من خارج سورية
أغلب صُناع الأفلام في هذه المرحلة لم يكونوا من السوريين، بل جاء أغلبهم من خارج سورية، سواء من البلاد العربية المجاورة، أو من الدول الشرقية في تلك الآونة، خاصة يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي. وسوف نتوقف في هذا الفصل عند الذين جاءوا من البلاد المجاوِرة للعمل في السينما السورية، ولو تصفَّحنا هذه المرحلة بتدقيقٍ سوف نرى أن هناك أسماء بعينها عُرفَت بغزارة إنتاجها، دون أن نأخذ في الحسبان القيمة الفنية لهذه الأفلام التي قدَّمتها أسماء مثل:
فيصل الياسري | العراق |
سمير الغصيني | لبنان |
جورج نصر | لبنان |
قيس الزبيدي | العراق |
برهان علوية | لبنان |
محمد سلمان | لبنان |
أنطوان ريمي | لبنان |
فيصل الياسري مخرج عراقي، عمل بين سورية والعراق، والغريب أنه بدأ كمخرجٍ للأفلام الروائية في سورية، فقد قدَّم فيلمه الأول «الرجل» عام ١٩٧٠م، ثم قدَّم أفلامه التالية «هاوي مشاكل»، و«حب وكاراتيه» و«غراميات خاصة جدًّا» عام ١٩٧٤م، ثم «عشَّاق على الطريق» عام ١٩٧٧م، وهي أفلام مختلفة تمامًا، في النوع والقيمة، عن تلك التي أخرجها في العراق أثناء حرب الخليج الأولى، ومنها «النهر» ۱۹۷۸م، «القناص» ۱۹۸۰م، «بابل حبيبتي» ١٩٨٨م، وغيرها.
كتب الياسري أغلب أفلامه بنفسه، وفي فيلمه «حب وكاراتيه» استعان بالممثل زياد مولوي في فيلمٍ من إنتاجه، ووقفت أمامه الممثلة المصرية مديحة كامل، مع عمر حجو ولينا الباتع وخالد تاجا، ونحن أمام عمل تجاري بطيء الإيقاع بشكلٍ ملحوظ: حول فتاة جميلة تتعرض للمضايقات بسبب جمالها، تُخطَب إلى شاب مسالم، لا يؤمن بالعنف، لكن الفتاة تتعرَّض للعديد من المتاعب، ويكاد أحد الشباب أن يمس شرف الفتاة؛ لذا فإن الشاب لا يجد مفرًّا من البحث عن مخرجٍ مأمون من أجل الحفاظ على حبه، فيتعلَّم الكاراتيه، وينتقم ممن مسُّوا حبيبته.
وفي فيلمه «غراميات خاصة جدًّا» استعان بسيناريو كتبه فيصل ندا، وقامت بالبطولة ناهد شريف مع عمر خورشيد وياسين بقوش وناجي جبر ونجاح حفيظ وعبد الله فتحي. والفيلم يحاول أيضًا مناقشة مسألة ضعف المرأة في المجتمع الشرقي، فهناك فتاة ورثت عن أبيها مصنعه الذي يعاني من العديد من المتاعب المالية، وتجد نفسها أمام تحدياتٍ عديدة، منها عدم خبرتها الحياتية وكونها امرأة، وطمع الآخرين فيها، ورغم هذه التحديات فإنها تحمل المسئولية وتقع في قصة حب، فتتغيَّر في مواقفها، وتصبح أكثر إحساسًا بالمسئولية.
أما فيلمه «عشاق على الطريق» فإنه كتبه بنفسه، واستعان بنجوم السينما السورية أمثال رفيق السبيعي، وجلاديس أبو جودة، وناجي جبر.
لسنا أمام أعمال مهمة لهذا المخرج، وقد نظر إلى الأفلام بنفس المنظور التجاري للسينمائيين المصريين الذين تعاملوا باستخفافٍ ملحوظٍ في أفلامهم التي أخرجوها في أرض الشام. وينطبق ذلك أيضًا على المخرج اللبناني سمير الغصيني، وهو أحد أغزر السينمائيين اللبنانيين في السبعينيات إنتاجًا.
