وجوه مصرية لبنانية
هل شهدت السينما الروائية السورية بدايتها الحقيقية في منتصف الستينيات على أيدي بعض المخرجين السوريين واللبنانيين القادمين من مصر، بعد تجربة طويلة من العطاء، خاصة يوسف معلوف، وسيف الدين شوكت؟ ولا سيما بعد أن فتحت الحكومة الأبواب لصناعة أفلام وسينما بتأسيس المؤسسة العامة للسينما؟
الإجابة بنعم.
وقبل الحديث عن تفاصيل هذه المرحلة، التي بدأت عام ١٩٦٥م، يمكن أن نذكر مجموعة من السِّمات والقضايا المرتبطة بهذه المرحلة:
-
لعبت عودة بعض المخرجين السوريين واللبنانيين إلى سورية، لأسبابٍ مختلفة، دورًا مهمًّا في هذه الصحوة والحياة التي دبَّت في الجسد النائم للسينما في سورية، منها هروب بعض الفنانين من مصر بسبب مشاكل مع مصلحة الضرائب، أو مع النظام السياسي وأجهزة الاستخبارات، وليس هذا مجال الحديث عنه، لكنه مذكور في مذكرات النجوم وأحاديثهم الصحفية.
هذه العودة دفعت إلى تحويل دمشق وبيروت إلى هوليوود بديلة، والجدير بالذكر أن هذه العودة قد بدأت في لبنان في العامَين الأخيرين من الخمسينيات على يدَي المخرج محمد سلمان الذي سعى إلى جذب نجوم السينما المصرية، وعلى رأسهم صباح ويوسف فخر الدين، وعماد حمدي وزوجته نجاح سلام، في فيلمٍ من طراز «مرحبًا أيها الحب».
-
ظهور نجوم جدد في عالم الغناء والتمثيل يمكنهم أن يصيروا نجومًا يذهب الناس من أجلهم لمشاهدة الأفلام، وعلى رأسهم المطرب فهد بلان، والثنائي دريد لحام-نهاد قلعي، وسوف نجد أن هناك تهافتًا ملحوظًا للاستعانة بهؤلاء الثلاثة في أفلام سورية الطابع، مهما كانت هوية كُتَّابها ومخرجيها.
-
فشل التجارب السينمائية العديدة للكثير من صناع السينما السورية في مصر وخاصة الممثلين، ومنهم على سبيل المثال «إغراء» الراقصة، التي لمعت فيما بعد في السبعينيات، كممثلة ومخرجة وكاتبة سيناريو، وهجرة بعض نجوم السينما المصرية لأسبابٍ مذكورة، ومنهم إسماعيل يس ومريم فخر الدين وصباح، وعبد السلام النابلسي، ومحرم فؤاد، وأيضًا فاتن حمامة.
-
قيام الدولة في سورية بتأسيس هيئة عامة تتولى شئون السينما، ومساندة القطاع الخاص، وإنشاء ما يشبه مدينة السينما في مصر، واستوديو للتصوير والطبع والتحميض، واستيراد وحدة ضخمة للتصوير والطبع بالألوان، وقد لعب هذا دورًا طليعيًّا؛ ففي الوقت الذي لم تكن الأفلام المصرية تعرف الألوان إلا للأفلام الضخمة الإنتاج، من طراز «الناصر صلاح الدين»، و«وإسلاماه» و«عروس النيل» و«ألمظ وعبده الحامولي»، و«شفيقة القبطية»، وصُوِّرت أفلام عبد الحليم حافظ بالأبيض والأسود؛ فإن أفلام فهد بلان السورية كانت تُصوَّر بالألوان في دمشق، أي أن السينما السورية في غالبها في تلك الفترة كانت ملونة.
-
تأسيس شركات توزيع خارجي للأفلام؛ سواء داخل سورية أو لبنان، علمًا بأن أصحاب هذه الشركات كانت لديهم الخبرة في توزيع الفيلم المصري خارج الحدود، فكانت الطرق معبَّدة لتوزيع الأفلام السورية أو اللبنانية إلى نفس الأسواق، ومن هنا جاءت فكرة الاستعانة بنجوم السينما المصرية في سورية مثلًا.
-
النجاح في جذب نجوم السينما المصرية للعمل في أفلامٍ سورية، والغريب أن السينما المصرية في تلك الحقبة كانت تعمل على جذب نجوم السينما الإيطالية للعمل بها، مثل جور دون سكوت وفيتوريو جاسمان ومارك دامون.
-
يُلاحَظ أيضًا أن هناك ما يشبه الهجرة المؤقتة من القاهرة إلى دمشق وبيروت، وهي هجرة في اتجاه واحد فقط، أي أن السينمائيين المصريين هم الذين راحوا إلى بلاد الشام، دون محاولاتٍ مماثِلة من أقرانهم السوريين في تلك الفترة بشكلٍ خاص. فالمطرب فهد بلان، الذي ذاعت شهرته عام ١٩٦٧م لم يقُم بالعمل قَط في فيلم مصري، وظل تعاونه مقصورًا على العمل في دمشق وبيروت، سواء مع زوجته في تلك الآونة مريم فخر الدين أو بدونها، ورغم أن فيلم «الرجل المناسب» لحلمي رفلة تدور أحداثه في القاهرة، فإن المتفرج لا يحس بذلك كثيرًا، ولم يحدث للثنائي لحام-قلعي أن عمل في السينما المصرية قَط، وهي السينما التي جذبت، قبل هذه المرحلة وبعدها، العديد من النجوم العرب؛ مما يعني أن الأحوال السينمائية كانت مستقرة كثيرًا في تلك الفترة، وأن عوامل الجذب كان لها أن تؤسِّس السينما بكافة مراحلها المتعارَف عليها في سورية.
بدت هذه السِّمات واضحة في أعمال المخرجين السوريين العائدين من القاهرة، الذين قرروا تقديم خبراتهم في البلاد، التي بدأت تفتح أذرعها بقوة لهؤلاء العائدين، وعلى رأسهم يوسف معلوف.
-
بدا أن أغلب المخرجين السينمائيين، الذين جاءوا إلى سورية، وكأنهم أتَوا في الغالب على شرف النجاح الجماهيري الذي يتمتع به الثنائي لحام-قلعي، فتبارى الحاضرون جميعًا للعمل مع هذا الثنائي لجماهيريته من ناحية، وأيضًا لإكساب هذه الأفلام طابعها المحلي؛ فليس من الطبيعي الإتيان بالسينما المصرية إلى دمشق دون أن يكون لها مذاق سوري، وقد عمل في هذه الأفلام، أي مع الثنائي، كلٌّ من حلمي رفلة وحسن الصيفي، وعاطف سالم وأحمد ضياء الدين، كما يُلاحَظ أن الكثير من هؤلاء المخرجين قد تخلَّوا عن السينما التي عُرِفوا بها، مثل الرومانسية التي عكف على تجسيدها ضياء الدين، أو الواقعية الاجتماعية عند عاطف سالم. وبدا الكثير منهم وكأنه يتخلَّى عن مشروعه الخاص، مثلما فعل عاطف سالم وهو يقدم «زوجتي من الهيبز»، والملاحَظ أن أغلبهم استرد عافيته عقب عودته إلى بلاده؛ فقدَّم هذا الأخير فيلمه «أين عقلي» على سبيل المثال.
