الفصل الرابع

أفلام سورية الهُوية

شارك الكثير من السينمائيين السوريين في عمل الأفلام التجارية في تلك الحقبة، كان على رأسهم المخرج رضا ميسر، ومعه أسماء أخرى منها:

  • جورج لطفي الخوري

  • محمد شاهين

  • خالد حمادة

  • مروان عكاوي

  • بشير صافية

رضا ميسر

على سبيل المثال ظل وجود رضا ميسر، المولود في حلب، مرتبطًا لسنواتٍ طويلة بظاهرة انتشار الفيلم التجاري السوري، الذي يعكف القطاع الخاص على إنتاجه، وهذه الأفلام هي:

الفلسطيني الثائر ١٩٦٩م
عودة حميدو ۱۹۷۱م
بنات آخر زمن ۱۹۷۳م
هاوي مشاكل ١٩٧٤م
الغجرية العاشقة ١٩٧٤م
امرأة من نار ١٩٧٤م
بنات للحب ١٩٧٤م

رضا ميسر واحد من العديد من المخرجين الذين أخرجوا بين سورية ولبنان العديدَ من أفلام النضال الفدائي الفلسطيني، في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات؛ تدعيمًا لإعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية وكفاحها المسلح. وفي سورية تم إنتاج فيلمَين في شركات القطاع الخاص هما «الفلسطيني الثائر» لرضا ميسر، و«ثلاث عمليات داخل فلسطين» لعبد الرحمن الكيالي، وهناك أفلام أخرى، لكن المُلاحَظ أن المستوى الفني لهذه الأفلام لم يكن على قدر الكفاح المسلَّح؛ ففشلت هذه الأفلام تجاريًّا، وهاجمها النقاد، لدرجة أن عبد الفتاح الفيشاوي لم يجد كلماتٍ يكتبها عن الفيلم في مجلة «الكواكب» إلا عن بطل الفيلم غسَّان مطر، فأشار أنه هو الذي كتب السيناريو والقصة للفيلمَين اللذين قام ببطولتهما، وهما «كلنا فدائيون»، و«الفلسطيني الثائر». وقد جاء في مقال له، ضمن العديد من المقالات التي تناولت النضال العسكري الفلسطيني: «وقرر غسَّان مطر أن يعود مرة ثانية إلى الكاميرا؛ فعكف على تأليف قصة «الفلسطيني الثائر»، واشترك في إعداد السيناريو، وأخذ يبحث عن موزِّع، عن مموِّل، ولكنه وجد إعراضًا نتيجة لتأثير الحادث الأول (المقصود هنا أن انفجارًا قد تم أثناء العمل بفيلم «كلنا فدائيون»، ومات عشرون شخصًا، منهم المخرج غاري غرابيديان).

وفجأة ظهر في عمان، ومعه المخرج رضا ميسر وقافلة من السينمائيين؛ تطوعوا لأداء هذا العمل الوطني.»

أما الفيلم الثاني الذي قدَّمه رضا ميسر؛ فقد كان العاملون به من السوريين، خاصة في مجال التمثيل؛ ومنهم سليم كلاس، وفهد كعيكاتي وناجي جبر. والفيلم الذي كتبه المخرج يدور في أحد الأحياء الشعبية بدمشق، حين يعود ابن الحي حميدو من رحلة غربة طويلة، وذلك من أجل مواجهة عصابة تحاول فرض سيطرتها الدائمة على الحارة، وتبدأ معهم مواجهات دامية ومؤامرات؛ لكن الغائب ينجح في النهاية في التخلص منهم، وإعادة الهدوء إلى المكان الذي قرر الاستقرار به.

أما فيلم «امرأة من نار» فقد كتبه كالعادة، وهو من أفلام المغامرات أيضًا، ويدور حول شاب يتعرض لعملية قتل من طرف مجموعة خارجة عن القانون، إلا أن فتاة تركية تقوم بإنقاذه، وتبلغه أن هذه العصابة اختطفت شقيقه سعيًا وراء الحصول على شحنة من العقاقير المخدِّرة. ويعرف الشاب أن الفتاة التركية تسعى للانتقام من هذه العصابة التي قتلت شقيقها عن طريق المخدرات، ويسافر الاثنان معًا إلى إسطنبول من أجل مواجهة العصابة، ويتمكَّن الشاب من إنقاذ أخيه، ويكتشف أن الفتاة التركية ليست سوى ضابط شرطة، ويتزوجان.

ويدور فيلم «بنات للحب» على شاطئ اللاذقية، وهو من إنتاج عادل قوادري، وتمثيل نيللي وأحمد رمزي وإغراء، وزياد مولوي ومها الصالح ونبيلة النابلسي ومحمد رضا، وأديب قدورة. والأحداث تبدأ حين يقوم زياد وصديقه زقزوق بانتظار الباخرة التي تقل نوال خطيبة زياد وناهد خطيبة زقزوق القادمتَين من القاهرة، وأثناء وجودهما في الميناء يلتقيان بالمعلم رضا صاحب أسطولٍ لصيد سمك حضر لاستقبال ابنته سناء. ويدعو المعلم رضا الجميع لقضاء فترة راحة في المصيف الذي يملكه، وهناك يكتشف الضيوف أن المعلم يعاني من المتاعب مع عماله بسبب الأجور، ويعرفون أن سكرتير المعلم نذير هو الذي يبث الفرقة بين الطرفَين للحفاظ على مكانته، خاصةً عند أحمد رئيس العمال، الذي يدعو الصيادين للإضراب عن العمل، ويعلنون أنهم لن يعودوا إلى العمل إلا بعد تلبية طلباتهم، وتقرر الابنة سناء أن تتدخل لحسم هذه المواجهة، وتتولد بينها وبين رئيس الصيادين قصة حب، وتكتشف مؤامرات نذير، لكن المعلم لا يقتنع بأن نذير يلعب ضده؛ مما يخلق المشكلات بين أحمد وسناء؛ باعتبار أنها لم تنفِّذ وعدها، وفي النهاية تُحسَم المشاكل عقب المواجهة الدامية بين أحمد ونذير.

خالد حمادة

المخرج السوري الثاني هو خالد حمادة الذي ينتمي إلى المدرسة الفرنسية ضمن الذين درسوا السينما في فرنسا وبلجيكا، وأصل دراسته في التصوير، لكنه اتجه أولًا لإخراج الأفلام التسجيلية والقصيرة، وفي مجال السينما الروائية قدَّم فيلمَين مختلفَين تمامًا في التقنية والموضوع والتوجُّه؛ الأول من إنتاج مؤسسة السينما هو «السكين» عام ١٩٧٢م، المأخوذ عن رواية، والثاني من إنتاج القطاع الخاص بعنوان «الحب الحرام» عام ١٩٧٧م.

وُلِد خالد حمادة في دمشق عام ١٩٣٠م، وقد سافر إلى باريس في البداية من أجل دراسة الهندسة، وعاد إلى بلاده عام ١٩٥١م، ثم عاد إلى فرنسا بعد عامٍ لدراسة السينما، وتخرج في المعهد الوطني بباريس عام ١٩٥٥م، وهو أحد الرواد الذين حرصوا على إدخال السينما إلى سورية بشكلٍ علمي، وأحد الذين أوصوا بتأسيس مؤسسة للسينما في سورية، وقد تولَّى العديد من الوظائف العليا في مؤسسة السينما.

فيلمه الأول «السكين» مأخوذ عن رواية «ما تبقى لكم» لغسَّان كنفاني، وقد روى حسان أبو غنيمة في مجلة «السينما والمسرح» القاهرية قائلًا: «كانت قصة «رجال في الشمس» قد أسرتني من أول قراءة لها، وكتبت السيناريو لها حتى صورت بعض مشاهدها عام ١٩٦٣م، وكان من المفروض أن يلعب الفنان الراحل صبري عيَّاد دور أبو الخيزران، إلا أن ظروف التليفزيون وبعض العقبات الإدارية حالت دون متابعتي العمل فيه، حتى في المؤسسة لم تلقَ القصة الصدى المطلوب لأسبابٍ سياسية؛ إلى أن أتيح لتوفيق صالح إخراجها عام ١٩٧٢م.

في عام ١٩٦٤م أخرجتُ أول فيلم وثائقي عن المأساة «نعم فلسطين عربية» أدحض بالوثائق التاريخية والصور والأرقام، زيف الادعاءات الإسرائيلية، وعمليات التقسيم الجائر.

وفي عام ١٩٧٠م قرأت «ما تبقى لكم»، قرأتها بوجلٍ، وتركتها شهورًا ثم عدت إليها، إن عمل فيلم سينمائي عنها كان يتطلَّب جرأة؛ فهي ليست بالرواية السهلة، إنها مليئة بالرموز والأفكار.»

وفي هذا الفيلم، مثلما في رواية «رجال تحت الشمس» هناك أكثر من شخصية تدور معًا في علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية، نحن هنا أمام ثلاث شخصيات محورية، هي: حامد، ومريم، وزكريا.

الأول شاب حالم يُصدَم في بداية حياته عندما يكتشف أن هناك علاقة عشق بين أخته مريم وبين زكريا الذي يتعاون مع رجال الاحتلال الإسرائيلي، وأمام هذه الصدمة يقرر حامد الذهاب إلى أمه التي تقيم في الضفة الغربية؛ فيترك مقر إقامته في غزة إلى حيث تعيش أمه منذ عام النكبة، ١٩٤٨م، وخلال مسيرته في الصحراء يلتقي بجندي إسرائيلي ضائع.

كتب الدكتور رفيق الصبان في مجلة «الكواكب» أن المخرج أراد أن يستفيد من دروس السينما الجديدة «خاصة آلان رينيه»، وأن يتذكر أورسون ويلز في أفلامه الأولى، فملأ فيلمه بالتذكُّر والعودة إلى الماضي، بشكلٍ متعاقبٍ عفوي، يعتمد على المنطق الزمني، قدر اعتماده على المنطق العاطفي.