قدَّم الغصيني في سورية الأفلام التالية:
زواج بالإكراه | ۱۹۷۳م |
شروال وميني جيب | ۱۹۷۳م |
نساء للشتاء | ١٩٧٤م |
ساعي البريد | ۱۹۷۷م |
سمك بلا حسك | ۱۹۷۷م |
وكما نرى فإنها أفلام خفيفة، كوميدية، والبعض منها لم يكتمل؛ حيث يقال إن نور الشريف، بطل فيلم «زواج بالإكراه» لم يكمل دوره في هذا الفيلم، وقد استعان به المخرج مراتٍ عديدة في سورية ولبنان على التوالي؛ فهو في فيلم «شروال وميني جيب» يقوم بدور شاب يقع في غرام فتاة، ويكتشف أن حبيبته تحب أيضًا أخاه، يموت الأخ في ظروفٍ غامضة، وتظل الفتاة متعلقة به، ولا تصدِّق أنه قد مات، ولا يجد الأخ أمامه سوى أن ينتحل شخصية أخيه، ويدفعها إلى كراهيته، وأن تتعلَّق بأخيه، وبالفعل ينجح في هذه المهمة.
وفي فيلم «نساء للشتاء» يكتب الغصيني القصة، ويترك السيناريو لمحسن السمراني، وهو فيلم كوميدي، ينتمي إلى مجموعة أعمالٍ عن شخصية أبو صياح التي جسَّدها على المسرح وفي السينما الممثل رفيق السبيعي. وهنا نرى أبو صياح، وهو هنا أقرب إلى القبضاي، يسافر من دمشق إلى لبنان، بلد المخرج بحثًا عن فرصة لتوسيع أعماله التجارية، وفي بيروت يلتقي مع فريق عملٍ سينمائي، ويفكر في إنتاج فيلم للفرقة، خاصة بعد أن أعجبته إحدى الممثلات في الفرقة، التي تجد في الفيلم فرصة لتكون بطلة للمرة الأولى، وتكتشف الممثلة أن «أبو صياح» رجلٌ بالغ الطيبة، وأن الفيلم لا يتعدى أن يكون مشروعًا وهميًّا، وأن الرجل سوف يخسر أمواله التي جاء لاستثمارها في بيروت، خاصة أنه ليست لديه أي خبرة خاصة بهذا النوع من العمل؛ فتطلب منه العودة إلى دمشق بعد أن تكشف له مخاطر العمل بفيلمٍ وهمي، حتى وإن كان يحبها.
المخرج هنا، لم يجد صعوبة كبيرة في أن ينتج فيلمًا سوريًّا في لبنان؛ أي أنه لم يكن مثل المصريين الذين جاءوا من مصر للعمل في أفلام سورية الحدوتة والموضوع.
ولم تكن هذه سِمة غالبة على أفلام المخرج؛ ففي فيلمه التالي «ساعي البريد» يروي قصة أسرة سورية لم تنجب سوى البنات، يحاول الأب اختيار العريس لبناته اللواتي حان الوقت لزواجهن، ولأنه رجل متزمت، لا يؤمن بالحب، فإنه يدقق في اختيار العريس المناسب لكلٍّ منهن حسب مفهومه هو، وليس حسب مشاعر البنات؛ مما يولِّد العديد من المشاكل، حتى يمتثل الأب في النهاية لمشاعر البنات.
وفي فيلمه «سمك بلا حسك» يعمل مع دريد لحام دون أن يكون هناك نصفه الثاني، نهاد قلعي، بل يقدم صباح جزائري بديلًا عنه، وقد كتب المخرج الفيلم، وشارك في إنتاجه مع الممثل اللبناني شوقي متَّى، وفيه نرى قرية ساحلية على البحر المتوسط، لا تختلف كثيرًا إذا كانت لبنانية أو سورية. هناك اثنان من الصيادين، تربطهما صداقة عميقة منذ الطفولة، لكنهما يقعان في غرام المرأة نفسها، ويحاولان التقرُّب إليها، ويسعى كلٌّ منهما لتدبير المقالب ضد الآخر من أجل الفوز بقلب المرأة.
وللمرة الأولى في أفلام الغصيني لا يستعين بممثلين من مصر، ويقدِّم المطرب اللبناني الجديد وليد توفيق بطلًا في الفيلم، إلى جانب الممثلين الرئيسيين. وقد جاء في مجلة «الشبكة» في مقالٍ عن سينما ١٩٧٧م أن «ساعي البريد» سعى لخلق النوع الغنائي في سينما اعتمدت على الكوميديا في كل خطواتها، تقريبًا، غير أن الغناء لم ينبع من الأحداث، ورغم ألحان جيدة قدَّمها صوت وليد توفيق الجيد الأداء، وبالمقابل ارتبك الموضوع، وهو ما يطرح مشكلة اختيار الأهل أزواجًا لبناتهم، وما تفرزه من خطورة.
