بدايات الفيلم الروائي في سورية
لكل سينما في العالم العربي مذاقها الخاص، ونكهتها المميزة.
وفي تاريخ السينما العربية، تقارب ملحوظ فيما يتعلق ببدايات هذه السينما؛ لكن المسيرة تختلف فيما بين هذه السينما وغيرها.
صحيح أن هناك فتراتٍ حدث فيها تقارب بين نوعية الأفلام في كلٍّ من القاهرة وبيروت ودمشق، لكن هذه الفترات كانت قصيرة مقارَنة بتاريخ السينما في كل دولة.
ففي العام ۲۰۰۲م بلغت السينما المصرية الروائية عامها الخامس والسبعين، والآن ونحن في العام ٢٠٠٣م تبلغ السينما السورية العمرَ نفسه؛ كأنما أراد السينمائيون أن يبدءوا معًا، رغم اختلاف الإمكانات والطموحات بين السينمائيين في كلا البلدَين.
ليس هناك تفسير محدَّد للتعثُّر الملحوظ الذي حدث في بدايات السينما السورية مقارنة بما تم في مصر، ولعل السبب الذي حدث في وادي النيل أن العاملين بالمسرح كانوا وراء دفع التيار المتدفق في إنتاج الأفلام، فرغم أن الأفلام القليلة الأولى في السينما المصرية قد تمت في المقام الأول على أيدي هُواة السينما مثل عزيزة أمير واستيفان روستي والأخوَين لاما، فإن الذي حمل لواء السينما فيما بعد، خاصة من النجوم، هم رجال المسرح، ومنهم يوسف وهبي منتِج فيلم «زينب»، وصاحب أول فيلمٍ ناطق وهو «أولاد الذوات».
وفي سورية لم تكن هناك حركة سينمائية قوية في البداية بسبب عدم وجود منافسة بنفس القوة بين صُناع المسرح، رغم وجود حركة مسرحية قوية في تلك الفترة.
ويُعزى الإنتاج السينمائي القليل طوال عقودٍ من الزمن إلى التعامل مع السينما من خلال مجهوداتٍ فردية، إنتاجًا وتمثيلًا، إلى أن تكتلت جهود ملحوظة مع تأسيس المؤسسة العامة للسينما في عام ١٩٦٣م؛ فصار إنتاج الأفلام بمثابة طموح قومي.
وليس هذا باستثناءٍ في السينما العربية؛ فقد حدث الأمر بالطريقة نفسها في العراق، البلد المجاوِر، وأيضًا في المغرب العربي خاصة في تونس، بصورة مقاربة.
السؤال الأول هو: متى بدأت السينما السورية الروائية؟
حسب القائمة المتكاملة للأفلام السورية، فإن هذه الأعمال التي تم إنتاجها بين عامَي ١٩٢٨م و١٩٤٨م، أي طوال عشرين عامًا، هي في المقام الأول أفلام روائية قصيرة، ولم يحدث أن تم تأريخ السينما الروائية الطويلة بأفلامٍ قصيرة، وخاصة في مصر. ففي مصر، على سبيل المثال، تم استبعاد الأفلام القصيرة من قوائم السينما الروائية، في البدايات وحتى الآن، ومنها، على سبيل المثال، «برسوم يبحث عن وظيفة».
وعليه، فإن التاريخ الحقيقي لبداية السينما الروائية في سورية كان في عام ١٩٥١م، وذلك من خلال فيلم «عابر سبيل» إخراج أحمد عرفان؛ فهو فيلم روائي طويل تبلغ مدة عرضه تسعين دقيقة. لكنَّ هذا لا يمنع أن نتوقف عند الأفلام الأخرى القصيرة؛ باعتبارها تاريخًا سينمائيًّا يعكس المحاولات الأولى للسينمائي السوري أن يصنع أفلامًا خاصة. لدينا بعض القصاصات التاريخية التي تؤكد أن السينمائي السوري قد قام بدورٍ إيجابي في تصنيع السينما اللبنانية، ومنها على سبيل المثال فيلم «في هياكل بعلبك»، الذي أخرجته وأنتجته شركة فنار السورية، كما تقول الوثيقة التي بين أيدينا، وهو الفيلم المحسوب للسينما اللبنانية.
وفي هذا المرجِع، وفي مراجِع عديدة، يُذكَر أن الفيلم الروائي الأول في تاريخ السينما السورية هو «المتهم البريء» إخراج أيوب بدري، وبطولة رشيد جلال، ومن المدهش أن هذه البداية قد تمت في مدينة حلب؛ أي أن البداية لم تكن في العاصمة دمشق.
جاءت السينما إلى سورية عبر الشمال، من خلال تركيا؛ فقد شهدت المدينة أول عرض سينمائي قبل ذلك التاريخ بعشرين عامًا، أي في عام ۱۹۰۸م، حين وصل إلى المدينة بعض الأجانب قادمين من تركيا ومعهم آلة عرض، وبعض الشرائط، ولأول مرة يشاهد أبناء المدينة الصور تتحرك.
في حديث أجرته مجلة «الحياة السينمائية»، في عددها الأول مع رشيد جلال، قال:
«في عام ١٩٢٨م، تم إنتاج أول فيلم وطني سوري، وقد عملتُ مصورًا في هذا الفيلم، ومن خلال هذا العمل تطورت علاقتي بالسينما، وأصبحتُ عنصرًا فعالًا فيها. وتجربتي في هذا العمل بدأت على النحو التالي:
قام عدد من الشباب — هُواة السينما آنذاك — بشراء جهاز تصوير سينمائي، ولعدم خبرتهم في تكنيك الأجهزة، استدعوني لأساعدهم في المجال التقني البحت، نظرًا لكوني مطَّلعًا وممارسًا لمهنة التصوير الفوتوغرافي، وطلبوا مني أن أدخل معهم شريكًا، وقمنا معًا بإنتاج أول فيلم سينمائي وطني «المتهم البريء» عام ١٩٢٨م، وأطلقنا على شركتنا اسم «حرمون فيلم» تقليدًا لشركة «بارامونت»، لأن بارامونت اسم لجبلٍ في فرنسا.