ولكن هذه الطريقة الصعبة التي تدل — بصورة ما — على اجتهاد المخرج ووعيه قد أحالت الفيلم إلى مجموعة غير مترابطة من المَشاهِد يصعب على المتفرج البسيط فهمها؛ وبالتالي متابعتها.

كما أن إحساس المخرج الجمالي بالصورة قد جعله يهمل تأسيس الصراع بين أبطاله تأسيسًا جيدًا ومقنعًا، أضف إلى ذلك سوء الديكور الداخلي والاصطناع الواضح في أداء الممثلين، وانعدام إحساسهم الدرامي بأصواتهم (الكل يتكلم بنغمة واحدة وارتفاع واحد)، مما جعلنا لا نستطيع أن ننفذ إلى أعماق نفوس الشخصيات التي تتحرك أمامنا، رغم إحساسنا الدائم بأنها شيء منَّا، وأنها تمثِّلنا في مرحلة ما من مراحل حياتنا؛ إن كلًّا منا يمكنه أن يكون هذا الشاب الذي يحلم بالهرب إلى عالمٍ تتحقق فيه كرامته، أو هذه الفتاة التي لم تستطع أن تهرب من قيد جسدها إلا بالدم.

ولكن، رغم التحفظ البارد الذي أحسست به تجاه سكين خالد حمادة فإنني لا أملك إلا أن أحيِّي مَشاهد سينمائية أطل فيها المخرج بكل إشراق، وسكت فيها الممثلون تمامًا، «كمشهد جنازة الأب الميت من خلال عينَي ابنه الطفل، أو هذا المشهد المُثقل بالكآبة والحنين، والذي نرى فيه البطلة تقف فجرًا أمام نافذتها يعصرها القلق؛ لتراقب بعينيها عربة متثاقلة يجرُّها حصان، تسير نحو هدف غير معلوم.»

وقد ردَّ المخرج على النقاد الذين رأَوا أن جماليات الفيلم أبعدته عن مضمونه قائلًا: «هذه وجهة نظر لا أستطيع أن أنفيها أو أؤكدها، باعتقادي أن اهتمامي بالشكل والصورة لم يخرج عن المضمون. قد يكون في الفيلم تجديدٌ بالشكل مخالف لما تعوَّدنا عليه في الكثير من الأفلام العربية السائدة، إن الجو الناصع البياض النظيف في بيت زكريا يبدو للبعض أنه اهتمام بالشكل والصورة، إلا أنه في الحقيقة، وكما فهم البعض الآخر، النقيض للقذارة الداخلية والخيانة التي اتسمت بها شخصية زكريا، ومريم حتى ثورتها.»

قامت ببطولة الفيلم سهير المرشدي إلى جانب رفيق سبيعي، وبسَّام لطفي وناجي جبر.

أما فيلمه الروائي الثاني فهو «الحب الحرام» الذي أنتجته شركة أبو سعدة فيلم، وقامت ببطولته زبيدة ثروت وأديب قدورة، وسلوى سعيد، وطلحت حمدي، ويوسف شويري وعدد من الممثلين، وفيه قامت زبيدة ثروت بدور فتاة مصابة بعقدة نفسية؛ فهي قليلة الكلام، وهي تعيش مع الأم في بيتٍ ريفي قريب من الجبل، الزوج رجل غني، تذهب الأم بابنتها إلى الطبيب النفسي الذي يتولى علاجها على جلساتٍ متعددة، ويتمكَّن من استخراج ذكرياتها من عقلها الباطن، ويكتشف أن زوج الأم كان يشتهي الفتاة، ويحاول التلصص عليها، وقام بالهجوم عليها بغية النيل منها؛ فأخذت تجري في الصحراء تصرخ، ولم تعُد إلى وعيها إلا على يدَي الطبيب، وتنتهي الأحداث بقيام الفتاة بقتل زوج الأم من أجل أن يتخلص الجميع من شروره.

في حديثه السابق الإشارة إليه إلى الناقد الأردني حسَّان غنيمة في مجلة «السينما والمسرح»، مارس ١٩٧٦م، قال المخرج: «تجربة القطاع الخاص السوري مؤلمة وقاسية للبعض، وهي مقبولة للبعض الآخر، والأمر يختلف باختلاف الأفكار، والنوايا التي يحددها المنتِج. إجمالًا، في القطاع الخاص، غاية المنتِج الربح، والربح السريع، وقد أتاحت الظروف، وخاصة قانون حصر استيراد الأفلام بالمؤسسة العامة للسينما، إعطاء بعض المميزات للفيلم السوري في أن ينطلق إنتاجيًّا كالأخطبوط، وبشكلٍ مُرض، ويحقق أرباحًا دفعت الكثيرين، ممن لا يملكون الخبرة ولا النوايا الطيبة، إلى ولوج ميدان الإنتاج. وسعت الدولة، عن طريق مراقبة النصوص، للوقوف أمام هذا التيار الخطر على مستقبل الجماهير الثقافي، وعلى السينما نفسها، إلا أن تجربة المراقبة، وفي كل بلاد العالم السينمائية لم تكن مثمرة، ولم تؤدِّ إلى أية نتيجة، لا بد من قانون سينمائي ينظم الإنتاج والتوزيع والاستثمار، وأن يسعى هذا القانون إلى تشجيع الجيد والهادف من أفلام القطاع الخاص، والحد من الغث والتافه منها.»

«بالنسبة إلى فيلم «الحب الحرام» سعيتُ جاهدًا للتخلص من بعض الشوائب التي تتصف بها أكثر أفلام القطاع الخاص، صحيح أنني لم أُوفَّق تمامًا لأسبابٍ كثيرة، بعضها خارج عن قدرتي وإمكاناتي كمسئولٍ عن الفيلم، إلا أن المستوى كان نظيفًا ومقبولًا.»

جورج لطفي الخوري

أما المخرج جورج لطفي الخوري القادم من عالم التصوير، والذي لم يترك الكاميرا قَط كمصور، فقد قام بإخراج فيلمَين هما:

أموت مرتين وأحبك ١٩٧٦م
الصحفية الحسناء ١٩٧٧م

والغريب أنه في حوار أجرته معه ديانا جبور عام ١٩٩٥م في مجلة «فن» قال «إن الإخراج ليس هدفي؛ فالتصاقي بالكاميرا حميم وأزلي، لكنها الرغبة في أن أقدِّم عملًا يترجم إحساسي بالكامل.» والخوري هو أقدم وأهم مدير تصوير في السينما السورية؛ قام بالتصوير في أكثر من ستين فيلمًا لدى القطاع الخاص والعام، كما عمل في الكثير من البرامج التليفزيونية، ومنها برنامج «لا تفهمونا غلط».

بدأ الخوري حياته هاويًا للرسم والتصوير الفوتوغرافي، وكان صلاح دهني أول من اكتشف قدراته؛ فعمل على تعيينه مصورًا بالمؤسسة العامة للسينما في بداية تأسيسها، وتحمَّس له المخرج اليوغسلافي بوشكو فوتشينيتش، فأسند إليه تصوير فيلم «سائق الشاحنة» عام ١٩٦٧م، وحسب القائمة فإن عدساته كانت وراء أفلام مهمة منها: «صهيل الجهات» و«صعود المطر»، والغريب أن الحديث المذكور قد خلا تمامًا من رأي له حول فيلمَيه اللذين قام بإخراجهما.

الفيلم الأول «أموت مرتين وأحبك»، مأخوذ عن رواية كتبها عبد العزيز هلال تحت عنوان «من يحب الفقر»، وقد قام بالتصوير إلى جانب الإخراج، أما السيناريو فكتبته بطلة الفيلم إغراء، التي كتبت له فيلمَيه، وقد شاركها البطولة هنا ناجي جبر وعمر خورشيد وعبد اللطيف فتحي، ونجاح حفيظ.

يروي الفيلم قصة زوجين فقيرين، ينتميان إلى الوسط الشعبي، يتسللان إلى شقة أحد الأثرياء، مستغلين فرصة غيابه بغرض قضاء ليلة من ليالي النعيم، بعيدًا عن الفقر، في وسطٍ أرستقراطي، لكن الشرطة تضبطهما، وتعاملهما على أنهما لصَّان، ولكن بسبب جمال الزوجة، يقرر الثري صاحب الدار أن يتنازل عن اتهامهما بالسرقة، ويخطط لإغواء الزوجة مستغلًّا حاجتها إلى المال، وبالفعل فإنها تقع في الخطيئة؛ مما يدفع بالزوج إلى أن يقتلها انتقامًا لشرفه.

أما الفيلم الثاني فقد عُرض في العام ١٩٧٧م، والبطولة قام بها المطرب اللبناني سمير يزبك في دور صحفي فنان يعطي عواطفه لصحفية تبحث عن خبطات المهنة، وتحاول إثبات أن المرأة قادرة على البروز عمليًّا، وتتفوق على رجالٍ كثيرين، وهي تهرع باتجاه الحدث، والمطرب هنا يقوم بالغناء في إحدى الدورات الرياضية؛ لذا فهو في حاجة إلى الخبطة التي ستقوم بها هذه الصحفية.

والغريب أن جورج لطفي الخوري لم يذكر تجاربه السينمائية كمخرجٍ في الحديث الذي أدلى به إلى ديانا جبور في مجلة «فن»، كما أن المحررة لم تذكِّره قَط بهذه التجربة، لكنها ذكَّرته بأنه عمل في أفلامٍ متدنية كمصورٍ؛ فقال «هذا صحيح، فتركيزي في الموضوع والنص بدأ في الفترة الأخيرة، أما في السابق، فكان أكثر ما يهمني هو الاستحواذ على متعة التصوير نفسها، وهي متعة خالصة لا تضاهيها متعة. كنت أفرح لمجرد أنني سأصوِّر وأثبت نفسي، كما أنني أخاف الصدأ إن انقطعت عن العمل. لم أكن أشعر بنفسي إلا وأنا قُرب الكاميرا، وإلى الآن، ومهما كنت منهكًا، مهما كان يوم التصوير شاقًّا، أتشوَّق إلى لحظة أصفو فيها إلى نفسي لأستعيد، وبمتعة فائقة، ما صورته خلال اليوم.»