«غير أن وليد توفيق كممثلٍ معقولٍ في فيلم آخر أخرجه الغصيني «سمك بلا حسك»، لم يقدمه كمطربٍ، ودوره محوري أساسي، ويحتاج إلى جهد، ولا بد أن تهيمن كوميديا دريد لحام على «سمك …» وهو يقف أمام الكاميرا وحده بلا نهاد. وهنا تكاثرت المشاهد الخاصة بالكوميديا، فهو تركيبة تجارية مهمة، بينما الموضوع تعرض للاختصار حتى فقدت وجهات نظره.»
لم يقترب محمد سلمان من السينما السورية إلا في فترة متأخرة من حياته؛ فهو الذي شهد فترة ازدهار ملحوظة عقب عودته إلى بلاده في نهاية الخمسينيات؛ فكان المخرج الأكثر إنتاجًا وتواجدًا في ساحة الأفلام، وفي عام ١٩٧٤م، أي بعد ستة عشر عامًا من العودة، اجتاز المسافة القصيرة بين بيروت ودمشق؛ وقدَّم هناك ثلاثة أفلام هي:
صابحة فاتنة الصحراء | ١٩٧٤م |
عروس من دمشق | ١٩٧٥م |
فارس بني عبس | ١٩٧٧م |
وحسب دليل الفيلم العربي في القرن العشرين، فهذه أفلام إنتاج مشترك بين كل من سورية ولبنان، أي أن سلمان لم يعبر الحدود إلا من أجل تمويل أفلام جديدة في فترة المتاعب الملحوظة في لبنان بسبب الحرب، ويذهب هذا الأمر أيضًا إلى أنطوان ريمي صاحب فيلم «شاطئ الحب» عام ١٩٧٧م.
اختلفت تجربة المخرج قيس الزبيدي في سورية عن قرينه العراقي فيصل الياسري؛ فقد ابتعد قيس عن السينما التجارية، وعمل مباشرة مع المؤسسة العامة للسينما، سواء في إخراج أفلام تسجيلية، أو في عمل أفلام قصيرة روائية، أو في فيلمه الروائي «اليازرلي» عام ١٩٧٤م.
ومن المعروف أن الزبيدي قد عمل في سورية في البداية كمونتير، ومن أفلامه المهمة في عمل المونتاج «السكين» لخالد حمادة عام ١٩٧٢م.
وحسب البيانات التي تُنشَر عن المخرج فإنه من أهم مخرجي السينما التسجيلية في العالم العربي، وهو مونتير ومصور، ومن أفلامه التسجيلية «بعيدًا عن الوطن»، أما فيلمه «اليازرلي» فمأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب حنَّا مينا، الروائي السوري الذي تعاملت معه السينما السورية أكثر من غيره.
شارك في بطولة الفيلم كلٌّ من: نادية أرسلان، ومنى واصف، وعبد الرحمن آل رشي، وأحمد عداس، وعصام عبه جي، وأكرم العابد. ويتعرض الفيلم للعلاقات الاجتماعية من خلال رؤية صبي للعالم من حوله خاصة رؤيته للعديد من النماذج الاجتماعية، النموذج الأول يتمثَّل في رئيسه في العمل، إنه اليازرلي، رجل يحب الحياة، يملؤه الطموح، يعمل في الميناء كرئيسٍ للعمال، يدافع عن حقوقهم، وهو رجل بلا أسرة، تكاد تكون حياته خالية من التجارب العاطفية، يتعرَّف على امرأة جميلة تُسمَّى صبحية، هي محور اهتمام الرجال في المكان، ومن الصعب الإمساك بها، في نموذج للأنوثة الطاغية.
أما الرجل الثاني فهو الصبي نفسه، إنه كائن شقي، فقير، يعيش طفولة مهملة مليئة بالفوضى، والثالث رجل مجنون فقدَ الانتماء إلى المجتمع من حوله. وهناك في هذا الميناء تعيش أيضًا أسرة الصبي التي غاب عنها عائلها؛ فهربت الابنة الكبرى، وتُركت الأم وسط ظروف شديدة الصعوبة، تعاني هموم الحياة وتدبير القوت، وعلى ابنها الوحيد الصغير أن يعمل فيلتحق بالعمال في الميناء.