هذا وقد استغرق تنفيذ الفيلم سنتين تقريبًا، ويرجع ذلك لصعوباتٍ عديدة تتعلق بالشريط الخام، ومشاكل التحميض والممثلين، وغيرها من الصعوبات والمشاكل الجَمة. وحصلنا بالنتيجة على فيلم طوله ساعة واحدة فقط، أرفقنا معه أثناء عرضه فيلمًا أجنبيًّا قصيرًا، وكان العرض في صالة «باتييه» بدمشق، حي البحصة، وقد حقق الفيلم ربحًا ماليًّا قدره سبعون ليرة ذهبية؛ وهذا المبلغ كان يُعتبر حصيلة جيدة آنذاك، وشجعنا على الاستمرار في إنتاج أفلام سينمائية جديدة.»
وحسبما جاء في كلمات رشيد جلال فإن الفيلم عُرض عام ١٩٣٠م، ومن الواضح أن التواريخ قد تداخلت مع بعضها؛ لأن الفيلم، حسبما اتفق الكثيرون، عُرض بين عامَي ۱۹۲۷م، و۱۹۲۸م؛ وذلك للتداخل الكثير في الشهادات بالتواريخ فيما يتعلق بهذه الحقبة.
أما الشباب هُواة السينما — الذين كان يقصدهم رشيد جلال — فَهُم أيوب بدري وأحمد تللو ومحمد المرادي. وحسبما جاء في كتاب جان ألكسان عن «السينما السورية» فإن الفيلم استغرق تنفيذه ثمانية أشهر، وأنه تأخر في العرض بعد الانتهاء من إعداده لمدة ستة أشهر بسبب مشاكل مرتبِطة بإعادة تصوير لقطات منه، وطبعه وتحميضه في باريس، كما أن جان ألكسان يذكر أن الفيلم قد عُرض في صالة «الكوزموغراف»، وليس في صالة «باتييه».
وحسب كل ما جاء عن الفيلم، فنحن أمام تجربة سينمائية حقيقية، وأن الفيلم الأول مولود في دمشق؛ فالسينما تُولَد دومًا على أيدي الهُواة الذين يصيرون من الرواد، وتصبح تجربتهم عملًا كلاسيكيًّا يُذكَر عند التأريخ، أيًّا كانت قيمة الفيلم، أو نوايا العاملين به، فقد ذكر أن المجموعة التي قامت بالعمل، عدا رشيد جلال، كانت تهوى أن تطلع صورتها، بصرف النظر عن قيمة الفيلم.
والفيلم يقال إنه مأخوذ عن قصة حقيقية حدثت في تلك الآونة، حول مجموعة من الخارجين عن القانون، في زمن الحكم العثماني، راحت تبث الرعب في قلوب الناس، وطُلب من رشيد جلال أن يحوِّلها إلى قصة سينمائية، وهو الذي لم تكن له خبرة بهذا النوع من العمل بالمرة، لكنه رجع إلى مراجِع حول الكتابة السينمائية، واستطاع أن يفهم العلاقة بين اللقطات والمَشاهد، وكتب الفيلم الذي يروي المنافسة حول فتاة، دارت بين صديقَين يعملان في المزرعة نفسها، مما يولِّد الغيرة في قلب الحبيب الأكبر سنًّا؛ فالفتاة تهوى أصغرهما سنًّا. يسعى صاحب المزرعة، الذي يحب الفتاة بدوره، إلى استغلال مشاعر الغيرة بأن يحصل على الفتاة، وأن يقوم بالتفرقة بين الحبيبَين، ويدبِّر خطة لقتل والد الفتاة بحيث تتجه الشكوك إلى الصديق الأكبر، وبعد الجريمة يوعِز لهذا الصديق بالهرب، وذلك من أجل إثبات الجريمة عليه، لكن الصديق الآخر يعرف الحقيقة وإثباتها، وتتم المصالحة بين الصديقَين، بعد أن تم القبض على القاتل، ويعود الوئام بين الصديقَين عقب قيام الأكبر بالتضحية من أجل صديقه.
قصة تقليدية بسيطة امتلأت بها ساحة السينما، ليس في سورية وحدها، بل على الشاشة الفضية في كل أنحاء العالم، ومن الواضح أن هناك اختلافًا جذريًّا بين القصة التي رويناها والقصة التي دارت حول عصابة قطاع الطرق المُشار إليها، وقد أشار هيثم حقي، في بحثه عن السينما الصامتة في سورية، أنه تم تحوير قصة الفيلم من أجل إدخال عنصر المرأة، لكن المُلاحَظ بالفعل أننا أمام قصة فيلم آخر، والسبب بالطبع أن رصد تاريخ السينما السورية الأولى بدأ في مرحلة كان الروَّاد فيها، الذين رَووا الوقائع قد نسوا الكثير من التفاصيل الدقيقة.
في كتاب جان ألكسان، وفي معرض حديثه عن «المتهم البريء» ذكر أن المجموعة التي شاركت في اختيار الممثلين قد بحثت عن ممثلين، وأنهم عملوا على إشراك شخص يُدعى إسماعيل أنزور، كان له إلمام كافٍ بالأمور السينمائية، وأنه سعى لإقناع الشباب بالعمل في إخراج أفلام وثائقية عن الآثار في سورية لكن محاولاته لم تنجح؛ وإسماعيل هو الشخص الذي قام بإخراج الفيلم السينمائي الثاني في سورية.