إذن، فجورج لطفي الخوري قد تعامل مع الإخراج من واقع الرغبة في ذلك، أي أنه أراد أن يمارس الأمرَين معًا، وذلك أسوة بالكثير من الذين انتقلوا في تلك الفترة من أعمال تقنية عديدة إلى الإخراج، مثل المونتير مروان عكاوي، صاحب فيلم «زواج على الطريقة المحلية»، وهو فيلم هزلي قام بالبطولة فيه أبو صياح وأبو عنتر، مع وليد توفيق وناجي جبر، والفيلم يروي قصة ثلاثة أشخاص يدور بينهم العديد من المواجهات في إحدى الحارات الشعبية، الأول تحسين الذي يرى في الحب لهوًا وتسلية، أما الثاني سمير فإنه يحب فتاة صغيرة، ويقوم بالاصطدام بفتاة صغيرة، جميلة، مما يدفع عمُّها للاعتقاد أن سمير يحاول التحرش بابنة أخيه، فتحدث المواجهات، وفي النهاية يتفهَّم العم نوايا سمير ويزوِّجه من ابنة أخيه.

محمد شاهين

المخرج الوحيد الذي استطاع أن يوازن بين السينما التجارية الشعبية من إنتاج القطاع الخاص، والسينما التي تتضمن قِيَمًا فنية عالية، سواء في القطاع الخاص، أو في أفلامه التي أخرجها للمؤسسة، هو محمد شاهين، وهو المخرج الأكثر غزارة في السينما السورية على الإطلاق، منذ أن أخرج فيلمه الأول عام ١٩٧٣م، ففي هذا العام وحده قدَّم شاهين ثلاثة أفلام هي: «خيمة كراكوز» و«راقصة على الجراح»، و«وجه آخر للحب».

وقبل التوقُّف عند أفلامه يمكن أن نرصد مجموعة من السِّمات التي تجمع أفلامه:

  • تباينت المستويات الفنية للمخرج حسب الفيلم والسيناريو، فهو المخرج الذي تعامل بشكلٍ مكثفٍ مع كلٍّ من القطاعَين الخاص والعام، في أكثر من عشرين فيلمًا، وقد نجد له فيلمًا مهمًّا للغاية مثل «آه يا بحر» إلى جوار فيلم تجاري تتباين قيمته مثل «سائقة التاكسي».

  • نحن أمام مخرج مؤلف، فهو كاتب سيناريو لأغلب أفلامه، أي أن الفيلم ينتسب إليه في المقام الأول، وقد استعان في القليل من حالاتٍ بكُتَّاب آخرين يشاركونه، لكنه لم ينفِّذ فيلمًا كتبه آخر بمفرده، إلا في حالات قليلة للغاية؛ إنه مخرج صاحب رؤية لأفلامه، مهما تباينت المستويات الفنية لهذه الأفلام.

محمد شاهين ليس فقط صاحب أكبر رصيد سينمائي كمخرج، في سورية، بل هو أيضًا المخرج الوحيد الذي اقتبس من الروايات الأدبية السورية، ومنها أكثر من عملٍ للكاتب حنَّا مينا، الذي لم يسبق أن تم الالتفات إليه كثيرًا في هذه السينما، رغم أهمية أعماله وتنوعها، فهو نجيب محفوظ الأدب في سورية، ومن الواضح أن الكثير من السينمائيين المعاصرين في سورية قد ابتعدوا بشكلٍ واضحٍ عن الأدب، وقدَّموا سِيَرهم الذاتية.

اتَّسمت أفلام محمد شاهين بظاهرة يجب الوقوف عندها، وهي استعانته في كل مراحله بنجومٍ ونجماتٍ بأعينهم، حيث كان يتكرر ظهور «إغراء» في أفلامه الأولى في السبعينيات، وظلت تعمل معه لفترة طويلة، ثم عمل مع زوجته منى واصف بشكلٍ متقطعٍ، مما يؤكد أنه لم يفرضها إلا في أدوار تناسب مراحل تحوُّلها العمري، وفي النصف الثاني تعاون مع بطلته المفضَّلة غادة الشمعة، التي اكتشفها أيضًا حسام الدين مصطفى في أفلام الحركة في مصر، كما أعطى الممثلة الشابة رنا جمول أكثر من فرصة للعمل في أدوارٍ عديدة في أفلامه التي أخرجها في التسعينيات.

يمكن اعتبار أن محمد شاهين أقرب في مكانته في السينما السورية بمكانة حسام الدين مصطفى، سواء من حيث تباين مستويات أفلامه التجارية، وأن كلًّا منهما يكون في أحسن حالاته وهو يقتبس من الأدب العربي أو العالمي، حسام عمل في قصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي، وإحسان عبد القدوس، وشاهين عمل في روايات حنا مينا وسعد الله ونوس، ومحمد إبراهيم العلي.

محمد شاهين، كتب السيناريو والقصة، وأخرج الفيلم التسجيلي والروائي القصير، وله حتى الآن تسعة عشر فيلمًا، حصل على العديد من الدورات التدريبية السينمائية في فرنسا، وقد عمل خلال فترات التدريب مساعد مخرج للعديد من المخرجين الفرنسيين؛ منهم هنري كولبي، وروبير جيز، وقد أخرج فيلمه الروائي القصير «زهرة من المدينة» عام ١٩٦٥م، ثم قدَّم فيلمًا روائيًّا قصيرًا آخر عام ١٩٧٠م، ضمن الثلاثية الفيلمية التي عنونت «رجال تحت الشمس»، وهو الفيلم الذي أخرج قصتَيه الأخريين نبيل المالح، ومروان مؤذن.

عمل شاهين في الإخراج المسرحي والتليفزيوني قبل أن يتفرغ للعمل في المؤسسة العامة للسينما، كما أنجز العديد من الأعمال التسجيلية.

الفيلم الأول للمخرج «رجال تحت الشمس» كتبه المخرج حول شاب خجول متردد يرتدي ثوب الشجاعة أمام تلاميذه، ومن أجل التخلص من هذا الخجل فإنه يوافق على القيام بمهمة فدائية، بدلًا من أخيه، وبالفعل فإنه ينجح في هذه المهمة.

أما الأفلام الثلاثة التي أخرجها في العام ١٩٧٣م فإن «راقصة على الجراح»، الذي كتبه كالعادة، قد استعان فيه بنجومٍ من السينما السورية، وذلك على غير عادة المخرجين في تلك الآونة ومنهم: إغراء ويوسف حنا، ومحمود جبر وليز سركسيان، ومحمد صالحية، وعلي الرواس، ومظهر الحكيم، والوجه الجديد ناجي جبر. وتحكي القصة حول راقصة تتعرَّف إلى طبيب في عيادته، ويتحابان دون أن يعلم الرجل شيئًا عن طبيعة مهنتها، وحين يكتشف أنها تعمل في كباريه يحاول النظر إليها بعين موضوعية وإنسانية، معاكِسة للنظرة الاجتماعية، لكنه يكتشف أن النظرة انتقلت من الناس تجاه الراقصة إليه، باعتبار أنه رجل عام يتعامل مع مرضاه؛ فلا يستطيع المُضي قُدُمًا في العلاقة معها، ويتخلَّى عنها لتعيش وحيدة معذَّبة، إلى أن تتعرض لحادثة تكاد تودي بحياتها، وهنا يلتقي الاثنان من جديدٍ؛ فيقرر ألا يفارقها بعد ذلك.

أما فيلمه الآخر «وجه آخر للحب»؛ ففيه يقدم طبيبًا آخر جسَّده أيضًا الممثل نفسه: يوسف حنا، بالاشتراك مع إغراء، ومنى واصف، التي صارت زوجة للمخرج، وهاني الروماني، وقد شارك كلٌّ من الأديب بدر الدين عرودكي وخلدون الشمعة المخرج في كتابة السيناريو.

وقبل الحديث عن قصة الفيلم فإنه — كما سبقت الإشارة — أكثر المخرجين في سورية تعاملًا مع الأدب السوري الحديث، وسوف نرى ذلك في أعماله اللاحقة بشكلٍ ملحوظ، أما قصة الفيلم فإن الطبيب هنا صغير السن، تخرَّج حديثًا في كلية الطب، وقد امتلأ بالطموح والأمل أن ينجح في حياته، يحلم أن يبدأ مشواره في بلدته الصغيرة، بهدوءٍ وثباتٍ ينسجمان مع نفسه وأصالته، أو أن يسافر إلى بلدٍ آخر لتحقيق الحلم المادي المنشود. وبالفعل يقرر السفر إلى خارج سورية، وفي الغربة يكتشف كم أنه جاء إلى واقعٍ شديد القسوة «فهناك تنمو قصة حب بين إحدى الممرضات وبينه، كما تحبه إحدى المريضات؛ مما يُولِّد الغيرة بين الاثنتين، تحدث جريمة تموت فيه إحدى الاثنتين فتتجه الاتهامات إليه.»

الفيلم التالي يؤكد شغف المخرج بالعمل في النصوص الأدبية؛ فهو يستمد من مسرحية «مغامرة رأس المملوك جابر» سيناريو فيلمه «المغامرة»، الذي كتب له السيناريو بالمشاركة مع قيس الزبيدي، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، بطولة أغلب طاقم العمل في فيلمه السابق، ومنهم إغراء ومنى واصف كضيفة شرف، ومعهما أسامة الروماني، وسلوى سعيد، وهاني الروماني، وأحمد عداس، وأسعد فضة، ورياض نحاس.

ويروي الفيلم قصة المملوك جابر، أحد أتباع وزير بغداد محمد العلقمي، وهو شاب ذكي وطموح ومرِح، يسخِّر ذكاءه ليصعد إلى أعلى المراتب، ويبحث عن طريقة يستفيد بها من الخلاف القائم على السلطة بين سيده وزير بغداد والخليفة ليحقق طموحاته.