-
أغلب الأفلام التي تم إخراجها سبق تقديم قصصها في السينما المصرية، وهي بدورها مقتبَسة عن أفلام أمريكية كوميدية، أي أن المصريين عندما ذهبوا إلى دمشق كانت معهم مشاريعهم السينمائية الكوميدية المضمونة، مثل فيلم «مسك وعنبر»، الذي يُعد بمثابة إعادة لفيلم «سكر هانم»، إخراج السيد بدير، ومثلما فعل الكثير من المخرجين كما سنرى في التحليل.
يوسف معلوف
ففيلم «عقد اللولو»، الذي أخرجه يوسف معلوف عام ١٩٦٤م، يحمل أغلب سِمات أفلام الكوميديا الموسيقية التي انتشرت قبل حقبة من الزمن في السينما المصرية، وكان معلوف نفسه من كبار صنَّاعها هناك؛ فهو الذي قدَّم أفلامًا من طراز «في الهوا سوا»، و«الدنيا حلوة» عام ١٩٥٢م، و«الهوا مالوش دوا» في العام التالي، و«أحلام البنات» عام ١٩٥٩م.
وقد عاد المخرج إلى لبنان عام ١٩٦٢م، وأخرج هناك أفلامًا من نفس النوعية؛ ومنها «رسول الغرام» في العام التالي، و«لقاء في تدمر»، وغيرها.
وحسب الكتاب الدعائي لفيلم «عقد اللولو»، فإن الشركة المنتِجة «سيريا فيلم» كانت قائمة في دمشق، أما التوزيع إلى جميع أنحاء العالم فقد قامت به شركة لبنانية في بيروت، كما أن المناظر أُخذَت باستوديو سيريا في العاصمة السورية، واستوديو بعلبك ببيروت. وتم الاستعانة بنجومٍ من لبنان (صباح) ونجوم جُدد لمعوا في تلك الفترة في سورية، على رأسهم المطرب فهد بلان، والثنائي دريد لحام-نهاد قلعي، اللذان كتبا القصة، أما السيناريو، فكتبه المخرج مع محمود نصير، وكان دريد لحام واحدًا من أربعة اشتركوا في التدريب على الرقص.
نحن أمام فيلم غنائي في المقام الأول، غنَّى فيه بلان أغنيات فردية هي: «دعاء»، و«الأرض الطيبة»، وغنَّت صباح أغنيتَين هما «أرض الحبيب» و«جرة غالية»، بينما غنى الاثنان معًا أغنيتيهما: «مهرجان القمح» و«عاد المهاجر»، ذلك ضمن ثماني أغنيات شهدها الفيلم.
أي أن يوسف معلوف سعى إلى تأسيس ظاهرة الكوميديا الموسيقية في سورية، بعد أن نجح محمد سلمان من قبله في نقلها نفسها بنجومها أنفسهم، وعلى رأسهم صباح، إلى لبنان قبل ذلك بسنوات قليلة.
والفيلم يروي أيضًا حكاية المغترب القادم من البرازيل؛ إنه غوار الذي رجع من المهجر ومعه عقد من اللؤلؤ من أجل حبيبته. وعلى جانب آخر تدور قصة حب بين سالم المزارع البسيط، الذي يحب بدور أجمل فتاة في قريته، كما يواجه بعض الفلاحين الطامعين في الاستيلاء على أرضه، وقد وقعت بين يديه رسالة أرسلها غوار إلى حبيبته قبل وصوله إلى وطنه؛ فيظنها سالم مكتوبة من أجل فتاته بدور، ويحدث سوء فهم يُبعد بين الحبيبين، ويتصدَّى الشاب لخصومه، يسانده في ذلك غوار، الذي يُهدي عقد اللؤلؤ إلى العروسين سالم وبدور في ليلة زفافهما.
والفيلم الذي صُوِّر بالألوان الطبيعية امتلأ بالاستعراضات، وكان أول ظهور للراقصة إغراء بعد عودتها من مصر؛ حيث قامت بأدوار قصيرة، وهي التي لمعت كممثلة ومؤلفة في السبعينيات.
وقد تمت الاستعانة بطاقمٍ من الفنيِّين السوريين، عدا المونتير إميل بحري، الذي عمل كثيرًا في السينما المصرية قبل أن يستقر بين سورية ولبنان في فترة التعاون الوثيق بين السينما في البلاد الثلاثة.
وقد انتقل يوسف معلوف بين الاستوديوهات في سورية ولبنان، وكانت أعماله السورية هي على التوالي:
أنا عنتر | (١٩٦٤م) |
لقاء في تدمر | (١٩٦٥م) |
المليونيرة | (١٩٦٦م) |
الصعاليك | (١٩٦٧م) |
الثعلب | (۱۹۷۱م) |
واحد + واحد | (۱۹۷۱م) |
رحلة حب | (۱۹۷۲م) |
مقلب حب | (۱۹۷۲م) |
وكما نرى فإن الأفلام الثلاثة الأولى، على الأقل، مصنوعة على نمط السينما في مصر، أي أننا أمام فيلم كوميدي غنائي، وقد خفَّت هذه الظاهرة في أفلامه التالية بسبب إنها أيضًا خفَّت في مصر؛ في الفيلم حاول الاستفادة من جماهيرية الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي في عملٍ من إنتاج الشركة نفسها، أما الفيلم الثالث «المليونيرة» فقد اعتمد فيه على نجوم السينما السورية واللبنانية، خاصة العائدين من مصر، ومنهم صباح، وهالة شوكت التي اشتركت أيضًا في الفيلم السابق، والفيلم من إنتاج شركة أفلام إلياس حداد، وإيلي معاصري. وشارك في البطولة إلى جوار دريد ونهاد كلٌّ من: منير معاصري وميشلين ضو وغازي جرمانوس وسهيل نعماني، وتضمن خمس أغنيات لصباح، منها أغنيتان تأليف وتلحين عاصي الرحباني هما «قولولي مع مين» و«يا حلوين يا زغار» وأغنية «المليونيرة» تأليف وتلحين زكي ناصيف، و«السمكة» من تلحين فلمون وهبي، و«يا حسرتي عليك» تلحين عفيف رضوان.
وحسب الكتاب الدعائي للفيلم؛ فهو ينتمي أكثر إلى السينما اللبنانية؛ فالمناظر أُخذَت في «أجمل بقع وقصور لبنان: قصر صباح، ضهور العبادية، وادي لامارتين. كازينو لبنان، آثارات جبيل والميناء»، وتم تسجيل الأغاني في استوديو بعلبك، وتم إعداد الفيلم في نيير إيست سوند ستوديوز-عواد، ومذكور أن التوزيع في لبنان لإلياس حداد — البناية المركزية — بيروت.
