حالة دريد لحام
يمثِّل الممثل والمخرج دريد لحام حالة خاصة في السينما السورية منذ بدايتها الحقيقية عام ١٩٦٤م وحتى الآن، فقد استطاع أن يكون النجم السوري الأكثر حضورًا وشهرة، داخل سورية وخارجها، فيما يخص السينما. وقد استمرت هذه النجومية قرابة أربعين عامًا، لازمه فيها ذكاؤه الخاص؛ فظهر في كل مرحلة بما يناسب ظهوره، خاصة أنه نوَّع عطاءه من أجل إثبات حضوره من ممثل سينمائي، ارتبط بصِنْوه الممثل والكاتب نهاد قلعي؛ فكوَّنا ثنائيًّا ظل يعمل معًا لأكثر من اثنَي عشر عامًا بشكلٍ مكثَّف.
كما أن دريد لحام عمل وحده، أو مع صِنْوه في التليفزيون، ثم قام بتغيير جلده تمامًا عندما تحوَّل إلى الإخراج السينمائي، وكانت قمة ذكائه بلجوئه إلى نصوص الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط، سواء في السينما أو المسرح، ثم عاد مرة أخرى إلى التليفزيون من أجل استمرار الحضور، وكما نعرف فإنه في السنوات الأخيرة لم يشأ التوقف عن العمل؛ فقام بتقديم بعض البرامج التليفزيونية لبعض المحطات الفضائية العربية خارج سورية.
مثل هذه البداية أشبه بمذكرة تحتاج إلى المزيد من التفسيرات، ولكن من المهم الاستعانة بكلماتٍ كتبها سمير نصري في جريدة «الحياة» اللندنية — ۱۳ ديسمبر ۱۹۸۹م — فهي تحمل وجهات نظرٍ صحيحة يؤمن بها لحام نفسه، والكثير من الذين تابعوا فنَّه باعتبار أننا في هذه الدراسة نتعامل مع السينما من خلال الكتابة عن المخرجين، حيث يقول نصري:
«بعد ١٩فيلمًا غرق العديد منها في الهزل والتهريج، وتميَّز معظمها بصناعة ركيكة تخلَّص في عام ١٩٨٤م دريد لحام من سجن المخرجين، ووقف وراء الكاميرا يحقق «الحدود» عن سيناريو اشترك في كتابته مع محمد الماغوط، وجاء فيلمه كوميديا حزينة، ومغامرة رجل حمل سيارته وحبه للوطن، وانطلق عبر الحدود العربية، فوجد نفسه فاقدًا أوراقه الشخصية، منبوذًا من البلدان والإخوان؛ فيلم آخر متقَن الصنع حققه الكوميدي السوري المتعدد المواهب بأسلوب، صوَّره ببساطة متفاديًا الابتذال، ولأول مرة كان دريد لحام على الشاشة العريضة في مستوى ما أعطاه الممثل القدير على الخشبة، ولأول مرة كان الفنان الفيلسوف ينقل إلى الشاشة عالمَه في إطار ترفيه كوميدي، أراده أن يدفع المُشاهِد إلى بعض التفكير في أشياء تعنيه، وتخص واقعه، إلى كونها تُسلي وتُضحك.»
وقد فسَّر الكاتب في مقاله القصير أسباب هذا التحوُّل والنجاح، فدريد لحام ليس فقط كوميديًّا موهوبًا وعبقريًّا، لكن لأنه طرح مواضيع تهم كل فرد في المجتمعات العربية، وتجد لديه أصداء حية، فلا يبخل عليه المتفرج بقوة تركيز خاصة تساعده على استيعاب لهجة غريبة عنه، وكذلك لأن أسلوب دريد لحام المخرج يدير ظهره كليًّا للجماليات المعقدة مختارًا السهل الممتنع، وذلك طبعًا لأن الماغوط ولحام عملا مجتهدَين على تفادي الكلمات والتعبيرات الإقليمية جدًّا، ناسجَين الحوار الذكي بحيث يصل للمناطق العربية المختلفة.
دريد لحام الذي عمل طويلًا في السينما التجارية أمام الكثيرات من نجمات السينما الشهيرات، خاصة من مصر؛ ومنهن شادية ونادية لطفي ومريم فخر الدين. وأيضًا من النجوم الكبار؛ ومنهم فريد شوقي وكمال الشناوي، وعمل أيضًا مع العديد من المخرجين المتواضعي القيمة، والذين لم يكونوا معه في أحسن حالاتهم، قرر الاتجاه بشكلٍ مكثَّف إلى المسرح، ومن ثَم العودة بشكلٍ مختلفٍ إلى السينما.
ودريد لحام هو صاحب شخصية غوار التي قدَّمها في العديد من الأفلام، وظل يجدِّدها سنواتٍ طويلة حتى إذا ابتعدت عن السينما راح الناس يشاهدونها في التليفزيون، في نهاية التسعينيات، وقد اكتست بثوبٍ جديد، ويمكن أن نقول إن دريد كان خلاقًا بالنسبة لهذه الشخصية، وإن المخرجين الذين يقدمونها لم يكونوا يعرفون عنها بقدر ما يعرف هو، خاصة أن صِنوه نهاد قلعي قد شارك في كتابة العديد من سيناريوهات الأفلام التي ظهرت فيها هذه الشخصية، التي لم يكن هناك ما يوحد بينها سوى اسمها، والنجم الذي يجسدها.