وحين يعلم أن الوزير بحاجة ملحَّة لإخراج رسالة مهمة وخطيرة من بغداد، بعد أن أغلق حراس الخليفة أبوابها، وشدَّدوا من إجراءات التفتيش، يتفتق ذهنه عن حيلة بارعة لنقل هذه الرسالة مقابل الحصول على مكافأة سخية من الوزير، بالإضافة إلى تزويجه من الجارية التي يحبها، زمردة؛ حيث تتم كتابة الرسالة على رأسه، ويتم الانتظار إلى أن ينمو شعره.

وبعد العديد من المتاعب يصل المملوك جابر إلى الخليفة العدو، الذي يقرأ الرسالة المدوَّنة على رأس المملوك، والتي تطالبه بقطع رأس المملوك عقب القراءة. بالفعل فإن المملوك يتم قطع رأسه، ويدفع بذلك ثمن ولائه لخائن، ويأتي الجنود، بناء على ما جاء في الرسالة، وينقذون بغداد، ويثور الشعب على الحاكم.

نحن أمام مستوًى سينمائي مختلف تمامًا عن الأفلام التي أخرجها في العام الفائت؛ فهناك نص مسرحي لكاتبٍ موهوبٍ صاحب رؤية متميزة، وبالتالي فإن المخرج يكون في أحسن حالاته، والجدير بالذكر أن المخرج لم يعمل في ذلك العام إلا في فيلمٍ واحدٍ هو «المغامرة»، ولم يعُد للإخراج إلا عام ١٩٧٧م، مع فيلم تجاري آخر هو «لا تقولي وداعًا للأمس»، والذي استعان فيه مجددًا بالنجمة إغراء، ومعها أسامة خلقي وعمر خورشيد، ونبيلة كرم. ويحكي الفيلم، الذي كتبه المخرج، قصة رجل يحب بكل قواه امرأة نبيلة تبادله الحب، دون أن يتمكَّن من مكاشفتها بما به من نقائص وعيوب، وعجز، وسط مجتمع لا يعرف الرحمة، مملوء بالخطايا والمشكلات، لكنه لا يمكن أن يغفر للآخر خطاياه.

وبعد عام ١٩٧٧م توقف شاهين عن الإخراج، وعمل في تلك الفترة مسئولًا في المؤسسة العامة للسينما. وعن هذه الفترة قال في حديثٍ للصحفية ديانا جبور في مجلة «فن» اللبنانية: «عندما نصنع فيلمًا علينا أن نضع في اعتبارنا ضرورة أن يحقق الفيلم عائدًا معقولًا يغطي قدرًا من تكاليفه، ولنقل بنسبة ٥٠٪ مثلًا؛ بحيث يمكننا أن نصنع أربعة أفلام بدلًا من فيلمٍ واحدٍ في العام.

وللفيلم مستلزماته، وأنا عندما كنت مديرًا للمؤسسة كنت أسعى على الدوام لتأمين المال اللازم؛ لأنه عصب السينما، فكنا نضع خطة سنوية لاستيراد عددٍ لا بأس به من الأفلام، ونطرح مزاداتٍ نحقق بها أرباحًا جيدة، نستخدمها لتغطية الجانب الثقافي؛ تأسيس مجلة «الحياة السينمائية»، وإقامة الدورة الأولى لمهرجان دمشق السينمائي، ومساعدة الأندية السينمائية إما بمدِّهم بالمال، أو بالأفلام أو بتخصيص صالة الكندي لعروضهم مرة في الأسبوع … أنا بالطبع لا أدَّعي أنني قمت بأعمالٍ خارقة؛ فقد كانت ظروفنا الاقتصادية جيدة في المؤسسة.

لقد استطعت، عندما كنت مديرًا للمؤسسة أن أنقل للمسئولين أن الإنتاج يحتاج إلى دعمٍ حكومي، ما دام أنه خاسر بسبب محدودية سوق الفيلم السوري، وعدم توازن الميزانية والنفقات مع العائدات، ولكننا كنا في الوقت نفسه نحاول أن نشق الطريق أمام الفيلم السوري إلى كلٍّ من اليمن والجزائر وألمانيا والاتحاد السوفييتي.

بذلنا كل المحاولات لأن صناعة السينما تحتاج إلى سوق توزيعٍ واسعة جدًّا، في حين أن سوقنا محدودة، ولا يتجاوز مردودها ٢٠٪ من نفقات الإنتاج.»

في عام ١٩٨٢م قدم محمد شاهين فيلمه المهم «قتل عن طريق التسلسل»، الذي شارك في كتابته حسن سامي يوسف، وشاركت منى واصف في البطولة مع رفيق سبيعي، ونادين، وعباس النوري. ويدور الفيلم حول ليلى وهي امرأة ذكية، استطاعت أن تشق طريقها وسط رجال الأعمال خارج وطنها، وعندما تعود إلى بلدها بهدف إقناع ابنتها الوحيدة المهندسة بالسفر معها ترفض الابنة، وتكتشف ليلى أن شركاءها في تجارة الصفقات المريبة يتآمرون عليها فتهددهم بالوثائق غير القانونية أمام القضاء، وبالفعل فإنها تكلِّف أحد شركائها بإحضار صورٍ من الوثائق الأصلية، التي تبقيها وديعة في أحد البنوك باسمها الشخصي، وتلوِّح لهم بتسليمها إلى مَن يستطيع فضحهم وتحطيمهم. وبعد العديد من المواجهات تقرر ليلى أن تبقى في وطنها مع ابنتها، التي تكتشف من خلال مضايقاتٍ تتعرض لها، جانبًا من علاقات أمها غير الطبيعية، وتطالبها بأن توضح لها ما يدور حولها؛ فتقوم ليلى بتصفية أعمالها التجارية، لكن الابنة التي تستمع إلى اعتراف الأم بماضيها ترفض منطقها في أنها فعلت ذلك بعد أن ذاقت ذلَّ الفقر والحرمان، وتضع الفتاة أمها أمام خيارين، وتقول لها:

«أنا مستعدة لأن أغفر لكِ كل ماضيكِ الذي كنتِ مَسُوقة إليه بالرغم منكِ، كما تزعمين، أما أن تستمري مع هؤلاء الأوغاد الذين تسمينهم شركاءك؛ فهذا ما سيضع فاصلًا بيننا، عليك أن تختاري، إما ابنتك، أو طريقة حياتك التي أرفضها.»

وتنفصل الأم عن ابنتها، وتذهب الفتاة إلى خطيبها، بعد أن اختارته بكامل إرادتها، وتقرر ليلى أن تبيع ممتلكاتها في باريس، وأن تعيش في سورية إلى جوار ابنتها، إلا أن ذلك يكون قد تم بعد فوات الأوان؛ حيث يقرر الشركاء تصفيتها تمامًا.

وفي العام التالي قدَّم المخرج للقطاع الخاص فيلمه «أمطار صيفية»، تمثيل غادة الشمعة، ورشيد عساف، وسمر سامي، وعدنان حبال، وياسين بقوش، ونجاح حفيظ، ومحمد خير حلواني.

ويحكي الفيلم قصة المهندس الزراعي الفقير صلاح، الذي يحب الفتاة نادية ابنة رجل الأعمال، الذي يرفض أن تقترن ابنته بالمهندس المَعوز، ويحاول أن يزوِّجها، لرجل أعمالٍ ثري من أجل إنقاذ نفسه من ورطة مالية أصابته، لكن الزيجة تفشل عندما يكتشف الأب أن ابنته حامل من الشاب الذي أحبَّته، ويموت الأب من صدمة هائلة أصابته، وتضع نادية وليدها في سرية، في نفس الوقت الذي تنجب فيه المهندسة الفقيرة التي تزوجها صلاح، بعد أن صُدم برفض والد حبيبته، لكن يحدث أن تموت زوجة صلاح. وفيما بعد يلتقي الحبيبان القديمان، ويتزوجان، وتتولى نادية الاعتناء بالولدَين معًا، ويختلط عليها الأمر؛ فلا تعود تعرف أي الولدين هو ابنها الحقيقي، إلى أن يصاب أحدهما إصابة بالغة يكاد أن يموت على أثرها فتقرر نادية أن تطيح بوساوسها إلى الأرض.

وكما هو ملاحظ فإن الفيلم مأخوذ بالكثير من التصرف عن المسرحية الإيطالية «فيلومينا مادوراتو» تأليف إدواردو دي فليبو، وهي المسرحية التي تحوَّلت في مصر إلى أكثر من فيلم منها فيلم «تزوير في أوراق رسمية» إخراج يحيى العلمي ١٩٨٤م. لكن التصرف هنا جعل الأحداث ممطوطة متشعبة، ومن الواضح أن محمد شاهين كان أفضل في الاقتباس والتصرف من الفيلم المصري.

في عام ١٩٨٥م أخرج شاهين فيلمه «الشمس في يوم غائم»، عن رواية بنفس العنوان للكاتب حنَّا مينا، ولأول مرة منذ فترة طويلة يترك كتابة السيناريو لآخر هو محمد مرعي فروح، وقامت بالبطولة نفس المجموعة التي تعمل معه دومًا، ومنهم منى واصف، ورفيق سبيعي، ويوسف حنا وغادة الشمعة، وعدنان بركات، بالإضافة إلى جهاد سعد وأيمن زيدان.

وتقوم الفكرة على أساس «أن نعزف أو نغني أو نرقص للا شيء؛ فهذا زيف. لا بد أن يكون ثمة شيء، إنسان ما، فكرة ما، وعندئذٍ يكون للعزف أو الغناء أو الرقص معنًى؛ أن نعيش للاشيء، هكذا لأجل العيش، لتمضية الأيام، فهذا هو الموت.»

عادل يرفض العيش من أجل العيش، أو العيش من أجل لا شيء، كما يعيش والداه، أو كما عاش جَدُّه من قبلهما، فيتمرد على هذا اللاشيء، أو هذا الروتين الفارغ المتبَع في قصر والده منذ أجيالٍ بعيدة، وإلى الآن. وينزل إلى قاع المدينة طمعًا في التغيير؛ فيتعرَّف على الفقر والحرمان، وإلى قدرة سكان العالم السفلي على البقاء وقوفًا في وجه القهر بأشكاله المختلفة.