أي أننا أمام فيلم لبناني في المقام الأول، وإن المشاركة الأولى في هذه الأفلام تتمثل في وجود كلٍّ من دريد لحام ونهاد قلعي، أو ربما يمكن أن نقول إننا أمام فيلم سوري لبناني أو بالعكس.
وقصة الفيلم مأخوذة عن الفيلم الأمريكي «الحب كرة» الذي قام ببطولته جلين فورد عام ١٩٦٣م، حول مجموعة من النصابين يحاولون الحصول على المال بأسهل الطرق، يعلمون أن أرملة مليونيرة قد نزلت إلى المدينة فيدَّعون أن أحدهم أمير، ويقومون بإحاطته بكافة الوسائل التي توحي بثرائه، بعد أن تدرَّب كيف يتصرَّف كأمير يجيد كافة وسائل الإتيكيت، ويستأجرون له سيارة بسائقها، ويستغلون السائق في معرفة أخبار المليونيرة، تقع الفتاة في غرام السائق؛ لكن الأمير المزيَّف يحاول أن يحوطها بكافة وسائل الإغراء، وفي ليلة عرسهما تهرب من المليونير المزيف، كي تتزوج من السائق بعد أن عرفت الحقيقة.
وفي فيلم «الصعاليك» يستعين المخرج يوسف معلوف بمجموعة النجوم نفسها، وعلى رأسهم دريد لحام ونهاد قلعي ومعهما مريم فخر الدين، عن قصة للكاتب المصري فاروق صبري، وهو من إنتاج حسين قوادري، وفي الفيلم عمل أنور قوادري كعامل اسكريبت. ويجمع الفيلم بين السينما السورية واللبنانية في الوقت نفسه؛ فالمناظر الداخلية مأخوذة في استوديو سيريا المملوك للشركة المنتِجة بالاسم نفسه، أما الصوت والمكياج فتم عملهما باستوديو بعلبك في بيروت، حيث توجد الشركة المتحدة للتجارة والسينما، التي قامت بتوزيع هذا الفيلم لجميع أنحاء العالم. وفي الفيلم قام المطرب السوري الشهير صباح فخري بغناء اثنتين من أغنياته الشهيرة، وهما: «ميلي» وموال «يا مال الشام».
ويروي الفيلم قصة نهاد، الذي يمتلك مكتبًا فخمًا للأعمال التجارية، ذات الأرباح الطائلة، والذي يستخدمه لعمليات احتيالية عالمية؛ فقد أخبره مخبِروه المنتشرون في أنحاء البلاد الأوروبية أن هناك قصرًا فخمًا في دمشق يخص أحد الأثرياء الأتراك القدامى، وقد ترك صاحبه وصية خصَّص بموجبها مليون ليرة تُدفَع لأي مؤسسة تُعنى بتربية الكلاب والرفق بها؛ فانطلق من هذه الإخبارية، وعثر على السيدة التركية المكلَّفة بتنفيذ الوصية، وراح يؤسس مدينة للكلاب، بعد أن أرسل أحد رجاله ليعمل سائقًا لسيارة هذه السيدة، فتعمَّد السائق المرور من أمام مدينة الكلاب المزعومة؛ فشاهدتها السيدة وفرحت بها. وتعرَّفت بعدئذٍ على صاحب المشروع، فقررت بعد اجتماعاتٍ عديدة مع نهاد أن تدفع له المليون ليرة، وتعلم مريم بالموضوع فتأتي إلى دمشق للغرض نفسه، لكنها وصلت متأخرة فادَّعت أنها قدِمت لشراء ناقلة بترول كبيرة، وتقرَّب دريد منها، وأصبح كظلِّها الملازم أملًا منه الفوز بثروتها. وأخبر نهاد بعزم المرأة فقر قرارهما على العمل لامتلاك الناقلة بعد أن تشتريها المرأة، وعند توقيع العقد، وحسب ادعاء مريم بأن عمها قد تأخر بالحضور ليدفع سلفة الشراء؛ تحمَّس نهاد، بعد أن أقنعه دريد، ودفع المليون ليرة لبائع الناقلة، وفي اليوم التالي يذهب دريد ونهاد ليتفقَّدا ناقلتهما، وصعدا على متنها فاستغرب البحارة، وقاموا بإلقائهما في البحر، وعرفا أنهما وقعا ضحية احتيال، وقصدا الفندق الذي كانت تنزل به مريم، فعلما أنها غادرته عائدة إلى بلجيكا، فانطلقا إلى المطار ليلحقا بها قبل السفر.
وفي الأفلام التالية بدا يوسف معلوف وكأنه واقعٌ في أسر الثنائي دريد-نهاد، فهناك حكايات المقالب التي تقرِّب أو تباعِد بين الثنائي، ففي فيلم «الثعلب»، الذي أنتجه تحسين قوادري أيضًا، هناك رجلان يعملان في تجارة الذهب تظهر في حياتهما عصابة تخطط للاستيلاء على الذهب الذي يمتلكانه؛ فيقوم بتدريب فتاة حسناء على هذا العمل، وتتسلل إلى عالم الرجلين، وترسم عليهما قصص الحب وتستولي على الذهب، وأثناء طريقها للهرب لتسليم المسروقات إلى الثعلب زعيم العصابة تتراجع، وتشعر أنها أحبَّت أحد الرجلين؛ فتساعد رجال الشرطة في القبض على الثعلب ورجاله.
يوسف معلوف قدَّم هذه المرة فيلمًا سوريًّا خالصًا، لكنه لم يخرج فيه عن أسلوبه الذي سار عليه طوال حياته، وها هو يكتب السيناريو وحده، بعد أن كان في الفيلم السابق واحدًا من ثلاثة اشتركوا في الكتابة، منهم نهاد قلعي، وفاروق صبري. لكنه في هذه الأعمال جميعًا كان يسند أدوار البطولة إلى ممثلات من القاهرة، فبعد نوال أبو الفتوح في الفيلم السابق، ها هو يقدم سهير المرشدي في فيلم «واحد + واحد»، والذي يشارك في بطولته أيضًا كلٌّ من دريد ونهاد.
هنا يموت رجل ثري في حادث تصادم، ويترك كل ثروته لأي شخص يجلب السعادة لأرملته وسط أحزانها عليه، تشعر المرأة بالألم في بطنها، ويتم نقلها إلى المستشفى، ويتم إجراء عملية جراحية لها، وعقب العملية يدور جدل ساخن بين المريضة والطبيب، الذي يتعامل معها بجفاءٍ شديدٍ، ويقوم بصفعها؛ فتحس بالسعادة لأن الصفعة نبَّهتها إلى شيء مهم، وهو ألَّا تتعالى على الناس، وتقع في غرام الطبيب وتتزوجه.