وقد عبَّر لحام — جريدة الهدف الكويتية، ١٧يونيو ۲۰۰۰م — عن علاقته بنهاد قلعي بعبارات ملأى بالحميمة، قائلًا ما يفسر هذا النموذج الفريد في السينما العربية: «بالتأكيد، فأنا والفنان الراحل نهاد قلعي لم نكن ثنائيًّا، بل كنا أكثر من ثنائي، شخصيتين في شخصية واحدة. وهي التي تعبِّر عن الفكرة الموجودة في النص؛ فغياب نهاد قلعي يعني غياب نصف الشخصية إن لم يكن أكثر، وبغياب نهاد، الشخصية التي بقيت أصبحت عرجاء إن جاز التعبير، ولكن حتى الأعرج يستطيع أن يمشي ويتقدم.»
والجدير بالذكر أن مسألة اتجاه دريد إلى الإخراج ظلَّت تلازمه فتراتٍ طويلة قبل أن يقوم بها، وكم من مشاريع أعدَّها واستعد لعملها، قبل أن يتعاون مع الماغوط. وفي تحقيقٍ أجراه شافع مزيك في مجلة «الشبكة» ١٩٧٩م، وعقب تأجيل عرض مسرحيته «غربة» في بيروت أشار إلى أن أمامه مشروعًا لإخراج فيلم لن يمثِّل فيه، وإن كان قد رشح سعاد حسني للبطولة دون أي إشارة لاسم الممثل الذي سيقوم بالبطولة، خاصة أنه في نفس الحديث أشار إلى أنه يعمل فيلمًا كوميديًّا بدون نهاد قلعي، في تلك الفترة كان نهاد قلعي مريضًا كما يقول التحقيق، ويبرر الممثل أنه قبِل العمل بدون رفيق عمره بسبب طول فترة المرض، من أجل إنهاء ارتباطات كان عليه أن يلتزم بها.
ما يهمنا في هذا التحقيق ما قاله دريد لحام، عن اتجاهه للإخراج: «سأخرج للسينما، ولكن لن أمثِّل في فيلمي الأول، سأظهر كضيف شرفٍ في مشهدٍ قصيرٍ جدًّا، إنها التجربة السينمائية الأولى بالنسبة لي، وأريد أن أفرغ نفسي لإدارة الممثلين وتعب الإخراج، هذه مسئولية كبيرة، خصوصًا أنني أريد الاستمرار، وتجربتي الأولى تجدِّدني، تنبئ عني.
بصفتي، أيضًا، منتِج الفيلم؛ تقع عليَّ مهام كثيرة، وأكثر ما يعيقني اختيار البطلة الأولى. من فترة كتبتُ رسالة إلى سعاد حسني، شرحت لها موضوع الفيلم، ولم أستطع إرسال السيناريو لها لأنه لم ينتهِ. في ذهني سعاد حسني لأن الدور لها من حيث الموهبة والشكل، وكل المواصفات؛ ولأنه دور طالبة جامعية خارج سورية، تدرس في دمشق، وتسكن عند عائلة دمشقية، تعيش معاناتها وكفاحها وتطوُّر الأمور في حياة هذه العائلة. من ناحية ثانية، اخترت جميع العناصر؛ رفيق السبيعي، صباح الجزائري، ومجموعة أطفال هم أصحاب الأدوار الرئيسة، والفيلم كان يحمل اسم «الآباء الصغار» وقد أعتبره مشروع العمر.»
هذا الأمر يعني أن دريد لحام يفكر، ويسعى للإخراج الفعلي منذ النصف الثاني من السبعينيات، وأن موضوع فيلم للأطفال ظل يراوده قبل أن يقدِّم «كفرون» باثنَي عشر عامًا على الأقل:
«أصبحت عندي خميرة كافية لإخراج فيلم سينمائي؛ معايشة الكاميرا مع أفلامي السابقة أتاحت لي فرصة التعرُّف على تقنية العمل السينمائي وأسراره. عدا هذا كنت أُطعِم أعمالي التليفزيونية بلقطاتٍ سينمائية؛ مما جعلني أجرِّب وأكتشف.
عملية المخرج، قبل كونها دراسة، هي موهبة، بالإضافة إلى الخبرة؛ الموهبة وحدها لا تكفي. ولا يكفي أن أملك التكنيك السينمائي بدون موهبة وخبرة، وربما يفيدني في فيلمي الأول «الآباء الصغار»، كوني كتبتُ القصة والسيناريو؛ مما جعلني أعايش الأحداث وأتصورها كأنها أمامي كصورٍ سينمائية.»
وحسب الحوار الذي نشره محمد رضا في مجلة «الفيديو العربي»، فإن دريد لحام هو صاحب قصة الفيلم، وهو الذي استوحاها من حادثٍ جرى له عام ١٩٦٨م، وكتب القصة في أربع صفحاتٍ، ثم شارك محمد الماغوط كتابة السيناريو: «ضيعت مرة عام ١٩٦٨م أوراقي بين المصنع والجديدة (على الحدود بين سورية ولبنان) نتيجة حادث سيارة، وأحسستُ بنفسي فعلًا مثل روبنسون كروزو، كان الوقت ليلًا، وكان المطر ينهمر. وأحسست أو تساءلت ما الذي يحدث للإنسان إذا ما ضاع جواز سفره أو أوراقه الشخصية، وهو عند منطقة محايدة بين نقطتَي حدود، ربما أنا كنت معروفًا؛ لكن ماذا لو حدثت الواقعة مع إنسان غير معروف؟ إنه لن يستطيع العودة إلى سورية، ولا إلى لبنان. طبعًا الشخص الذي لن يسمح لي باجتياز الحدود دون أوراق قد نكون كجمهورٍ ضده، لكن هو أيضًا لديه وجهة نظر، هو أيضًا يعرف أن إنسانًا من دون أوراق لا يمكن له أن يدخل، المشكلة أن كل إنسان له وجهة نظر محقة، لكن غير المحق هو وجود حدودٍ بين أمة واحدة.»