حسب الندوة التي عُقدَت في مدينة حلب عام ۱۹۹٩م تحت عنوان ما يُسمَّى بالسينما الحلبية، حاول المخرج هيثم حقي — في ورقة بحثية — إثبات أن السينما وُلدَت في حلب، وأن فيلم «تحت سماء دمشق» هو الفيلم الأول في السينما السورية، باعتبار أن فيلم «المتهم البريء» مصنوع باعتراف صاحبه من طرف أشخاص ليست لديهم أية مواهب أو خبرات سينمائية (انظر جريدة الحياة في ١٤مايو ١٩٩٩م). وقد أكد حقي هذا القول دومًا في كتاباته وأبحاثه، ومنها البحث الخاص بالسينما الصامتة المنشور في مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي لعام ١٩٩٦م، ولعله يتنافى مع ما ذكره رشيد جلال في المرجع السابق، الذي يقول مكملًا:
«بعد نجاح فيلم «المتهم البريء» قمت مع كلٍّ من عطا مكي صاحب المكتبة العمومية في ذلك الوقت، وإسماعيل أنزور الذي عمل مخرجًا سينمائيًّا، قمتُ معهما بإنتاج فيلم «تحت سماء دمشق»، الذي ترافق إنتاجه كفيلمٍ صامتٍ، مع وصول أول فيلم سينمائي ناطق إلى سورية، وكان الفيلم هو «أنشودة الفؤاد» لمحمد عبد الوهاب.»
وهناك رد بسيط أن الروَّاد في المجالات كافة لا يحتاجون مواهب أو خبرة، مهما كان المستوى الأدائي لأعمالهم، كما أن ليس كل ما يردِّده كبار السن يُؤخَذ كدليلٍ معرفي؛ فالفيلم لم يكن لمحمد عبد الوهاب.
نحن أمام قصة استهلكتها السينما العربية كثيرًا فيما بعد، خاصة في مصر، حول الوساوس والغيرة، والمرجح أنها قد اقتُبسَت من مصدرٍ فرنسي؛ فالفتاة صبحية تقع في غرام طبيبٍ شاب ثري، وتتم خطبتهما، لكنه يكتشف أن هناك رجلًا آخر في حياتها، وفي الحقيقة فإن هذا الرجل ليس سوى شقيقها الذي لا تود إظهار حقيقته لخطيبها، بسبب المستوى المتبايَن بين الاثنين.
هذا الشقيق المنحرف، علي، يأخذ المال من أخته ليذهب إلى راقصة في الملهى الليلي من أجل أن يدفع المال كي ترضى عنه. الطبيب يُلاحظ التغيُّر الذي يبدو على خطيبته، دون أن يعلن هُويته الحقيقية، فيصاب بالغيرة، وتدفعه الوساوس إلى مراقبتها. أما الشقيق نفسه فإنه يشك في عشيقته الراقصة ويواجهها بالأمر، ويموت قتيلًا في ظروفٍ غامضة. وتكون المصادفة أن أخته تكون قد زارته قبل مصرعه مما يوجِّه إليها الشكوك بأنها القاتلة، وفي المحكمة تتضح الحقيقة، وأنها أخته، وهنا تتبيَّن الحقيقة، ويعود الوئام بين الحبيبين.
وحسب المصدر المُشار إليه، كتب عمر شبانة: «وإذا كانت قصة الفيلم تنطوي على معالجة ساذجة من حيث البنية والرؤية والحبكة، فإن العناصر الفنية الأخرى ليست ساذجة أبدًا، بل إن التمثيل وأداء الممثلين جاء طبيعيًّا أكثر من المتوقع نسبة إلى تلك المرحلة. وهناك ديكورات تتلاءم مع أجواء العمل وطبيعته، وتمنح تلك المسحة الرومانسية التي يحتاجها أداء الممثلين، هذا الأداء العفوي والمتسم بحضور قدرٍ من الحركة والتعبير بالوجه والأيدي.»
«إن قراءة مدقِّقة لجماليات الفيلم، ولرؤيته الإخراجية، خصوصًا، كشفت عن رؤية متقدمة على صعيد اختيار الزوايا والكادرات وحجمها، وتشكيل المشهد عبر عملية تقطيع وإعادة بناء وتركيب للقطات وللمَشاهد ضمن سياقٍ يتناغم مع السرد، ولا يكتفي بمنطوق الحكاية؛ إذ تسعى العين إلى التقاط عناصر الواقع برؤية اختزالية حينًا، ورمزية حينًا آخر.»
«فهناك لقطات لناسٍ على دراجات هوائية، ولقطات لناسٍ في سيارات فاخرة، وفي مؤازرة المَشاهد التي تصور مشاعر الحبيبَين هناك تكرارٌ لمشهد الطيور المتحابة على غصن الشجرة. وفي مقابل اللقطة الواسعة هناك اللقطة الضيقة، تغوص الكاميرا في المكان، وتُبرز تفاصيله حينًا، وتكتفي بنظرة بانورامية أحيانًا، وتظل تنتقل بين ساحة المرجة وشارع بغداد والغوطة وتدمر؛ فتعطينا صورة عن دمشق مطلع الثلاثينيات، صورة تشمل الكثير من مظاهر الحياة اليومية، لكنها لا تغرق في تفاصيلها.»