وفي عام ١٩٧٢م لم يستطع المخرج الإفلات كثيرًا من الظاهرة التي انتشرت في سورية ولبنان؛ حيث زحف المصريون للعمل هناك بقوة؛ ففيلم «رحلة حب» من بطولة شمس البارودي وحسن يوسف، وفيلم «مقلب حب» من تأليف أحمد ثروت، وتمثيل ناهد يسري ومحمود جبر، وناجي جبر ورفيق السبيعي، وفيه قصة حب مشتركة بين شاب لبناني جامعي وزميلته المصرية، هذا الشاب يتعرض للعديد من المتاعب والمعاكسات من أقرانه الذين يوهمونه بأحداثٍ ومواقف غريبة تجاه الفتاة، فيقع في العديد من المطبات والمقالب، ولا يتوقفون عن السخرية منه، ويقومون في النهاية بالاتصال بوالد الفتاة الذي يأتي خصيصى من القاهرة، ويعود بابنته إلى مصر.
فيلم «رحلة حب» من إنتاج محمود قاووق، ويُلاحَظ أن الشركة الموزِّعة كان مقرها دمشق، وقام بتأليف الفيلم عبد العزيز سلام، أما البطولة فهي لحسن يوسف وشمس البارودي، مع أبو صياح وزياد مولوي والراقصة إغراء، وياسين بقوش، وتم طبع الفيلم وتحميضه بمعامل المؤسسة العامة السينما بدمشق.
نحن أمام فيلم كوميدي به بعض الأغنيات، والاستعراضات التي أدَّتها شمس البارودي، كما قدَّم رفيق السبيعي (أبو صياح) أغنية بعنوان «شُرم برم كعب الفنجان»، وحسب الكراس الإعلامي للفيلم فإن هناك ثلاثة مشاريع كانت تنوي إنتاجها من بطولة نجوم السينما في مصر، منها فيلم «الرحلة الجميلة» بطولة حسن يوسف ونجلاء فتحي وعماد حمدي ونبيلة عبيد، وفيلم «لا تكذب»، بطولة دريد لحام ونهاد قلعي مع ميرفت أمين ونبيلة عبيد، ثم فيلم «الأنثى» بطولة سعاد حسني، وليست هناك أي إشارة إلى اسم المخرج، الذي سيعمل في هذه الأفلام.
سيف الدين شوكت
أما المخرج الثاني العائد من مصر، فهو سيف الدين شوكت، هو أكثر تنويعًا، وهو لبناني وصل إلى القاهرة عام ١٩٤٨م، أي وهو في الخامسة والثلاثين من العمر، بعد أن درس فنون وحرفيات السينما ببودابست بالمجر. وفيلمه الأول «الناصح» عام ١٩٤٩م منح فرصة البطولة لأول مرة لماجدة، وكانت أمام إسماعيل يس. وفي العام التالي التقى الثلاثة مجددًا في الفيلم الكوميدي «فلفل»، ومن أشهر أفلامه الكوميدية «شمشون ولبلب»، و«إسماعيل يس في جنينة الحيوانات»، وله أفلام مأساوية عديدة، منها: «رجل بلا قلب» ١٩٦٠م، و«زوجة لخمسة رجال». وقد عاد إلى لبنان في أواخر الستينيات، وقام بالعمل هناك في العديد من الأفلام، منها: «طريق بلا نهاية»، والذي تم إنتاجه بين تركيا ولبنان، مما يعني أن المخرج قام دومًا بتنويع إنتاجه؛ فقد عمل في السينما السورية في أفلام هي:
غرام في استانبول | ١٩٦٧م |
عملية الساعة السادسة | ۱۹۷۱م |
مقلب من المكسيك | ۱۹۷۲م |
ذكرى ليلة حب | ۱۹۷۳م |
حسناء وأربع عيون | ١٩٧٥م |
مهمة رسمية | ١٩٧٥م |
الخاطئون | ١٩٧٥م |
القادمون من البحر | ١٩٧٧م |
رجلان وامرأة | ١٩٧٨م |
والجدير بالذكر أن المخرج قد تمَّت إعادة إنتاج فيلمه «طريق بلا نهاية» في مصر عام ١٩٨٠م، من إخراج محمد راضي تحت عنوان «الجحيم»، ولم يتوقف عن العمل في السينما المصرية طوال السبعينيات، ومن المُلاحَظ أنه ظل يبحث دومًا عن جهاتٍ لإنتاج أفلامه من مصر ولبنان وتركيا وسورية، وقد اتَّسمت هذه الأفلام بالتنوع أيضًا، شأن بقية أعماله، إلا أن الكثير من هذه الأفلام ينتمي إلى الدرجة الثالثة؛ فهو أحد الذين دخلوا في سباق الاستفادة من نجاح الثنائي دريد-قلعي، في فيلمه السوري الأول «غرام في استانبول»، وهو فيلم مأخوذ عن رواية بريطانية بعنوان «تزوجت رجلًا ميتًا»، تأليف ريتشارد باريت، ويدور حول الأميرة نازلي، التي تموت دون أن تلتقي بابنتها التي اختفت وهي طفلة، توصي الأميرة — قبل وفاتها — بأن تئُول ثروتها إلى ابنتها. يسعى الورثة إلى تقسيم الثروة بحجة أن الابنة قد ماتت، لكن الابنة تظهر فجأة؛ فتبدأ الأسرة في تدبير المكائد من أجل التخلص منها، أو من أجل عدم وصول الميراث إليها. يقوم رجل طيب بمساعدة الفتاة التي يحبها أحد أفراد الأسرة، دون أن يكون طامعًا في مالها فيتزوجان.
نحن أمام الأفكار نفسها التي قدمتها السينما المصرية دومًا، وبالفعل فإن محمد عبد العزيز قد قدم نفس القصة عام ١٩٨٠م، بعنوان «غاوي مشاكل».
أما فيلم «مقلب من المكسيك» فمأخوذٌ عن قصة ألمانية تأليف كورت جينز، واستعان فيه مجددًا بالثنائي دريد-قلعي مع منى واصف وهالة شوكت، إلى جانب ناهد يسري. ويروي الفيلم قصة رجل متزمت يقف ضد أخته، التي هربت مع رجل تحبه، بعد أن رفض الأخ أن تتزوج من هذا الحبيب، وبسبب الفارق الاجتماعي بين الطرفَين، لكن الأخ يعلم أن الشاب الذي تحبه أخته قد ورث مبلغًا كبيرًا من عمِّه، الذي مات في المكسيك، فيوافق لتوِّه على الزواج، ثم لا يلبث أن يكتشف أن الأمر كله لا يتعدَّى أن يكون مقلبًا.
في تلك الفترة، شهدت السينما اللبنانية، ومن بعدها السينما السورية، حالة من الزحف الجماعي لمخرجين كبار، جاءوا من مصر للعمل في أفلام أقل قيمة مما قدَّموه في بلادهم، لكنها أكثر حرية، فيما يتعلق بالممنوعات الأخلاقية، وعلى رأسها الجنس، لكن السياسة ظلَّت من المحظورات التي يُمنَع تمامًا الاقتراب منها. وكان من أبرز الذين عملوا في الأفلام الروائية السورية في تلك السنوات هم: عاطف سالم، نجدي حافظ، حلمي رفلة، سيد طنطاوي، حسن الصيفي، توفيق صالح، أحمد ضياء الدين، أحمد فؤاد، أحمد ثروت، حسن رضا.