وحسب المصادر المتعددة، فإن الفيلم أثار الكثيرَ من الجدل حوله، وظل لعدة سنوات حبيس العلب، لا يخرج إلى الناس إلا إلى العروض الخاصة بالنقاد والمهتمين، حيث إن التجريب الملحوظ في إخراجه قد أكسبه الكثير من الغموض واللغط، وسط موجة من الأفلام التجارية التي ساعدت في نسيانه إداريًّا لفترة طويلة.
أما الزبيدي نفسه فيقول: «إن الشكل الأدبي لهذا الفيلم الروائي يتمسَّك بالكثير من المبادئ التي تستطيع أن تعطي لهذا العمل جمالية خالصة، وذلك بقدرتنا على ترسيخ تقليدٍ سينمائي في مجابهة الواقع، وعكْس مشاكله بصدقٍ فني، فإن هذا يؤدي إلى إنضاج عملية المشاهدة لدى الجماهير. إن الفيلم التسجيلي سيبرهن على إمكانية نقل الواقع على الشاشة، وجعل عملية المشاهدة — على الرغم من ذلك — عملية جمالية ممتعة، وهذا ما عجزت السينما الروائية عن تحقيقه بشكلٍ عميقٍ حتى الآن …» (المرجع منشور الفن السابع في العدد الخامس ١٩٨١م، الإسكندرية).
المخرج جورج نصر هو واحد من علامات السينما في لبنان، وهو مخرج قليل العمل، وسوف تبقى أفلامه علامة في هذه السينما، ومنها «إلى أين» ١٩٥٧م و«الغريب الصغير» ١٩٦٢م، وقد اتجه إلى سورية للعمل هناك عام ۱۹۷۳م؛ فقدَّم فيلمه «المطلوب رجل واحد»، وهو واحد من الأفلام القليلة التي أنتجتها نقابة السينما في سورية، والذي تحدَّث عنه في مجلة «فن» اللبنانية قائلًا: «عُرض الفيلم في سورية، ولقي نجاحًا ملفتًا، وبالتعبير الدارج «كسَّر الدنيا»، لكننا لم نتمكن من عرضه في لبنان لأن الأحداث أو حرب السنتين كانت قد بدأت.»
الأحداث تدور في بيئة ريفية؛ حيث بقايا الإقطاع، فنشاط القرية بأكملها تسيطر عليه أسرة إقطاعية قديمة، تحاول إثارة الفرقة دومًا بين أهل القرية، من أجل أن تظل السيطرة بين أيديها، إلى أن يتعاون أهل القرية معًا حين يبدأ النزاع بين الإقطاعيين وإحدى الأسر حول ملكية شجرة قائمة بين قطعتَي أرض تملكها كلٌّ منهما، ويحتدم الصراع قويًّا، ويموت شخص في الصراع فتستغله الأسرة الإقطاعية بقوة، ويدور صراع مسلح بين الإقطاعيين وسكان القرية، ويموت رب الأسرة الإقطاعية، ويسعى الابن الأكبر إلى تسوية الخلافات بعد أن استوعب أن العنف لن يفيد؛ ويعلن عن إنهاء الصراع الحاد بين الأطراف.
وفي كتابه عن السينما السورية أكد جان ألكسان أن الأسماء التي منحها المخرج لأفراد الأسرة الإقطاعية لها مدلولٌ ما؛ فهي أقرب إلى اليهودية، ويقول كلامًا يخالف ما ذكره المخرج؛ حيث إن: «هذا الفيلم لم يكن متميزًا، كما أكد أكثر النقاد الذين كتبوا عنه.»
أما التجربة التي تستحق الوقوف عندها فهي تجربة المخرج برهان علوية وفيلمه «كفر قاسم» المنتَج عام ١٩٧٤م من قِبَل مؤسسة السينما بالاشتراك مع المؤسسة العربية للسينما ببيروت.
وعلوية مولود في الجنوب اللبناني عام ١٩٤١م، درس السينما في بروكسل، وتخرج عام ١٩٧٣م، وكان قد أخرج فيلمًا قصيرًا في العام ١٩٧١م، بعنوان «ملصق ضد ملصق»، وقد عمل في العديد من الأفلام القصيرة والتسجيلية، ومنها: «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (تسجيلي طويل، ۱۹۷۸م)، و«رسالة من زمن الحرب» (تسجيلي طويل، ۱۹۸۱م)، و«رسالة من زمن المنفى» (تسجيلي طويل، ١٩٨٥م)، و«السد العالي» (تسجيلي طويل، ۱۹۹۰م)، و«خسوف في ليلة مظلمة» (روائي قصير، ۱۹۹۲م).
