الفصل السادس

حالة نبيل المالح

نبيل المالح حالة سينمائية أخرى في السينما السورية، عمل بين القطاعَين الخاص والعام في أفلامٍ تباينت مستوياتها الفنية، لكن أغلبها كان جيدًا، ينتمي إلى مدرسة المعسكر الشرقي، لم يذهب إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة مثلما سيفعل الذين جاءوا للسينما من بعده، لكنه اتجه إلى تشيكوسلوفاكيا؛ حيث أنهى دراسته السينمائية في براغ في بداية الستينيات، وقد سبق بالتالي جيلًا بأكمله، كان أسبقهم بالطبع في العمل بالسينما، فعند عودته إلى سورية عمل بالمؤسسة العامة للسينما، وأخرج العديد من الأفلام القصيرة، كان من أهمها «إيقاع دمشقي» و«نابالم».

وفي عام ١٩٦٩م أخرج فيلمه الروائي القصير الأول بعنوان «إكليل الشوك»، وفيه يتناول بعض جوانب القضية الفلسطينية. وفي العام التالي شارك في إخراج فيلم «رجال تحت الشمس»، الذي كان يتضمن ثلاثة أفلام روائية قصيرة، منها اسكتش «اللقاء» لمروان مؤذن، و«ميلاد» لمحمد شاهين، أما الاسكتش الذي قدمه المالح فهو بعنوان «المخاض»، وقد نال الفيلم جائزة مهرجان قرطاج الفضية عام ١٩٧٠م.

في عام ۱۹٧٢م أخرج لحساب المؤسسة العامة للسينما فيلمه «الفهد» الذي نال جائزة مهرجان دمشق الدولي للشباب في نفس العام، وجائزة مسابقة السيمبوزيوم لأفلام دول العالم الثالث في مهرجان كارلو فيفاري، وجائزة مهرجان لوكارنو الدولي بسويسرا، بمناسبة مرور ربع قرن على إقامته، وقد نال الفيلم نجاحًا تجاريًّا ملحوظًا عند عرضه.

وفي السنة التالية قدم فيلمه «غوار جيمس بوند»، مع الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي، سيرًا على مسار هذا النوع من الأفلام، ثم قدَّم فيلمه «السيد التقدمي». ويُعتبَر المالح من أكثر المخرجين نشاطًا من أبناء جيله، بعد زميله محمد شاهين، ومن هذه الأفلام:

بقايا صور ۱۹۸۰م
تاريخ حلم ۱۹۸۳م
كومبارس ۱۹۹۳م

كما عمل في إخراج المسلسلات والبرامج التليفزيونية.

في اسكتش «المخاض» يرصد المخرج اعتداءً صهيونيًّا يقع على قرية عزلاء؛ ينتهي بمصيرٍ مفجعٍ لرجلٍ وزوجته الحامل، هذا المصير يمهد لظهور جيلٍ جديد يحمل السلاح، ويحارب من أجل الأمة التي اغتُصبَت.

عن تجربته السينمائية، كتب المالح في مجلة «عالم الفكر» الكويتية، يوليو ۱۹۹۷م، قائلًا:

«عام ١٩٦٩م كتبت سيناريو «الفهد» عن رواية لحيدر حيدر، وكان هذا هو مشروع الفيلم الروائي السوري الأول؛ إذ لم يُخرج سوى فيلم «سائق الشاحنة» لمخرج يوغسلافي، ولا يمكن اعتبار هذا الفيلم سوريًّا حقًّا.

قبل أسبوعٍ واحد من وعد انطلاقنا للتصوير، جاء الأمر من وزارة الداخلية، وبالتالي وزارة الثقافة، بمنع تصوير الفيلم، ولم تنفع الاحتجاجات؛ فالفيلم يتحدث عن ثائرٍ فردٍ في مجابهة السلطة، وهذا ممنوع.»