وقد راجت هذه الظاهرة بقوة في لبنان حتى اندلعت الحرب الأهلية في البلاد، فعاد السينمائيون إلى بلادهم، وتوقفت هذه الظاهرة تمامًا عقب توقيع اتفاقيات كامب دافيد. وإن كان الأمر قد اختلف كثيرًا مع الممثلين الذين لم يتوقف عملهم بدرجاتٍ مختلفة.
عاطف سالم
عاطف سالم الذي قدم في بداية حياته العديد من الأفلام المهمة، ومنها: «جعلوني مجرمًا»، «إحنا التلامذة»، «صراع في النيل» و«أم العروسة»، ما لبث أن شهد تدهورًا في مستوى أفلامه؛ ففي أول السبعينيات قدَّم أفلامًا من طراز «بنات في الجامعة» و«شبان هذه الأيام»، وهي الفترة التي استغرق في العمل بين أفلام تدور إما في لبنان، أو سورية ومصر، أو بين الأقطار الثلاثة معًا، مثل الفيلمين الغنائيَّين «زمان يا حب» و«أنا والملكة».
وحسب قائمة الأفلام المعتمَدة في السينما السورية، فإن عاطف سالم قد عمل لحساب القطاع الخاص في الأفلام التالية:
خياط للسيدات | ١٩٦٩م |
الراعية الحسناء | ١٩٧٢م |
زوجتي من الهيبز | ١٩٧٣م |
من الواضح أن عاطف سالم لم يذهب إلى سورية للعمل في أفلامٍ غير مضمونة النجاح التجاري؛ فهو في فيلمين منهم يستعين بنجومية دريد-قلعي، وأن تكون شادية شبه كومبارس في فيلم «خياط للسيدات»، أما فيلم «الراعية الحسناء»، فهو يضع المشهيات الجنسية كافة، التي كان مسموحًا بها في تلك الحقبة في البلاد، ويستعين بذلك بالممثلة ناهد شريف، مثلما استعان بالممثلة اللبنانية، ذات الأصل المصري، جلاديس أبو جودة المعروفة باسم حبيبة في الفيلم الأول.
فيلم «خياط للسيدات» من إنتاج تحسين قوادري، وتوزيع شركته التيكانت بشارع التجهيز بدمشق، وقد كتب القصة والسيناريو والحوار يوسف عوف، وعمل المونتاج حسين عفيفي، وفيما عدا ذلك كان العاملون بالفيلم جميعهم من سورية، حتى عمر الحلبي (مؤلفًا) وسهيل عرفة (ملحنًا) لأغنية الفيلم الرئيسة «يا طيرة طيري يا حمامة».
وتدور قصة الفيلم حول صابر أفندي، الخياط الشعبي التقليدي، الذي لم يعُد يساير الموضة، مما دفع الزبائن إلى الابتعاد عنه، ويؤثر ذلك على زوجته، التي تحاول أن تقدم موديلات جديدة، وتوافق على العرض المقدَّم لها من إحدى المجلات بأن تعمل مصممة للأزياء؛ فيذيع صيتها في دمشق، ويبدأ زوجها في الاقتناع بوجهة نظرها، ويقوم بتطوير عمله.
أما فيلم «زوجتي من الهيبز»، فهو من إنتاج صبحي نوري، ومأخوذ عن الفيلم الأمريكي «الرجل الذي جاء للعشاء ومكث ثلاثة أشهر»، إخراج ويليام كيجلي ١٩٤١م، وقد قامت فيه هويدا بدور البطولة المطلقة لأول مرة. وفي الفيلم جسَّد نهاد دور الموظف الذي يمتلك بيتًا جميلًا، ويَدين بالصداقة لدريد، الذي سبق أن زاره في مدينته وأكرمه، ويأتي الصديق للإقامة لمدة ثلاث ساعات لديه، أو يوم أو ربما ثلاثة أيام، لأن لديه أمورًا مضطرٌّ للمغادرة من أجلها.
لكن الإقامة تطول لما هو أطول من ذلك؛ فهو يتذرَّع بالحجج الواهية للإقامة، ويفكر صاحب الشقة في وسيلة ناجحة، حيث يُخبِر ضيفه الثقيل أنه سوف يتزوج، وأنه في حاجة إلى الشقة خالية كي يقيم مع عروسه، إلا أن الضيف يشن هجومًا معاكسًا، ويقرر البحث عن عملٍ من أجل أن يشارك مضيفه نفقات المعيشة؛ فيعمل بالسياحة، ويأتي له في الشقة بفوجٍ سياحي من الهيبز، يملئُون الشقة بالقاذورات؛ مما يزيد المتاعب لصاحب الشقة. ويقيم الضيف علاقة إحدى بنات الهيبز، ويطلب منها الزواج كي يقيما في الشقة، ويقوما بطرد مالك الشقة المضيف.
يسعى المضيف إلى تدبير المقالب لصديقه وزوجته، التي تأتي ببقية زملائها للعيش في أجواء الحياة الهيبية، وفي النهاية يغادر الرجل شقته تاركًا إياها لصديقه، الذي يملؤها بالصخب.
أما فيلم «الراعية الحسناء»، فقد قامت ببطولته مجموعة من نجوم السينما المصرية، منهم نور الشريف وناهد شريف، وشريفة فاضل والسورية سلوى سعيد، التي عملت في بدايات الستينيات في السينما المصرية، وأدَّت دور خطيبة فؤاد المهندس في فيلم «عيلة زيزي».
ويحكي الفيلم القصة التقليدية للريفية التي تذهب إلى المدينة، وهناك تتعرض للإغراء والعمل في الملاهي الليلية؛ حيث تتعرَّف في المدينة على الشاب الأفَّاق الذي يعرض عليها أن تعمل بهذه الملاهي؛ وما تلبث أن تسقط في الوحل.