ويقول كاتب المقال إن الفيلم كان يمكن أن يكون مرحلة متطورة، لولا الظروف التي أحاطت به، مثل عرضه مع الفيلم الغنائي المصري «أنشودة الفؤاد»، المملوء بالأغاني والحسناوات وبعضهن فرنسيات، وهو من إخراج ماريو فولبي. مع العلم بأن الفيلم السوري، الذي تم عرضه في مصر في ١٤ أبريل عام ١٩٣٢م لم تكن به إلا ممثلة فرنسية واحدة في دور ثانوي، وهو الفيلم الذي شاهدناه في مهرجان معهد العالم العربي عام ٢٠٠٢م، وفي الحديث المشار إليه مع رشيد جلال قد جاء فيه أن السلطات الفرنسية وقفت ضد الفيلم لأن أهل السيدة السورية التي شاركت بالتمثيل قد عارضوا ظهورها، «وتدخلت في ذلك السلطات الفرنسية التي كانت تبحث بدورها عن سببٍ ما لتتخذه ذريعة لمنع الفيلم، وأوقفته فعلًا، ولم يُسمَح باستكماله حتى استبدلنا الممثلة السورية بممثلة ألمانية كانت تقيم في دمشق.»
ومن الواضح أن خلطًا في التذكُّر قد حدث لدى رشيد جلال؛ فهو يذكر حكاية عن فيلم «المتهم البريء» ذكرها جان ألكسان في كتابه «تاريخ السينما السورية» خاصة بالفيلم الأول «المتهم البريء». السبب، بالطبع، أنه في تلك الآونة كان الإنتاج مجهودات فردية، لا تشكِّل ظاهرة عامة، مثلما يحدث في البلاد التي بدأت فيها السينما حالة إنتاجية فردية، بدليل المسافة الزمنية الواسعة بين إنتاج الأفلام.
والمدهش أن المخرج الموهوب إسماعيل أنزور الذي كان وراء هذا الفيلم، لم يلعب في السينما دورًا كمخرجٍ في حياته مرة ثانية، رغم الفترة الطويلة التي عاشها بعد إنتاجه للفيلم، فهو من مواليد ١٩٠٣م، وتُوفي عام ۱۹۸۱م، درس الهندسة الزراعية في إسطنبول، وسافر إلى فيينا لدراسة الإخراج، وعمل مساعدًا للمخرج التركي أرطغرل محسن الذي شاركه إخراج فيلم «تحت سماء دمشق». ويرى عمر شبانة أنه بعد المصير الذي لاقاه الفيلم عاد مرة أخرى إلى العمل كمهندسٍ زراعي، كما كان يتاجر في الأدوية، ثم التحق بالجيش؛ وكان أحد المشاركين في حرب فلسطين عام ١٩٤٨م التي استُشهد فيها أخوه جواد.
كما يقول نفس المصدر إنه كان يُجيد التحدث بسبع لغات، منها الألمانية والفرنسية والتركية، والإنجليزية.
عن هذا الفيلم كتب هيثم حقي في البحث الخاص بالسينما الصامتة السابق الإشارة إليه أنه:
«اتفق رشيد جلال مع إسماعيل أنزور على إخراج الفيلم الأول لشركة هيلوس فيلم دون قيدٍ أو شرط، كما يقول؛ وذلك لتوافق أفكار الاثنين حول أهمية الفيلم السينمائي. وقد كتب السيناريو إسماعيل أنزور عن قصة لسيدة من حلب، حسب ما استطعتُ أن أستنتج من اللقاءات العديدة التي غالبًا ما نجد فيها المتناقضات، وهو أمر مقبول بسبب تقدُّم هؤلاء الروَّاد في السن.»
وقد أشار حقي إلى أن رشيد جلال الذي استورد العديد من الأجهزة، وتعاقد مع مصور سينمائي إيطالي يُدعى جوردانو، كان في تلك الفترة في لبنان، وحسب كتاب رشيد عرفان، عن قصة السينما في سورية، والذي رجع إليه حقي فإنه «تعاقدت الشركة مع ممثلين وممثلات منهم السادة عرفان الجلاد بطل القصة، والممثلة لوفانتيا الألمانية، وكثيرات من الراقصات الأجنبيات، ومثَّل في هذا الفيلم المرحوم توفيق العطري من كبار رجال المسرح السوري، والمطرب الشهير مصطفى هلال، والمرحوم فريد جلال من أبطال الملاكمة، والسيدان علي حيدر ومدحت العقاد، وفيما عدا العنصر النسائي في الفيلم كان الممثلون الرجال يشجعون المشروع، ولم يتقاضوا أجرًا من الشركة.»
وحسب المصدر نفسه أيضًا فإن الفيلم عُرض بعد شهرين من دخول السينما الناطقة إلى سورية، وإن الإقبال كان جيدًا في اليومين الأوَّلَين، ثم خفَّ تدريجيًّا لتعوُّد رواد هذه الصالة على الأفلام الناطقة، ففكر أصحاب الفيلم بنقله إلى الصالات الشعبية؛ لكنهم فُوجئوا بالسلطات الفرنسية تُوقِف عرض الفيلم، وتطالبهم بتعويضاتٍ كبيرة لإيفاء حقوق مؤلفي الموسيقى التي استعملوها في الفيلم، ولم يكونوا قد سمعوا عن شيء من هذا القبيل، ولا يزال الكثير ممن يعملون في السينما والتليفزيون يجهلون هذا القانون.
كان رشيد عرفان قد قام بتصفية شركة حرمون فيلم وأسَّس شركة جديدة مع ثلاثة من الأصدقاء، ذكر أحدهم في حديثه، وذكر ألكسان الباقيَين في كتابه، وهم: الحاج أديب جابر خال عطا مكي، صاحب المكتبة العمومية، والتاجر رفيق الكزبري، وقد تم تصوير الفيلم بأكمله في دمشق، وليس في حلب.