أما فيلمه «الفهد» فيروي قصة فلاح بسيط اكتشف أن السلطة الإقطاعية هي امتداد للسلطة الاستعمارية حين انتزعت منه أرضه؛ فتم وضعه في السجن حيث تم تعذيبه، وأُهينَت كرامته بوحشية من قِبَل أدوات القمع ممثَّلة برجال الخفر، فراح يخطط للهروب من السجن إلى أن تمكن من ذلك ومعه بندقية، وهناك بدأ صراعه الدامي مع رجال الشرطة وعصابات الإقطاع، أطلقوا عليه اسم الفهد لمهارته في الهجوم الخاطف، والهروب السريع مهما كانت المخاطر التي تحاصره، واكتشف أن الفلاحين — أقرانه — ليس لديهم الوعي لمواجهة الإقطاعي الظالم؛ فدفع حياته ثمنًا لوعيٍ سوف يصحو عند أبناء القرية الذين سيتعلمون كيف تكون الثورة، وذلك بعد أن وشى به بعض الذين تصوَّرهم قريبين منه، يؤمنون بأفكاره؛ فسيق إلى المشنقة ليدفع وحده ثمن إيمانه بالدفاع عن الآخر.

وفي المصدر السابق الإشارة إليه نفسه، تحدَّث المالح أن الفيلم «حقق عددًا من الأمور في آنٍ واحد؛ فلقد كان بحقٍّ الفيلم الروائي الطويل الأول السوري بالكامل لمؤسسة السينما، كما أنه الفيلم الأول الذي حقق هذا الحضور والتوزيع العالمي، وإلى جانب الجوائز العديدة التي حازها من مهرجانات مختلفة، فلقد كانت جائزته الحقيقية هي أنه شكَّل ظاهرة ليست لها سابقة في السينما العربية؛ إذ بقي يُعرَض في الصالات منذ عام ١٩٧٢م حتى الآن، وكان على السينما السورية أن تنتظر عشرين عامًا لتصادف نجاحًا جماهيريًّا مماثلًا في فيلم «رسائل شفهية».»

لقد عبَّر المخرج عما يمكن تسميته بالثورة العقيمة؛ فالفرد لا يمكنه أن يقوم وحده بثورة، إنه في هذا الحال متمرد، أو خارج عن القانون؛ لذا فإن الثمن هو أن يموت صريعًا على أيدي رجال الإقطاعي. ويقول المخرج في مجلة «الصياد»: «لم يكن عندي ميل للمجاميع، أعجبني الموضوع، وقد فرضت المجاميع وضعها عليَّ من خلال موضوع الفيلم، كان تحريك المجاميع ممتعًا ومرهقًا، وأنا أكثر ميلًا إلى الفيلم الذي يحوي عناصر أقل بعطاءٍ أكثر.»

وفي الحديث نفسه قال المالح «الحكومات هي أجهزة قمعية بالنسبة إلى طموح الفنان، وإن الفنان الخلَّاق هو مَن يتجاوز الأسيجة لتحقيق رؤيا هيكلية لها أبعادها، وتكمن شجاعته في الاستمرار ضمن هذا الخط.

… تحاول الكثير من الحكومات أن تشتري قدرة الفنان، وتبيع إبداعه، وهي قادرة أن تموِّل أي فكر نحو مآربها، وفي مثل هذه الحالة يكون أفضل وضع للفنان هو الوضع القتالي.»

وحسب كتاب سمير فريد عن «السينما العربية المعاصرة» — المجلس الأعلى للثقافة ١٩٩٨م — فإن فيلم «الفهد» قد نال الجوائز التالية:

جائزة لجنة التحكيم الخاصة، مع فيلم «وشمة»، إخراج حميد بناني (المغرب)، مهرجان دمشق الدولي لأفلام الشباب ۱۹۷۲م.

جائزة أحسن أفلام العالم الثالث، مع فيلم «وغدًا» إخراج إبراهيم باباي (تونس)، وفيلم «أغنية على الممر»، إخراج علي عبد الخالق (مصر)، مهرجان كارلو فيفاري، (تشيكوسلوفاكيا) ۱۹۷۲م.

جائزة خاصة من مهرجان لوكارنو الدولي، (سويسرا) ۱۹۷۲م.

أما فيلمه «السيد التقدمي» فيروي قصة عادل الصحفي المتحمس، الذي يحاول فضح شخصية رجل برجوازي يمارس لعبة السياسة من أجل الوصول إلى هدفه بطرقٍ برجماتية عديدة؛ منها ابتزاز خصومه، خاصة بعد أن وصل إلى السلطة عن طريق قيامه ببعض الصفقات المشبوهة، وجعل الجمهور يصفق له، ويهتف إعجابًا بشعاراته دون أن يدرك حقيقته المُخادِعة، ويستطيع هذا السياسي، الكبير بذكائه وعلاقته مع أجهزة القمع، أن يُسكِت الصحفي المتحمس، بأن يجعله هدفًا لمؤامرة مدروسة، يُتهَم فيها الصحفي بارتكاب جريمة قتل.