فالفيلم هو بالفعل الفكرة التي تلمس وترًا خاصًّا لدى المواطن العربي في كل مكان، فلماذا كل هذه الحدود وجوازات السفر بين وطن واحد؟ فلا شك أن هناك فاصلًا واضحًا بين ما يردِّده السياسيون والكُتاب، وبين الواقع الذي يمنع المواطن من دخول بلدٍ عربي مجاوِر، والمشكلة في الفيلم أن عبد الودود يظل حبيسًا بين بلدَين، أحدهما وطنه، والآخر هو أيضًا وطن بديل؛ فلا هو بقادرٍ أن يدخل هذا البلد، ولا ذاك، لمجرد أنه فقدَ بطاقة الهوية، ويعاني من البيروقراطية التي يمارسها ضباط وجنود الجوازات، وهم محقُّون فيما يفعلون، كما أنهم سوف يصيرون أصدقاء لعبد الودود، ويعرفون أنه على حق؛ لكن كله إلا الإجراءات.
عبد الودود مواطن عربي، لا يشير مباشرة في الفيلم إلى هويته؛ وبالتالي إلى أسماء البلدَين اللذين ينتقل بين حدودهما، فهو يُطلِق أسماءً مستعارة بديلة مثل «شرقستان» و«غربستان»، وينتقل بسيارته الصفراء القديمة بين البلاد العربية، وفي الطريق الحدودي بين البلدَين اللذين اختارهما تقطع عليه الطريق امرأة جميلة، منتفخة البطن، ليست حاملة بطفلٍ بقدر ما هي تحمل مجموعة من الملابس، والسلع، التي تقوم بتهريبها عبر الحدود، وعند الحدود يكتشف الرجل، أنه فقدَ جواز سفره، وأن المرأة أيضًا بدون بطاقة هُوية، وأن عليه العودة من حيث جاء.
صار عليه أن يظل محبوسًا بين حدود البلدَين؛ فهو لن يتمكَّن من المرور إلى البلد المتجِه إليه، ولا العودة إلى البلد الذي جاء منه؛ إنها الأرض الحرام، كما يقول التعبير الأوروبي، الذي صار على الرجل أن يتخذه وطنًا جديدًا، وطنًا بلا اسم أو هوية أو انتماء.
عند الحدود بين البلدين «شرقستان» و«غربستان» يكتشف عبد الودود العديدَ من الحقائق التي لم تكن تخطر بباله؛ أولها حقيقة المرأة الجميلة التي تعمل بالتهريب، وهي تتخلص أمام رجال الجمارك من حمولتها من المهربات، ثم الحقيقة المؤلمة أنه صار مواطنًا بلا وطن.
يتم التحقيق مع عبد الودود وسؤاله مجموعة تقليدية من الأسئلة الروتينية، ثم يتم إطلاق سراحه باعتبار أنه بريء، لكن ليس عليه المرور من الحدود، ويردد: «ثبت بالتحقيق أنني أول بريء في هذا الوطن.» وأمام هذه البراءة المُرة يجد المواطن بلا أرض قطعة أرضٍ حرام بين البلدين عليه أن يصنع منها وطنه الجديد إلى أن يكشف الله ضره، أو فلنقل ضر الأوطان صانعة الأسلاك فيما بينها. تحرسها الكلاب المدربة، وأبراج المراقبة، وحراس الحدود المدجَّجون بالسلاح لمنع تهريب البشر والبضائع.
ورغم كل هذه القيود، فإن عبد الودود يحاول الهروب، باعتبار أن على المرء ألَّا يستسلم للظروف القهرية، خاصة أنه يشعر بأنه على حق، فهو يركب أتوبيس مدارس ويغني للأطفال، لكن جنود الحدود الذين بدءوا يعرفونه يعترضونه، ويُنزِلونه من أتوبيس المدارس، كما أن كلاب الحراسة تكتشف وجوده عندما يختبئ في حقيبة السيارة الخلفية، ويتم إخراجه وإعادته إلى المنطقة المحرمة. وفي المرة الثالثة ينحشر في حافلة تنقل مجموعة من الخراف؛ فيتم إخراجه من بينها، كأنما للخِراف أوطان وهو محروم من العودة إلى الوطن، أو الذهاب إلى وطنٍ بديل حقيقي.
إذن، على الرجل أن يصنع لنفسه وطنًا جديدًا يقيم فيه حياة ذات شكل غير مألوف، وأن يتزوج ويقيم أسرة وأبناء، دون أن يتمكَّن من حل مشكلته، وأن يقيم ما يُسمَّى بالوطن البديل، وأن يؤسس بيتًا في المنطقة الجبلية على طريقة روبنسون كروزو، ولكن تحت سمع ونظر الحضارة والمتحضرين. ويختار مكانًا له عبقريَّته، لا يمكن لأحد الطرفَين أن يعارضه، وهو الذي يردد أن البلدَين لم يسبق لهما أن اتفقا؛ وبالتالي فهو في منطقة آمنة، ومن هنا يأتي تعبير الأرض الحرام؛ فلا يمكن للبلدَين أن يتفقا، لكنه ينجح في أن يجعل الكوخ الذي بناه من الحجارة والأخشاب مكانًا يلتقي فيه حراس الحدود من البلدَين، يأتيان للسمر وتناول الشاي الساخن، ثم ينجح في عمل كافيتريا للعابرين. وينجح في تدبير أموره من خلال الحرَّاس، والزبائن العابرين، ثم أيضًا من خلال المرأة المهرِّبة، التي تكوِّن معه أسرة، وتقيم له حياة.
