مدرسة المعاهد السوفييتية
لعبت مدرسة موسكو السينمائية دورًا مهمًّا للغاية ومحوريًّا، وساعدت من خلال خريجيها من التلاميذ السوريين على تغيير شكل السينما في سورية، كان على الدولة أن ترسل أبناءها للدراسة في المعهد العالي السينما بموسكو، وهو المكان الذي التقى فيه أبرز السينمائيين العرب على مدى سنوات طويلة؛ سمير ذكرى، ومحمد ملص، ورياض شيا، وعبد اللطيف عبد الحميد، وأسامة محمد، ومن مصر؛ محمد القليوبي، وصُنع الله إبراهيم ومصطفى محمد علي، وغيرهم.
-
ذهب هؤلاء جميعًا إلى الاتحاد السوفييتي على نفقة الدولة، وعادوا إلى بلادهم فعملوا في المؤسسة العامة للسينما موظفين مخرجين، وقاموا جميعًا بإخراج أفلامهم لحساب هذه المؤسسة. كان هناك مَن هو أسعد حظًّا؛ فجاءته الفرصة لإخراج أكثر من فيلم، كما أُتيحت لهم الفرص العديدة للعمل أكثر من مرة. وباعتبار أن الفرصة نادرة للغاية، فإن كلًّا منهم قد استفاد من التجربة، بأن قام بنفسه بكتابة السيناريو، وفي أحيانٍ قليلة كان يشارك زميلًا له، أو يستعين باستشارة زميلٍ له، مثلما حدث بين سمير ذكرى ومحمد ملص، وأيضًا بين هذا الأخير وأسامة محمد، ونماذج أخرى عديدة ستعرفها في حينها.
-
لم يعمل أغلب أصحاب هذه الأسماء بأي سينما أخرى، أي بالقطاع الخاص، وكأنهم لا يوَدُّون الخروج عن الناموس الذي تضعه المؤسسة العامة للسينما؛ فلا تدفعهم إلى تقديم أفلامٍ تجارية أقل أهمية، باعتبار أن المؤسسة ظلَّت تنظر دومًا إلى أفلام القطاع الخاص على أنها تجارِب متدنية، واعتمدت في تجاربها هي الجادة على العائدين، الذين يجب أن يُثبِتوا مواهبهم في العمل مع القطاع الخاص، وأغلب العاملين به غير دارسين حقًّا للسينما. أي أن أفلام القطاع الخاص يمكنها أن تكون أشبه بالفيروس الذي يصيب الفنان، وليست هناك حالات استثناء فيما يخص هذا الأمر، ولو نظرنا إلى حالة المخرج محمد ملص باعتباره الأكثر خبرةً وبحثًا عن فرصٍ مختلفة للعمل؛ فقد كتب سيناريو «سينما الحياة» منذ سنواتٍ عديدة، بروح إبداعٍ لا تقدمه أي جهة إنتاجية إلا المؤسسة، وعليه أن ينتظر طويلًا، رغم الإدارات التي تتابعت؛ لكنه لم يسعَ لتقديم نفس الفكرة إلى أي مؤسسة أخرى، والمعروف أنه كان يعمل خلال فترة توقُّفه في أفلامٍ قصيرة، لكنه لا يزال في حال انتظار، يعني هذا أن المؤسسة تفرض على المخرج شروطَها بما تراها، كما أن ملص ليس الوحيد الذي انتظر طويلًا؛ فأمام أزمة الإنتاج، صار أبناء هذا الجيل في حالة انتظارٍ طويلة، والمقصود بالشروط هنا ليس فقط ما يتعلق بالرقابة، أو مستوى الفيلم، ولكن المؤسسة تريد نوعًا معينًا من السينما يصير سفيرًا لسورية في المهرجانات لفترة لا تقل عن العامين بعد إنتاجه، ولو عدنا إلى حالة محمد ملص، فمن المعروف أنه حاول إخراج فيلم في القاهرة يحمل عنوان «عطلة رضوان» مأخوذ عن رواية لعبده جبير، وأنه حاول العمل في مسلسلٍ ضخمٍ عن «سيد درويش»، لكن هذه المشاريع تأخرت طويلًا في شركات الإنتاج عن المصرية.
كما أن هؤلاء المخرجين يكتبون أفلامهم بأنفسهم، أي أننا أمام سينما المؤلف الحقيقية، وهي سينما متميزة، ليس لها مثيل خارج سورية، باعتبار أن الفيلم — في المقام الأول — مسئولية المخرج، الذي قد لن تُتاح له الفرصة مرة أخرى، قبل وقتٍ طويل، بسبب التمويل.
-
فنحن أمام المؤسسة الرسمية الوحيدة التي لا تزال تقوم بالإنتاج؛ تحاول أن توفِّق بين أبنائها الموهوبين، بتقديم الفرص لهم للعمل والتواجد مثلما حدث دومًا، وهناك مخرجون عملوا أكثر من مرة، ومنهم محمد ملص وسمير ذكرى، وعبد اللطيف عبد الحميد وأسامة محمد، وغسان شميط، وهناك زملاء آخرون عملوا مرة واحدة ومنهم ماهر كدو، ورياض شيا.
ومن المُلاحَظ أن أغلب أصحاب هذه الأسماء ينتمون، تقريبًا، إلى نفس الجيل، وأن أغلبهم قد تجاوز الخمسين الآن، كما أن الفرص لم تُتَح بعد إلى الجيل الأصغر.
هؤلاء الكُتاب الذين يكتبون السيناريو بأنفسهم قليلًا ما يستعين أحدهم بكاتب سيناريو آخر، فيما عدا الحالات المذكورة، كما أنهم لا يلتفتون بالمرة إلى النصوص الأدبية، باستثناء سمير ذكرى، وأفلامهم أقرب إلى السِّيَر الذاتية، منها إلى الخيال المحض، ويتناول كلٌّ منهم الحديث عن أبناء عشيرته التي ينتمي إليها جغرافيًّا وثقافيًّا.
وحول هذه النقطة تحدث غسان شميط في مجلة «فن» إلى ناديا مشعل قائلًا: «إن هذه المسألة تحمل في تكوينها وجهَين متفاعلَين بالمعنى الإبداعي؛ أولهما أن المخرج نفسه هو مشروع إبداعي، وليس مجرد منفِّذ حرفي لما كتبه آخرون؛ لذلك يأتي الإخراج ليكون جزءًا من البِنية الفكرية للفيلم، وبذلك تصبح الكتابة شديدة التداخل، وغير منفصلة عن الكتابة بالصورة، أو التعبير بالصور، وتقوم بتفعيل كل الأدوات المتاحة، من ممثلين وإضاءة وديكور، ذلك لصياغة عملٍ إبداعي لا نستطيع أن نلمس به الحدود الفاصلة بين الكتابة بالقلم والكتابة بالصورة، ومن جهة أخرى نتيجة لقلة كُتاب السيناريو في المؤسسة، فإن المخرج يسعى إلى اختيار موضوعه بنفسه؛ فهو يعرف عن ماذا يريد أن يكتب أو أن يصنع فيلمًا، وتأخذ البيئة الاجتماعية حيزًا كبيرًا من اهتمامات المخرج السوري؛ فهو كشخصٍ ومبدعٍ يعرفها تمامًا بتفاصيلها وأوجاعها، وبالتالي حافظ عليها عامل الصدق في التأمُّل مع موضوعه على الأصعدة كافة، ونحن في المؤسسة العامة للسينما نعرف الإمكانات التقنية الموجودة والمتاحة، وإلى أي مدًى نستطيع أن نصل في تنفيذ السيناريو. نحن من وضعه، وبالتالي نضمن خروج هذا السيناريو إلى النور.»