وقد كتب الناقد الأردني حسان أبو غنيمة في مجلة «السينما والمسرح» القاهرية (يونيو ١٩٧٥م) قائلًا: «قد يكون فيلم «السيد التقدمي» جاء مخيبًا لآمال الكثيرين ممن يعطون نبيل المالح قيمة كبيرة كمخرج، وقد سبَّبت خيبة الأمل هذه أن نبيل المالح قد أحسن التخطيط الدعائي لفيلمه بشكلٍ أوحى لكثيرين بأن ما سيقدِّمه لهم هو تحفة سينمائية وفكرية عظيمة، وأن ما سيقوله سياسيًّا في الفيلم سيكون الأجرأ والأكثر حدة، إلا أن هذا الفيلم لا يستطيع أن ينفي أهمية هذه التجربة السينمائية التي قدمها المالح لنا، عبر أحداث فيلمه التي تتلخص بمحاولات أحد البرجوازيين ومساوماته لشراء ضمير أحد الصحفيين الذي يُجري تحقيقًا حول حقيقة هذا البرجوازي المطروح ليكون سياسيًّا ذا شأن، ضمن تركيبة الانتخابات الآتية، وفي هذا التحقيق يكشف الصحفي عن حقيقة هذا البرجوازي السياسية، المزيفة، وعن ارتباطاته المشبوهة، واختلاساته المشينة للأموال العامة مدعمًا ما يقوله بالوثائق الدامغة.»

وقد أشار أبو غنيمة أن الفيلم مأخوذ من رواية للكاتب موريس ويست، دون أن يذكر اسمها. والفيلم يروي تفاصيل الصراع بين الصحفي والبرجوازي، فهذا الأخير قد دبَّر خطة متقنة لاتهام الصحفي وامرأته، التي كانت عشيقته فيما قبل، بتهمة قتلٍ ملفَّقة، وبالتالي فمن أجل خروجهما من هذه الورطة عليه مساومة الصحفي، لكن البرجوازي يعرف أن خصمه لديه العديد من الوثائق التي تُدينه؛ فيتحول التهديد إلى مساومة.

ويتمكَّن البرجوازي من استخدام سلاح المرأة بعد أن يفشل سلاح المساومة؛ فيدفع بسكرتيرته الحسناء للدخول في حياة الصحفي، وتتمكَّن من سلبه الوثائق، ويتمكن البرجوازي من نزع الصحفي من أسلحته، ويهدده من جديدٍ بإدخاله السجن؛ لكن الزوجة تقوم بإخراج المزيد من وثائق الإدانة للخصم، ومن جديدٍ يعود سلاح التهديد بين الطرفَين، وتتمكَّن الزوجة من انتزاع اعترافٍ من والد السكرتيرة، وهو القاتل الحقيقي في الجريمة التي تم فيها اتهام الصحفي بالقتل.

نحن أمام فيلم عن الفساد السياسي، ظهر في نفس الفترة التي قدَّم فيها ممدوح شكري فيلمه «زائر الفجر»، الذي تعطَّل عن العرض أكثر من ثلاثة أعوام، من تأليف كاتب سيناريو سوري هو رفيق الصبان. والفيلم يصف تفاصيل المؤامرة المتكاملة ضد الصحفي؛ فالفساد ليس حالة فردية، بقدر ما هو ظاهرة منتشرة في أنحاء متفرقة من المجتمع، فرئيس التحرير يرفض نشر التحقيق الصحفي الذي يكشف فساد البرجوازي، بحجة أن ظروف الوطن لا تسمح بذلك، بينما يتقدم البرجوازي إلى تحقيق هدفه الأعلى بأن يتقدم إلى الانتخابات، ومن الواضح أنه سوف ينجح ما دامت قوات الأمن تدعمه، وتسعى بكل قوة لقمع مظاهرات المعارضين له.