هذه المرأة التي تتسلل في حياة الرجل، وتلفت أنظاره إليها، وتُوقِظ فيه روح الرجل والاهتمام بنفسه، فتساعده في إدارة المكان، يشعر أحيانًا بالغيرة عليها تجاه بعض المترددين على المكان، ويبدأ في التقرُّب إليها، يحدِّثها عن الغرام الذي استبد به ناحيتها، كأنما ما حدث لم يكن في أعماقه بقدر ما هي مشاعر صديقٍ له، يُطلِق عليها اسمًا له علاقة بمقابلتهما معًا «صدفة»، تلاعبه فيما يشعر به، إلى أن يقع في براثن الزوجية. وفي حفل الزواج يأتي جنود الحدود، يرقصون ويغنون، دون أن يكشف الفيلم أي أوراق رسمية قد تم فيها القِران، وأي اسم اتخذه العروسان لنفسيهما على الورق.
عبد الودود ينتقل من الإنسان الأعزب إلى صاحب البيت المتزوج، والذي ينتظر وليدًا لعله يُولَد بلا وطنٍ، أو هوية، وتقود المصادفة إلى المكان صحفية شابة تعمل تحقيقًا حول مواطن بلا هوية، وتنقل الموضوع إلى رئيس تحرير يحاول تسييس القصة متسائلًا عن هُويته السياسية، وهو يمثِّل نموذجًا من رؤساء التحرير العرب الذين يؤثِرون السلامة خوفًا من المتاعب مع السلطة، فيتعاملون مع الكثير من الأمور بارتيابٍ وشكوك.
ونحن مع ما كتبه رءوف توفيق في مجلة «الدوحة» حول هذه النقطة من الفيلم، قائلًا: «هي تفريعات بالتأكيد صادقة، لكنها أخلَّت بإيقاع الفيلم … فهذه التفريعات أدَّت إلى تفريعات أخرى متعلقة بردود فعل الرأي العام وأحاديث وبرامج التليفزيون … وبدا هذا الجزء من الفيلم دخيلًا على النسيج العام؛ ولكننا نعود مرة أخرى إلى الذروة بمشهدٍ ساخرٍ من المؤتمرات التي تُعقَد، ومكبرات الصوت التي تعتلي الأعمدة، والخطب الجوفاء، والشعارات التي استُهلكَت تمامًا.
إن كل المتحدثين في هذا المؤتمر يصرخون بأعلى أصواتهم: لا … ولن، واللافتات مكتوب عليها: أشقاء … أشقاء.»
وأجمل ما في الفيلم أن النهاية لم تُحَل فيها مشكلة الحدود؛ فعندما يتصور عبد الودود وزوجته أن مشكلته قد حُلَّت بهذه المؤتمرات الجوفاء، ويقوم بركل البوابة مُطلِقًا دواجنه أمامه، ومصاحبًا امرأته الحامل معه، فإنه يُفاجأ بالحرَّاس يُوقِفونه من جديدٍ، ويمنعونه من العبور ﻓ «اللوائح لا تتغير»، مهما كانت الشعارات، وعلى عبد الودود وأسرته أن يظلوا محبوسين داخل هذه الأرض الحرام.
وعن تجربة إخراجه قال دريد لحام: «كان لديَّ فريقٌ من المساعدين الجيدين، وعلى رأسهم مساعدة تعمل معي منذ ١٦ سنة على المسرح والتليفزيون، اسمها آنيتا دوردي (سورية المولد، والدها إيطالي) مساعدة ممتازة للغاية. الشيء الثاني في هذا الموضوع أنه حين كنت أعمل مع مخرج آخر كانت الأمور بالنسبة لي أصعب بكثير، هذا جسديًّا أصعب، لكن من ناحية فكرية كان أسهل لأنه بأسلوب عملي أجعل كل مَن حولي يعمل. لأنه حين يدرك أحد أعضاء فريق العمل، حتى عامل الكهرباء، الموضوع، يستطيع أن ينجز الفكرة بصورة أفضل وأسرع. كنتُ في أي مشهدٍ قبل تصويره أجمع الفنانين والفنيين — وحتى العمال الذين كانوا جميعًا قد قرءُوا السيناريو وفهموه — وأشرح لهم ماهية المشهد، والمرغوب منه وتحركاته؛ حين تفعل ذلك يفهم كل واحد حقيقة ما يقوم به، خاصة وأن الفيلم لا يصور بنفس طريقة تتابعه.»
كتب سامي السلاموني عن الفيلم أنه فيلم ينتمي إلى السينما البدائية على المستوى التكنيكي:
«ربما لأن بطله الممثل الكوميدي المعروف دريد لحام اختار، ولسببٍ مجهول، أن يخرجه بنفسه.»
ويعود الكاتب في المقال القصير حول الفيلم نفسه، ويقول كلامًا مختلفًا، فإنه رغم رتابة الجزء الأخير من الفيلم «يظل أحد الأفلام العربية القوية القائمة على النقد السياسي، كأول فيلم يُخرِجه دريد لحام أحد أهم النجوم العرب الموهوبين والمشغولين، حقًّا، بقضايا مجتمعنا العربي كله.»