تقول الوثيقة التي بين يدَينا عن الفيلم المُسمى «في هياكل بعلبك»، وهي للأسف غير مدوَّنة التاريخ، وبمناسبة عرض الفيلم في مصر، إنه «كل هذا ستشاهدونه من يوم ١٨ مارس إلى ٢٤ مارس الحالي، على ستار داركم المصرية سينما الكوزموتوجراف الأمريكاني بالإسكندرية، في الشريط السنغرافي الذي أخرجته لنا شركة فنار فيلم السورية، وهو أول عمل تقدمه إلى الأقطار الشقيقة، وفي مقدمتها مصر، والحق يقال إن فيلم «في هياكل بعلبك» من أقوى وأمتع أفلام الموسم السينمائي بما يتخلله من حوادث مسلية، وأغانٍ عذبة شجية، ومعارك دموية بين قبائل العرب، ألَّفه ووضع أناشيده الجميلة الكاتب السوري كرم البستاني، كما اشترك في وضع موسيقاه العربية، وقام بتلحين أغانيه الأستاذان صالح الفروجي وجميل عويس.»
وقد أكد هذا الإعلان أن الشركة سورية للمرة الثانية في الخاتمة، حيث يقول: «ففي «هياكل بعلبك» مجهود جبار ملموس قامت به شركة فنار السورية، وسنشهد فيه ممثِّلنا المحبوب أمين عطا الله الذي حرمنا من مشاهدته سنوات عديدة بعد إخراج شريطه الأول «البحر بيضحك ليه».»
حسب هذا المصدر فإننا أمام فيلمٍ سوري، رغم أنه، حسب قوائم الأفلام اللبنانية، فيلمٌ لبناني يرجع تاريخ عرضه وإنتاجه إلى عام ١٩٣٤م، والمرجح أن الوثيقة التي بين يدَينا يرجع تاريخها إلى عام ١٩٣٥م، أو ما بعد ذلك بقليل؛ فهل نحن أمام فيلم لبناني بسبب اسمه، لكن حسب الملخص فنحن أمام فيلم بدوي؟ وسوف نقتبس الملخص كما جاء كاملًا:
«نابل فتاة عربية الأصل، وُلدت وشبَّت في إحدى الولايات الأمريكية، أعربت لعمِّها جوني عن رغبتها في مشاهدة وطنها وآثار أجدادها الأبطال الذين خلفوها لتكون دليلًا رمزيًّا عن قوتهم وقوميَّتهم، ومحفزًا لأحفادهم على الإقدام والشجاعة والاعتزاز بالنفس؛ فأجاب العم جوني أمنية ابنة شقيقه. وفي مدينة الشمس لعب كيوبيد دوره بإتقانٍ زائد، فأوقعها في شركٍ أعدَّه لها لا تستطيع منه فكاكًا؛ فقد قابلها الأمير فايز وهو في طريقه إلى عمه الأمير عمر ليطلب منه يد ابنته؛ فتقابلت العيون، وتهامست النظرات الحائرة بعبارات الحب الطاهر البريء.
تقدِّمه إلى عمها، فيُسر بتعارف ابنة أخيه بأميرٍ من أمراء العرب، ويدعوه العم إلى تناول العشاء معهما في فندق رأس العين، وبعد العشاء طلب الأمير من العم جوني السماح بذهاب نابل معه لمشاهدة الآثار العربية الرائعة التي من أجلها قدِما إلى مدينة الشمس، وفيما هما يتنزهان بين الهياكل والمعابد الأثرية العربية، إذا براعٍ يزيد من رهبة السكون، ويُوجِد جوًّا من الخيال الشاعري بترنيمه أغنية عذبة، تتلاقى شفتاهما من تأثير نفحها السحري العظيم، ويشاركهما القمر وحدتهما فيضيء لهما المكان نورًا بأسلاكه الفضية كأنه راضٍ عما يفعلان!
وينبثق الفجر فيفترق العاشقان، ولكلٍّ منهما لوعة. وفي اليوم التالي يدعو الأمير فايز عشيقته نابل وعمَّها جوني إلى مشاهدة حفلٍ عظيمٍ تقيمه قبيلته لعرض ألعاب الفروسية التي يقوم بها فرسان القبيلة، كما هي عادة البدو، فيلبَّيان دعوته التي سرَّتهما كثيرًا، ودُهشا من فروسية العرب وقوتهم، كما أُخذا بروعة العرب وجمال تنظيم الخيل.
وكان فايز، طيلة عرض الألعاب، يلتهم عينيها بنظراته؛ فتخجل نابل، وترنو بهما إلى الأرض حياء.
ويعلم شقيقه الأمير نايف بغرام أخيه؛ فيثور لكرامة القبيلة، ويبحث عنه، ويزجره ويرجعه عن غيِّه؛ إذ من العار الزواج بأجنبية مهما كان أصلها وتفضيلها على ابنة عمِّه المخطوبة له منذ سنوات.
وقبل نهاية الألعاب يُفاجأ الأمير فايز بأخيه فيعنِّفه، ويأمره بقطع صلته بمن ارتضاها قلبه أليفة له.
ويخيِّره بين أمرَين؛ إما العشيقة الأجنبية أو عداوة قبيلته وتبرُّئها منه.
وقبل أن يفُوه فايز بشيء؛ يأتيهما نذيرٌ يخبرهما بزحف قبيلة معادية لغزو قبيلتهما؛ فيتأهب فايز وشقيقه ورجال القبيلة للقتال.
أما نابل فيرجوها شيخ القبيلة بترك البلاد، ويُفهمها أن في وجودها خطرًا عظيمًا على حياتها وحياة عمِّها جوني؛ فتجيب رجاء الشيخ، وتزود الشرق بنظراتها الأخيرة وهي حائرة، بين صفير الباخرة ومخْرها باب المحيط، في طريقها إلى وطنها الذي تربَّت فيه وترعرعت وبين الشرق الذي تودِّعه. وكُتب النصر لقبيلة الأمير فايز، لكنه أصيب بجرحٍ خطيرٍ في المعركة فحُمِل إلى خيمته، ولمَّا عاد الأمير نايف ظافرًا، وعلم بجرح أخيه حزن ولم يبرح خيمته حتى شُفي، وتصافحا وتزوج من ابنة عمِّه التي كانت في انتظاره.»