ويرى أبو غنيمة في مقاله المذكور أن: «من حيث أسلوبية الفيلم؛ فلم يحاول نبيل المالح أن يسير في فيلمه بمستويَيه البوليسي والسياسي بذات القدر من التوازن الذي يمكن أن يؤثر دراميًّا بشكلٍ مقنعٍ أكثر من مراعاة نبيل في تقديم أحداث الفيلم بالاهتمام بنتيجة الحدث السياسية أكثر من الحدث ذاته، إلا في حدود أهميته كعنصرٍ تشويقي فقط لشد انتباه المُشاهِد، وهذا مما يفسر الإيقاع البطيء الذي تتميز به بعض مشاهد الفيلم، خلافًا لنوعية الإيقاع السريع والحاد الذي يجب أن تتميز به الأفلام من هذه النوعية، وكان يمكن للمالح أن يعطي الحيوية الكبيرة لأحداث فيلمه، وعلى ذات المستوى الذي قدم به لقطات وقوع حادثة القتل مثلًا، أو المظاهرات وتفريق المتظاهرين، إلا أنني أظن بأن رغبة المالح في أن يكون ما يقدمه من نتائج سياسية واضحة هي التي أملت عليه الاعتماد على الحوار المباشر وجعلته يقلل من الاستعراضات التقنية لتقديم مشاهد فيلمه إلا بالشكل الذي يصبح وجودها فيه مبررًا دراميًّا، وبشكلٍ تتناسب فيه مع المضمون، مثل مشاهد: إعلام الصحفي، حادثة القتل، حوارات الصحفيين، المظاهرات.»

وقد تحدث المخرج عن بطله إلى مجلة «الصياد»، أثناء تصوير الفيلم في لبنان قائلًا: «الصحفي هو ناضج ومثقف، يتمتع بالوعي السياسي ويتمرد، لكنك تقدِّم محاولته التي تبقى بلا نتيجة وكأنها يائسة. أنا لا أقدم البديل؛ إنما إيحاء عن البديل في كيفية التحرك السياسي الصحيح. بطلي هو النضال السياسي الجماعي المنظم الواعي. أنا لا أحب الشعارات المستحيلة والمثاليات غير الواقعية التي لا يمكن تطبيقها والعمل بموجبها، ضمن الأنظمة العربية القائمة. هذا النضال الصحيح الذي أتكلم عنه له صفة إيحائية وداخلية؛ لكنها لم تصل إلى شكل التنظيم الجماعي المباشر، لذلك لم أكذب على الجمهور وعلى نفسي، بما أن جميع الضغوط تمارس لهذا النظام الحقيقي الناتج عن الوعي الجماعي.»

من فيلمٍ مأخوذ عن رواية لموريس ويست، إلى رواية «بقايا صور» المأخوذة عن حنَّا مينا يُعِد لها السيناريو كلٌّ من سمير ذكرى ومحمد مرعي فروح، والمخرج نفسه عام ١٩٧٩م، وهنا يعود المخرج إلى سورية العشرينيات، من خلال عائلة أبو سليم التي تعيش ظروفًا صعبة؛ مما يجعل أحلامها الصغيرة في ممارسة الحياة بشكلٍ كريمٍ أمرًا شديدَ الصعوبة، بل ومستحيلًا؛ فهناك مواجهة صارمة بين الفلاحين ورجال الشرطة الذين يدافعون عن الإقطاعي. الأسرة الفقيرة تتكوَّن من زوجة مكافِحة، وزوج يتسم بحب المغامرة والمواجهة، وجيران يحلمون بالثروات وتحقيق الطموح الضائع، والطفل الذي ينمو وسط هذا النوع من الصراعات البالغة الحدة.

في هذا الفيلم حاول المخرج أن يطبِّق مقولته، التي أعلنها لقاسم حول في مجلة «أوراق» أنه عند العرب هامش الحرية يسمح بالحديث عن كل شيء إلا الحاضر، ولعله لهذا السبب اختار فترة نهاية العشرينيات من ناحية، وأيضًا دفع المخرج للسفر إلى اليونان للعيش هناك بعض الوقت، قبل أن يعود إلى سورية، ويتمكَّن من إخراج «كومبارس». وقد بدا المخرج من خلال ما قاله في الحديث المُشار إليه تائهًا بعيدًا عن الوطن، غير قادر على العمل، يبحث عن هُوية إبداعية خاصة؛ فلا هو بالقادر على التأقلم مع ما يريد أن يقوله في الوطن، ولا هو بقادرٍ على العمل في اليونان، ومدن الغرب التي انتقل فيما بينها:

«وجودي هنا مجرد تغيير واقع، وانتقالي إلى أوروبا لا يضيف شيئًا إلى إبداعي الفني. إن العلاقة الأساسية بالنسبة لي كفنانٍ هي العلاقة المستمرة والدائمة بهذا الوطن الذي أنتمي إليه، والذي أنا منه بكل ما تعنيه كلمة انتماء، وجودي في أوروبا لا يعني إطلاقًا أنني بدأت أنظر إلى الأمور بشكلٍ جديدٍ، وأنا بشكلٍ مستمرٍّ في حالة اغتراب. فالآن أشعر بالغَبن الداخلي والامتعاض في نفسي لأنني بعيدٌ، إلى حدٍّ ما، عن حياة المواطن في بلدي.»

