيعة ولي الدين النفسية قد كانت — كما سبق أن قلنا — من أهم العوامل التي دفعته إلى التجديد والابتكار في أسلوب الشِّعْر والنثر؛ وذلك لأن الانفعال الفكري القوي لا يُمكن أن يسكن إلى العبارات أو الصور التقليدية المُتوارثة التي أكلها التحات لكثرة الاستعمال والتداول، ولا بد أن يبحث مثل هذا الانفعال الفكري القوي عن عبارةٍ أو صورةٍ جديدةٍ، واضحة المعالم قوية التعبير كالعملة الجديدة السك.

ولقد سبق أن مرَّت بنا لوحاتٌ من تصويره للأتراك المسلمين في مصر بنرجيلاتهم ومشعوذيهم، ولرجال الدين بعثانينهم التي تشبه حدائد الفئُوس! وكلها تنم عن رؤيةٍ شعريةٍ أصيلةٍ واضحةٍ، وقدرةٍ على ابتكار التعبير القوي الدال في غير كسلٍ ولا رجوعٍ إلى التعابير والصور التقليدية المتآكلة.

وفي الحق إننا لا نكاد نتصور كيف كان يستطيع مثل هذا الشاعر المُنفعل المُلتزم أن يجري في شعره السياسي المعاصر، وفي نفثات منفاه وفي آرائه الاجتماعية الحَدِيثة على تقاليد الشِّعْر العربي القديم، أو أن يستعير منه القوالب والأخيلة، وهو يسبح في عالمٍ جديدٍ مُغايرٍ تمام المغايرة لعالم الشِّعْر العربي القديم، وإنما يمكننا أن نتصور ذلك عندما يكون موضوع الشِّعْر من الموضوعات التقليدية عند العرب مثل الغزل، فهنا نعثر في ديوان يكَن على بعض مقطوعاتٍ قالها في صباه على النهج التقليدي، حتى لنراه يقف على الديار، حيث يقول (ص١٠١) تحت عنوان «ومن قوله في صباه»:

وقفت بالدار أبكي رسمها العافي
ما كل ذي شجنٍ مثلي بوقاف

إلى أن يقول:

أهوى رضاه وأهوى أن يعذبني
سيان في حبه ظلمي وإنصافي

بل ونراه في معرض الغزل يعارض الحصري القيرواني، فيقول:

الحسن مكانك معبده
واللحظ فؤادي مغمده

… إلخ.

وذلك بينما لا نستطيع أن نُسمي قصيدته «عبرة الدهر» معارضةً لقصيدة شَوْقِي التي تحمل نفس الاسم، وإن اتفقت معها في الوزن والقافية، بل هي مناقضةٌ يرد فيها على شَوْقِي — كما رأينا — ردًّا عنيفًا.

وكذلك الأمرُ في كافة شعره السياسي الذي يكوِّن الجزء الأكبر من ديوانه، بل والذي يعطي الديوان قيمته الأساسية، وكله شعرٌ مباشرٌ ينبعث عن انفعالٍ فكريٍّ حارٍّ، وإيمانٍ عقليٍّ متين، ودعوةٍ مخلصةٍ إلى ما يتضمن من توجيهٍ.

فهو يخاطب الوطن بقوله (ص١٩):

صحا كلُّ شعبٍ فاسترد حقوقه
فيا ليت يصحو شعبك المتناوم
هو الشعب أفتى دهره وهو خادمٌ
وليس له فيمن تولوه خادم
يقلب من عهدٍ لعهدٍ على الأذى
إذا زال عنه غاشمٌ جدَّ غاشمٌ

وهو يُعَالج في شعره السياسي كافة الموضوعات التي عالجها في نثره من دعوةٍ إلى النهضة والإصلاح إلى سخطٍ على الظلم والظالمين، وثورةٍ على العصر الحميدي ورجاله الذين يسميهم «بغالًا» في إحدى مقطوعاته، حيث يقول في ص٤٢:

كفى حزنًا إن الرجال كثيرةٌ
وليس لنا فيما نراه رجال
نحكم قومًا لا يبالون قائلًا
وإن قام كل العالمين فقالوا
إذا ارتقبوا يومًا فذلك منصب
أو اطلبوا شيئًا فذلك مال
بغالٌ تسوس الأسدَ شر سياسةٍ
وما ساس أسدًا قبل ذاك بغال
قضيتم وعشنا بعدكم مرَّ عيشةٍ
تعالوا انظرونا يا جدود تعالوا