ينزل عادل إلى قاع المدينة فيلتقي بحائك يعلِّم العزف على العود، ويحرض على عدم التوقُّف عن العزف والرقص ودق الأرض إلى أن تخرج الصورة من الصورة، كما حدث ذات مرة من الزمن الغابر غير المسطور في كتاب، ويغوص عادل في الحضيض أكثر فأكثر، ويلتقي ابنة ليلٍ تعلمه أن الشرف ليس في الجسد، وأن الشهامة في السلوك، فتصيبه عدوى التغيُّر، ويتردد في متابعة الحوار، أو يرغب عنه بعد أن صار مطالبًا بتحديد موقعه، ولو أمام نفسه فحسب، بتحديد وجهة سيره فيما سيأتي به الزمن، كما يصير مطالبًا بتحديد موقعه، إما في الرياش أو بين الفقراء، ويكاد أن ينسحب من اللعبة، وأن يحزم حقائب السفر إلى بلادٍ بعيدة، تاركًا وراءه كل شيء، وغير آسفٍ على أي شيء لولا وقوع أحداث جسام أمام ناظريه تجبره على إعادة النظر في حساباته، وتحديد موقف نهائي من المسألة. فإذا كان قد عجز عن إخراج الصورة برقصه العنيف فإنه غير عاجزٍ عن الوقوف في وجه أبيه، أو في وجه قاتل الرجل الذي علَّمه أن يدق الأرض.

ويقول المخرج في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في مهرجان السينما بالقاهرة عام ١٩٨٥م بمناسبة عرض الفيلم في المسابقة الرسمية: «الشخصيات التي قدمتها تعمل دون تنظيمٍ، وهذا واقعي وحقيقي، مغزى الرواية أن هذه القوى لا تستطيع أن تعمل شيئًا بمفردها. البرجوازية الصغيرة لا تستطيع أن تفعل شيئًا أو أن تغير شيئًا، ودائمًا تتحرك حسب مصالحها، وقد حاولت أن أقدم تناقضات هذه المرحلة.» وفي هذه الندوة قال الموزع السينمائي والمنتج عبد العزيز الغانم: «القطاع الخاص يقدِّم موضوعه للوزارة ثم يدور حوار مع اللجنة حول مستوى السيناريو، يجب أن يدفع ٥٠ ألف ليرة كي يُسمَح له بالبدء في العمل، ويدفع قيمة التصوير والمواد الخام بالكامل، وخلال الإنتاج لا تقدم الدولة أي مساعدة، ثم بعد الإنتاج يراقب الإنتاج، وقد لا يسمح بعرض الفيلم، هذا ما يجري عندنا في سورية للقطاع الخاص.»

وحول الفيلم نفسه أجرت مجلة «الحياة السينمائية»، العدد ۲۸، شتاء ١٩٨٦م، حوارًا مع كل من المؤلف الروائي حنا مينا، ومع مدير التصوير جورج لطفي الخوري والمخرج محمد شاهين، الذي قال: «تبنَّيت السيناريو، بعد أن اتفقت مع كاتبه على الخطوط الأساسية للمعالجة. فإذا كان المقصود بكلمة الحلول، الحلول النظرية فقد أوجدت حلًّا لموضوع النضال الوطني ضد المستعمر، وضد المتعاونين مع المستعمِر والمستغلين؛ بإيجاد بعض الشخصيات الثورية كشخصية سعيد، الذي يحاول اغتيال المستشار، وشخصية الطفل المشبَّع بالحقد على رجال السلطة، الذين يخدمون المستعمِر والإقطاع. وأيضًا ببعض المَشاهِد الصغيرة المضافة، التي وضَّحت ما أرادت الرواية الوصول إليه، وهو ما تقرؤه فيها ببعض الجمل الذكية التي في سياق الحدث. لكن الأفلمة تحتاج إلى توضيحٍ أكثر، وقد حاول كاتب السيناريو أن يكون في هذه الإضافات متجاوبًا ومتناغمًا مع روح الرواية؛ فلم يلجأ إلى الشعارات أو المباشرة، مثال ذلك الربط بين دق الأرض بأخمص البندقية ودق الأرض بقدم الراقص في الرقصة. «دق هالأرض يا عادل بركي بتفيق بنت الكلب» … هذه اللمسات لا يستطيع المُشاهِد العادي أن يتفهمها، ويربط بينها، إلا إذا تمتع بحسٍّ سينمائي مرهف. أما المعالجة الشاملة فهي تنبع من الحلول السينمائية التي تُوضَع لكل موقف، والتي يجب أن تكون، بمجملها، متناغمة مع الروح والأسلوبية التي بُني العمل على أساسها.»

في عام ١٩٨٩م قدم محمد شاهين فيلمه «ضياع في عيون خائنة» الذي قامت بتمثيله سمر سامي وأديب قدورة ونجاح حفيظ، وهو من تأليف جنفياف عطا الله، وهو يروي قصة حبٍّ مأساوية بين رجلٍ متزوج وامرأة لعوب، تستطيع بفتنتها وألاعيبها أن تُفقِده كل اهتمام بزوجته، وبيته، وأن تربك حياته العملية والاجتماعية، لكنه في النهاية يكتشف خطأه، ويتمكَّن من الانسلاخ بقوة من قيود هذه المرأة ليعود إلى بيته، ويكفِّر عن خطيئته تجاه زوجته التي تعاملت مع هذه المشكلة بصبرٍ ومحبة.

ومن الواضح أن هناك تشابهًا بين موضوع الفيلم هنا، وبين الأفلام التي كان يخرجها في مصر أحمد كامل مرسي، وخاصة «البيت الكبير» الذي قام ببطولته سليمان نجيب وأمينة رزق وتحية كاريوكا وعماد حمدي.

وفي عام ١٩٩٠م أخرج محمد شاهين فيلمَين هما «سائقة التاكسي» بطولة غادة الشمعة، وهالة شوكت، وناجي جبر، وفيه نرى فتاة صغيرة من أسرة فقيرة يعمل أبوها سائق تاكسي، ومن عمله يعيل أسرته. ابنته الكبرى ذات شخصية قوية ومتحررة، ودرست فنون الدفاع عن النفس في معهدٍ للكاراتيه. يموت الأب فجأة، ويترك الأسرة بلا عائلٍ أو دخلٍ محدد، ومن أجل أن تستمر الأسرة على قيد الحياة فإن الابنة الكبرى تقرر العمل كسائقة تاكسي، فتتعرض للعديد من المتاعب المنتظَرة، منها محاولة إجبارها للسير في طريقٍ فرعي مع شابَّين، فتتعامل معهما بالكاراتيه، ومنها رفض عجوز الركوب خوفًا من السائقة التي قد تتسبب في الحوادث.

يحدث أن تتعرف على امرأة ثرية فتطلب منها العمل لديها كسائقة، وتتعرَّف على عصابة تريد الاستيلاء على أموال الثرية، وعندما تقع في غرام أحد أفراد العصابة تكتشف أنه ضابط شرطة متخفٍّ؛ فتساعده في الإيقاع بالعصابة، وتتزوج منه.

وكما نرى، فنحن أمام فيلم تجاري تنطبق عليه شروط الفيلم الذي يدر عائدًا جيدًا كلها، ويقال إنه مستوحٍ من أحداثٍ حقيقية حول أول امرأة عملت سائقة تاكسي في سورية، وكما تحدَّث عنه منتجه: «أدخلنا على الفيلم عصابة، لأننا حاولنا أن نرضي الجمهور، وقد جعلنا هذه العصابة تقوم بالتهريب لأن جيلًا كاملًا من الشباب قد تربَّى على التهريب.»

«عقلية الجمهور اختلفت عن السبعينيات؛ صار يريد أفلامًا تقدِّم عنفًا يفوق عنف الواقع الذي يعيش فيه، وهو بالمناسبة عنف كبير، ويفوق الحدود المعقولة والواقعية على الرغم أنه يحدث يوميًّا، المهم أن ترجمة ما يطلبه الجمهور من عنفٍ أو خيالٍ علمي إلى السينما يتطلَّب مستوى تقنيات ومعدات لا نملكها، مما يجعلنا نقدِّم له عنفًا بمستوًى متدنٍّ، أما أفلام الخيال العلمي فنحن أعجز من أن نقدم له هذا النوع.» وقد اعترف المنتِج عبد العزيز غانم في مجلة «فن» أن الفيلم خسر عند عرضه لأسبابٍ عديدة تعكس حال الفيلم المنتَج من قِبَل القطاع الخاص:

«لهذه الخسارة أسباب عديدة لا تتعلق بالفيلم نفسه، منها؛ أننا كنا نتوقع عددًا معينًا من الرواد، حسب ما نعرفه من مساحة الصالات السينمائية، لكننا فوجئنا في عام عرض الفيلم أن الصالة التي كانت تضم ١٣٠٠ كرسي لم تعُد تضم أكثر من ٧٠٠ كرسي، لأن أصحاب دور العرض قاموا برفع الجزء الأكبر من المقاعد؛ بعدما فرضت عليهم مؤسسة السينما ضريبة ثابتة يحددها عدد المقاعد لا عدد البطاقات المبيعة، مما دفعهم لأن يقوموا بهذه المجزرة؛ باختصارٍ عندما قدَّمنا «سائقة التاكسي» كانت الصالات السينمائية في النزع الأخير.

لقد كان «سائقة التاكسي» بالنسبة لي آخر اختبارٍ لنوايا المؤسسة تجاهنا كقطاعٍ خاص، وفيما إذا كانت مستعدة لتنفيذ القرارات والفرمانات التي أنشأتها، ونصَّت أيضًا على ضرورة قيامها بتشجيعنا ومساعدتنا، لكننا لمسنا، بدلًا من ذلك، أنها تضع العصا في الدواليب؛ فحتى أستمر كمنتِج عليَّ أن أوزع الفيلم، وكثيرون من الموزعين يشترطون عملية المقايضة، بمعنى أنهم يقدمون لي توزيع وتسويق الفيلم في منطقة جغرافية معينة مقابل أن أوزع لهم فيلمًا أو فيلمَين في سورية، وهذا مبدأ وافقت وتوافق عليه وزارة الاقتصاد، لكن مؤسسة السينما رفضت تطبيق القرارات والمراسيم.»