أما تجربته مع السينما الروائية فتتمثَّل في الفيلم السوري «كفر قاسم» عام ١٩٧٤م، ثم الفيلم اللبناني «بيروت اللقاء» عام ١٩٨١م.
استعان المخرج في فيلمه الأول بالكثير من نجوم السينما السورية، منهم سليم صبري، وعبد الرحمن آل رشي، وعبد الله عباسي، وشارلوت رشدي، وأحمد أيوب، وشفيق المنفلوطي، وزينة حنا، وانتصار شمة، كما استعان بطاقمٍ من الفنيين الفرنسيين والبلجيك في عمل المونتاج والتصوير.
وقد جاء في الكتاب الإعلامي للفيلم مقدمة يهمنا الرجوع إليها:
«لقد روَّجت المؤسسات التي سيطرت على السينما منذ نشأتها نوعًا من السينما التجارية المتخلفة جدًّا، وذلك بحجة الترفيه عن المتفرجين من نهار عملٍ مضنٍ مليء بالمشاكل والمتاعب.
وقد عمَّمت هذه المؤسسات أفكارها وشعاراتها حول السينما ودورها، ورسخت أفكارًا بين المتفرجين وبين صانعي الأفلام، تقول إنه لا علاقة للسينما بالسياسة، وإن علاقة السينما بالمتفرجين هي علاقة فن وترفيه خارج كل صراع، وخارج كل أزمة، وإن السينما وسيلة لنسيان المشاكل والتحليق فوقها.
إن قسمًا كبيرًا من المتفرجين ومن السينمائيين دافع ولا يزال يدافع عن هذه الأفكار.
إن أوقات وسينما الأحلام والنسيان في الصالة المظلمة يسهِّل قبول علاقات الاستغلال والقهر.
وهكذا، وتحت شعار «لا سياسة في السينما» لعبت هذه السينما دورًا سياسيًّا واضحًا في ترويض المتفرجين وتحذيرهم، وفي دفعهم للقبول ببؤسهم الممتزج بالأحلام.
ومنذ مدة برز سينمائيون عرب يطرحون السياسة بشكلٍ مباشرٍ في أفلامهم، متصدِّين بذلك لمشكلتين في آنٍ واحد:
- أولًا: الإجهاز على المسلَّمات التي تقول إنه لا علاقة للسينما بالسياسة، وهو الشعار التاريخي لتجار السينما التجارية.
- ثانيًا: دفع العلاقات السياسية باتجاه مصلحة المتفرجين.»
وأعتقد أن ما جاء في كتاب مؤلِّف هذه السطور «الفيلم السياسي في مصر» خير دليلٍ لتفنيد ما قاله المخرج في هذه الكلمة الحماسية، وأن هذا لا يقلل بالمرة من أهمية الفيلم الذي نتحدث عنه؛ فهو من أهم الأعمال التي قدَّمها مخرجون عرب غير فلسطينيين عن القضية الفلسطينية، إلى أن ظهر جيلٌ من السينمائيين الفلسطينيين قاموا بنقل القضية إلى العالم كله من خلال أفلامهم، ومنهم ميشيل خليفي، ورشيد مشهراوي، وإيليا سليمان.
وفي فيلم «كفر قاسم» يحاول المخرج، الذي استفاد من رؤيته التسجيلية، إحياء مذبحة كفر قاسم، التي قامت بها القوات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل ضمن مئات المذابح المثيلة، والأكثر بشاعة.
ففي السادس والعشرين من يوليو عام ١٩٥٦م أعلن الرئيس عبد الناصر تأميم قناة السويس، وفي فلسطين المحتلة، وفي مقهى أبو أحمد على ساحة قرية كفر قاسم يستمع بعض الأهالي إلى الخطاب.
والفيلم يتتبَّع الحياة الفلسطينية طوال هذه الفترة الحرجة التي تتربص بها القوات الإسرائيلية شرًّا بالعرب، وفي الخفاء يتم إعداد تحالف فرنسي بريطاني إسرائيلي للهجوم على مصر.