نجدي حافظ
في سورية لم يختلف مستوى الأفلام التي عمل بها الكثير من المخرجين عن المستوى الذي عُرفوا به في مصر، وعلى رأسهم نجدي حافظ، الذي قدَّم في مصر أفلامًا من طراز «كيف تسرق مليونير» و«رضا بوند»، و«مطاردة غرامية»، و«ربع دستة أشرار». وفي سورية ولبنان قدَّم أفلامًا من النمط نفسه، منها: «جسر الأشرار»، و«امرأة تسكن وحدها» عام ١٩٧١م، و«شباب في محنة»، و«زواج بالإكراه» ١٩٧٢م، و«شقة للحب» ١٩٧٣م، وهي أعمال الكثير منها مقتبَس من الأفلام الأمريكية، مثل الكثير من أعمال المخرج المصرية، كما أنه أحد الذين استعانوا بالثنائي قلعي-لحام؛ ففيلم «امرأة تسكن وحدها» مأخوذ عن الفيلم الأمريكي «امش لا داعٍ للجري»، إخراج تشارلز والتر عام ١٩٦٦م. حول شاب يعاني من أزمة في السكن فيجد شقة تسكنها فتاة وحدها، ويستأجر منها غرفة ثم يقابل صديقًا له بدون سكن؛ فيؤجِّره الغرفة في ساعاتٍ بعينها لا تتواجد فيها الفتاة؛ مما يخلق العديد من المتاعب والمواقف الكوميدية، خاصة أن الصديق يقع في غرام الفتاة التي تؤجر الشقة باسمها.
وقد استعان في فيلمه «شباب في محنة» بالعديد من النجوم المصريين، ومنهم حسن يوسف ونبيلة عبيد ويوسف فخر الدين، بالإضافة إلى إبراهيم خان ومحمود جبر. وتدور الأحداث حول ثلاثة شباب أصدقاء من طبقات اجتماعية مختلفة، جمعتهم الظروف والمصادفة، لكلٍّ منهم أهواؤه وطموحاته، وإحباطاته، يسعون إلى الاستيلاء على مبلغٍ من المال موجود في منزل أحد الأغنياء، يدبِّرون خطة للتسلل إلى المنزل، ويتمكَّنون من الحصول على المال، ويهربون، لكن تبعًا لطموح كلٍّ منهم، فإنهم يختلفون فيما بينهم ويتقاتلون.
أما فيلم «جسر الأشرار» فإنه يتعامل مجددًا مع نجومٍ من مصر، ومنهم فريد شوقي وناهد شريف، بالإضافة إلى محمود جبر وهالة شوكت، والفيلم مقتبس عن الفيلم الأمريكي «فن الحب» إخراج نورمان جويسون ١٩٦٦م.
والجدير بالذكر أن السينما السورية — وإلى جانبها السينما اللبنانية — قد سبقت السينما المصرية في اقتباس هذه القصص؛ حيث سنرى أنه قد تم الاقتباس في سنواتٍ لاحقة لهذه الأعمال. فالفيلم يدور حول فنان تشكيلي يعاني من التجاهل والعوز، يقنعه صديقه المخلص أن يدَّعي الانتحار؛ وبذلك يكشف للناس عبقريَّته، وتروَّج لوحاته. وبعد اختفاء الفنان يسعى الصديق للاستيلاء على كل ممتلكات الفنان ومجده، وخاصة قلب حبيبته، يقرر الفنان تدبير مجموعة من المقالب لصديقه الخائن حتى يجعله يتراجع عما فعل.
في فيلم «شقة للحب»، يستعين نجدي حافظ بالعديد من نجوم السينما في مصر وسورية، ومنهم محمد عوض، وماجدة الخطيب، ونوال أبو الفتوح ونجوى فؤاد، إلى جوار رفيق السبيعي وزياد مولوي وأنور البابا وأنطوانيت نجيب. ومن الواضح أن مسألة أزمة السكن، حسب هذه الأفلام، قد انتقلت في تلك الفترة من القاهرة إلى دمشق، سينمائيًّا على الأقل؛ فهناك زوجان يتم نقلهما للعمل بدمشق، ويجدان المتاعب في العثور على المسكن الملائم؛ فيقيمان عند بعض الأقرباء، ويعانيان من الطِّباع المختلفة لأصحاب المسكن، ويواصلان رحلة البحث عن شقة مناسبة، وعندما يتم العثور عليها تصل برقية إلى الزوج بأنه تم نقله إلى ليبيا.
كذلك لم تختلف نوعية، أو المستوى الفني للأفلام التي قدَّمها حسن الصيفي، فقدَّم في سورية أفلامًا مثل: «الصديقان» عام ١٩٧٠م، و«ليل الرجال».
يمكن أن نخلص أن المخرجين المصريين راحوا إلى سورية وأعينهم على كلٍّ من دريد لحام ونهاد قلعي في المقام الأول؛ فأغلب الحالات التي أمامنا تؤكد هذه المقولة؛ وذلك من أجل ضمان التوزيع؛ ففيلم «الصديقان» اشتركت في بطولته نجلاء فتحي ونجوى فؤاد، وهو من إنتاج محمد الزوزو، والفيلم اشترك في كتابته كلٌّ من محمد عثمان ونهاد قلعي. ويدور حول أب متزمت يرفض أن تتزوج ابنته من الطيار الشاب الذي يحبها؛ فهو يرى أن عمر هذا الزواج قصير للغاية، وذلك بسبب الأخطار التي يتعرض لها الطيار، ويجد الطيار سُبُل الزواج بحبيبته مقفلة؛ فيدبر مجموعة من الحيل إلى أن يقتنع الأب بأن تتزوج الابنة من الحبيب الطيار.
أما «ليل الرجال» الذي قام ببطولته فريد شوقي وناهد شريف وملك سكر وأديب قدورة؛ فهو من إنتاج الشركة نفسها، ويدور حول فتاة جميلة تقع في حب موظف صغير، ثم تسلِّم له شرفها، وتكتشف أنه غرَّر بها ولا يحبها، وتُصدَم بهجرانه لها. يعلم أخوها بما حدث، ويعرف أن الشاب يطمح إلى تحقيق مكانة اجتماعية أفضل؛ فيقرر الانتقام منه، ويطارده في كل مكان حتى يجعله يدفع الثمن غاليًا.
والقصة، كما نرى، لا تخرج كثيرًا عن القصص التي كان محمد عثمان يكتبها في تلك الآونة في مصر، ويجسدها فريد شوقي، خاصة فيلم «هكذا الأيام» من إخراج عاطف سالم.
حلمي رفلة
ذهب حلمي رفلة إلى سورية في نهاية الستينيات مع كمال الشناوي ونادية لطفي، وسيناريو قديم سبق أن اقتبسه وأخرجه عام ١٩٥٧م بعنوان «المفتش العام»، مأخوذًا عن جوجول، وبطولة إسماعيل يس، وذلك ليلحق بركاب الاستفادة من شعبية الثنائي دريد-قلعي، وليكون الفيلم الجديد بعنوان «الرجل المناسب».
يمكن تقسيم دور إسماعيل يس إلى قسمَين في الفيلم هما دريد لحام ونهاد قلعي، لا مانع.
من الواضح أن أغلب أحداث الفيلم قد تم تصويرها في مصر، وذلك حسب الكتاب الدعائي للفيلم الذي جاء به أن المناظر والطبع والتحميض تمت في استوديوهات المؤسسة المصرية العامة للسينما، كما أن أغلب العاملين تقنيًّا من المصريين بما يؤكد ذلك، كما أن نجوم الصف الثاني كانوا أيضًا من مصر، مثل زوزو شكيب وعبد المنعم بسيوني، وحسين إسماعيل، بالإضافة إلى أن تنسيق المناظر تم بواسطة الفنانة مديحة يسري.