وفي «ثعالب المدينة» عام ١٩٩٠م، يدخل المخرج إلى عالم المقاولات من خلال الصراع التقليدي بين الخير والشر، بين الشخصيات النمطية التي تمثِّل الجوانب المتصارعة، فالصحفي رجل شريف يقوم بمواجهة المقاول المستغِل الذي يمتص قلوب الناس مستغلًّا أزمات الإسكان، ويقوم كلُّ طرفٍ بشحذ ما لديه من أسلحة مواجهة؛ من أجل التخلص من الآخر، حتى يتم القبض على المقاول، ويقدَّم للمحاكمة.

وفي العام التالي قدَّم محمد شاهين فيلمه «سحاب»، الذي كتبه أيضًا، واستعان فيه بنجومه المفضَّلين، ومنهم غادة الشمعة وجهاد سعد وهالة حسني، ومعهم مجموعة من الممثلين. والفيلم من إنتاج «سيريا فيلم» التي قدمت الكثير من أفلام القطاع الخاص في سورية، وقد دافع المخرج عن عمله بالقطاع الخاص في حديثه إلى مجلة «فن» قائلًا: «يتهمون إنتاج القطاع الخاص بالهدف التجاري، وأنا لا أستطيع أن أنفي هذا الاتهام بشكلٍ مطلق، هنالك أفلام تم تنفيذها بسرعة وبميزانيات محدودة، بالإضافة إلى هذا، فقد أنتج القطاع الخاص أفلامًا جيدة نجحت جماهيريًّا، وحملت مضمونًا جيدًا.

يجب ألا ننظر إلى الفيلم بروحٍ عدائية، وبحُكمٍ سلفي كونه من إنتاج القطاع الخاص، يجب أن ننظر إليه بموضوعية وحيادية ليكون الحكم سليمًا؛ فنجاح الفيلم جماهيريًّا لا يعني أنه فيلم تجاري، كما لا يعني فشل الفيلم جماهيريًّا أنه فيلم جاد؛ وهذا ويا لَلأسف هو المبرر الذي يطلقه صانعو الأفلام التي لم تلقَ أيَّ نجاحٍ على أعمالهم. في رأيي أن الفيلم الجاد لا يعني أن يكون فيلمًا ثقيل الظل، يفتقر إلى عنصر الإمتاع الفني، وأن يخاطب الجماهير باستعلاء، بل هو الذي يخاطب وجدان وعقل المُشاهِد خلال العرض الواقعي والمشوِّق لقضاياه ومشاكله؛ أي أن يجد المُشاهِد نفسه ومجتمعه في هذا العمل.»

وتدور قصة فيلم «سحاب» حول فتاة غجرية تُدعى سحاب تقع في غرام المخرج المسرحي سامي، إنه فنان ناجح يحاول أن يحقق ذاته عبر أعماله الدرامية التي يقدمها، والتي هي بمثابة رؤًى لأفكاره الخاصة والعامة.

يقرر سامي أن يأخذ إجازة من العمل، فيودِّع زملاء العمل عقب انتهاء عرض مسرحيته الأخيرة، ويتوجه إلى اللاذقية دون أن يعلم أن بطلة الفرقة صوفي تحبه من طرفٍ واحد، وأنها تتمنى لو أحس بها، وفي طريقه إلى اللاذقية تتوقف سيارته ليلًا عندما يشاهد شبحًا يتحرك في الظلام؛ فإذا بها فتاة غجرية تئن من جروحٍ أصابتها بعد أن طعنها الشاب هيثم، أحد أقاربها بسكينٍ، وتركها في الصحراء بسبب رفضها الاقتران به، فيقرر سامي أن يأخذها معه إلى بيته الريفي الذي تعيش فيه عمَّته، ويبدأ حال الفتاة في التحسُّن رغم اعتراض العمة على بقاء هذه الغجرية في الدار. ويشعر سامي بالتآلف مع سحاب، ويراها امرأة مختلفة عن كل الذين عرفهم «فهي فتاة بكر» لم تلوثها المدنية، وتمثِّل شكلًا لم يألفه، أو يلقاه من قبل، أما الغجرية فترى فيه رجلًا يتسم بالشهامة والرجولة والنُّبل.

لذا يقرر الزواج منها على الرغم من توقُّعه العديد من العقبات التي سيواجهها هذا الزواج، وبالفعل تُفرَض على هذا الزواج العديد من العقبات، وتحاول صوفي الإساءة إلى سحاب، في الوقت الذي تحاول فيه عشيرة الغجرية استعادتها مرة أخرى؛ حيث يجاهد ابن عمها هيثم أن ينتقم منها مرة أخرى لوجودها في بيت المخرج.

يقوم الفيلم على أساس أن الثقافة تحتاج إلى العفوية، وأنه إذا فقد المثقف عفويته صار إبداعه مفتعلًا.

في عام ١٩٩٢م قدم محمد شاهين تجربة سينمائية جديدة في فيلم «المرابي»، وهو إنتاج مشترَك بين القطاع الخاص السوري والاتحاد السوفييتي قبل أن ينحل، والفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب محمد إبراهيم العلي، ومن تمثيل أمانة والي، والروسية يليتاكاتشفا، وحسام تحسين وعصام عبه جي.

والأحداث تدور في سورية الأربعينيات؛ حيث البيك الإقطاعي محور أساسي، فهو يعيش حياة لاهية، ويشاركه في ذلك مساعده ومدير أعماله، فهما يبددان الأموال الطائلة أثناء رحلة إلى باريس. وأمام الانحلال الذي يسلكه البيك في حياته فإن مدير الأعمال يتصرف بجشعٍ، خاصة مع الفلاحين الذين يعملون في الأرض الزراعية التي يملكها سيده، ويقوم هو بإدارتها؛ فهو يظلم الفلاحين الواقعين تحت رحمته أو المحتاجين إليه، لكن الاستغلال يزداد، وهنا تبرز الفلاحة زنوبة التي تتصدى لهذا المرابي؛ فتشعر بمدى الظلم المحيق بأبناء القرية فتدخل مع المرابي في لعبة خاصة ذكية، وتعتمد على المخادعة من أجل الوصول إلى شيء من الحق والعدل. تحاول أن تحقق أكبر قدرٍ من المكاسب من أجل القرية والفلاحين، وحين تستبد القسوة بالفلاحين فإن المرأة تتخذ موقفًا حادًّا للغاية تجاه المرابي.

وفي الوقت الذي يزداد فيه البذخ الذي يعيشه المرابي في أثناء رحلاته خارج الوطن، وفي أماكن الترف واللهو، فإن القسوة على الفلاحين تزداد من أجل الحصول على أكبر قدرٍ من المال لدرجة أن الثروة التي يجبيها البيك ومدير أعماله تذهب في النهاية إلى جهاتٍ صهيونية.

وفي حديث عن الأدب قال محمد شاهين، مجلة «الحياة السينمائية»، صيف ۱۹۸۸م:

«أنا أحب أدب الأستاذ حنَّا مينا، ومن المتتبِّعين لإصداراته الروائية، لأنني ألمس فيها التعبير الصادق والأمين عن الخفايا السياسية والاجتماعية والثورية في بيئتنا ومجتمعنا في عهد الاستعمار الفرنسي لبلدنا، وحنَّا مينا كاتب تقدُّمي يشدك إليه بأفكاره الثورية المستقبلية، ويسحرك بأسلوبه الأدبي، السلس البسيط، وصوره الفنية، وشخصياته الواقعية التي يختارها بدقة من البيئات الشعبية المتمردة.

في هذه الرواية أعجبتني شخصية عادل، وتفاعلت معها لارتباطها بفترة زمنية عاش جيلنا بعض تفاصيلها ومعاناتها، وأقصد بها مرحلة الشباب بآماله العريضة وطموحاته الكبيرة، واندفاعاته، وتضحياته من أجل تحقيق الأفكار الاشتراكية الثورية التي كانت تملأ حياتنا وأحلامنا، وتعشش في صدورنا، وتفتش عن المناخ الصحي السليم الذي نستطيع التنفس فيه بحرية، خلال بيئة رجعية إقطاعية عفنة، لا تستحي من أن تمد يد التعاون مع الاستعمار الفرنسي وأعوانه في بلادنا؛ ولذلك وجدتني مشدودًا لشخصية الفتى عادل حتى نقلتها كما تصورتها، بأحاسيسها وانفعالاتها إلى القطاع الأكبر من الناس في الوطن العربي.»

وفي عام ١٩٩٣م عاد محمد شاهين إلى الروائي حنَّا مينا، وروايته «الدقل» ليقدم فيلمه «آه يا بحر» من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، ومن تمثيل منى واصف، ورنا جمول، وخالد تاجا، وجلال شموط، وصباح عبيد. وفي الفيلم يعود المخرج مرة أخرى إلى التاريخ، في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن العشرين، إبان الاحتلال الفرنسي عندما تصل أسرة البحار صالح حزوم من لواء الإسكندرون إلى اللاذقية، محاوِلةً البحث عنه، بحيث يحاول ابنه سعيد اقتفاء أثره بعد أن انطلقت أكثر من إشاعة عن سبب اختفائه، كان اختفاء الأب صالح قد تزامن مع الانتهاء من مهمته الموكولة إليه، وهي تهريب صفائح الكيروسين من إحدى السفن التي غرقت عند ساحل اللاذقية من أجل أن يقوم أبناء الميناء بالاستفادة من الكيروسين في التدفئة.