ولا أعرف هل هناك تقسيم جغرافي عند الاختيار، أم أن الأمر تم بالمصادفة، فلو نظرنا إلى المدن التي جاء منها المخرجون؛ فسوف نجدهم قد استقروا في دمشق، لكن محمد ملص جعل أحداث فيلمَيه تدور في مدينة القنيطرة التي جاءت أمه منها، حتى وإن كانت دمشق هي المكان الرئيسي لأحداث فيلمه الأول «أحلام المدينة». أما ريمون بطرس فإن فيلمه «الترحال» يدور في مدينته حماة بكامل أحداثه. أما أفلام أسامة محمد فتدور في مدينة اللاذقية، وتدور أحداث فيلمَي غسَّان شميط في الريف الواقع بجنوب سورية؛ فالفيلم الأول يدور في منطقة الحدود عند مرتفعات الجولان المحتلة، بينما دارت أفلام سمير ذكرى في مدينة حلب. والكثير من هذه الأفلام ريفي المكان، وذلك عكس الأفلام التجارية التي تدور أحداثها في المدينة، والريف مليء بالقسوة والعادات الاجتماعية التي تتسم بالانغلاق الملحوظ، وقد شهد هؤلاء المخرجون في طفولتهم هذه العوالم التي قاموا بإعادة تصنيع ديكوراتها؛ لذا فإن الغالبية العظمى من هذه الأفلام تنتمي إلى الفيلم التاريخي. وفي هذا النوع من الأفلام يجد المخرج الكاتب الفرصة، كما أن هؤلاء المخرجين يسترجعون طفولتهم، وبالتالي سوف نجد الأطفال بمثابة شخصيات رئيسية عند محمد ملص، وأسامة محمد، وعبد اللطيف عبد الحميد.
-
اختفت الحدوتة التقليدية المتعارَف عليها في الفيلم التجاري لدى هؤلاء السينمائيين المتميزين، الذين عملوا لدى المؤسسة العامة للسينما، واهتم الجميع بجماليات الصورة، وساعدهم في ذلك الرجوع إلى البيئة البكر، والاستعانة بمصورين سينمائيين من طراز جورج لطفي الخوري صاحب العين الثاقبة في تصوير العالم من خلال عين الكاميرا الموهوبة؛ لذا فإن هذه الأفلام لاقت الكثيرَ من التقدير عند عرضها في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية، والمحلية، مما ساعد الإدارات المتعاقبة على المؤسسة أن تسير في نفس الخط الذي رُسم لها منذ إنشائها في النصف الثاني من الستينيات، ولا أعتقد أن هناك حالة استثناء واحدة في هذا المضمار.
-
هناك بالطبع حالات رجوع إلى النصوص الأدبية، لكن ذلك تم في أضيق الحدود، مثل فيلم «حادثة النصف متر» المأخوذ عن رواية لصبري موسى، وفيلم «تراب الغرباء» المأخوذ عن رواية تأليف فيصل خرتش، وكلاهما من إخراج سمير ذكرى، وهناك رواية «شيء ما يحترق» التي استعان بها غسان شميط وهو يكتب سيناريو فيلمه مع المؤلف وليد معماري، وهناك قائمة واضحة بهذه المصادر في نهاية الكتاب.
-
لم تعتمد هذه السينما على نجوم السينما السورية، وإن كانت قد تمكَّنت من صُنع نجوم السينما السورية الذين لمعت أسماؤهم في أكثر من مجال، والمقصود بالطبع هم النجوم الشباب الجُدد، منهم: جمال سليمان، وأيمن زيدان، وبسام كوسا، ومن النساء: سمر سامي، وأمل عرفة، ورنا جمول. بعض أصحاب هذه الأسماء ظل حبيس شهرته التي تحققت به في أفلام القطاع العام، أما البعض الآخر فقد استطاع أن يحقق المزيد من الشهرة في وسائط أخرى، منها التليفزيون والغناء، ومنهم أمل عرفة على سبيل المثال.
-
تكاد تكون هذه الأفلام هي الوحيدة من نوعها في العالم التي لا تضع في حسبانها مقاييس الربح والخسارة؛ فهناك ميزانية للصرف على الفيلم، دون أن يُؤخَذ في الحسبان أن الفيلم قد يكسب أو يخسر؛ فالميزانية مرصودة من ميزانية وزارة الثقافة، التي هي بالتالي من ميزانية الدولة، أي أنها ميزانية خدمات، ليس هدفها الربح، بل إن المؤسسة في الكثير من الأحيان وهي تقدم فيلمًا ما تعرف أن احتمالات الخسارة تسبق الربح، وذلك مثل حالة فيلم «اللجاة» إخراج رياض شيا، ويكسب هذا الفيلم السوري مذاقًا خاصًّا، ونكهة مميزة؛ مما يرفع القيمة الفنية للفيلم، فنحن هنا أقرب إلى تصنيع سينما ذات ملمحٍ ثقافي، قبل أن يكون ترفيهيًّا.
-
ولعل ذلك يسوقنا إلى التعرُّف على أنواع الفيلم السوري الذي تنتجه المؤسسة، فقليلًا ما نرى فيلمًا كوميديًّا، خاصة من النوع الذي تنتجه شركات القطاع الخاص، وهناك أفلام كثيرة تغلب عليها المأساوية والكآبة، بالإضافة إلى ما أسميناه بسينما السيرة الذاتية، أو سينما الحنين.
-
يُلاحَظ بشدة أن هذا الجيل من المبعوثين الذين سافروا إلى الاتحاد السوفييتي، وعادوا للعمل في المؤسسة وخارجها قد خلت أسماؤهم تمامًا من النساء؛ فليست هناك فتاة واحدة أُدرج اسمها ضمن هذه البعثات؛ وبالتالي فنحن أمام سينما رجولية، تحمل وجهة نظر الرجل وحده. وينطبق هذا على السينما السورية بشكلٍ عام؛ إذ إنه ليست هناك مخرجة واحدة في هذه السينما الروائية عدا نهاد علاء الدين (إغراء)، التي عملت في التمثيل وكتابة السيناريو والحوار، وكانت من أبرز نجمات الإغراء في السينما التجارية، لكن بالنسبة للسينما الروائية التي أنتجتها مؤسسة السينما، فليس أمامنا استثناء، وإن كانت المعلومات تشير إلى أن هناك نسوة عملن بالدراما التليفزيونية، وذلك موضوع آخر.
يعني هذا أن الأفلام السورية تحمل وجهات نظر الرجل، وأن الأمر متروكٌ للتقدير حسب آراء الرجل، من فيلمٍ إلى آخر؛ فهناك النساء المتمردات، والأمهات اللائي ليس لهن عالم آخر غير الأسرة، وهناك المرأة المحرومة، لكننا قليلًا ما نرى المرأة المتمردة، التي يمكن للمتفرج أن يتعاطف مع وجهة نظرها؛ وبالتالي فإن الأفلام الروائية لم تختبر بعد فيما يتعلق بوجود أفلام تقدم فيها النساء أعمالًا إبداعية، خصوصًا السينما التي تنتجها المؤسسة بما تحمله من وجهات نظر حقيقية.