يقول المخرج في حديثٍ قام به عمار مصارع في مجلة «الحياة السينمائية»، صيف ١٩٨٤م:
«فعلًا كانت محاولتي في «الحدود» عملية تصدٍّ لإنقاذ وضعي السينمائي، وخصوصًا أن للمخرج في السينما وضعًا كبيرًا، وهذا لا يعني تجاهل دور بقية المؤثرات، من منتِج وكاتب سيناريو، ومعمل، ومصور، و… كل العوامل تتضافر لنجاح أو فشل فيلم ما.»
أي أن لحام يعترف هنا بأن كل تاريخه السينمائي السابق على هذا الفيلم لم تكن له أي قيمة تُذكَر، وبالفعل فقد قال في الحديث نفسه إن «كثيرًا من الأفلام قلتُ عنها إنها فاشلة، ومع ذلك أعجبت الجمهور … ربما أعجبته لأسبابٍ أخرى تعوَّدها.»
وفي كتابه عن «الفيلم السياسي في السينما السورية» — المنشور ضمن إصدارات اتحاد الكُتاب بدمشق عام ١٩٩١م — يقول محمد عبد الوهاب الحسيني: «في الحدود — كما في التقرير — ساد المناخ المسرحي على الفيلم؛ بحيث جاء المكان والأحداث وأداء الشخصيات مسرحية، فحين مشاهدة الفيلم يحس المُشاهد بطغيان الجانب المسرحي على الجانب السينمائي.»
والواقع أن دريد لحام الممثل والمخرج، يعترف بنفسه بكل ثقة بهذه الحقيقة، حينما وُجِّهت له ملاحظة حول غلبة اللغة المسرحية على السينمائية في أعماله، فقال بكل بساطة وصدق وعفوية: «أنا لا أفهم اللغة السينمائية التي تأخذون عليَّ غيابها في الفيلم، لم أدرس أكاديميًّا، درست الفنون من الحارة، ومن المعاناة، المهم هل وصل الفيلم إلى الناس؟ هنا اللغة السينمائية.»
كان النجاح مدويًا لفيلم الحدود، واستطاع اسم دريد لحام أن يعبر الكثير من الحدود العربية؛ فعُرِض في العديد من المهرجانات السينمائية، وحصل على واحدة من جوائز مهرجان فالنسيا عام ١٩٨٥م، وهي جائزة أحسن سيناريو، وعندما عُرض جماهيريًّا في سينما كريم بالقاهرة تزاحمت الجماهير على القاعة لمشاهدته. صار دريد لحام الوجه المختلف للصورة القديمة؛ فهو في هذه المرة الممثل والمؤلف والمخرج والكاتب، وقد استطاع أن يُضحِك الناس على مشاكلها السياسية، وتمكَّن من عمل مزيجٍ جيدٍ وجديد، لم يفارقه وهو يقوم بالإعداد لفيلمه الثاني «التقرير»، وأن يقدمه والفيلم السابق لا يزال ماثلًا في الذاكرة.
ترك دريد لحام مهمة الكتابة هذه المرة لمحمد الماغوط، الذي التقط موضوعًا اجتماعيًّا مغموسًا تمامًا بالسياسة. فالشخصية الرئيسية عزمي بك يعمل في منصبٍ سياسي مرموق عالٍ، وهو في الفيلم مستشار في مصلحة التفتيش العليا، ولا أعتقد أنه يوجد في سورية مُسمًّى وظيفي بهذا الاسم، وهو أقرب إلى تسمية الدولتين في فيلم «الحدود».
عزمي بك هذا رجل شريف، وإداري ناجح، وصاحب خبرة إدارية ورؤية واضحة، وهذا الرجل «الدوغري» حسب التعبير الشعبي المصري، يرى أن وجوده أشبه بعثرة حقيقية أمام أحلام الإداريين الفاسدين، الذين يودُّون لو قاموا بإزاحته من طريقهم؛ لذا فإنهم يضعون له العراقيل.
وتبدأ المشكلة حين يريد بعض هؤلاء الفاسدين الاستيلاء على قطعة أرض، وتحويلها إلى عمارات سوبر لوكس، أما هو فيريد أن تتحوَّل إلى حديقة عامة تتنفس المدينة من خضرتها؛ فيقاوم فكرة العمارات اللوكس وحده كأنه أقرب لفرسان العصور الوسطى الذين يقاومون جيوشًا بمفردهم.
وبالفعل فإن مشروع عزمي بك يُجهَض؛ ويتم افتتاح المشروع الآخر، والذي يبدأ افتتاحه بحضور مسئول كبير تحوطه الزفة، لافتتاح حنفية كبيرة رمزًا لورود المياه والخير إلى المكان، لكن ما إن ينصرف المسئول وحاشيته حتى تتوقف نقاط المياه عن التدفُّق، معلنةً الجدب الذي أصاب آفاق المشروع.
وأمام إحساسه بالفشل تجاه خصومه الذين نجحوا في إقامة المشروع السياحي، وأمام صمت الإدارة العليا تجاه مطالب المستشار، بعد إقامة مثل هذا المشروع بسلبياته، فإن عزمي بك يحاول المناورة بتقديم استقالته؛ ظنًّا منه أن الدولة لن يمكنها أن تستغني عن أمثاله، وأنهم لا بد أن يتمسَّكوا به؛ فهو يتصور أن الدنيا لن تتمكَّن من المُضي بعده، وهذا نوع من الفكر القاصر الذي لا معنى له؛ فقد ناور دون كيشوت العصر على قضية تعني قلة خبرته الإدارية، وكان عليه أن يتوقع أن تُقبَل استقالته بمجرد تقديمها.