وفي ليلة التاسع والعشرين من أكتوبر، تقوم هذه القوات بالهجوم على مصر، وفي نفس الوقت تدور مذبحة كبرى في كفر قاسم. ويقدم الفيلم مجموعة من النماذج البشرية في القرية قبيل المذبحة، ومنهم رجاء، سمسار العمال الذي يقوم باستئجار العمال من القرية متعاونًا مع العمدة (المختار)، كي يعملوا لدى رب العمل الصهيوني. وهناك أيضًا سليم أفندي القادم من يافا ليكون رسول الحاكم العسكري، وهناك أيضًا أبو مرعي الذي سيغادر أرضه التي ستُعطَى للمستوطنين الجُدد القادمين من أوروبا والقارة الأمريكية وأفريقيا.
كما أن هناك أم سعد رمز اللجوء والتشرد، وهناك محمد فريح القادم من تل أبيب. في هذه الليلة يصدر القرار بقذف أهالي القرية ورميهم بالرصاص العشوائي الذي يحصدهم في واحدة من المجازر الوحشية الإسرائيلية.
وقد اختار الكاتب أن تبدأ حكايته قبل ثلاثة أيام من المجزرة؛ ليستعرض شخصياته التي أشرنا إليها؛ فالعلاقات متشعبة، منها علاقة السكان بالمحتل الإسرائيلي، وعلاقاتهم فيما بينهم، ووقائع هذه الحياة تبدو أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة، والمخرج يصوِّر أبناء القرية وقد صارت لهم عقلية سياسية؛ فهم ينتظرون دومًا خطاب الرئيس عبد الناصر، إنه خطاب يمنحهم الأمل دومًا، لكن أي أملٍ وسط الاحتلال، الذي زهق كل هذه الأرواح برصاصاتٍ قليلة؟
حدث أن أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي أمره بمنع التجول في القرية، في الوقت الذي لم يكن يعرف بالأمر العمال والفلاحون الذين كانوا يمارسون أعمالهم لدى السلطات الإسرائيلية، أو في الحقول، وعندما رجعوا إلى قريتهم لم يكونوا على علمٍ بما ينتظرهم من مصيرٍ دموي، ومات في هذه المذبحة الجماعية سبعة وأربعون قتيلًا من مختلف الأعمار.
هذا الفيلم، الذي كشف وحشية العدو الصهيوني، استطاع أن يكشف، كما جاء في كتاب «الفيلم السياسي في السينما السورية»، إعداد محمد عبد الوهاب الحسيني، القناع عن الدعاية الصهيونية الكاذبة والمضللة، وتمكَّن من إحداث ضجة كبرى في أوروبا، حينما تم عرضه في باريس؛ حيث تمكَّن من الوصول إلى الرأي العام العالمي، والتأثير فيه، نتيجة لطرحه الموضوعي والتوثيقي، وللغته السينمائية البارعة. وقد نال الفيلم الجائزة الذهبية في «أيام قرطاج» السينمائية عام ١٩٧٤م، مناصفة مع الفيلم الموريتاني «أولئك العبيد الزنوج جيرانكم» للمخرج الموريتاني محمد عبيد هوندو، هذا بالإضافة إلى جائزتَين أخريَين في مهرجان قرطاج.
أما إبراهيم الدسوقي فقد كتب عن الفيلم في «الفن السابع»، العدد الخامس، ۱۹۸۱م: «برهان علوية يتعدَّى التأثيرات العاطفية عند تقديمه لتلك المجزرة كي يصل إلى قلب المأساة. وبشكلٍ بارد يجعل المَشاهِد أكثر دموية، ومن خلالها يقدِّم اتهامًا عقلانيًّا وموضوعيًّا لهؤلاء السفاحين، وهو لم يلتزم بقوانين البناء الدرامي عند كتابة السيناريو، على الرغم من التزامه الصراحة في عرضه للمجزرة الدامية، دون أن ينزلق في نزعة ميلودرامية، بل إنه يجنح إلى القالب الروائي كي يصل في النهاية إلى كسره من خلال الشكل التسجيلي ليقدم المضمون الفكري من خلال هذه العلاقة، ولإيصاله إلى جماهيره.»
لم تقتصر تجربة إسناد القيام بإخراج الأفلام السورية في تلك الآونة إلى مخرجين من العرب الذين جاءوا من خارج سورية، بل أُسند الإخراج لمخرجين من المعسكر الشرقي، سواء في القطاع الخاص أو العام، مثل الفيلم السوري اللبناني «عاريات بلا خطيئة»، إنتاج عام ١٩٦٦م. أما أول فيلم يُنسَب إلى مؤسسة السينما السورية فقد كان من إخراج اليوغسلافي بوشكوفوتشينيتش وهو بعنوان «سائق الشاحنة» عام ١٩٦٧م.