وديع يوسف
هو واحد من أقدم المخرجين السوريين الذين تخرَّجوا من معهد موسكو؛ حيث تخرَّج من المعهد عام ١٩٦٩م، وأنجز عشرات الأفلام التسجيلية القصيرة ومتوسطة الطول، كما أخرج العديد من الأفلام لحساب القطاع الخاص؛ وبذلك يكاد يكون حالة فريدة ضمن أقرانه؛ إذ عمل في القطاعَين، ومن هذه الأفلام:
١٩٨٤م | عشيقة الفنان |
١٩٨٥م | الانتقام حبًّا |
١٩٨٦م | باسمة بين الدموع |
۱۹۸۷م | ليالي شهرزاد (بالاشتراك مع طاهر المختار) |
۱۹۹۰م | الابتسامة |
والملاحَظ أنه قام بإخراج هذه الأعمال في فترة توقُّف تام عن العمل في القطاع العام؛ حيث أخرج هناك فيلمًا وثلثًا هما:
١٩٧٤م | العار (اسكتش الاغتصاب) |
۱۹۸۰م | المصيدة |
وفي أفلامه التي أنجزها للقطاع الخاص كان يقوم أحيانًا بكتابة السيناريو والحوار، وفي بعض الأحيان يستعين بنصوصٍ لكُتاب آخرين، وذلك بالطبع على غير العادة في الأفلام التي يتم إنتاجها في مؤسسة السينما.
ولأننا نرصد الأفلام السورية فسوف نتحدث عن إبداع المخرج في القطاع الخاص والعام معًا، ففيلمه «عشيقة الفنان» يدور في إطارٍ تاريخي إبان الفتوحات العربية، من خلال علاقة حبٍّ بين باحثة تاريخية وصحفي يلتقيان في أوركنج، وهي منطقة القوافل التي تعبر طريق الحرير إلى آسيا، ويمضيان معًا إلى بُخارى وسمرقند؛ حيث تتطور علاقتهما، لكنهما يفترقان في النهاية لاختلاف العالم الخاص لكلٍّ منهما، والبيئة التي ينحدران منها.
أما فيلم «الانتقام حبًّا» فيدور من خلال صراعٍ بين أفراد عائلة غنية على الإرث الذي تركه الأب من أملاكٍ مختلفة، ومنها مصنع، تنطلق شرارة التمرد من عُمال المصنع؛ يحاول كلٌّ من الأخ والأخت المتسلطَين استغلال العُمال لجانبه من أجل الحصول على النصيب الأكبر، لكنهما في النهاية، ونتيجة للجشع، يحصدان الانتقام، ويخسران كل شيء، خاصة الأخت التي نمت بينها وبين أحد شباب المصنع قصة حب غير متكافئة.
وفي فيلم «باسمة بين الدموع»، نرى سليمان المحامي الشاب المتحمس لمبادئه، ويستعد للزواج، ومن أجل أن يتم الزواج، فإن المحامي يخوض معركة بالغة المرارة مع خصومه، ويكاد أن ينتصر لولا تردُّده في حسم الأمور التي واجهته، وأمام هذا فإنه يجد نفسه يخسر حبيبته، وأيضًا يخسر المعركة مع الخصوم من المثقفين.
وفي فيلم «الابتسامة» يقص حكاية شاب يدرس خارج الوطن، يشعر بالغربة والحنين إليه، ولا يستطيع العودة مع زوجته الأجنبية لعدم وجود مسكن، إلا بيت عائلته الذي يضيق على أفراده، ويحاول الجميع حل المشكلة بمن فيهم أخوه الأصغر الذي يعمل كمطرب، والأب الذي يطمح لإيجاد مسكن ملائم، لكن رغبات الجميع تصطدم بالواقع، وتبقى المشكلة معلَّقة.
استوحى وديع يوسف فيلمه «المصيدة» عن الروائي علي عقلة عرسان، الذي قام أيضًا بكتابة السيناريو والحوار، وهو أمر نادر الحدوث في سورية، خاصة بالنسبة للأفلام التي تقوم المؤسسة بإنتاجها، والفيلم حصل على جائزة مهرجان طهران السينمائي عام ۱۹٨١م، ويروي قصة فتاة شابة وجميلة تُدعَى فريال، تبحث عن عملٍ يليق بها لإعالة نفسها، وأمها المريضة، وبغية تأمين اللقمة الشريفة. تكتشف فريال جوانب الحياة المتعددة، وعليها أن تختار، تنمو قصة حب بين الفتاة البائسة والدكتور فايز، الطبيب الذي تعمل في عيادته، لكن هذا الحب غير المتكافئ لا يلبث أن يواجه العديد من المتاعب من البيئة المحيطة به، فيُكتَب عليه الفشل، وتقع الفتاة ضحية لهذه القصة؛ فتقرر العودة إلى حارتها باحثة عن الشاب سمير، الذي أحبَّته يومًا وينتمي إلى بيئتها، وتنشد الحياة بالطهارة التي خرجت بها من الحارة الشعبية نفسها.
فريال تعيش في بيئة شعبية، يصِفها الفيلم بالتفصيل، ومن المهم أن ننقل بعضًا مما جاء في السيناريو الذي نشرته مجلة «الحياة السينمائية»، صيف ١٩٨٤م، كاملًا:
غرفة بسيطة جدًّا في الطابق الثاني لدارٍ على الطراز العربي القديم.
الكاميرا تُرينا فريال بقميص النوم، وهي تسحب الغطاء على أمها التي تنام على السرير.
لقطة لوجه الأم وهو مصفر قليلًا، وعلامات الكبر والبؤس ظاهرة عليه.
الأم تهز رأسها بأسًى وهي في سريرها، معبِّرة عن الحسرة والألم.
تذهب فريال إلى كنبة طويلة بالجهة المقابلة للسرير وتتمدد عليها … تتركز الكاميرا على وجه فريال ثم على عينَيها المثبتَتين بنقطة محددة في سقف الغرفة، ومن وجهة نظرها نرى اللقطات التالية:
المشهد (۲۱)
لقطة لفريال وهي تنظر خلفها، وعين الرجل في الزقاق محدِّقة بها، تلتقي عيناه بعينيها.
المشهد (۲۲)
لقطة على فريال وهي ممدَّدة على الكنبة تمد يدها بشكلٍ عفوي متلمسة جسدها حتى تصل يدها إلى فخذها … وتبتسم، وتمر أمامها صورة سمير، تئن وردة في سريرها.
وقد تعمَّد الفيلم إلى وصف الزقاق الفقير الذي تسكنه الفتاة تأكيدًا على البيئة التي جاءت منها، إلى أن تعمل في عيادة الدكتور فايز؛ فتقابل نماذج إنسانية مختلفة، وسوف نقتبس مَشاهد أخرى من السيناريو في نهاية الأحداث، التي تعود فيها الفتاة إلى ابن الزقاق سمير، دون أن نذكر الجمل الحوارية المرفَقة بها.
المشهد (۱۲۳)
لقطة لدمشق من فوق جبل قاسيون، وأضواء بيوتها تحاول أن تغالِب الظلام الممتد على الوادي … تستدير الكاميرا لتُرينا فريال وهي تنظر إلى المدينة، تركيز على وجهها، شفتاها مزمومتان، والألم في عينَيها تنظر إلى دمشق، ويتردد صوتها دون أن تتحرك شفتاها.
تبدأ دموعُها في الانسكاب بصمت.
مشهد (١٣٦)
سمير يحمل حقيبة سفره بيده، ويسير في الحارة الشعبية، وقد تهدَّمت البيوت حوله تقريبًا، معالم الحارة تغيَّرت تقريبًا، يقترب شيئًا فشيئًا من المكان الذي كان فيه بيت والده؛ فيجد أن البيت تهدم كله تقريبًا، يقف عند زاوية بيت فريال، وينظر إلى المنظر أمامه، والدمع يكاد ينفطر من عينيه، ثم يتجه إلى بيت فريال، والأمل يكاد يراوده.