لقد توقَّع أن تقوم الدنيا دون أن تقعد، لو وصلت أخبار استقالته إلى وسائل الإعلام المختلفة؛ لكن العكس هو الصحيح، والفيلم حسب رأينا ليس إدانة فقط للفاسدين الذين يمكنهم الوصول إلى أهدافهم بقوة ونجاح، بل أيضًا إدانة لكل فارس يلوِّح بالتنازل عن جواده وسيفه أثناء المعركة، كما يعكس أن الخبرة الإدارية لأصحاب هذه المناصب، مهما كانت طويلة، فإن الحَيطة تنقصها؛ بدليل أن المناورة الأولى تفشل، فلا يقوم أحد من رجال الإدارة العليا بالسؤال عن الاستقالة وصاحبها ومراجعته فيما اتخذ؛ وذلك أن الاستقالة، حسب العرف الإداري، تعني لوي عنق المسئول؛ لذا فإن حالة الضياع التي عاشها عزمي بك عقب استقالته هي عقاب يستحقه عن حقٍّ؛ فقد أكدت الاستقالة أن المثالية يجب أن تكون لها مخالب لمساندتها، مثلما للفاسدين كل هذه المخالب الشديدة الشراسة.
ويصاب المستشار بحالة من الهوس الطوبوي حين يتصور أن كتابة تقرير إلى رئيس الدولة يشرح فيه رؤيته لحل مشاكل الوطن هو الحل الأمثل؛ فهو ينزل إلى المدينة يرصد الجوانب السلبية كافة كي يدوِّنها في تقريره الطوباوي، الذي يُعِدُّه بمعاونة سكرتيرته، ويعرف أن السيد الرئيس سوف يحضر لمشاهدة مباراة دولية في كرة القدم؛ فيؤهِّل نفسه لتقديم التقرير، وهل هذا مكان مناسب لتسليم تقرير بمثل هذه الأهمية؟ بل هل من المناسب أن ينزل إلى أرض الملعب كي يتوجه إلى الجانب الآخر؛ فيدفعه المتبارون ويُسقِطونه أرضًا، فيسقط التقرير أرضًا، وتتطاير أوراقه فلا يصل إلى هدفه.
الفيلم، بلا شكٍّ، يُدين كافة الوجوه السلبية التي يرصدها المستشار المستقيل، لكنه لم يختَر الوسيلة الأمثل لوصول تقريره إلى المسئول الأول، واستحق أن تتطاير أوراقه في الهواء، أثناء مباراة كرة قدم.
لا شك أن الفكرة التي جاءت للفنان، وقام محور الفيلم عليها، أن الحاكم المعاصر يستلهم ما يدور في المجتمع المتسع الذي يحكمه من خلال التقارير التي تأتيه من معاونيه، وقد تحدَّث المخرج بهذا الأمر إلى وجيه خيري في العدد الثالث من مجلة «سينما ٢٠٠٠»، وقال: «نحن في تقاريرنا نحاول أن نعبُر جدار المصالح الذي يُحاط عادة بأولي الأمر، أو يحيطونهم به أصحاب المصالح الخاصة، في فيلم «التقرير» نحاول أن نعبُر هذا الجدار.»
كتب سامي السلاموني في مقال له، تم ضمُّه ضمن كتابات السلاموني، قائلًا: «صحيح أن «التقرير» استخدم، لتوصيل رسالته، مزيجًا فريدًا من فنون «الإيفيه» اللفظي والحركي المعروفة في المسرح الشعبي المصري، وبما يقترب من الكباريه السياسي، وهو نوع شائع ومعترَف به في المسرح الانتقادي في أوروبا، وصحيح أن الرموز والإيحاءات المباشرة غلبت على الحلول السينمائية، ولكن ما الذي يمنع؟ إن المباشرة تصبح مطلوبة أحيانًا إذا كانت أسرع وأضمن الأساليب لتوصيل الفكرة لجمهورٍ معين، وبأبسط أدوات السينما حتى تحقق هذا التوصيل. ولا بد من تقييم «إخراج» دريد لحام في هذه الحدود وفي هذا الإطار، حتى لا تصبح السينما بالمعنى الشكلي أو الحرفي هي الهدف في ذاتها. كما لا يمكن إنكار قدراته الفذة كممثلٍ كوميدي ذي طابع خاص وفذٍّ له هذا الحضور القوي، والتأثير الفوري الكاسح على الجمهور؛ حتى أصبح دريد لحام بطلًا شعبيًّا مصريًّا، يحتشد الناس في القاهرة لأفلامه كما يحتشدون في دمشق؛ لأنه أصبح بفيلمين فقط يمثِّل معنًى ورمزًا لدى أبسط متفرج يذهب إليه.»
النهاية في الفيلمَين السياسيَّين اللذين قدَّمهما دريد لحام تبدو متشائمة، رغم أن الموضوعين مغلَّفَين بالكوميديا الساخرة؛ فالرجل الحبيس وراء الحدود، من الواضح أنه سيظل محبوسًا هناك إلى الأبد، ليس هذه المرة وحده، بل أيضًا مع أسرته التي عليها أن تكبر وتنمو، وتكون وطنًا حقيقيًّا في الأرض الحرام، أما نهاية عزمي فهي دليل مؤكد لكل من تسوِّل له نفسه أن يتصرف بالطريقة نفسها، أن تتطاير أوراق حياته تحت أقدام لاعبي كرة أشداء تملؤهم الحيوية والحماس لتحقيق الأهداف، وتحت أعين القيادة السياسية، وأنظار ملايين المتفرجين، سواء في المدرجات، أم الذين يشاهدون المباراة في البيوت والمقاهي.