أيًّا كانت هوية الشركة التي قامت بإنتاج الفيلم، فنحن أمام فيلم سوري لبناني، أو فلنقُل إنه فيلم لبناني سوري لا يمكن خلع أيٍّ من الهُويتَين عنه، وذلك أسوة بالعديد من الأفلام التي تم إنتاجها في الستينيات كإنتاجٍ مشتركٍ بين البلدين، وصارت تُحسَب للبلدَين معًا.
ونحن لا نضيف هذا الفيلم إلى الخريطة التقليدية للسينما السورية؛ حتى لا نغيِّرها، وفي الوقت نفسه فمن الصعب عدم الاستفادة من وثيقة نادرة بين يدَينا، مصدرها بالطبع مجلة مصرية في أوائل الثلاثينيات، والمرجح أننا أمام فيلمٍ ناطقٍ وليس صامتًا، كما أنه فيلم روائي طويل، ومن هنا جاء التردد إلى أن يتم العثور على مصادر أخرى، مؤكدة؛ ولذا فنحن أقرب إلى فيلمٍ سوري لبناني يحمل هُوية البلدَين معًا، أسوة بكل أفلام الإنتاج المشترَك.
في عام ١٩٣٨م، عاد أيوب بدري مرة أخرى إلى عشقه للسينما؛ وقرر أن يقدِّم فيلمًا آخر يحمل اسم «نداء الواجب»، يشير هيثم حقي أن المعلومات عنه غير متوفرة تمامًا، أما جورج سادول فقد أشار في كتابه «السينما في البلدان العربية»، إلى أن هذا الفيلم لم يكتمل إنتاجه، وأن أيوب بدري قدَّم أيضًا في العام التالي فيلمًا آخر لم يكتمل بعنوان «مغني الهناء»، الذي لم يذكر الكثيرون من مؤرخي السينما السورية اسمه في كتاباتهم ومراجِعهم، ويشير سادول أيضًا أن بدري قد أخرج فيلمه الثالث عام ١٩٤٨م بعنوان «الصداقة الفذة» الذي لم نجد له أي أثر أو ذكر فيما نرجع إليه من مصادر، والغريب أن المخرج قد سارع بعمل فيلمٍ ثانٍ لم يكتمل في عامَين متتاليين، ولم يقُم باستكمال الفيلم الناقص الذي أنتجته نفس الشركة حرمون.
ويقول صلاح دهني في مقاله عن السينما السورية، في الكتاب الفرنسي الذي أشرف عليه جورج سادول، إن أيوب بدري هو منتِج أول فيلم سينمائي سوري، وإنه استوحى فيلمه «نداء الواجب» من الثورة الفلسطينية ضد الإنجليز؛ فأدخل ضمن فيلمه مَشاهِد مأخوذة من أفلامٍ أجنبية تمثِّل الحروب، وانفجار القنابل، وحركات الدبابات والمناورات العسكرية.
وحسب هيثم حقي فإنه ذكر أن فيلم «الصداقة المتوحشة»، وهو ليس الأقرب إلى الصح، قد شُوهدَت إعلاناته على باب السينما، ويرجِّح أن الفيلم تم تغيير اسمه، دون أي إشارة إلى أنه اكتمل أم لا، وقد استقى حقي معلوماته من لقاءٍ برشيد جلال، لكننا لا نعلم من أين استقى سادول معلوماته، وهو الذي جمع مادته في فترة مبكرة من الستينيات، أي في الفترة نفسها التي نُشر فيها كتاب «قصة السينما في سورية» لرشيد جلال عام ١٩٦٣م.
وقد تساءل حقي عن سبب قيام أيوب بدري بعمل أفلام صامتة وسط سينما متميزة راقية ناطقة كانت تأتي من فرنسا والولايات المتحدة، في الوقت الذي كانت فيه هذه الأفلام تُعرَض على الجمهور بصوتٍ مركَّب (دوبلاج)، لكنه لم يتوقف عند مسألة أن كل هذه الأفلام كانت قصيرة، وهي لا تُشبِع رغبة المتفرج؛ فهل تم عرض هذه الأفلام عروضًا تجارية وحدها بشكلٍ منفصل، أم أنها كانت تُعرَض بشكلٍ تكميلي للأفلام الأجنبية الطويلة؟
فليس من المعقول أن يتم إنتاجها كنوعٍ من الهواية والاكتفاء بعرضها في عروضٍ خاصة، لكن حسب ما كتبه جان ألكسان عن بدري أيوب؛ فإنه كان يستعين ببعض الممثلين الذين يتكلمون من وراء شاشة العرض لإيهام الناس أنهم أمام أفلامٍ ناطقة، ويشير ألكسان عن أيوب بدري أن البعض اتَّهم المخرج بأنه لم يكن يُخرج أفلامه على أُسسٍ علمية، وهل كان أحد في تلك الفترة قد تعلَّم هذه الأسس؟
باستثناء أيوب بدري في السينما السورية، ليس هناك من بين الروَّاد من استكمل مسيرته السينمائية الروائية بعملٍ آخر، والكثيرون من هؤلاء عاشوا ردحًا طويلًا من الزمن، كأنهم ظلُّوا يرقبون التجربة دون أن يعاودوا الدخول إليها، ومنهم نزيه شهبندر المنتِج والمخرج لفيلم «نور وظلام»، (٥٥ دقيقة) عام ١٩٤٧م.