وقد غيَّر رفلة من المكان في السيناريو، فنحن هنا أمام شركة سورية تقوم بإرسال مندوب لها إلى فرع القاهرة لاكتشاف سر الخسائر التي أصابتها، يتخفَّى هذا المندوب في شخصية ساعٍ منقول إلى الفرع. يلاحظ أن هناك قصة حب تتولَّد بين ابنة المدير وموظف العلاقات العامة. يحاول الساعي أن يكشف للفتاة حقيقة الفساد في الشركة، وشيئًا فشيئًا تتحوَّل مشاعر الفتاة إليه. ويتم الإيقاع بالمدير ويتولى المندوب منصب المدير، ويتزوج من الفتاة التي يحبها، وكما سبقت الإشارة فإن رفلة يستجلب لأول مرة الممثلين للعمل بالقاهرة، وهي ظاهرة لم تتكرر كثيرًا في هذه الآونة.
كما لا يمكن تجاهل تجربة أحمد ضياء الدين السينمائية في سورية، وهي فيلم «مسك وعنبر»، وقد جاء المخرج معه من مصر بفيلمٍ مقتبَس، سبق للسينما المصرية أن قدَّمته مرتين، الأولى في بدايتها باسم «الخالة الأمريكية»، والثانية عام ١٩٦٠م باسم «سكر هانم».
في الفيلم السوري نرى الشاب مسك وصديقه يحبَّان فتاتين من بنات العم، ويتصرفان بشكلٍ ساذجٍ، ويدبِّران المقالب، ويتنكر مسك في شكل امرأة كي يقنع عم الفتاة التي يحبها، ووالد الفتاة التي يحبها صديقه بأن العمة الثرية قد عادت من المهجر، ويحدث أن يقع العم في حب المرأة المتنكرة دون أن يعرف الحقيقة، كما أن الخال عنبر يقع أيضًا في غرام المرأة المتنكرة، وتأتي العمة الحقيقية من المهجر فتكتشف أن عنبر هو حبيب الصبا الذي انفصل عنها، ويتزوج منها، وتتكشَّف الحقيقة، ويوافق والدا الفتاتين على أن تتزوجا من مسك وصديقه.
والفيلم الذي أنتجه إلياس حداد قام ببطولته أحمد رمزي ونبيلة عبيد وناهد شريف ومحمد رضا مع فريال كريم، بالطبع من بطولة دريد ونهاد.
يوسف عيسى
في عام ١٩٦٨م، جاء إلى دمشق كاتب السيناريو يوسف عيسى ليجرِّب حظَّه في الإخراج للمرة الأولى، ومعه سيناريو قام بكتابته كاملًا تحت عنوان «اللص الظريف»، وقد وضع في ذهنه أيضًا التعامل في المقام الأول مع الثنائي لحام-قلعي، وقام بإنتاج الفيلم تحسين قوادري، وأُسندَت البطولة إلى نيللي، التي عملت فيما بعد مرارًا في السينما السورية، وشارك في البطولة سامي عطار وهالة شوكت، ومنى واصف وهاني الروماني، وزياد المولوي، وصلاح قصاص وغيرهم، ويروي الفيلم قصة عصفور، الموظف الأمين الذي يتم فصله من وظيفته وهو الموظف المخلص الأمين، وذلك بسبب فساد مديري الشركة، فيفكر في الانتقام من المديرين فيقوم بسرقة أموالهم، ويتمكَّن من الحصول على أوراق تُدينهم وتُثبِت فسادهم، وينجح في الإيقاع بهم الواحد تلو الآخر، وعقب القبض عليهم يعود عصفور إلى وظيفته.
توفيق صالح
أما التجربة التي بدت مختلفة فهي وجود توفيق صالح في سورية، فقدَّم فيلمًا مختلفًا عن التجارب السينمائية المألوفة في تلك المرحلة، فكان في سورية صنوًا له في مصر، وهو يقدم فيلمه «المخدوعون» عام ١٩٧٢م، عن رواية «رجال تحت الشمس» للفلسطيني غسان كنفاني. والغريب أنه نفس عنوان الفيلم الذي اختاره نبيل المالح وزميلاه قيس الزبيدي ومحمد شاهين لفيلمهم الذي تم إخراجه عام ١٩٧٠م.
تبدأ أحداث الفيلم بأبياتٍ من قصيدة للشاعر محمود درويش:
والفيلم لم يختلف في أحداثه عن الرواية، وتدور أحداثه بعيدًا عن فلسطين، وأيضًا بعيدًا عن سورية البلد المنتِج، نحن عند مشارف مدينة البصرة في عام ١٩٥٨م، هناك ثلاثة رجال من فلسطين تم طردهم من معسكرات اللاجئين؛ إنهم يمثِّلون ثلاثة أجيال متعاقبة، وقد عاشوا المأساة بأبعادها كافة، ويودُّون دخول الكويت عن طريق الحدود العراقية، والفيلم بمثابة اجترار للماضي المؤلم والمستقبل القصير المجهول المصير.
يتمثَّل الماضي في وطنٍ سليب، ومعسكر اللاجئين، الذي عانى سكانه من العوز والفقر الشديد وطوابير الإعاشة بالساعات، وزمن كئيب يمر ببطءٍ شديد، دون بارقة أمل واحدة في العودة، بعد مرور عشر سنوات يزداد فيها الحال من سيئ إلى أسوأ. فلما أحس الثلاثة بأنه لا غد في المعسكرات، ولا عودة؛ فإنهم يقررون الرحيل. هؤلاء الثلاثة هم: أبو قيس، وأسعد، ثم مروان. الأول في الأربعين من العمر، عاش نكبة فلسطين منذ بدايتها، وطُرِد أثناء الحرب، وصار مواطنًا في بلاد الخيام، ليس عليه سوى الانتظار بلا جدوى. لقد صار قيس طفلًا واعيًا، وعليه أن يدبِّر له مصاريف التعليم، وهو صاحب الفكرة في التسلُّل إلى الكويت بحثًا عن فرصة الحصول على المال. ويقرر الذهاب إلى البصرة حيث هي مرتكز للتسلُّل غير القانوني عبر الحدود، ويبحث عن دليلٍ يساعده في هذه الرحلة غير المأمونة.
وفي البصرة يتقابل مع رفيقَي رحلة الموت. الثاني أسعد، أصغر سنًّا، طُرد من قريته الرملة وهو ما زال صغيرًا، وهو شاب مطلوب من السلطات الأردنية، التي هرب منها إلى العراق باحثًا عن التسلل إلى بلاد الثروة، إلى الكويت.
أما مروان فهو الأصغر سنًّا، والأقل خبرة، هربت به أسرته من فلسطين وهو طفل، ويود اللحاق بأخيه الذي سبقه إلى الكويت، والذي توقف عن إرسال المال إلى أسرته عقب زواجه في الكويت.
