قبل أن تقرأ
أعتقد أنها المرة الأولى في تاريخ السينما السورية، أن يتفرَّغ كاتب مصري لعدة شهور طويلة من أجل الكتابة عن الأفلام الروائية في القطر العربي السوري، والحقيقة أن الرغبة تملَّكتني بقوةٍ عقب قيامي باقتناء العديد من المراجِع والكراسات السينمائية الخاصة بالسينما العربية، داخل مصر وخارجها، وأبديتُ هذه الرغبة إلى الناقد محمد الأحمد مدير المؤسسة العامة للسينما أثناء حضورنا مهرجانَ السينما العربية بباريس عام ٢٠٠٢م؛ فما كان من الرجل إلا أن وافق، وأرسل لي خطابًا، بتكليفي بإعداد الكتاب، ما إن وصلني حتى تحوَّلتُ إلى خلية نحلٍ لا تكُف عن العمل.
لكن سرعان ما اكتشفتُ أن الوثائق التي بين يدَي لا تكفي؛ فهناك مناطق غامضة عن نشأة السينما السورية، لم تتطرق إليها المراجِع العديدة، وعرفتُ أنَّ الكثير من الأفلام التي يضعها المؤرخون للسينما السورية تتحدث عن الأفلام الروائية القصيرة باعتبارها علامة حقيقية في تاريخ السينما، لكنَّ هناك فارقًا واضحًا بين الفيلم الروائي الطويل وقرينه الفيلم القصير، وهناك فارق واضح بين أفلام الهُواة وأفلام المحترفين، وليست المسألة هي إنتاج فيلم وعرضه على الناس بشكلٍ ضيق، أو في صالات كبيرة. كما لاحظت أن هناك فاصلًا كبيرًا بين نوعَين من الأفلام التي تم إنتاجها في سورية؛ فالمؤسسة العامة للسينما لا تكاد تعترف، بالمرة، بالأفلام التي تم إنتاجها من قِبَل القطاع الخاص؛ باختصارٍ لأنها أفلام تجارية تافهة، تحاذي وتقلِّد — في معظمها — السينما التجارية المصرية التي تأخذ مكانة متدنية من قِبَل النقاد والمؤرخين في القطر المصري.
لكن هذا لا يعني بالمرة أن نتجاهل أي فيلمٍ مهما كانت قيمته؛ فالأفلام بالنسبة للباحث هي أفلام، يُجري عليها بحثه باعتبارها موجودة، بصرف النظر عن قيمتها، أو الجهة التي تم إنتاجها لها؛ فقد تم إنتاجها، وبأموالٍ سورية، وتحمل الجنسية السورية.
ومن هنا جاءت فكرة عمل هذا الكتاب عن الأفلام السورية التي تم إنتاجها طوال خمسة وسبعين عامًا، مهما كانت الجهة المنتِجة، وذلك باعتبار أن الفيلم «فيلم»، ونحن نتحدث عمَّا يمثِّله في خريطة السينما السورية.
وبالتالي فإن هذا الكتاب عن الفيلم السوري، وصنَّاع هذا الفيلم، وهو يختلف كثيرًا عن العديد من الكتب التي ظهرت عن السينما السورية، وهي كتب قليلة للغاية، والكثير منها سطحي، ومعلوماتي؛ فلا يمكن الرجوع إليها عند الكتابة عن الأفلام.
كما واجهتني مشكلة أخرى، هي عدم وجود بعض الأفلام أثناء عملية البحث؛ فليس هناك أرشيف خاص في مصر عن الأفلام السورية، كما لا أعتقد أن هناك أرشيفًا متكاملًا عن الأفلام السورية؛ وعليه فإن الكتاب الذي بين يدَيك به الكثير من الاستشهادات مما كتبه النقاد عن هذه الأفلام، وأعتقد أن هذا مهم في إثراء الكتاب بالرجوع إلى أكثر من رأيٍ حول نفس الفيلم.