وقد جاء في المعلومات الصحفية المنشورة دومًا في دليل الأفلام التي أنتجتها المؤسسة أن هذا المخرج اليوغسلافي سبق أن قدم خبرته للسينما في وزارة الثقافة، أخرج أول فيلم قصير تنتجه الوزارة عام ١٩٦٠م، ثم أتبعه بعدة أفلام قصيرة، استدعته المؤسسة العامة للسينما لتولي إخراج أول فيلم سوري طويل ينتجه القطاع العام السينمائي، وهو «سائق الشاحنة»، وقد ساعد في تحقيقه مجموعة من المساعدين المحليين لاكتساب تجربة عملية في العمل السينمائي.
الفيلم قامت ببطولته مجموعة من الممثلين السوريين، على رأسهم صبري عياد، وهالة شوكت، وعبد اللطيف فتحي، وخالد تاجا، وابتسام جبري.
الفيلم يدور بين منطقة السائقين الذين يعملون في مواقف الشاحنات التي تنتقل بين المدن السورية، وخارجها، وهناك الشاب المكافح فريد الذي يقرر الهجرة خارج قريته؛ من أجل البحث عن فرصة للعمل في المدينة، لقد ترك القرية التي تربى فيها ومن ورائه قصة حب مع ابنة العم وردة، في البداية يتمكن من الحصول على وظيفة مساعد سائق شاحنة يملكها أبو فيصل، الذي يقف إلى جواره، ويساعده في تأجير شقة يسكن بها، من أجل أن يسهل له دروب الحياة في المدينة، ويدفعه طموحه لأن يكون هو سائقًا، ويعيش صراعًا يمزِّقه بين حبه للفتاة وردة التي أحبها في قريته، وعرفانه بجميل صاحب الشاحنة أبو فيصل الذي يود أن يزوِّجه إحدى بناته الأربع، وهو الرجل الأرمل؛ تجد الابنة زينب في فريد شابًّا جادًّا ومناسبًا كي يكون زوجًا لها.
زينب هي كبرى شقيقاتها الأربع، وهي فتاة حزينة، منغلقة على نفسها. وبوجود فريد على مقربة منها فإنها تُقبِل على الحياة، لكن فريد لا يعيرها أي اهتمام، ويضع كل اهتمامه في عمله، والانتقال من وظيفة مساعد سائق، إلى أن يصير سائق شاحنة.
يدور صراع حول لقمة العيش بين سائقي الشاحنات الذين يعانون من استغلال أصحابها، ويطالبون بزيادة الأجور، ويواصل فريد الاستذكار من أجل الحصول على رخصة قيادة، وشهادة، وبالفعل فإن صاحب الشاحنات يقوم بتعيينه رئيسًا للسائقين؛ لكن فريد يرفض في البداية حتى لا يسقط بين براثن المستغل؛ إلا أن أبو فيصل يقنعه أن يقبل الوظيفة.
يعرف فريد من مساعده حسن أن جدَّه يمتلك في اللاذقية مقبرة من السيارات القديمة، ويذهب فريد إلى اللاذقية بهدف تسليم زوجة أسعد بيه، صاحب الشاحنات باقة محمَّلة بالهدايا. هذه المرأة سرعان ما تقع في هوى فريد، وتحاول إغواءه، ويقنعها فريد أن يأتي إليها بابنة عمِّه وردة لتعمل خادمة، وتكون هناك فرصة كي يلتقي بها.
يبدأ فريد في البحث عن سيارة قديمة صالحة للعمل وسط مقبرة السيارات؛ من أجل أن يصبح سائق شاحنة ومالكًا لها، في الوقت نفسه، ويختار سيارة يقوم بإصلاحها مع مساعده حسن، وذات يوم يقوم السائقون بالإضراب احتجاجًا على استغلال أسعد بيه، إنهم يطالبون بتأمين الشيخوخة، بينما يقنع أبو أسعد الشاب فريد بأن يقوم بنقل شحنة مهمة، ويدفع له الأجر مضاعفًا، ويوافق السائق آملًا أن يكون هذا المبلغ كافيًا كي يساعده في شراء الشاحنة الصغيرة. وفي طريق العودة من اللاذقية يعترضه السائقون، ويقومون بضربه بشكلٍ مبرح، دون أن يتمكَّن أبو فيصل من الدفاع عنه؛ ورغم ذلك فإن فريد يتقدَّم لخطبة زينب.