يبحث الثلاثة عن دليلٍ موثوقٍ فيه يساعدهم في العبور إلى الجانب الآخر، وهم يعرفون أن الرحلة غير مأمونة، وأن الأدلة كثيرًا ما تركوا المتسللين يواجهون المصير المجهول في الصحراء القاسية، إلى أن يتقابلوا مع رجل فلسطيني يُدعى أبو الخيزران، يعمل سائق شاحنة لدى أحد أثرياء الكويت.
وبهذه الشخصية، السائق، يضعنا الفيلم أمام مأساة جديدة، فهو أحد شهود النكبة، وقد فقدَ ذكورته عقب انفجار إحدى القنابل في الحرب؛ فصار بلا رجولة مثل الوطن المسلوب، وسافر إلى الكويت من أجل تأمين حياته، بل عليه مساعدة أقران له في السير في المشوار المضمون ذاته، وهو أن يضعهم داخل فنطاس نقل المياه، وأن يغلق عليهم البوابة الحديدية العليا، وأن يعبر الحدود باعتبار أن حرس الجمارك يعرفونه، ويحسب الوقت بدقة حتى يعبر بهم إلى بر الأمان.
إلا أن رجال الجمارك يستوقفون السائق من أجل أن يمازحهم، ويحدِّثونه، وهو الفاقد الرجولة، عن الراقصة التي تعشقه، والتي يذهب من أجلها إلى البصرة، فيضيع الوقت، ويعود إلى السيارة بعد فوات الأوان، ويكون الرجال قد لفظوا أنفاسهم الأخيرة، ولا يجد أمامه سوى أن يرمي بهم في مقلب قمامة العاصمة.
وقد كتب مجيد طوبيا في نشرة نادي سينما القاهرة — ١٦مايو ۱۹۷۳م — أن فيلم «المخدوعون» جاء رائدًا في مجاله، ويكاد يكون الفيلم الروائي الوحيد الذي وصل مستواه إلى مستوى المأساة الفلسطينية، وكما ملأت حدة الحزن العمل الأدبي بشاعرية سوداء باكية مبكية، كذلك جاء الفيلم غنيًّا بشاعرية قاتمة بليغة الألم.
كما كتب أن من حق مؤسسة السينما السورية أن نتقدم إليها بالشكر لإتاحة الفرصة لهذا العمل المتطور للظهور، كما أن من حقهم أن يفخروا بالجائزة التي نالها الفيلم في مهرجان قرطاج.
والفيلم لا يفصل بين حاضر هؤلاء الرجال وماضيهم؛ فوراء كلٍّ منهم حالة من البؤس والنضال والمعاناة، وقد أدان الفيلم الهروب من الوطن والبحث عن الثروة، أو فلنقل المَخرج بالهرب بعيدًا عن الوطن المنكسر.
وقد استخدم المُخرج الأسلوب التسجيلي في إعلاء الخطاب السياسي للفيلم، وهو الذي رفض تجويف الرواية من معناها الحقيقي وارتباطها بالقضية الفلسطينية حين أرادت مؤسسة السينما في مصر أن تُبعد الهُوية الفلسطينية عن الحدوتة عندما أراد توفيق صالح أن يُخرِج الرواية في مصر، لكن الجانب التسجيلي راح يُدين الرجعية العربية التي تواطأت مع القوى الاستعمارية القديمة في ضياع فلسطين، خاصة الحكام الذين عاصروا القضية، وعلى رأسهم الملك فاروق، ونوري السعيد وإيدن، ودالاس، والملك حسين. ويقول علي أبو شادي، في مقاله عن الفيلم المنشور في كتابه «كلاسيكيات السينما العربية»:
«جاءت صورة أبي الخيزران، وما تحمله من إشارة إلى القيادات الفلسطينية، العقيمة، التي اعتمدت على سياسة «الكلمات والحكي»، حادة، وفجة بعض الشيء، رغم ما تحمله الشخصية ذاتها من جوانب إنسانية، ونجاح السيناريو في تبرير سلوكها المريض؛ فالرجل فقدَ الوطن والرجولة، وتحوَّل إلى وحشِ نَهِم إلى المال، حتى لو كان الثمن حياة الآخرين.»
نحن أمام مجموعة أشخاص لهم جذورهم، ومعاناتهم، فأبو قيس وراءه أسرة يجب أن يصرف عليها، والفتى مروان يرسل خطابًا إلى أمه وهو جالس إلى شط العرب، قبل أن تبدأ الرحلة عبر صحراء ملتهبة بالشمس والبترول والحلم بالخروج من الأزمة. فالفتى يشرح في الخطاب كيف يتفهَّم موقف الأب، ويراه ضحية للواقع الأليم الذي حلَّ بالوطن، وأثناء كتابة الخطاب يتذكر لحظة الوداع مع الأب؛ حيث يندفع كلٌّ من الأب وابنه إلى العناق الحار، كأن كلًّا منهما لا يود أن ينفصل عن الآخر لآخر مرة دون أن يدريا. وأثناء كتابة الخطاب يتغلَّب الصبي مروان على دمعته الجافة، ويستمر في كتابة خطابه الأخير دون أن يدري تلك الحقيقة.
وفي هذا الفيلم ينقلنا توفيق صالح — كما كتب إبراهيم الدسوقي — إلى ذلك الموت البطيء بعذابات الحاضر المستمرة، ومرارة الماضي التي تدفعهم لاجتياز الممنوع. وهذا التمزُّق والقلق الذي يجوس بداخلهم، مدفوعين بالعوز المادي؛ فهم بلا وطن ولا جوازات سفر، ولا أوراق رسمية، لكنهم يدفعون الثمن في النهاية؛ حيث الموت ينتظرهم داخل الصهريج، يموتون اختناقًا أثناء عبورهم صحراء جهنم إلى أرض الأحلام … إلى الجنة الموعودة ليصلوا جثثًا لا أمل لها.
نحن أمام فيلم منقول دون تصرُّف بالمرة عن الرواية المكتوبة، ولم يكن هناك حاجة إلى أن يغيِّر المخرج شيئًا فكأنما الرواية فيلمٌ جاهزٌ مثلما فعل توفيق صالح مع الروايات الأخرى التي أخرجها عن نصوصٍ أدبية، ومنها «يوميات نائب في الأرياف»، و«زقاق السيد البلطي»، كما أحسن توفيق صالح بأن أخرج الفيلم في مؤسسة السينما السورية؛ فلو كان قد قدمه في مصر لاضطُر إلى إضافة العنصر النسائي، ولجعله أكبر حجمًا من أجل تخفيف حدة القسوة التي تتسم بها نوعية الحياة التي عاشها الأبطال في الخيام، ثم في المدن العراقية، وفي الصحراء الحدودية، دون بارقة أملٍ واحدة، خاصة في مشهد النهاية، ولعل إخراج الفيلم لدى مؤسسة لا تسعى إلى الربحية المباشرة قد أعطى للمخرج كافة الفرص لعدم الخروج عن الرواية.