سمير ذكرى
سمير ذكرى حالة متميزة في السينما السورية، ليس فقط باعتبار أسماء أفلامه؛ بل أيضًا لأنه السينمائي السوري الأكثر تعاملًا مع الأدب السوري — بعد محمد شاهين — سواء في الأفلام التي كتب لها السيناريو، أو في أفلامه التي أخرجها. فهو الذي شارك في كتابة سيناريو فيلم «بقايا صور» إخراج نبيل المالح المأخوذ عن رواية لحنَّا مينا، أما فيلمه الروائي الأول «حادثة النصف متر» فمأخوذ عن رواية مصرية بالعنوان نفسه تأليف صبري موسى، وهي الرواية التي كتب لها المؤلف نفسه سيناريو الفيلم الذي أخرجه أشرف فهمي في مصر. والغريب أن الروائي عندما كتب السيناريو قام بتأليف موضوع مختلف تمامًا عن الرواية التي قرأناها، وعن الفيلم السوري، الذي تسمو قيمته الفنية كثيرًا على الفيلم المصري.
بدأ سمير ذكرى تجاربه السينمائية الأولى بعد أن أنهى الدراسة في المعهد العالي للسينما بموسكو عام ١٩٧٣م، وقد قام أثناء دراسته بتنفيذ عدة أعمال روائية قصيرة، منها عمل فيلم عن أقصوصة «السكران يغني» للكاتب نجيب محفوظ، وبعد التخرج عاد إلى سورية حيث التحق بالخدمة العسكرية خلال حرب أكتوبر، وعمل خلالها في القسم السينمائي التابع للجيش السوري؛ حيث نفَّذ عدة أعمال تسجيلية عن الحرب منها «لن ننسى» وغيره. وبدأ بعدها في كتابة السيناريو، وكانت البداية في كتابة سيناريو تمثيلية تليفزيونية بعنوان «قبل الزواج»، أما السيناريو السينمائي الأول فهو المشاركة في كتابة فيلم «بقايا صور» المُشار إليه، ثم أخرج فيلمه الأول «حادثة النصف متر»، ثم عمل في كتابة سيناريو «أحلام المدينة» إخراج محمد ملص، ثم جاء الفيلم الروائي الثاني «وقائع العام المقبل»، ثم جاء الفيلم الثالث «تراب الغرباء» المأخوذ عن رواية لفيصل خرتش بالاسم نفسه.
الفيلم الأول كتب له المخرج السيناريو، وهو يروي قصة الموظف الصغير صبحي الحلوجي الذي يعمل في قسم الضرائب، وهو إنسان بسيط إلى درجة السذاجة، لا يخرج كثيرًا عن المسافة بين بيته في أحد الأحياء الشعبية وبين مقر عمله، مسافة يقطعها يوميًّا في الباص، حيث تعرَّف إلى الفتاة ندى التي أحبها لينسى، من خلالها، فتاة أحبها، ولم يتمكَّن من مصارحتها فتزوجت غيره. حبه الجديد كانت له مشكلة طغت على ما حدث للوطن في نكسة يونيو؛ فقد اكتشف أنها ليست عذراء، وأن ما حدث له في النصف متر، الذي تعرَّف فيه عليها، كان هاجسه الأهم.
ندى هذه شخصية محورية، فهي فتاة جامعية مستوعبة لقضايا مجتمعها، ولها دور في هذا المجتمع، كما أن لها دورًا ورأيًا فيما يدور حولها، إنها تحب الرجل الذي يتمتع بأن له موقفًا من العالم، فكريًّا وسياسيًّا، دون أن تكون منتمية إلى حزبٍ سياسي. ومرَّت ندى بتجربة مع واحدٍ من الشباب التقدميين، حين اعتقدت أن سلوكه يتناسب مع ما يردده، إلا أنه يهرب منها بعد أن تفقد معه عذريتها؛ مما يصيبها بصدمة، وتختار في المرة الثانية، من خلال قانون المصادفة في الباص. الاختيار هذه المرة يأتي معاكسًا تمامًا لما حدث في المرة الأولى؛ إنه الموظف صبحي، الذي لا يكاد يعرف اسم الشارع المجاوِر للشارع الذي يمشي فيه، إنه شاب متعلم، وليست له أي ثقافة بالمرة، وليس له أي اتجاه سياسي، لعلَّه لا يختلف كثيرًا عن الدواب التي تتحرك فوق الأرض؛ فتنمو بينهما علاقة خالية من الحوار العميق، مليئة بالبراءة والبساطة، لكن الحبيب سرعان ما يفهم أن ندى غير عذراء، فلا يتمكَّن الرجل الشرقي الذي بداخله من التلاؤم معها، ويهرب مثلما فعل الرجل الأول.
الرجل في الشرق لا يختلف في جذوره، سواء كان موظفًا أو مثقفًا، مهما كان محرومًا، أو قادرًا، ميسورًا، أو محتاجًا. وندى، كما يرى المخرج، هي محك الحقيقة والواقع، «نحن قد تعوَّدنا الهرب من الواقع والحقيقة، ونهرب عند أول تجربة لنا في محك المواجهة معهما، أي مع الحقيقة والواقع.»
وفي مقدمة السيناريو الذي نشرته مجلة «الحياة السينمائية» — العدد ٢٣-٢٤ — كتب سعيد مراد: «صبحي الحلوجي ليس مأزومًا عاطفيًّا وجنسيًّا فحسب، بل مأزوم اجتماعيًّا؛ فهو محروم من العلاقات الطبيعية بالمرأة، مشحون بمفاهيم عن الحب والجنس تستقي من ذلك الحرمان، فتخلق لديه تصورات رومانسية حينًا، وتوقًا إلى التبجح بمكانته بين النساء ودرايته في أمور الجنس، والمتعة حينًا آخر، وحين يلاقي الفشل في إقامة علاقة سوية بفتاة في الجامعة أو الحارة أو … فإنه يُلقي بمسئولية الفشل على تدخُّل أهله، ومسئوليته العائلية حيالهم، وهذا الموقف التبريري ينسحب على موقفه من الوطن والمجتمع والظروف العامة.»
كتبت واحة الراهب في كتابها «صورة المرأة في السينما السورية» عن هذا الفيلم أنه: «يدور حول ربط الانهيار السياسي، وهو انهيار تبدَّى بأجلى أشكاله في الهزيمة، بوضع العلاقات الاجتماعية المختلفة، وبالقمع المُمارَس على صعيدَي السلطة والمجتمع، بل إن الفيلم يرى أن التخلف الاجتماعي والعقلية السائدة سياسيًّا هما الأساس الموضوعي الذي خلق النتاج الملائم للهزيمة السياسية، وذلك ما يتضح من ربط تفاصيل علاقة الحب بين صبحي وندى، بتنامي وعيه السياسي، وبداية انهيار هذه العلاقة بانحسار وعيه، ومن ثَم بالهزيمة السياسية والاجتماعية، وهو يوضح ذلك بعبارة صريحة في الحوار الذي تم بين صبحي وزملائه بعد سقوط كيس القمامة فوق رأسه، وفيه قال: «إنه يرفض أن يحارب ما دام مقموعًا ومقهورًا» معتبرًا أن الناس بلا أخلاق ما بيحاربوا.»
إنه هنا يحتكم إلى الأمر بشكلٍ انفعالي، لكن المحاكمة لا تخلو مع ذلك من التفاتٍ إلى مسئولية العلاقات الاجتماعية المتخلفة عن الوضع السياسي المؤدي إلى الهزيمة، أي أنه تتداخل هذه التفاصيل الاجتماعية بالسياسية لتؤدي في النهاية إلى نهاية واحدة بالنسبة إلى الجانبَين، ألَا وهي الهزيمة.