وقد قمت بذكر مراجِع هذه الاستشهادات إلى جوار كل فقرة تمَّت الاستعانة بها، وهي مأخوذة في الغالب من قصاصات المجلات التي تنشر مقالاتٍ عن الأفلام السورية، وقد لُوحِظ غياب النقد السينمائي الحقيقي خارج مجلة من طراز «الحياة السينمائية» التي صدر العدد الأول منها عام ١٩٧٧م، كما أن ظهور واختفاء مجلة «فن» اللبنانية قد لعب دورًا إيجابيًّا، وبالتالي سلبيًّا عند الاختفاء، فيما يتعلق بالسينما السورية.
ولا يمكن أن أنكر، كباحثٍ، أن فترة الانقطاع الطويلة التي حدثت بين مصر وسورية قد لعبت دورًا كبيرًا في عدم التعرُّف على الكثير من أنشطة القطاع الخاص، هذا القطاع الذي لعب دورًا في جذب الكثير من السينمائيين للعمل في سورية ولبنان، حتى اندلعت الحرب الأهلية، ثم جاءت معاهدة كامب دافيد ليتوقف هذا السيل المتدفق بين البلدَين، رغم تدني المستوى الفني لهذه الأفلام الكثيرة التي تم إنتاجها في تلك الفترة، ولا نعرف ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الحرب لم تقُم، ولو لم يتم توقيع معاهدة كامب دافيد.
وسوف يلاحظ القارئ أننا أفردنا مساحةً كبيرة من الصفحات لما تمثِّله أفلام المؤسسة؛ فهي بحقٍّ الأعمال التي أنقذت سمعة الفن السينمائي في سورية، واستطاعت أن تحقق المعادِل الملموس بين السينما الفنية والجماهيرية، لكن لا يمكن إغفال أن النظام التمويلي من الدولة قد انعكس على إبداع المخرج السينمائي في سورية:
بدايةً تم النظر بريبة إلى أفلام القطاع الخاص، ومَن يعمل بها، وذلك من قِبَل العاملين مع المؤسسة، وهم في الغالب من أبنائها، أرسلتهم الدولة على نفقتها للدراسة خارج سورية، جاءت الدفعات الأولى منهم إلى مصر، وذهبت الدفعات الثانية إلى أوروبا، وخاصة فرنسا، وبعض الدول الاشتراكية، أما الدفعات الثالثة، وهي الأكثر أهمية، فقد سافرت إلى معاهد السينما في الاتحاد السوفييتي.
وقد حدث انفصال تام بين السينمائيين الذين يعملون في القطاعَين العام والخاص، ولم يكن هناك إلا استثناءات قليلة، على رأسها محمد شاهين الذي تفاوتت أهمية أفلامه داخل القطاع الخاص عن أفلامه التي أنتجها لصالح المؤسسة التي عمل مسئولًا فيها لعدة سنوات.
ومن المعروف أن الاستثناءات قليلة، مما يؤكد أن هناك هُوة سحيقة بين السينما التي أنتجتها المؤسسة، والأفلام التافهة التي دأب منتِجو القطاع الخاص على إنتاجها، خاصة أنه جاءت فترة تم فيها التعاون بين القطاع الخاص في كلٍّ من دمشق وبيروت، فلم يعُد المرء قادرًا على الفصل بين الهُوية الخاصة بالفيلم سوى أنَّ أحد المنتِجين سوري الجنسية، كما أن الأمر نفسه حدث فيما يتعلق بالأفلام التركية السورية المشترَكة، ولعل ذلك يبدو واضحًا في الفيلم السوري اللبناني التركي «شيطان الجزيرة»، الذي قام ببطولته محمود عبد العزيز ويسرا في عام ١٩٧٧م، ومن إخراج اللبناني سمير الغصيني؛ فهو غير مذكور بالمرة في قوائم الإنتاج السوري. وهناك أفلام أخرى من هذا القبيل موجودة في حشايا الكتاب والقوائم المذكورة في نهاية الكتاب قد تشكِّل مفاجأة للمهتمين بتاريخ الأفلام السورية.
إذن، فنحن أمام كتاب عن الأفلام أكثر منها كتابًا عن السينما السورية؛ فالحديث عن السينما قد يدخل فيه الكثير من مشاكل التمويل، وهيمنة جهة أو أخرى على الإنتاج، ومشاكل التوزيع، وأيضًا أحوال الفيلم التسجيلي، أو الأفلام الروائية القصيرة؛ وهذا يحتاج إلى دراسة أخرى.