من جديدٍ استعان دريد لحام في فيلمه بالممثلة السورية رغدة، التي لم تعمل كثيرًا في السينما السورية، والتي كانت في أحسن حالاتها في الفيلم الأول، كما استعان لأول مرة ﺑ «منى واصف» لتقوم بدور الزوجة التي تؤازر زوجها في مواقفه، وتراه بطلًا حقيقيًّا.
ظلَّت الأفلام الثلاثة التي قدمها دريد لحام بعيدة عن إنتاج المؤسسة العامة للسينما، فالفيلم الثالث «كفرون» الذي كتبه رفيق الصبان، وأنتجه نادر الأتاسي، وقد قام المخرج بكتابة القصة، وأشرك في البطولة الممثلة اللبنانية مادلين طبر في أحسن حالاتها السينمائية، وقد انفتحت لها أبواب الشهرة في التليفزيون المصري عقب عرض الفيلم في مصر.
ولم يشأ دريد التخلي عن اسم عبد الودود، الذي كان فاتحة خير عليه، فرأينا ودود حاجب المدرسة الابتدائية في كفرون الجبلية الصغيرة، والبعيدة عن المدينة، ويُعتبَر عصب المدرسة لقيامه بعدة مهام فيها، وذلك بسبب نقص كادرها الناجم عن عدم اهتمام السلطة المركزية بالمناطق البعيدة عن العاصمة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تقاعس المدرسين القادمين من المدينة، ورفضهم التعامل مع الحياة في القرية؛ ولهذا تربطه بأطفال المدرسة علاقة محبة وصداقة؛ يلهو معهم ويغني لهم، ويحل مشاكلهم، ويشاركهم التعلُّم، ولو من نوافذ الصفوف.
وبقدر ما هو سعيد بالمدرسة بقدر ما تنغص عليه أمه صخور حياته، في البيت بسبب رفضها الموافقة على زواجه من ابنة عمِّه سِعدا، قبل أن يثأر من «أبو جابر الناطور» قاتل أبيه، ذلك الحادث الذي حكم فيه القانون بأنه قتلٌ عن غير عمد، ولكن الأم لا تؤمن إلا بقانون الثأر.
تأتي إلى المدرسة المعلمة الجديدة نورا، وترفض في البداية التأقلم مع الحياة في القرية، ولكنها بتأثيرٍ من ودود سرعان ما تغيِّر قناعتها؛ وتصبح عنصرًا فاعلًا في حياة المدرسة وأطفالها.
تقع حادثة في القرية يذهب ضحيتها أبو جابر الناطور، وتشير كل الدلائل المادية إلى أن ودود هو الفاعل بدافع الثأر؛ إلا أن الأطفال يرَون أن ودود لا يمكن أن يكون قاتلًا، وينبرون للدفاع عنه، وتهريبه عن أعين رجال الشرطة، ريثما يجدون الدليل المادي على براءته. وبمساعدة المعلمة نورا، التي علَّمتهم التفكير المنظم، وترجيح العقل على العاطفة حين اتخاذ القرارات والمواقف، وينجحون في إثبات براءة ودود، ويساهمون في اكتشاف القاتل الحقيقي.
وحسب الآراء التي جمعتها هيام منور في مجلة «فن» فإن المناظير في الفيلم قد تباينت تمامًا؛ حيث قال جان ألكسان إن «كفرون» اسكتش تليفزيوني باهت، ولا يوجد به سينما على الإطلاق، كما أن الناقد محمد الأحمد كانت له الرؤية السلبية نفسها؛ حيث قال إنه:
«خطوة إلى الوراء في سينما دريد لحام؛ من حيث الفكرة المطروحة والمعالجة الدرامية لها، هذا إذا أردنا — أو فضَّلنا — عدم التحدث، أو الخوض في الجوانب التقنية وتحليل المشكلات المشهدية، أو القطع المونتاجي المتَّبَع.
إذا اكتفينا ببحث المقولة؛ فسنجد أنها مكررة في أكثر من عمل سينمائي سابق، ومستنبَطة، إلى حدٍّ بعيد، من فيلم «صوت الموسيقى» لروبرت وايز، كذلك نجد أن الحلول لا تأخذ المساحة الزمنية المطلوب توفُّرها، وكمثالٍ؛ فالمدرِّسة (مادلين طبر) تغيِّر نظرتها للقرية الوافدة إليها بسرعة شديدة؛ وتتحوَّل من عدائية شديدة إلى محبة مفرطة، وكذلك تتبدَّل قناعة الأم الصارمة في نهاية الفيلم.
السيناريو يعاني خللًا واضحًا، وضعفًا في البِنية، الأداء التمثيلي باهت، وحركة الكاميرا رتيبة.
أجمل ما في الفيلم الموسيقى التصويرية، وأداء بعض الأطفال.»
أما الناقد رفيق الأتاسي، فيقول إنه لا يمكن تقويم فيلم دريد لحام الجديد بالمقاييس النقدية المعروفة؛ فهذا الفيلم نوع من الخيال والحلم، كان يراود دريد منذ فترة طويلة، بأن يصنع فيلمًا للأطفال ومع الأطفال؛ لكنه كان يتهيَّب التجربة كلما اقترب منها، معتبِرًا أن عالم الطفولة سحري ومقدس، لا يجوز تناوله ببساطة وسذاجة كما فعل الآخرون، وأن الأطفال، على عكس ما هو شائع، أكثر ذكاءً وانتباهًا، حتى من الكثير من الكبار.