أما فيلمه الثاني فإن المخرج، وهو أيضًا المؤلف، يبدأ بعبارة «العلم المستقر كالجهل المستقر»، وهو قول يُنسَب إلى الفيلسوف العربي النفري. والفيلم يروي قصة الشاب منير، الذي يعود إلى وطنه سورية بعد أن أنهى تحصيله الموسيقي العالي في باريس وروما وموسكو، حاملًا حلمه الكبير بتأسيس أول فرقة موسيقية وطنية، تنهض بالموسيقى العربية الكلاسيكية إلى آفاق حديثة متطورة. ومنذ أن يبدأ مشواره لتحقيق هذا الحلم يكتشف التناقض الماثل بين الحلم والواقع، ومن أجل ذلك فعليه أن يستوعب مفردات الواقع كافة؛ فهو يتقدم بطلباتٍ للحصول على الآلات الموسيقية والمعدات المطلوبة، وينتظر المراحل البيروقراطية التي يمر بها الطلب. إنه يذهب إلى مسئول كبير، يجلس في مكتبٍ فخمٍ مملوء بالفسيفساء، ويلتقي به كأنه في حلمٍ حقيقي أكثر منه حلمَ يقظة مرتبط بالطموح، وفي أثناء هذا يتعرف على الفتاة هيفاء التي تعمل مدرسة في مدرسة للبكم والصم، كانت على علاقة سابقة انتهت بشكلٍ مأساوي، وهي ليست امرأة عادية؛ فهي في طياتها فنانة تشكيلية، وحائرة بين الفنون الأخرى التي تحبها، ومثلما حدث لندى تقريبًا في الفيلم الأول؛ فإن هيفاء مترددة دومًا بشأن قبول منير حبيبًا أو زوجًا، هذه التجربة هي واحدة من إفرازات المجتمع، وهيفاء باعتبارها فتاة حسناء مثقفة، فإنها مترددة بين أكثر من إغراء يلتف حولها.
الفيلم لا يهتم كثيرًا بالحياة الخاصة التي يعيشها منير، إلا أننا نراه يعيش كأعزب في شقة متوسطة الاتساع، يعيش معه فيها اثنان من الشباب يقاربانه في السن، الأول ضابط شرطة صغير برتبة ملازم، يمضي أغلب أوقاته في استقبال بناتٍ لقضاء أوقاتٍ حلوة مع كلٍّ منهن؛ فهو لا يترك امرأة إلا وينام معها، لديه ببغاء يرمز إلى التحرش الجنسي، أما الزميل الآخر في السكن فهو رجل أعمال لم يحقق أي نجاح في حياته.
ومنير الذي يتمكن من الحصول على ما يحتاجه من آلاتٍ موسيقية تكفيه لعمل فرقة موسيقية يشعر أن هذا ليس سوى بداية في طريقٍ طويل؛ فهذه الفرقة التي صارت كيانًا حقيقيًّا لا تمتلك الرونق الحقيقي لأحلام الفنان، إنه يقيم حفله مع فرقته الصغيرة داخل مبنًى أثري أشبه بأنقاض حضارة قديمة لم يعُد لها وجود. في هذه المرة استطاع الموسيقار أن يجعل فرقته تعزف لحنًا شرقيًّا أكثر منه لحنًا غربيًا تأثر فيه بموسيقى الدول التي درس بها الموسيقى، لكن هذا لا يعني أن العام المقبل ستكون وقائعه أفضل.
وهناك العديد من الشخصيات الهامشية التي يستعرضها الفيلم، لكنها تبدو غير مؤثِّرة في حياة الموسيقار منير؛ فهناك أرملة الشهيد التي تسكن الشقة المجاورة، والتي تجد سلوتها في تربية قطة، وهي تدخل في حوارٍ مع الضابط، وتتهمه بأن ببغاءه يتحرش بقطتها، أما الضابط فيتَّهم القطة بأنها زارت الببغاء، وفي هذا إسقاط واضح على المعنى الخلفي للحوار. وهناك السكرتيرة التي تحاول البحث عن عمل توازنات في أمور حياتها كافة، حتى لا تخسر شيئًا على حساب شيء آخر، أما المثقف هنا، فإن كميل هو صورة مشابهة لما قدَّمه المخرج في فيلمه الأول، فهو تقدُّمي يعيش في منطقة الحدود الفاصلة بين إيمانه بالمبادئ وصدمة تطبيقها، إنه شاب لبناني مناضل بالحنجرة والثرثرة الأيديولوجية التي تعبِّئ شابًّا فلسطينيًّا إلى درجة الهلوسة والجنون، فهو يحاول إلقاء شِباكه على هيفاء، وهي المرأة التي لا تعرف حقيقة مشاعر أيٍّ من الرجال الذين يتودَّدون إليها. كما أن هناك الناقدة لمياء التي مارست الفلسفة، وأسرفت في ممارسة نقد الواقعية الاشتراكية، وبلغت سن العنوسة، ولم تمارس الجنس ولا العادة السرية.
كتب الناقد السوري سعيد مراد عن الفيلم — نشرة مهرجان القاهرة السينمائي لعام ١٩٨٦م — قائلًا: «يحفل الفيلم بالسخرية والحزن والحساسية تجاه جزيئات الحياة والناس، مبتعدًا عن التقليدية في رواية حكاية تبدأ وتتأزم وتنتهي … إن مجرى الأحداث في الفيلم لا يبدأ ولا ينتهي … بل يسير. وهكذا يجد المشاهدون أنفسهم ضمن محيطٍ شاسعٍ في الحياة التي لا تخص قُطرًا عربيًّا بعينه إلا بقدر ما تنسحب على كل المجتمعات العربية التي تعاني جميعًا، من المشاكل والصعوبات ذاتها.»
والموسيقى، (كما كتب محمد رضا في كتاب السينما ۱۹۸۸م) عند سمير ذكرى ليست سوى واحدة من الفنون المهدورة عندنا. أبلغ مشهد يؤدي بنا إلى هذه القناعة، هو ذاك الذي يلي وصول منير إلى حلب، بعد رحلة بالغة التعبير والدلالات من دمشق مرورًا بحمص وحماة؛ حيث يدخل منير صالات متحف حلب، هناك رجل في الستين من عمره منكبٌّ على الأرض، يُعيد تركيب لوحة ضخمة. هذا الرجل، كما ذكر لي سمير ذكرى، موجود في الواقع، واسمه أبو حسن، كما في الفيلم، وهو يقوم بأعمال الترميم والتركيب منذ سنوات بعيدة، وكل ما يريد، وكما يذكر في الفيلم أيضًا، هو السماح له بوضع لوحة صغيرة مكتوب عليها «ترميم أبو حسن»، المعنى البليغ الذي يتوصل إليه الفيلم هنا هو في استمرارية الدور الذي يتطلبه الفن لحمايته والمحافظة عليه.
أما المخرج فيقول في حديثٍ أجرته معه ماجدة واصف: «اعتمدت في هذا الفيلم على «الفكرة اللقطة»، وهي تتمتع بشيء من الأساسية للفيلم، وهي علاقة الموسيقي بفنِّه، كما تحلل بعمقٍ المجتمع العربي وأزمتنا الحضارية الحالية، لا يهمني بالطبع أن أقف عند حدود الموسيقى وعالمها الداخلي؛ فأنا أريد التحدث، من خلال الموسيقي، عن الإنسان الذي يريد أن يطور في مجال عمله؛ لذا لم أدخل كثيرًا، في الحياة الشخصية للموسيقي، وذلك حتى لا أعطي للفيلم خصائص معينة قد تمنعه من الوصول إلى أناسٍ خارج هذا الاختصاص.
فالتحليل هنا تحليل اجتماعي أكثر منه تحليلًا فنيًّا، أي أن مشكلة الموسيقى الشرقية والغربية، على سبيل المثال قد طرحت بشكل سريع، أما ما طُرح بشكلٍ ملح من خلال الفيلم فهو العوائق التي تحُول دون تحقيق هذا الموسيقي لعمله.»