ونزيه من مواليد عام ١٩١٠م، ومات عام ١٩٩٦م عن عمرٍ يناهز السادسة والثمانين، بدأ حياته العملية وهو في السابعة عشرة من العمر؛ حيث اتجه للأعمال الكهربية نهارًا، وفي المساء كان يذهب للمساعدة في عرض الأفلام في دار سينما باسم «جنينة الفرح». وقد بدأ شغفه بصناعة السينما من خلال علاقته بآلة العرض، وبقصص الأفلام التي كانت تُعرَض في القاعة، وقد اكتسب خبرة في إصلاح آلات العرض وتركيب الأفلام، ثم بدأ يدرس تقنيات الصوت على الشريط، في زمن السينما الناطقة، محاولًا نقل الخبرة الفرنسية ومنافستها، مما دفعه للذهاب إلى بيروت بحثًا عن فرصة، وهناك قابل الممثِّل والمخرج المصري أحمد جلال، الذي اكتشف موهبته التقنية في فيلمٍ كان يقوم بتصويره في تلك الآونة، فطلب منه الحضور إلى مصر؛ حيث عمل مع شارل نحاس في الاستوديو الذي يمتلكه، لكن الحلم الذي راوده بعمل فيلم سوري ظل يطارده فعاد إلى دمشق، وقام بتأسيس شركة تحمل اسمه مزمعًا إنتاج فيلم، ومن هنا جاء فيلمه «نور وظلام» الذي تتضارب الآراء حول تاريخ إنتاجه بين عامَي ١٩٤٧م و١٩٤٨م.
وقد حكى نزيه شهبندر عن تجربته الكثيرَ في الفيلم التسجيلي الذي أخرجه الثنائي محمد ملص وأسامة محمد مع عمر أميرالاي، الذي تم إنتاجه بمناسبة مرور مائة عام على نشأة السينما في العالم، أي في نفس السنة التي رحل فيها المخرج. وفي الفيلم هناك بوحٌ حقيقي من شهبندر حول السينما والعزلة بعد النجاح، وشعورٌ حقيقي بالألم بسبب ما فعله الزمن بالفيلم، وحوَّله إلى بقايا من التراب.
حسب الإعلان الملون للفيلم، فإننا أمام أول فيلمٍ ناطقٍ في سورية، وقد جاء في مقدمة الإعلان أنه الفيلم السوري اللبناني الذي تمثِّله نخبة من أشهر كواكب لبنان وسورية، وفي الإعلان إشارة إلى أن المناظر أُخذَت باستوديو شهبندر بدمشق؛ مما يعني أنه كان يمتلك استوديو فضلًا عن شركة الإنتاج السينمائي، وليست هناك في الإعلان إشارة إلى اسم المخرج، لكن هناك إشارة إلى اسمَي من قاما بتلحين الأغنيات، وهما محمد محسن، والمطرب الملحن رفيق شكري، الذي قام بالبطولة المطلَقة أمام إيفيت فغالي، وهي، على الغالب، شقيقة المطربة صباح؛ حيث يبدو هذا واضحًا في التشابه الملحوظ بين الملامح.
أما بقية الأبطال فهم الثنائي شامل ومرعي، وعبد الهادي الدركزللي، وحكمت محسن، وماري يونس، وأم كامل (أنور البابا)، ثم هناك سعد الدين بقدونس. وتدور أحداث الفيلم حول شقيقَين متناقضين في الصفات والسلوك، الأول عادل يحب العلم والاختراعات، ويتمكَّن من التوصُّل إلى نوعٍ جديدٍ من المتفجرات. أما الثاني، ويُدعى رفيق، عابث يستمتع بالمحرمات، وخاصة مع خالته دلال العائدة من البرازيل، التي يقع في هواها، لكن الخالة تقف له بالمرصاد، وتحاول إبعاده عن طريق الشيطان، خاصة حين تعلم أن رشاد، صديق رفيق، يفتح شقته للقمار، وأن رباب شقيقة رشاد ترمي بشباكها حول ابن أخيها.
رشاد هذا ينجح في الاستيلاء على سر اختراع المتفجرات التي ابتكرها عادل بإغراءٍ من رجل أجنبي، ويعرف رفيق بالأمر فيستيقظ ضميره، بعد أن نبَّهته خالته إلى حقيقة ما حدث، ويقوم بالتشاجر مع صديقه، من أجل مصلحة أخيه، ويتمكَّن من إعادة الاختراع، بعد أن يُبلغ الشرطة التي تتمكَّن من حسم الأمر.
في الفيلم التسجيلي، الذي سبقت الإشارة إليه، حكى نزيه شهبندر عن العديد من التقنيات التي أضافها إلى صناعة السينما السورية، والتي حاول من خلالها الاستعاضة عن التقنيات المماثِلة التي يمكن استيرادها من الخارج، ومن بينها آلة لتحميض الأفلام بشكلٍ آلي، وهناك آلة أخرى لطبع الأفلام، وتحويلها من ١٦ ملِّيمترًا إلى ٣٥ مليمترًا، وبالعكس، كما تمكَّن من عمل مافيولا محلية لتركيب الفيلم (مونتاج).
وقد عزا هيثم حقي، في البحث السابق الإشارة إليه، أن الاستعمار الفرنسي كان هو العقبة التي سدَّت الطريق أمام كل المحاولات التي بُذلت لعمل سينما في سورية، ولم يعطِ تفسيرًا لذلك التأخير الملحوظ الذي استمر لسنواتٍ طويلة عقب انسحاب الاستعمار، وظلَّت البلاد دون صناعة سينما، والسبب في رأينا، وقد سبقت الإشارة إليه، هو أن السينما في تلك الفترة كانت مشاريعَ فردية، يقوم بها هُواة مغامِرون، دون أن تكون وراءهم مؤسسات قادرة على الدعم الحقيقي للمغامرة والإنتاج، مثلما فعلت عزيزة أمير والأخوان لاما، وتم إنشاء استوديوهات عملاقة، مثلما فعل أحمد المشرقي (توجو مزراحي) واستوديو مصر، ومثلما فعل يوسف وهبي الذي أنتج أفلامًا لنفسه وللآخرين.