هذا التحوُّل في المشاعر يصدم ابنة العم وردة، التي تعمل لدى الزوجة؛ فتغادر اللاذقية، وتعود إلى دارها في حلب، لكن الشاب ما يلبث أن يتغيَّر، وينضم إلى الإضراب الذي يقوم به العمال، ويذهب إلى اللاذقية بحثًا عن وردة، ويعرف من زوجة أسعد بيه أنها غادرت إلى مدينتها، ويسرع بحثًا عنها في الطريق ويعثر عليها، ويحاول إقناعها بالعودة إليه، لكنها لا تقبل ذلك بسهولة.
كتب فريد المزاوي في النشرة السنوية باللغة الفرنسية — العدد الصادر عام ١٩٧٠م من الدليل السنوي للأفلام المصرية — أننا أمام فيلم واقعي مؤثر، قام بإخراجه مخرج يوغسلافي يعمل لأول مرة في السينما السورية، وأن هذا الفيلم عُرِض في العديد من المهرجانات العالمية؛ كارلو فيفاري، وقرطاج.
وأشار المزاوي إلى أن أجمل ما في الفيلم هو طاقم الممثلين، خاصة الأداء النسائي الذي جسَّدته كلٌّ من ابتسام جبري في دور وردة، وهالة شوكت، أما صلاح دهني فقد كتب غداة العرض الأول للفيلم — انظر المقال منشورًا في العدد الأول من مجلة «الحياة السينمائية» — قائلًا:
«لا يُنتظَر من أحدٍ أن يقول عنه إنه تحفة أفلام الموسم، ولا حتى تحفة الأفلام العربية، إنه — في بساطة — فيلم عربي صُنِع على مستوًى من الذكاء والجدية، بعيدًا عن فكرة التزلُّف والتمرُّغ تحت أقدام الجمهور الذي يدفع، الجمهور الذي يطرب له شباك التذاكر، وهو بهذا فيلم طليعي له أهميته اليوم، وسيكون له شأنه في تاريخ السينما في هذا القطر.
فمع «سائق الشاحنة» لا يشهد جمهورنا الواعي بداية السينما التي بدأت منذ أربعين عامًا بالضبط، مع بدايات السينما المصرية، لم تتمكَّن حتى يومنا هذا من التمركز كقطاعٍ صناعي ذي شأن، ولم يتمكَّن الرأسمال الخاص أن يقيم في هذا القطر استوديو، ولا مخبرًا ولا ملاكًا مدربًا، وما يزال يعتمد في جُل وأهم عملياته التقنية والفنية على خارج القطر، كما لم يتمكن أي فيلم من الخروج — ولو جزئيًّا — على القواعد التجارية المتداولة.
وعلى ذلك «سائق الشاحنة» يمثِّل عيدًا مزدوجًا للسينما العربية في سورية؛ ففيه ينزل ميدان بناء السينما عندنا منتجٌ جديدٌ وقوي، هو القطاع العام، ومعه تبدأ مرحلة جديدة في نوعية الأفلام المنتَجة، هي الأفلام ذات المحتوى الفكري الإيجابي، التي تعالج قضية وتظل على مستوًى — من الجدية — لم تعرفه السينما عندنا قَط. ولعل هذه الناحية الأخيرة بالذات هي التي لفتت أنظار أوروبا إلى «سائق الشاحنة»، حين قررت بعض دولها شراء حقوق الفيلم.»
ويقول دهني في مكانٍ آخر من المقال عن مكانة الفيلم:
«والميزة المهمة ﻟ «سائق الشاحنة» إذن، هي في أنه لم يجعل من الفيلم المصري التقليدي إمامًا له، بل لقد التفتَ إلى أفضل تقاليد السينما الكفاحية في العالم، وأخذ بها؛ وعلى ذلك، فبالنسبة للأفلام العربية، يمكن أن يقال إنه شقَّ طرقًا خاصة به، قد تلتقي مع أفضل ما أنتجته السينما الواقعية في مصر، وما تحاول توكيده في الإنتاج الجديد. على ذلك لا يكون فيلمًا قد بدأ من حيث بدأت السينما المصرية — شأن السينما في لبنان — بل من حيث انتهت.»