يعرف الابن سعيد أن أباه لم يمُت، بل لاذ بالفرار؛ لذا فإنه لا يكف عن البحث عنه، أما الأم فهي واثقة من أن زوجها لم يمُت، ولعله عالق بأحد الأجزاء الباقية من السفينة. لكن الحقيقة أن الأب صالح قد مات، ويعثر سعيد على الجثة، ويجدها، وأثناء الاعتناء بالجثة يرى جثمانًا لجندي فرنسي فلا يعيره أي اهتمام، مما يتسبَّب في القبض عليه، وإدخاله السجن لمدة ثلاث سنوات.

ويربط الفيلم الخاص بالعام؛ فالسنوات التي قضاها سعيد وراء الجدران كانت تشهد العديد من الأحداث الجسام، حيث قامت تركيا بالاستيلاء على لواء الإسكندرون، وتنزح الأسرة إلى مكانٍ آخر قريب أيضًا من البحر، وعندما يخرج سعيد إلى الحياة مرة أخرى يجد أنها قد تغيرت كثيرًا، لكنه لم يتغير بالقدر نفسه؛ لذا فإنه يقف ضد أن تتزوج أخته ببسام، بحجة أنه يقوم بتهريب الأسلحة للمناضلين، فهو قد صار بعيدًا عن الإحساس بالهم العام، ويدخل في دائرة خاصة حيث يعيش في علب الليل. ويقع في غرام امرأة متزوجة تُدعى عزيزة، تقضي معه بعض الوقت قبل أن تختفي، كما يتعرف إلى كاترين التي تسحبه معها إلى طريق الخطيئة العابرة، ويعرف عبدوش زوجها بأمر الخيانة فيقرر أن يستدرج سعيد إلى عرض البحر كي يتخلص منه، لكن العاصفة الهوجاء تلف سفينة الصيد، ويحاول سعيد إنقاذ الصيادين من الأخطار، ويبقى عبدوش ريس المركب وسط العاصفة مجهول المصير.

وتقول ديانا جبور في مجلة «فن» إن النساء في الفيلم، وهن كثيرات، ينقسمن إلى قسمَين: فريق بنات أسرة سعيد، الأم وبناتها، وهن فاضلات مخلصات شريفات، أما النساء اللائي وقعن في طريق سعيد فهن يتحرشن به، يحاولن شدَّه إلى عالم الخطيئة والخيانة، هن نساء يملؤهن الشبق، وتدفعهن الغرائز الحسية: «السطور الممزوجة بنفس شعري ملحمي تسللت خلال عديدٍ من الثنايا إلى «آه يا بحر» مع أنه فيلم واقعي عن التاريخ القريب. لقد طغت الشِّعرية الخطابية على الحوار، وعلى مونولوجات الشخصيات، لا سيما مونولوجات الأم في مخاطبة البحر.»

بشير صافية

مولود في دمشق عام ١٩٣٧م، تخرَّج من معهد السينما بالقاهرة عام ١٩٦٤م، وهو بذلك من أوائل السوريين الذين درسوا في مصر، وما أقل من عمل منهم بالإخراج السينمائي، ومنهم على سبيل المثال صلاح سرميني الذي استقر به المقام في باريس يمارس إخراج أفلام الهُواة والنقد السينمائي.

قدَّم بشير صافية مجموعة من الأفلام التجارية لحساب القطاع الخاص، ولم يُخرِج لحساب المؤسسة العامة للسينما سوى فيلمَين هما «الأحمر والأبيض والأسود» عام ١٩٧٦م، و«حب الحياة» ١٩٨١م، بالإضافة إلى مشاركته في اسكتش «ثلاثية العار» عام ١٩٧٤م مع كلٍّ من وديع يوسف وبلال الصابوني، أما أفلامه الأخرى فهي:

١٩٧٥م غرام المهرج
١٩٧٦م صيد الرجال
۱۹۸۲م إمبراطورية غوار

قصة «العبد» التي أخرجها بشير صافية ضمن إطار «ثلاثية العار» تروي قصة فلاح فقير وقع ضحية المرابي عميل الإقطاعي، فيتحوَّل إلى عبدٍ يعمل طيلة حياته لتسديد فوائد القرض الذي حصل عليه من المرابي.

أما فيلم «الأحمر والأبيض والأسود» فيدور حول أبو أحمد «الذي يمثِّل موقف الفئات المستغِلة والانتهازية»، يملك بيتًا للإيجار، تقطنه عدة عائلات من اللاجئين الفلسطينيين، أو من الذين شرَّدتهم حرب ١٩٦٧م، ومن بين هؤلاء الأشخاص الذين يسكنون البيت هناك عزيزة النازِحة، التي تثق أنها لا بد عائدة أهلها إلى بلادها فلسطين، وهناك المدرس الفلسطيني أيوب، إنه رجل مثقف، يود أن يفعل أي شيء من أجل العودة إلى الوطن الذي نزح منه، بينما حسن الصبي الصغير يعاني من أنه صار مُشرَّدًا، كما يتضمن الفيلم العديدَ من الشرائح الاجتماعية، والبسطاء الذين تحمَّلوا عبء الدفاع عن الأرض وحمايتها، وتقديم الشهداء في سبيلها، وتمر الأيام إلى أن يقترب تشرين عام ۱۹۷۳م، ويستعد الجميع للمجابهة حين تأتي الإشارة بالبدء.

يحكي فيلمه «غرام المهرج» عن فتاة تُصاب بحالة فصامٍ نفسي عقب رحيل أمها في حادثة، يذهب بها أبوها إلى الأطباء بلا جدوى، ينصحونه بالترفيه عنها، فيذهب بها إلى المسرحيات الضاحكة؛ لكن حالتها لا تتحسَّن، إلى أن تسوقه قدماه إلى مسرحٍ صغيرٍ فقير، يعاني أصحابه من أزماتٍ مالية، وهناك تضحك الابنة من أعماقها على أداء الممثل الرئيسي، ويكتشف أن حالتها تتحسَّن كلما ضحكت؛ لذا يطلب من الممثل الكوميدي أن يعمل عنده من أجل أن يجعل الفتاة في حالة ضحكٍ دائم، لكن الممثل يرفض أن يكون مجرد مهرج، إلا أن الأب يعرضه للإغراء المالي أكثر، مما يجعل الممثل يوافق على العرض من أجل إنقاذ المسرح من أزمة اقتصادية حقيقية، ويدخل البيت بحجة أنه يود أن يجمع إيرادات أملاكه، يبعث الممثل بالبهجة في القصر الذي يسكنه الأب وابنته، وبالفعل فإن حالتها تتحسَّن، وتقع في غرام شاب، لكن المهرج يكون قد تعلَّق بهواها، ويتغلب على مشاعره من أجل سعادتها، لقد لفظه الأب بعد أن استعادت الابنة ابتسامتها، ويعود المهرج الحزين مرة أخرى للعمل في المسرح.

أما فيلم «حب للحياة» فإنه العمل الثاني من إنتاج المؤسسة، ولن نرى أنه يختلف كثيرًا عن مستويات أفلامه في القطاع الخاص، وذلك على خلاف مستويات بعض أفلام محمد شاهين؛ فالبطلة هنا إيناس، فتاة من عائلة فقيرة، موظفة في إحدى الشركات، وتقطن حارة شعبية محافِظة، تتمتع بقوة شخصية وثقافة جيدة، تقع في غرام مدرس شاب، يؤمن بقضايا الوطن، وله حس إنساني مرهف، ويرى أن العرب ملكوا التاريخ عندما كانوا أقوياء مؤمنين بالحق والحياة. تتعرض قصة الحب إلى هزة حقيقية فينهار المدرس تمامًا ويختفي، إلا أن إيناس القوية الشخصية لا تستسلم بسهولة، وتقرر استعادة حبيبها إلى سيرته الأولى.

وفي «إمبراطورية غوار» نرى المخرج وهو يقدم التجربة الأخيرة لدريد لحام في السينما وهو يجسد شخصيته المعروفة «غوار»، دون أن يكون هناك نهاد قلعي. غوار، هنا، الرجل البسيط الساذج، الذي يتفاعل مع الحياة بتلقائية نفسه، ويعرف أن اثنين من العشَّاق يمرَّان بأزمة تكاد تهدد علاقتهما، وأن ينفصلا، فيقرر «غوار» مساعدة الحبيبين في العودة إلى سيرتهما الأولى، ثم يقوم بتتبُّعهما من أجل القضاء على كل مشكلة طارئة في علاقتهما حتى لا ينفصلا مجددًا.

بلال صابوني

هو المخرج الثاني الذي درس في معهد السينما بالقاهرة، إلا أنه لم يجمع بين العمل في أفلام المؤسسة العامة للسينما، والقطاع الخاص؛ فهو حسب القوائم الخاصة بإبداعه السينمائي فإنه لم يعمل قَط خارج أفلام المؤسسة، مولود في دمشق عام ١٩٤٤م، وفي سنة ١٩٧٢م قدَّم فيلمه التسجيلي «فجر جديد»، ثم قدَّم فيلمَين آخرين هما: «البترول» ١٩٧٤م، و«الطب النووي» عام ١٩٦٧م، أما أفلامه الروائية فهي:

۱۹۷۳م عود النعنع (من ثلاثية العار)
۱۹۷۹م القلعة الخامسة

لاقى الفيلم القصير «عود النعنع» الكثيرَ من التقدير عند عرض «ثلاثية العار»، وذلك دونًا عن الفيلمَين الآخرين اللذين ضمَّتهما الثلاثية نفسها، خاصة في الصحافة المصرية، فقد توقفت عنده الروائية فوزية مهران في مجلة «صباح الخير» — ١٩ /٨ /١٩٧٤م — قائلة: «هل هو حلم أم كابوس … أم واحة من ملايين القصص التي تومض بين جنبات الحياة، وكان يمكن أن تزدهر وتثمر … لكنها تمضي وتغيب، كأن لم تكن؟

وهل تبرق هذه الصور في ذاكرتنا ووعينا … أم أنها تتساقط علينا كي نفيق، وتدق رءوسنا بعنفٍ كي توقظ فينا إرادة التغيير؛ وحتى يعود للأشياء المعنى والبهجة؟

قصة قصيرة تحوَّلت على يد مخرج ذكي إلى فيلم روائي طويل، تتابع صوره بلا ترتيبٍ منطقي أو زمني … لكنها تجذبك إلى عملية رياضية باهرة، حيث تعيد الحسابات من جديد؛ فتعيد ترتيب الأمر كله، وتؤرقك نتائج ما توصلت إليه بنفسك.