الفيلم الروائي الأول حقيقة في السينما السورية هو «عابر سبيل» إنتاج شركة «عرفان وجالق»، كتبه وأخرجه أحمد عرفان، ومن بطولة «النجم المطرب السوري المحبوب نجيب السراج»، مثلما تقول الإعلانات التي نُشرت في الصحف عن الفيلم، ومنها قصاصات إعلانات منشورة في مجلة «الحياة السينمائية»، العدد ٤٣، مرفقة بمقال كتبه فاضل الكواكبي عن «حكايات السينما في حلب»، وهو إعلان منشور في إحدى المجلات غير مذكور التاريخ أو الاسم، لكن يهمنا ما جاء في الإعلان أنه «قريبًا جدًّا تفخر سورية بأسرها بأول إنتاج سينمائي سوري ناجح»، كما جاء في الإعلان إشارات من قبيل «أموال سورية بُذلت بسخاء» و«شباب سوريون أنفقوا على هذا الفيلم ثمرة جهودهم ومقدرتهم وفنهم»، و««عابر سبيل» فيلم سوري يفخر به كل سوري وعربي»، وهناك إشارة في طرف الإعلان إلى أن هناك مقالًا نقديًّا حول الفيلم في صفحة ٢٣ من المجلة؛ مما يعني أن الصحفيين شاهدوا الفيلم قبل عرضه على الجمهور.
كما جاء في الإعلان الآخر أن «سينما أوديون تقدِّم ابتداءً من الإثنين ٢ نيسان، والأيام التالية.»
«الشقيقتان سورية ولبنان تتصافحان في الفيلم السوري الأول «عابر سبيل».»
وتصنيف الفيلم حسب الإعلان نفسه أنه «اجتماعي وغنائي وفكاهي ضخم، إنتاج شركة عرفان وجالق للإنتاج بحلب.»
إذن فنحن أمام أول فيلم روائي سوري حسبما جاء في الإعلان، رغم ما يشوب الإعلانات من مبالغة في العادة، كما أن الفيلم يتَّسم بأنه مجهود فردي وجماعي في الآونة نفسها، وأن التصافح المقصود به بين سورية ولبنان يعني أن طاقم العاملين، الممثلين خاصة، كان يجمع بين البلدين، وهو كما جاء في الإعلانَين:
-
المطرب السوري المحبوب نجيب السراج.
-
النجمة اللبنانية الآنسة سلوى خوري.
-
المطربة الحسناء الآنسة ازدهار.
-
السيد شريف سواس.
-
الآنسة صونيل درويش.
-
السيد بهاء مصري.
-
السيد محمد طرقجي.
وقد أشار الكواكبي في مقاله أن «عابر سبيل هو الفيلم الروائي الخامس في السينما السورية» رغم الإعلانَين المنشورَين؛ فهل احتسب الأفلام الروائية القصيرة ضمن السينما الروائية؟ ونحن نميل إلى ما ذُكر في الإعلانين أكثر.
أي أن السينما في سورية قد تأسَّست بحماسٍ فردي من رَجلَين، أحدهما سينمائي والآخر مسرحي؛ وهو تشابه واضح مع ما حدث في مصر؛ حيث نظر المسرحيون إلى السينما بوصفها امتدادًا للمسرح، فتهافتوا عليهما معًا، ونقلوا المنافسة والنشاط بين الاستوديوهات والمسارح.
ويَذكر جان ألكسان في كتابه أن الفيلم عانى من سوء تحميض الصورة، بالإضافة إلى أخطاء في التمثيل، دون تحديده لهذه الأخطاء بدقة، وهي معلومة سبق أن أكدها صلاح دهني في المقال السابق الإشارة إليه في كتاب جورج سادول، كما أن المصادر المتعلقة بهذه الفترة تؤكد أن السينما للهُواة في المقام الأول، مثل تجربة زهير الشوا الذي تمكَّن في أوائل الخمسينيات من إعداد معملٍ سينمائي، ومن الواضح أن اكتمال هذا الاستوديو قد حمَّسه بعد أكثر من عشر سنوات من الإعداد والتجميع، مما دفعه أيضًا للعمل بشكلٍ فردي فأنتج فيلم «الوادي الأخضر»، وهو من بطولته وإخراجه وتأليفه، أي أنه فيلمه الخاص، والفيلم الذي عُرض عام ١٩٦٢م شاركت في بطولته أميرة إبراهيم، ودلال الشمالي، وخالد حمدي، وجميل الحاج.
في هذا الفيلم تذهب السينما السورية للمرة الأولى إلى الريف، من خلال قصة الشاب العائد من السجن بعد أن قضى وراء الجدران خمسة عشر عامًا بسبب ارتكابه جريمة قتل، وفي بيئة ريفية شديدة القسوة، ينتظر أهل القتيل خروج قاتل ابنهم من أجل الانتقام منه، وفي الحقيقة فإنه لم يكن هو القاتل، بل دخل السجن نيابة عن أخيه القاتل الحقيقي. وخارج السجن يقع الشاب في غرام ابنة العمدة (المختار) دون أن يدري أن أخاه واقع في غرامها من طرفٍ واحد، ووسط توتر اجتماعي ورغبة في الانتقام، يقرر الأخ أن يدفع الثمن الذي دفعه أخوه سجنًا، من أجل أن يعوض السنوات الضائعة.