وفي حوار له بعد العودة نشرته مجلة «فن»، وكتبته ديانا حبور، قال عن نفس التجربة: «أنا سافرت لانعدام الإمكانية هنا؛ فالظرف في العالم العربي منعكس علينا، بشكلٍ غير معقول، كسينمائيين، فبينما يمر التاريخ بأشرس وأهم سنوات السينما؛ ما زلنا نفكر بالمقياس النقدي والرقابي للخمسينيات. فعليًّا التاريخ يُكتَب في منطقتنا، ونحن لم نلمس بعد زجاجه، أيُعقَل أن تُفرقَع المنطقة ونحن نفكر هل ندَع البطل يقبِّل البطلة أم لا؟»

وقد أشار المخرج في شهادته إلى مجلة «عالم الفكر»، العدد المذكور آنفًا، أن السبب هو البيروقراطية، وتبعثُر المثقفين فيما أسماه صراعاتٍ أيديولوجية صغيرة، «وبعد أن كانوا دُعاة منهجية ديمقراطية؛ غدَوا يمارسون حيال بعضهم أشرسَ أنواع الإرهاب الفكري.»

وحسب نفس المصدر، فإن المالح قام بالسفر إلى الولايات المتحدة من أجل إلقاء العديد من المحاضرات في العديد من الجامعات؛ منها تكساس، ولوس أنجلوس، ثم توجَّه مع أسرته للإقامة في جنيف، وقضى هناك عامًا: «وجدتُ نفسي مع عائلتي الصغيرة مهاجرًا مع أمتعتي في سيارة كغجري، أجوب أوروبا باحثًا عن وطنٍ مؤقت، حتى وصلت أثينا، والإقامة المؤقتة المقرَّرة استمرت لأكثر من تسع سنوات.»

من الواضح بفيلمه التالي «كومبارس» ١٩٩٣م، أن نبيل المالح لم يتنازل بالمرة عن مشروعه في مزج الفيلم بالسياسة. ومن الواضح أنه لم يلجأ هذه المرة إلى الماضي هروبًا من الحاضر، بل إنه تعامل مع الحاضر مباشرة، مؤمنًا بما قاله يومًا إن البطلة مهما كانت ثورية وتقدمية، فهي محافِظة، وتحاول أن تحافظ على نمطها، وعلى مختلف القِيَم الفوقية والتحتية كما هي، وهذا يمتد إلى نمطيات السلوك والحب والجمال والقبح والمطلوب وغير المطلوب.

يختار الفيلم اثنين من الهامشيين في المجتمع، مجرد رجل وامرأة من بين آلاف النساء والرجال، الذين يلتقون يوميًّا، وتنمو بينهما قصص حب قصيرة، أو طويلة، وتتعرض للمزيد من المتاعب. المرأة هي ندى، الرجل يُدعى سالم، وهو واحد من الهامشيين في المدينة، فإنه في الصباح يعمل ميكانيكيًّا في إحدى محطات البنزين، يمسح زجاج السيارات، أشبه بكومبارس عليه أن يحرك أصابعه كالروبوت، أو ما يشبه الكومبارس الصامت. وفي المساء يعمل ممثلًا (كومبارس أيضًا) لأدوارٍ صغيرة، كل ما يستطيع أن يفعله أن يتحرك لبضع خطوات على خشبة المسرح، واستطاع في الفترة الأخيرة أن يعثر على سبعة أدوار صغيرة متلاحقة، في نفس المسرحية، إنها أدوار متناقضة، لكنه يجسِّدها كأنها ديالكتيك للشخص نفسه. وسوف نرى أنه في علاقته بالأرملة ندى لن يتعدَّى أن يكون كومبارس، أو أداة للإشباع الحسي لها، وله أيضًا.

نحن تقريبًا أمام عاشقَين بلا جذور، فنحن لا نكاد نعرف عن كلٍّ منهما سوى ما يريد الآخر أن يعرفه عن رفيقه، وبما يسمح للمتفرج أيضًا أن يعرفه، في حدود حدوتة محدودة الأُطر للغاية.