من الواضح أن هناك ظلالًا ألقت بنفسها من الفيلم الأول إلى العمل الثاني للمخرج، ومنها مسألة العذرية والمثقف السلبي الانتهازي، الذي يتذرَّع بأيديولوجية التقدمية، وهو إنسان غير واضح في علاقاته النسائية؛ لا تكاد أي علاقة عاطفية تسير في دائرتها المتكاملة، كما أن مسألة الشقة التي يعيش فيها البطل تبدو كأنها فاقدة الخصوصية، يرتادها أشخاص كثيرون، وقد رأينا أن مثل هذه الأجواء والشخصيات قد تكرَّر وجودها بملامح قريبة في فيلم «كومبارس» لنبيل المالح.
لكن هناك فارقًا واضحًا بين الرجلَين في الفيلمَين؛ فمنير الذي يجد نفسه، وقد تكلم بلغة لا يفهمها كثيرًا، فإنه يتعارك مع منافسه كميل تعبيرًا عن غيظه الشديد مما يفعل «إنه يقترب من الحسم سواء مع كميل أو مع هيفاء؛ إذ لا مجال لأيٍّ منا أن نبقى جمعيات خيرية، علينا كمثقفين أن نتخذ خطواتٍ حاسمة أيضًا، والعنف هنا أو الحسم ليس عيبًا، إنه الدواء كأية عملية جراحية؛ لذلك تلاحِظ أن كميل ومنير يتواجهان، ثم يدور كميل حول منير، ويبدأ الاعتقاد بأنه سيغلب منير بسببٍ من استعداده التلقائي والجاهز للحديث، وانطلاقًا من رصف النظريات، إنها، لو تكررت، أقرب منها إلى الملاكمة»، وذلك مثلما جاء على لسان المخرج في حديثٍ إلى محمد رضا في مصدرٍ سابق الذكر.
أما محمد سويد فقد كتب في جريدة «السفير» اللبنانية (١١ أغسطس ١٩٨٦م): «تتعدد مشاغل سمير ذكرى في «وقائع العام المقبِل»، ويستفيض في سردها وكأنه يحس، والأحرى يعلم بها جميعًا، ولأنه يعلم؛ فهو يروي كل شيء، ولا يستنفد أية مشكلة من الموسيقى إلى الفن، الفلسفة، الأدب، الأيديولوجيا، فلسطين، لبنان، البيروقراطية، المسيحيون، الأكراد، الأصالة، الحداثة، التقدُّمية، والتاريخ والحضارة، وغيرها، كلها على مدى ساعتين وثلث الساعة من أصل النسخة الأم التي يبلغ طولها ثلاث ساعات وثلث.»
وفي حديثٍ أجراه بندر عبد الحميد مع المخرج — مجلة «الحياة السينمائية»، صيف ١٩٨٨م — يقول سمير ذكرى حول اصطدام الفنان بالبيروقراطية: «ومع ذلك فإنه لا ينهار، ويبحث في المتاهة عن الطريق، ويحاول أن يفعل شيئًا كي يدافع عن أحلامه، وهو يعرف أنه في مأزق. إذا كان يمكن توصيف مأزقنا بأنه حضاري؛ فهذا ما يطرحه الفيلم، ولعل التفاصيل التي لها علاقة بالموسيقي والموسيقى، هي أقل التفاصيل في الفيلم؛ إذ إنني قصدت عامدًا أن أبتعد عن الخصائص الذاتية الإبداعية والفنية للموسيقى، والاقتراب أكثر من المعوقات والمواصفات ذات التعامل المشترك مع أي فعلٍ يصبُّ في النهاية في العملية البيروقراطية.
إن ما يعوق الموسيقي عن العمل — في الفيلم — قد يعوق أي فنان أو أي عامل في أي مهنة أخرى كالفنان المسرحي والسينمائي والمعلم والسائق وعامل البناء، وحتى الفلاح في قريته البعيدة.»
ومن المهم ونحن نتتبَّع هذا الفيلم أن نقتبس مقطعًا من نص السيناريو المكتوب، والمنشور في مجلة «الحياة السينمائية»، صيف ١٩٨٦م:
«وضع منير رأسه تحت الحنفية، وترك الماء يسيل بغزارة عليه، ثم نشَّفه بقوة، وتنفَّس بعمق، توجَّه نحو الحاكي ووضع أسطوانة، وعندما ارتفع الصوت صدح لحنه المفضَّل رويدًا، ارتاحت أسارير وجهه، كاد أن يلبس ثيابه الاعتيادية، لكنه تردَّد، أخرج طقمه الأسود، لبسه، إنه الآن بكامل قيافته الرسمية كأي قائد أوركسترا عالمي، يتأمَّل نفسه في المرآة: لقد كاد أن ينسى هذا الزي، يبتسم لنفسه، وقليلًا قليلًا، بدأ يندمج مع اللحن، أعاده من البداية، أخذ وضعية قائد الأوركسترا، ولم تلبث يده أن تحركت بالعصا الرفيعة، التي أخرجها من بين أغراضه، وتحركت يده الأخرى. كان وحده يقود أوركستراه الوهمية؛ لكنه كان يتابع اللحن، يحدد الإيقاع، ويومئ بيده الأخرى بنعومة وحزم.
سمع جرس الباب، لكنه لم يأبه، ولما تكرر ذلك اتجه بسرعة كي يفتحه، واكتشف أنه الوحيد الذي بقي في البيت، فتح الباب وفوجئ بهيفاء أمامه، كانت تلبس بيجاما رياضية وهي تلهث، وقد سال العرق على وجهها. سلَّمت بسرعة، وهي تقول: «بدي أغسل … أجيت بسرعة لعندك، ومن الملعب لهون» سار أمامها، وفتح لها باب الحمام، وهو لا يزال يمسك باليد الأخرى عصا القيادة، كان فرِحًا بها ومستغربًا قليلًا؛ فلقد تعوَّد على مفاجأتها، أغلقت باب الحمام؛ فعاد من جديدٍ إلى غرفته، أعاد وضع الأسطوانة من البداية، ثم عاد إلى قيادة اللحن، لكنه كان أقل اندماجًا، وكان المظهر الاستعراضي واضحًا عليه، ولمَّا دخلت، وهي لا تزال تنشف وجهها، استمر وهو يحرك يديه مع إيقاع اللحن، وهو يبتسم لها؛ فقالت مستهجِنة: «شو عم بتساوي؟» ثم اتجهت إلى الحاكي أوقفته.»
وتقول واحة الراهب — مصدر سابق — عن هذا الفيلم: «والواقع أن الفيلم يهجس بضرورة بداية جديدة للمجتمع ولكل فرد فيه، مع أن هذه الضرورة تختلف باختلاف النماذج والشرائح المعنية؛ فنموذج المثقفة التي أحبَّت منير، والتي تستهلك حياتها ودورها في التمظهر التحرري الفكري والجنسي، أغرقت نفسها في التفاهة، وتضخمت مشكلتها الفردية إلى أن انتبهت، واستيقظ وعيها نتيجة رفضه لها؛ فاستعادت قدرتها على المحاكمة السلمية، وطرحت مخارج متعددة لأزمتها، كان أحدها محاولة الانتحار.»
أما الفيلم الثالث للمخرج سمير ذكرى فهو «تراب الغرباء» المأخوذ عن رواية لفيصل خرتش، والتي تتناول بعضًا من مسيرة المفكر العربي «عبد الرحمن الكواكبي» (١٨٤٩–۱۹۰۲م).