وهو قد يترك الأسلوب الخطابي المباشر أحيانًا؛ ليأخذ في أسلوب القصص السريع الخاطف، فيصل بفضله إلى أبعد مما يصل إليه بأسلوبه الخطابي من ناحية التأثير والإثارة، ولعلَّ من خير أمثلة هذا المنحى مقطوعة صغيرة، لا تتجاوز العشرة أبياتٍ، ومع ذلك تهز النفس هزًّا عنيفًا، وقد سماها: «خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاء»، وقال فيها (ص٦٠):

في ليلةٍ ليس بها كوكبٌ
كأنما مشرقها مغرب
يمسي سوادًا كل ما بينها
ففوقها وتحتها غيهب
لا يدرك الفكر بها مطلبًا
فكل ما يطلبه يهرب
جاءوا بمظلومٍ إلى ظالمٍ
قالوا له هذا هو المذنب
بكى وفي الدار بكوا مثله
فكل من في داره ينحب
وقد رأينا حوله صبيةً
تندب حين أمهم تندب
قال اجعلوه مثل أترابه
من كان من مذهبه يذهب

•••

وأقبل الصبح على أَيِّمٍ
وصبيةٍ ليس لديهم أب
يا بحر لو تنطق أخبرتنا
ما قال من غيبت إذ غيبوا

فهذه المقطوعة تروي قصة أحد أولئك المظلومين، الذين كان عبد الحميد يأمر بالقبض عليهم وإلقائهم في مياه البسفور أثناء الليل، وإذا كان قد أوجز القصص واستعان بالإشارة بدلًا من التصريح، والانتقال المفاجئ بدلًا من التسلسل الرتيب، فإنه بذلك لم يضعف من التأثير، بل لعله زاده حدةً.

وهو في شعره يُعبر أيضًا عن مشاعره الخاصة إزاء الأحداث التي تأثر بها أو جاهد في سبيلها، مثل اغتباطه بسقوط عبد الحميد، وبدء عصر الشورى والحرية، ومثل حنينه إلى مصر وإلى فروق أثناء نفيه في سيواس، وتألمه من ذلك المنفى. وإذا كان شَوْقِي قد قال عن مصر أثناء نفيه بإسبانيا بيته الخالد:

وطني لو شُغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي

فإن ولي الدين قد خاطب مصر هو الآخر ببيتٍ رائعٍ، هو قوله (ص٣٤):

وإذا الإله قضى بوصلك بعد ذا
فلأمسحن وجهي ببعض ثراك

وبالرغم من صلابة ولي الدين وعناده وتعصبه لآرائه السياسية والاجتماعية، وإيمانه بتلك الآراء، إلا أننا لا نعدم أن نجد في شعره السياسي أبياتًا تكاد تنطق باليأس والتشاؤم، وذلك مثل قوله في قصيدة «ويلٌ للناس من النَّاس» (ص٥١):

وداعٍ جاء يدعوني لنصحٍ
وقد وهت النُّهى ووهَى البنان
تعبت من الكلام فليس يُجدي
لبثِّ النصح نظمٌ أو بيان
وكانت ضلةٌ ونزعت عنها
فها أنا لا أدين ولا أُدان
وما أسفي على عهدٍ تقضى
ولكن صنت عهدًا لا يُصان
ظللت أمينه دهرًا طويلًا
وكنت أظن أني لا أُخان
بل ونلمح في نفس الشِّعْر تشاؤمًا فلسفيًّا في نظرته إلى الإنسان في ذاته نظرةً تذكرنا بفلاسفة الغرب المتشائمين، بل وبالجملة اللاتينية الشهيرة التي عبر بها الفيلسوف الإنجليزي هوبز عن ذلك المذهب وهي Homo Homini Lopus أي: «الإنسان على الإنسان ذئبٌ.» بينما يقول ولي الدين (ص٥٣):
أفسد الظلم أنفس النَّاس حتى
لو رأى النَّاس عادلًا لارتابوا
قد أجيعوا فالبعض يأكل بعضًا
غنمٌ بعضهم وبعضٌ ذئاب

وشعره السياسي ليس موضوعيًّا كله، بل فيه الشِّعْر الغنائي الذاتي، مثل حنينه إلى مصر وفروق، وتألمه من المنفى وبخاصةٍ في قصيدته التي سماها: «في المنفى، زفرةٌ من زفراتي» (ص٥٥) حيث يقول:

فؤادٌ دأبه الذكر
وعين ملؤها عبر
ونفسٌ في شبيبتها
وجسمٌ مسه كبر
وآمالٌ مضيعةٌ
ووقتٌ كله هدر
وعيشٌ عذبه مضن
وعمرٌ صفوه كدر
أما يا ليل من صبحٍ
لمن سهروا فينتظر
جفون النَّاس هاجعةٌ
وجفني ضافه السهر

•••

أرى سيواس تغمدني
كأني صارمٌ ذكر
صدئت بها وأحسبني
سأصدأ ما جرى العمر

ثم يختتمها بروحٍ معنويةٍ عاليةٍ حيث يقول:

رويدًا إنها دولٌ
تدول وبعدها أخر
يظل الحق منهزمًا
زمانًا ثم ينتصر
سيوف الله إن سُلَّت
فلا تبقي ولا تذر

هذا هو الشِّعْر السياسي الذي تميز فيه ولي الدِّين يَكَن؛ لأنَّه كان مهمومًا بالسياسة وشئون الإصلاح، وأمَّا فيما عدا الشِّعْر السياسي فإننا لا نرى لولي الدين أصالةً خاصةً، ففي رثائه مثلًا قد نحس بعاطفةٍ صادقةٍ قويةٍ في رثائه لابنه، ولكنه لا يخرج عن القوالب المألوفة في الرثاء، مثل قوله:

الله في لوعةٍ أجرعها
يعرفها في الأنام من ثكلوا
يا كبدا من مناطها انفصلت
ما خلت أن الأكباد تنفصل

كما قد نجد انفعالًا وعنادًا في رثائه لبطرس باشا غالي في قصيدته التي اتخذ لها عنوانًا «جاهدت في إعلاء مصرك جاهدًا»، إلا أننا بوجهٍ عام لا نحس بأصالةٍ لولي الدين إلا عندما ينفعل للسياسة أو لإحساسٍ شخصيٍّ.

وهو إذا قد كان قد أُعجب بالسلطان حسين كامل، وأخلص له الود ومدحه عن اقتناعٍ وإيمانٍ، إلا أننا أيضًا نراه يودع الجنرال مكسويل ويرثي إدورد ملك إنجلترا!

وإذا كان التاريخ يُحدثنا عن علاقة غرامٍ بين ولي الدين «ومي» بل ويحتفظ لنا الديوان بمقطوعةٍ من ستة أبياتٍ اتخذ لها الشاعر عنوانًا «فيا رب هب لي مواجع مي» (ص١٠٣)، فإننا بالرَّغم من ذلك نجده في غزله يسلك الدروب التقليدية، بل ويتسكع كما تسكع غيره في معارضة «أليل الصب متى غده».

وكأنَّ الأمر أمر قدرةٍ ومهارةٍ على قرض الشِّعْر، لا تعبير عن تجربةٍ إنسانيةٍ خاصةٍ وابتكارٍ للصور الجمالية.

ولو أننا تركنا فنون شعره وأغراضه لننظر في ديباجته وأسلوبه للاحظنا أنَّ أسلوبه مرآةٌ صادقةٌ لنفسه، فهو أسلوبٌ منفعلٌ سريع متلاحق الإيقاع، يتميز بالقوة والانفعال أكثر مما يتميز بالصيغة الفنية، أو التصوير البياني، بل لعل التصوير البياني أوضح في نثره منه في شعره.

•••

والخلاصة أن ولي الدِّين يَكَن يتميز خاصةً بأنه أديبٌ وشاعرٌ سياسيٌّ، ملتزمٌ منفعلٌ مجددٌ، وأنه إذا كانت أفكاره واتجاهاته لم ترضِ التيار الوطني الغالب، إلَّا أنَّه كان بلا ريبٍ رجلًا مخلصًا لرأيه، مخلصًا لنفسه، كما كان من محبي الحرية بل من عشاقها، ذوي النفوس القوية التي لا يرهبها ظلمٌ، ولا تثنيها تضحيةٌ في الدفاع عن الحرية السياسية، والحرية الفكرية، وعن قضايا التقدم الاجتماعي، وإن استهدف بسبب ذلك إلى كثيرٍ من العداوات والاضطهادات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