هذان العاشقان لا يبحثان عن التفاهم العاطفي، قدر ما يحاول كلٌّ منهما أن يروي عطش جسده من رفيقه، في مكان مغلق، مشبعًا الرغبات الحسية، فلم تنطفئ جذوة الشهوة داخل كلٍّ منهما باللمسات الخارجية، التي لا تُطفِئ النيران بقدر ما تشعلها. إنهما أشبه ببطلَي رواية «حادث النصف متر»، التي كان سمير ذكرى أول مَن التقطها في سورية، ومن الواضح أن المالح قد أعجبه هذا النموذج كثيرًا؛ فراح يُعيده إلى الوجود برؤيته الخاصة؛ فالمفردات بين العاشقَين هي نفسها: الحب والجنس والشباب والحرمان، والرغبة في العثور على مكانٍ آمنٍ من أجل الإشباع، بعد لحظات الارتجاف التي طالت.

ومثلما نجح بطل «حادث النصف متر» في استعارة شقة صديق له، فإن سالم، الشخصية الرئيسية في فيلم «كومبارس» ينجح في العثور على شقة يمتلكها صديقه الطالب المقتدِر عادل، إنه لا يطلب أكثر من ساعتين، يعرف ماذا سيفعل خلالها، بالطبع لن يتبادل الاثنان الحديث، بقدر ما يروي كلٌّ من الرجل والمرأة جسدهما بلمس جسد الآخر، وهو ليس لقاءً رومانسيًّا من الخارج؛ فالمرأة ندى أرملة، جرَّبت متعة الاتصال الحسي وتشتاق إليه، أي أننا لسنا أمام علاقة بريئة بالمرة، يردد سالم لنفسه عندما تتأخر حبيبته: «يعني النسوان ما بيصيروا نسوان إلا إذا تأخروا.»

كما يردد في مشهدٍ آخر: «نحن ما عدنا صغار، نحن محتاجين لبعضنا … بنحب بعضنا … بدنا نتجوز … شو بدك أكتر من هيك؟»

ولأن عادل صاحب الشقة يعرف ما سوف يحدث في الشقة، فإنه قبل أن يعيرها لمدة ساعتين إلى سالم، فإنه لا يتوقف عن إصدار التعليمات: «هذا ممنوع، هذا مسموح … لا تفعل … كن حذرًا.» إنها مجموعة من التعليمات التي تزيد من خلق هوة سوف تتسع بين العاشقَين شيئًا فشيئًا بمجرد دخولهما إلى هناك.

هذا الشعور بالأمن الكاذب بتواجدهما داخل جدران شقة مملوكة للغير لن يجعل الجذوة المتقدة فيهما، خاصة الرجل، كافية أن تُشبَع؛ فالخوف الذي يستبد بكلٍّ منهما يؤرقهما، ويجعل الاتصال مستحيلًا؛ وهو أمر لم يكن متوقعًا، وكأنما الأماكن الخاوية أكثر أمنًا من الشقة المغلقة الأبواب المُحاصَرة بغرباء يطرقون الأبواب، الواحد تِلو الآخر، أول هؤلاء الغرباء هي بائعة متجولة، تختار المرور على الشقق تعرض بضاعتها على الزبائن، ولا تنتظر أن يأتي هؤلاء الزبائن إليها.

أما الغريب الثاني فهو طفل يُطلِق زمارته في الشارع، وكأنه موجود معهما في نفس الشقة، إنها أجواء مشابهة كثيرًا لما قرأناه في رواية «العاشق» لمرجريت دو راس، ١٩٨٤م، التي يذهب فيها عاشقان إلى شقة مشابِهة في سوقٍ صيني، لكن ضجة الشارع لا تحُول دون الاتصال الملتهب بينهما، مما يعني تبايُن ممارسة الحب بين الحضارات المختلفة، رغم تشابه الظروف الدرامية.

الزائر الثالث إلى داخل المكان هو مجموعة من رجال الأمن الذين يقتحمون الشقة المجاوِرة، بحثًا عن شخصٍ مشبوه يجب القبض عليه؛ فيجد سالم نفسه يواجههم، ويطالبهم بالترفُّق به، خاصة أنه ضرير، قد لا يمثِّل لهم أي خطر؛ فهم يتعاملون معه بقسوة شديدة، تدفع سالم إلى التدخل، فيكون جزاؤه صفعة من يدٍ بالغة الشراسة والقوة، تُسقِطه أرضًا أمام العشيقة، وبذلك تتبعثر كرامته؛ فلا يستطيع أن يلمَّها مرة أخرى، مهما كانت لديه من ذكورة أفقدتها الحادثة هيبتها؛ مما يدفع المرأة إلى سرعة الانصراف، تاركة إياه لتذوب وسط المدينة.