المكان نفسه عبارة عن طريقٍ موحِش وغريب، مليء بالمنحنيات والحصى … مقفر ومخيف.

وفتاة صغيرة تدب فوق الطريق، تبدو وكأنها زهرة برية شبَّت بين الصخور … جميلة، ساطعة رغم وعورة المسير.

نتابعها في انتباه وتركيز، الصورة تبدو مشرقة، مترعة بالفرح والبراءة، وابتسامة الصغيرة وقفزاتها توحي بعالمٍ يمكن أن يسوده السلام … ثم لا تلبث أن تتجهم الصورة، وتكاد تختنق بين صخور عاتية مشبَّعة بالوحشة والقسوة.

يتعكر صفو السلام، تنقبض الصدور، تنتقل الكاميرا بشدة إلى حجرة ضيقة يجثم فوقها شبح الموت، وتنتقل بين وجوه شائهة جادة لعجائز في ملابس سود، ماتوا أو تيبَّسوا منذ زمن بعيد؛ يحيطون بفراش مريض عذب المحيا، رغم الشحوب والذبول. تقول إحداهن:

«عود نعنع من حديقة الآغا يمكن أن ينعشها.»

وتدوي الكلمات في الوادي المقفر، وتتذكر الابنة الصغيرة هند رحلتها، فتترك ألم اللقاء وتتقوَّى على السير من جديد. ومن التنويعات الموسيقية التي عزف عليها المخرج — بلال الصابوني — وقدرة الصغيرة على انعكاس كافة المشاعر والأحاسيس فوق صفحة وجهها الجميل؛ أراد أن يكثف نغمته الحارقة، لماذا كان على الصغيرة أن تسير تلك الرحلة؟»

ونحن نقتبس مثل هذه العبارات الطويلة من فوزية مهران من أجل التعرف على التأثير الحقيقي للفيلم على قلم كاتبة روائية، أكثر منها ناقدة، فهي تكمل ما تكتبه قائلة: «كانت الصورة بليغة ومعبِّرة بكل مفرداتها وحركاتها وظلالها … وسط الوعورة والجفاف، تتبدَّى لقطات مرحة، ذلك المرح البسيط الذي يسعد له البسطاء، وكأنها تبرق في مخيِّلة الفتاة، في ذاكرتها تعينها على المُضي، وتذكِّرنا بأن المُتع البسيطة في الحياة تتبدَّد أمام القسوة والإهمال.

صورة مرحة تلعب فيها الفتاة مع أبيها، ترشُّه بالماء، يجري خلفها، يضحك الاثنان، يسقطان في الماء؛ يخاف عليها، يحملها، وفجأة تُقطَع صورة المرح، ننتقل إلى سرير الأم، إلى عذابها وهي ترتجف أمام الآغا، يمزِّق ثوبها، عارية، مُهانة تشبثت بأعواد القش؛ هل تبرق نفس الصورة أمام ذاكرة الأم؟

حتى العشب الذي يُرجى فيه الدواء في الحدائق ذات الأسوار، وعلى الصغيرة أن تقامر بحياتها وتأتي من جهة النهر المتدفق، سريع التيار حتى تقطع عودًا من النعنع.

وتفيق الأم لحظة من أثر الحمى، وتقول «حرام ترسلوها، إنها صغيرة»، ثم تغيب مرة أخرى.

تقاوم الموت بضراوة حتى تطمئن على الصغيرة.

وتتشبع الصورة — رغم قسوتها — بالحنان، وتمسك البنت سحلية صغيرة، تقبِّلها وتضحك، وتسألها «أنا لا أحبك، وأحب أمي، وأحب الآغا، ولكن لماذا لا يحبنا الآغا؟»»

ويمكن أن نكتفي بهذا الجزء من كلمات فوزية مهران، لكن المُلاحَظ أن الكاتبة صاغت ما هو أقرب إلى قصتها الخاصة، وهي تكتب عن الفيلم.

قصة الفيلم تدور حول طفلة صغيرة تموت أمها بسبب مرضٍ غريب، ولا تنجح عجائز القرية، ولا الشيخ صالح وتعاويذه، ولا دعاء الأقارب، في أن يردوا إليها دم الحياة الذي راح يغادر العروق في جسدها، وعندما تفشل الصغيرة في استجداء حبة من الكينا من عند الإقطاعي؛ تذهب لتجلب لأمها عودًا من النعناع الموجود عند ضفة النهر، ولكن قدمها تنزلق وتسقط في الماء وتغرق في اللحظة التي تموت فيها الأم أيضًا.

وقد كتب رفيق الصبان في مجلة «السينما والمسرح» (يناير١٩٧٥م) أنه «من خلال مونتاج لاهث، وتقطيع عصري جدًّا للزمن ولتسلسل الأحداث، تسير أحداث الفيلم كما يتصورها بلال من خلال ارتفاع الشعور بالمأساة لدى الطفلة، واكتشافها الفاجع لحقيقة وضعها الاجتماعي؛ مما يجعلنا نحس في نهاية الفيلم أن انزلاق قدم الطفلة لم يكن حدثًا عابرًا وإنما حدث مقصود.»

أما الفيلم الثاني «القلعة الخامسة»، أو الفيلم الطويل الأوحد الذي أخرجه بلال الصابوني فهو يدور في الخمسينيات، من خلال مجموعة أشخاص يمثِّلون المعارضة للسلطة الديكتاتورية، إنهم يأملون بناء مجتمع يقوم على العدالة الاجتماعية، يتعرَّف عزيز على هؤلاء المعارضين عندما يُلقى به في السجن بسبب تشابه في الأسماء؛ وهكذا يجد نفسه في موقعٍ آخر مختلف عما كان يفكر أو يحلم. لقد جاء من قريته حالمًا بالمدينة باعتبار أنها موطن الجميلات والحِسان، يتردد على أحد المقاهي، ويتعرَّف على العديد من النماذج الإنسانية، وفي السجن يتحوَّل إلى إنسانٍ ثوري واعٍ، يعمل على نقل أفكاره الثورية إلى الآخرين.

وفي السجن يصادق منعم السجين، الذي يحدِّثه دومًا عن شقيقته سلوى بمودة بالغة؛ فيقع في غرامها دون أن يراها، إلا عندما تأتي ذات يوم إلى السجن في صحبة أمها لزيارة أخيها، فيطلب أن يتزوج منها، وتتكرر زيارات سلوى إلى السجن، وتفهم أن عزيز ومنعم لهما سطوتهما في المكان، وتحاول الفتاة بثَّ مشاعر الصمود في قلب الشاب الذي أحبها بالسماع، إلا أن الشاب يرى أن وقوف الفتاة إلى جواره هو نوع من الشفقة أكثر منه مشاعر حب ناضجة، خاصة أنها من عائلة ميسورة.

وعقب الإفراج عن منعم يقوم بزيارة السجن، ويكشف لصديقه أن العالم قد تغيَّر في الخارج، وأن الأخت سلوى قد خُطبَت إلى شاب أكثر ثراء منها، ويترك منعم المكان ولا يأتيه مجددًا.

وتقول واحة الراهب في كتابها عن «صورة المرأة في السينما السورية» في إطار الحديث عن سلوى: «هي في أحيان أخرى أنانية في رأي أخيها، دون سببٍ واضح، علمًا بأنه عرَّف عزيز عليها في البداية على أنها أكثر الناس تفهمًا له وقُربًا منه، كما أن الأخ يتحدث في النهاية عن سقوطها لأنها تزوجت رجلًا غنيًّا، بينما لا تفهم ما إذا كان سلوكها هذا بسبب انتمائها الطبقي وعجزها الانسلاخ عن الطبقة البرجوازية، أم بسبب صراع مفترَض لم يكن واضحًا في الفيلم بين مبادئها الإنسانية وبين مصالح هذا الانتماء الاجتماعي؟ أم أن سقوطها كان نتيجة موقف يتخذه الفيلم حيال أي تطور إيجابي تتعرَّض له مفاهيم النساء ومواقفهن وأوضاعهن؟ أم نجم عن موقفٍ يقول بمحدودية التطور والوعي لدى النساء، وأنها لا بد منتهية إلى اللاجدوى والسقوط.»

وعن الفيلم الذي كتب له السيناريو الروائي المصري صنع الله إبراهيم عن رواية للكاتب فاضل العزاوي، يقول محمد عبد الوهاب الحسيني في كتابه «الفيلم السياسي في السينما السورية» أن: «البطل الحقيقي في هذا الفيلم هو «المكان» وذلك لهيمنته المطلَقة على الفيلم؛ فالكاميرا لم تخرج عن القلعة على امتداد عرض الفيلم؛ فالفيلم هو عن المكان قبل كل شيء، وهذا صحيح، فالكاميرا كانت تؤكد خلال الفيلم على المكان وما كان يحدث فيه، أكثر من تركيزها على الشخصيات، وربما كان هدف المخرج من وراء ذلك هو التأكيد على رهبة المكان ووحشيَّته ومعاناة الشخصيات فيه، فإذا كان هدف المخرج هو ذلك فنقول إنه لم يوفَّق في تجسيد هذه الفكرة؛ لأن المكان لم يستطع — بحد ذاته — إظهار المناخ المرعب للسجن، وانعكاس ذلك على ردود فعل الشخصيات، لا، بل بدا أن هناك انسجامًا تامًّا بين الشخصيات والمكان، حتى إنه يُخيَّل للمرء أن هؤلاء السياسيين هم الذين اختارهم، بمعنى أن الفيلم لم يتمكَّن من الكشف عن الأزمات النفسية للشخصيات في مثل هذا المكان الذي من المفترَض أن يخلق مثل هذه الأزمات النفسية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