سمير ذكرى ابن حلب الذي صار الكواكبي في أعماقه طوال أعوام طويلة من الإعداد للفيلم؛ حيث وجد نفسه أمام تاريخٍ خصب، ليس فقط تاريخ مفكر، أو شخصية استطاعت أن تدخل تاريخ التنوير أسوة بالمفكرين جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده؛ ولذا فإننا أمام فيلمٍ عن شخصية بقدر ما نحن أمام فيلم عن عصر، وعن مرحلة تاريخية، بشخوصها، وحركاتها الفكرية، والتغييرات الاجتماعية الحادة، والتأكيد على أن هموم الأمس وصراعاته تتكرر كل يوم مع نهاية القرن العشرين، وأيضًا في الذكرى المئوية لرحيل الكواكبي.
فالحقبة التي يتناولها الفيلم، هي بمثابة المؤشر لنهاية الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت المنطقة العربية في الفترة من ١٥١٧م إلى ١٩١٦م أي أربعة قرون كاملة، وقد كانت سورية، خاصة حلب، هي الدولة الأكثر قربًا من تركيا؛ لذا كان من السهل أن يأتي إلى البلاد مندوبٌ من السلطان العثماني، من أجل مراجعة الوالي (مندوب السلطان العثماني) فيما يتعلق بالمحكومين.
لذا؛ فإن الفيلم ليس فقط عن المفكر، بل عن العلاقة التصادمية بين الحاكم المستبد والمحكوم المظلوم، وقد كشف الفيلم، في بدايته، عن البذخ الذي يعيش فيه الحاكم، والحفلات الرسمية التي يحضرها الوالي، في مجتمعٍ يعاني من الظلم الشديد، والفقر، وقيام رجال الوالي بنزع ملكية بعض أراضي الفلاحين. وبعد أن قدم المراسيم الفخمة لاحتفالٍ يحضره الوالي أمام الأهالي الذين يتغنَّون باسمه، فإن المخرج يقدِّم لنا أحد الفلاحين المهدَّدين باستيلاء الوالي على أراضيهم، وهو يبحث عن شخصٍ يرد إليه ما فقده؛ فلا يجد من نصيرٍ سوى أحد المواطنين الذي يدلُّه على أن يذهب إلى الكواكبي؛ فهو نصير الضعفاء.
والكواكبي، كما يقدمه الفيلم في البداية، رجلٌ في منتصف العمر، متزوج، وله الكثير من الأبناء، يعيش حياة اجتماعية مستقرة، ولكن حياته العامة ملأى بالإصرار من أجل البحث عن حقوق الضعفاء، كم أنه معلِّم ديني يلقِّن تلاميذه أصول الدين، بعيدًا عن التطرف؛ إذن فالكواكبي محامٍ ورجل سياسة، مثل مصطفى كامل الذي عاش مناضلًا في الفترة إياها.
والفيلم، كما سنرى، لا يُدين الحكم العثماني، بل يُدين الوالي الظالم، المليء بالقسوة، فرغم أن الوالي يستجيب في البداية لطلبات الكواكبي، حين أرسل له هذا المواطن بعريضة وشكوى، وخرج المواطن غانمًا؛ فإنه عند مجابهة أخرى، نرى كيف يقف الكواكبي ضد نفس الوالي، وينجح في إقالته.
وكما أشرنا، فإن الكواكبي لم يقف ضد الاحتلال؛ فهو قائم منذ أكثر من ثلاثة قرون، لكنه يلجأ إلى السلطان من أجل إقالة الوالي الظالم؛ وبالفعل فإن السلطان، الذي لم نرَه قَط، يرسل مندوبًا عنه للتحقيق في أفعال الوالي، وسرعان ما نفهم أن السلطان رجلٌ عادل، وهو السلطان عبد الحميد، كما نفهم من الحوار، أما مندوب السلطان، الذي يأتي إلى سورية أكثر من مرة، فهو إنسان طيب بالغ الإنسانية، ويقف مع الحق والعدل، وينجح في إقالة أكثر من والٍ، بناء على موقف متشدد من الكواكبي.
وقد حاول الفيلم أن يؤكد على نظرية الكواكبي للاستبداد، وهو صاحب الكتاب الشهير «طبائع الاستبداد»؛ ولذا فإن السيناريو يقتبس، على لسان الكواكبي، بعضًا مما قاله في كتابه، مثل أن الدكتاتور هو سبب التأخُّر والتخلُّف، وأن الثورة بكافة أشكالها، هي الخطوة الأولى تجاه حرية الفرد العربي من قيود الظلام التي تؤخِّر خطواته.
والاستبداد، عند الكواكبي، كما في الفيلم، يرتدي صورة جنرال، وهو الوالي صاحب الولائم الفخمة، وسط شعبٍ من الفقراء والجِياع، ويتعمَّد الفيلم أن يجعل الوالي رجلًا عسكريًّا، يرتدي الزي العسكري، ويعلِّق النياشين على صدره، ومحاطًا دومًا بمهابة وحرسٍ وهو الحاكم المباشر، أي أن الكواكبي والشعب العربي بشكلٍ عام لم يعرفا وجه السلطان، لم يألفا ذلك؛ لذا فإن مواجهة الاستبداد، هي في المقام الأول، مواجهة الوالي العسكري بجبروته، وأسلوبه الجاف، وليس السلطان الذي يحكم هو وأجداده طوال قرون.
وقد كان هناك خصمان للكواكبي: الأول هو الحاكم المستبِد، متمثِّلًا في الوالي، والثاني هو المتطرفون، متمثلين في أحد الشيوخ الذين يعيشون في الأقبية، ويدفع برجاله إلى مجابهة مَن يخالفونه، يقذفون الخصوم بجمرات النيران، ويعترضون الكواكبي، رغم هيبته، من أجل استفزازه.
والكواكبي في الفيلم رجل دين يمثِّل الجانب التنويري، أما الشيخ وأتباعه، فيمثِّلون التطرف، الذي يصل إلى درجة الإرهاب.
وكما أشرنا، فنحن لسنا أمام فيلمٍ عن الكواكبي كشخص، قدر ما هو فيلم عن عصر المفكر الديني المستنير؛ لذا فإن جزءًا مهمًّا من الفيلم يدور حول الجانب الآخر لهؤلاء المتطرفين؛ حيث نجد أن سيد الجماعة الدينية يمكنه أن يستحل لنفسه امرأة أتى بها أحد أتباعه، وهو زوجها، كي يعالجها من مسٍّ شيطاني ألمَّ بها، فإذا به يختلي بها، يحاول استئصالها جنسيًّا، ويدفع المرأة أن تأتي إليه مرة أخرى، بحجة علاجها؛ لكن المرأة لا تنصاع إليه في المرة الثانية، مثلما فعلت في المرة الأولى.
ومن خلال هذين الطرفَين من الصراع، نرى الكواكبي الرجل العصري، يحتفظ في مكتبته بكتبٍ من كل الثقافات، يبهر مندوب السلطان الذي يحدِّثه أنه، أي الكواكبي، يحتفظ ويقرأ كتب التاريخ، والفكر العثماني القديم، بصورة لم تحدث في تركيا نفسها، كما أن الكواكبي قد قرأ أساطين الفكر الغربي المعاصرين له، بالإضافة إلى مونتسكيو وفولتير.
إذن، فنحن أمام شخصية أثَّرت في التاريخ، وقد عرفت السجن والظلم، فدخلت إلى الدياجير، وهناك مواجهة بين الوالي والكواكبي، يتحدث فيها هذا الأخير عن تعذيب رجال الوالي لأحد السياسيين الذين تم اعتقالهم؛ فإذا بالوالي أنه سوف يعذبه هو أيضًا … وفيما بعد نراه وقد تم اعتقاله في مشهدٍ سلمي، ويتم إيداعه السجن.