أما الزائر الرابع فهي وفاء، خطيبة عادل التي لا تُطاق بتصرفاتها، وتحاول أن تفرض على سالم وندى تصنُّعها الذي تعيشه كل يوم.

العاشقان، وكلٌّ منهما كومبارس، لم ينَل أيٌّ منهما ما يريده من الآخر، بل إن ما حدث كان بمثابة النهاية بالفعل لكلٍّ منهما، وكأنما السينما لا تبيح بالمرة أن يمارس أبطالها فعل الخيانة، وأن ينعما به، ومن هنا قامت السماء بعقابهما، ليس أبدًا لأنهما اقترفا الفعل الفاضح، بل لأنهما فقط قاما بالتفكير فيه، وأقدما عليه، حتى وإن كان هذا يحدث في الواقع كل يوم.

كتبت ديانا جبور في مجلة «فن»: «إن هذا الفيلم يدور معظمه في مكان واحد، إلا أن وحدة المكان لم تؤثر في إيقاع الفيلم، ووقعه بالتالي على المشاهد؛ بفضل الضبط المونتاجي البارع للمونتير محمد علي المالح، وبفضل الممثلين، الحملة الأساسيين للفيلم.»

وإلى نفس الكاتبة تحدَّث بسام كوسا في نفس المجلة — في عددٍ آخر — قائلًا عن شخصية سالم: «كان بناؤها ارتوازيًّا في العمق؛ فهي شخصية تمتلك همًّا إنسانيًّا عميقًا، وإمكانية كبيرة للتصميم؛ فهي امتداد لشريحة كبيرة جدًّا في مجتمعات العالم الثالث، إنها ببساطة الدجل بكل تفاصيله. سالم في «الكومبارس» شخصية صعبة، وتأتي صعوبتها أساسًا من كونها شخصية مسرحية صارت سينمائية تقضي أمام الجمهور في مكانٍ واحدٍ زمنًا يمتد إلى مائة دقيقة هي كامل مدة الفيلم، وهذا برأيي بالغ الصعوبة، ويطالب بجهدٍ مضاعفٍ من الممثلين والكادر الفني.»

وفي الملحق الفني لجريدة «الأنباء» الكويتية، ديسمبر ١٩٩٣م، تحدث المخرج عن فيلمه، قائلًا: «باعتقادي أن هذا الفيلم هو الأكثر معاصرةً، والأكثر حرارةً، والأكثر مسئوليةً بالنسبة لمتغيِّراتنا اليومية الحالية، صحيح أنه قد يكون حافلًا بالوجع، ولكنه حتمًا لن يكون منحدرًا.

في «الكومبارس» أصوِّر الناس المسحوقين، الذين لا يملكون حتى حقَّ الحب والتواصُل الإنساني، كما أصوِّر المجتمع المريض الذي يحتوي أناسًا مكبوتين ومحرومين من كل شيء، مثل ندى وسالم، وأناسًا دمَّر نفوسَهم المال، حتى أصبحوا عبيدًا له. الفيلم عبارة عن دقائق من المشاعر الشفافة والمخلصة، ودقائق من الخوف والتوتر والتواصل.

«الكومبارس» يشكِّل صيغة أو شكلًا جديدًا أقدمه للسينما، وهو يُعتبَر تحوُّلًا على مجمل مسيرتي السينمائية، وله خصوصية مختلفة عن بقية الأفلام، لأن معظم أفلامي كانت تتحدث عن أمورٍ واسعة كبيرة ملحمية ذات أفقٍ ومدًى من الشخصيات والأحداث والتواريخ.»

هذا الفيلم نال جائزة أحسن إخراجٍ في مهرجان القاهرة السينمائي عام ۱۹۹۳م، وجائزتَي أحسن ممثلة لسمر سامي، وأحسن ممثل لبسام كوسا من مهرجان السينما العربية في باريس عام ١٩٩٤م، وأحسن سيناريو في مهرجان فالنسيا، وجائزة فضية في مهرجان ريمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