«أغاني الفيلم ذات معانٍ واضحة وأبعاد كبيرة، واستعراضاته مدروسة، ومنفَّذة بعناية وإتقان ملحوظَين، وهذا يدفعنا لمطالبة دريد لحام بفيلمٍ استعراضي كامل ومتكامل، ومع الأطفال أيضًا، وبسيناريو محكم البناء، وقصة أكثر تنويعًا واقترابًا من الواقع.»
ويقول رياض نعسان آغا الناقد السوري: «الفيلم مسرِف في بساطته؛ فالعلاقات الدرامية غير مدروسة جيدًا، والانقلاب في مواقف الشخصيات غير مبرَّر، وأحيانًا غير مقنِع، إذا أخذنا بالاعتبار الأسس الدرامية التقليدية، كالانقلاب في شخصية المعلمة، أو الانقلاب في شخصية صخور، وأنسانا جمال الطبيعة أخطاء التقنية الصوتية، كما أنسانا الغناء العذب للأطفال بِنية الحدث التسلسلي الدرامي؛ المهم أن دريد لحام قدَّم لنا شيئًا جميلًا، يمتِّع العين والقلب، وخرج عن مرحلته السياسية المباشرة في المسرح والسينما، إلى ما هو أشمل وأكثر عمومية في طرح قضية شديدة الأهمية هي نسيان الأحقاد والانطلاق إلى بلدٍ أفضل في كنف المحبة، وهذا هو مضمون أغنية النهاية.»
المعروف أن دريد لحام — بعد هذه التجربة — بدا كأنه يود أن يحتفظ بتاريخٍ ناصع؛ ﺑ «الحدود» و«التقرير»، وألَّا يمس هذا التاريخ بأفلامٍ جديدة، حتى ولو مُخرِجًا، وراح ينوِّع نشاطه، ويكثِّفه بعيدًا عن السينما؛ فتولى العديد من المناصب الإدارية الفنية، مثل رئاسة مهرجان حلب للأغنية، وكان بالفعل مديرًا ناجحًا، كما عمل بالعديد من المسلسلات التليفزيونية المتباينة القيمة، واعتزل المسرح كثيرًا من الوقت، وتولى منصبًا تابعًا للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، وعمل في العديد من البرامج التليفزيونية المتباينة القيمة والنجاح أيضًا.
لكن أهم ما في الأمر أن دريد صار وحده واجهة الحياة الفنية في الصحافة، خاصة خارج سورية، وقام بشنِّ بعض الحملات على مؤسسة السينما، وقام بالتنظير أحيانًا، وقصَّ حياته للعديد من الصحف، وكان وجوده في الاحتفاليات الفنية أكبر من وجوده الفني، ومن المهم أن نقتبس بعضًا مما جاء في هذه الصحف والمجلات، وما أكثرها في أرشيفنا!
-
الفرز التعسفي بين القطاعَين العام والخاص، جعل مخرج القطاع العام يرفض التعاون مع القطاع الخاص (مجلة فنون إلى ديانا جبور).
-
نحن السوريين نريد أن يحمل العمل الفني زخمًا فكريًّا كبيرًا، ولا نقبل عملًا ضاحكًا لمجرد الضحك، فنحن، بالإجمال، متجهمون أكثر من اللازم؛ لذلك لا تجدين مثلًا نكتة سورية (المصدر السابق نفسه).
-
البطل الرئيسي في أعمالي هو الموضوع، وخاصة أنا أتعامل مع كلمة الماغوط، وهذا وحده يشكِّل بطولة، فأحرص على تقديم أبسط شكلٍ ممكنٍ ليصل إلى جمهورٍ أعرض، وأتعامل مع الكاميرا على أنها شخصية سوية، وليست مجنونة … وأنا عندما أصوِّر مشهدَ حوار ما بين اثنين أعتبر أحدهما الكاميرا والآخر المحاور (العدد الثالث من مجلة «سينما ٢٠٠٠»، إلى وجيه خيري).
-
أنا متأكد من وجود الرقابة؛ ولذلك أحاول أن أقدم حلولًا لهذه القضية؛ فأقدم أسئلة لجغرافيا وهمية، ففي «الحدود» مثلًا، قدمت قطعة أرض عربية غير مُسمَّاة بالرمز، «غربستان»، و«شرقستان»، و«عموم ستان»، وهكذا استطعت تقديم الفيلم، واستطاع المُشاهِد فهم ما رميت إليه، ولم يستطع الرقيب أن يمنع الفيلم، أو أن يصادره، وذلك أفضل مما لو قلت هذه الحدود موجودة بين بلدَين عربيَّين وسميتهما، لأنه في هذه الحالة سيُمنَع الفيلم من دخول البلدَين (مجلة الكواكب، إلى أمير أباظة).
-
لماذا قدمت أفلامي الأولى على تلك الشاكلة؛ فلأنني كنت محكومًا — كأي فنان — في بداياته بهاجس الانتشار، الأمر نفسه في التليفزيون؛ حيث كان همي أن أصل إلى الناس، ولو عبر الشكل أو التهريج، مع العلم أنني سأعيد تقديم هذه الأعمال لو عاد بي الزمن إلى الوراء (مجلة «فن» إلى ديانا جبور).