والسؤال الغريب الذي يطرحه الفيلم عن علاقة المفكر بالدكتاتور العسكري أن الكواكبي كان يلجأ إلى الشكوى للسلطان، وكتابة العرائض؛ فيجده مستجيبًا، بل تقوم صداقة عميقة بين مندوب السلطان وبين الكواكبي، ويبدو هذا الرجل آدميًّا؛ فهو الذي استجاب لمطالب النساء في المسيرة الجماعية التي سارت إلى بيته.
هذا السؤال هو: إذا كان الكواكبي قد وجد السلطان، ومندوبه، منقذًا للتخلص من الوالي الظالم، فإن الطريق لا شك مسدودٌ أمام الذين لا يجدون مَن يناصرهم في التاريخ العربي. وقد كشف الفيلم أن الكواكبي، رغم ضآلة جسمه، فإنه خصم لا يُستهان به؛ فلا يلين، مهما كانت الضغوط التي من حوله؛ ولذا فإنه يقبل أن يتم نفيُّه إلى مصر، وهي مرحلة توقَّف عندها الفيلم لأسبابٍ إنتاجية، وليس لأسبابٍ فنية.
أي أن الكلمة الأخيرة حول الكواكبي بعيون سمير ذكرى لم تُقَل بعد؛ ولذا فإن المخرج أعلن بعد فوزه بجائزة خاصة من لجنة التحكيم في مهرجان القاهرة السينمائي عام ١٩٩٩م أنه سوف يقوم بإنتاج جزءٍ آخر عن الكواكبي في مصر، ولا أظن أن في قدرة المخرج أن يفعل ذلك.
محمد ملص
حلم مدينة صغيرة | (۱۰ دقائق) |
اليوم السابع | (۲ دقيقة) |
الكل في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط | (٣٠ دقيقة) |
وبعد أن أنهى دراسته عام ١٩٧٤م عمل في قسم السينما في التليفزيون السوري، وأخرج العديد من الأفلام منها:
قنيطرة ٧٤ | (روائي قصير ٢٠ دقيقة) |
الذاكرة | (تسجيلي قصير ٣١ دقيقة) |
فرات | (تسجيلي ٣٤ دقيقة) |
وفي عام ١٩٨٤م أخرج فيلمه الأول «أحلام المدينة» الذي شاركه في كتابته المخرج سمير ذكرى، أما أسامة محمد فقد شاركه في كتابة سيناريو فيلمه الروائي الثاني «الليل»، الذي عُرِض عام ١٩٩٢م. وقد نال ملص العديدَ من الجوائز السينمائية العالمية المهمة عن هذين الفيلمَين مما وضعه في المصاف الأولى في السينما السورية الحديثة، ومما اعتبر أن أفلام ملص وجيله من السينمائيين الذين درسوا في موسكو قد صنعوا السينما السورية الحقيقية.
توقف المخرج عن عمل الأفلام الروائية منذ عام ١٩٩٢م، رغم العديد من المحاولات لإخراج سيناريو فيلمه «سينما الدنيا»، لكنه لم يتوقف عن النشاط السينمائي داخل سورية وخارجها، فمن أفلامه القصيرة هناك:
نور وظلال وهو بورتريه لرائد السينما نزيه شهبندر |
مدرس |
حلب مقامات المسرة |
فوق الرمل تحت الشمس |
وأهمية محمد ملص الأخرى، في رأيي، أنه السينمائي الوحيد في دمشق الذي ساهم بقوة في الإبداع الأدبي، فهو روائي متميز؛ حيث نشر نصًّا أدبيًّا تحت عنوان «المنام مفكرة فيلم»، عن فيلمه القصير «المنام»، كما صدرت له رواية عن دار الآداب بعنوان «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، تحوَّلت إلى فيلم «الليل». ولعل الناقد والمخرج صلاح دهني يشاركنا الرأي في هذا، حين كتب عن المخرج عقب عرض فيلمه الأول «أحلام مدينة» بمجلة «الفيديو العربي»:
«فنحن أمام أسلوب شخصي يكشف صاحبه ويعري نفسه بمقدار ما يورد من أحداث، وما يعرف من وقائع.
أسلوب حميمي حار، يتعامل بالدرجة الأولى مع الوجه الإنساني والصوت الإنساني، ويخترق حُجُب النفس من خلال التعبير، رفة العين، حركة الشفة، الهمسة، معانقة الذات، الذوبان في اللحظة، أو من خلال اندلاق الوجه كله على وجه النظارة. ويظل المظهر الخارجي للمشهد على درجة من البرود في حين تتلظَّى النار في الداخل، وهي نار مكتومة، لكنها حين تتفجر، تود لو تقضي على الأخضر واليابس، مثلما تكون نار المحروم والبائس والإنسان الذي كفر.
محمد ملص في «أحلام مدينة» يُطلِق لنفسه العنان، يسرح بمدى خياله، يكتب بالقلم-كاميرا، ويعتبر القلم كاميرا، شاعر جوال يمنح الصور من أعماق ذاكرة خصبة تضج بالرؤى والتهاويل، وتؤرقها عذابات العصر.»
الفيلم الروائي الأول للمخرج حصد إحدى عشرة جائزة، منها:
-
التانيت الذهبي (قرطاج ١٩٨٤م).
-
جائزة النخلة الذهبية في مهرجان فالنسيا عام ١٩٨٤م.
-
جائزة العمل الأول، مهرجان باستيا، كورسيكا ١٩٨٤م.
-
جائزة اليونسكو في مهرجان كان بنفس العام.
-
جائزة أفضل ممثلة لياسمين خلاط، مهرجان قرطاج ١٩٨٤م.
-
جائزة تقدير خاصة للطفل باسل الأبيض، مهرجان قرطاج ١٩٨٤م.
-
جائزة اللجنة الدولية للنقاد، قرطاج ١٩٨٤م.
-
جائزة تقدير خاصة للطفل باسل الأبيض، مهرجان كارلو فيفاري ١٩٨٤م.
-
جائزة النقاد العرب، مهرجان كان ١٩٨٤م.
نحن في فيلم أقرب إلى السيرة الذاتية التي انتشرت في السينما العربية في الثمانينيات، والمخرج يتذكر طفولته، وهو القادم من مدينة القنيطرة إبان سنوات الخمسينيات، لكن هناك تداخلًا ملحوظًا بين الأزمنة التي عاشها الكاتب المخرج؛ فالطفل ديب يعيش مع أمه حياة وشقيقه عمر، عقب وفاة الأب، بعد أن أتت الأسرة إلى دمشق للمعيشة عند والد الأم، لقد غادرت الأم مدينتها عائدة إلى منزل والدها كارهةً ومرغمةً؛ فأبوها رجل بخيل، بالغ الخشونة، سليط اللسان، جامد الأحاسيس، يعاني الطفلان من قسوة الجد، ويضطر ديب، ابن العاشرة، أن يعمل في محل كواء، إلى جانب الدراسة.
فنحن في واحدٍ من أحياء دمشق القديمة، في يوم العيد الأول للجلاء، في شهر أبريل من العام ١٩٥٣م، هناك الزينات التي تغطي الشوارع؛ حيث سوف يتم التعرف على الأسرة القادمة من القنيطرة لأول مرة إلى العاصمة، وتجيء صورة المدينة في ذلك اليوم من خلال ما ردَّده الابن الصغير: «الشام يا أمي هي الشام … تعالَي اطلعي … يا الله ما أحلى الشام يا أمي.»
يجد الطفل نفسه في معترك الحياة، ويحتك بالعديد من النماذج البشرية، ففي الحانوت يكتشف عالم الحارة العتيق، هناك شقيقان أحدهما سكير، والآخر يتعاطى الحشيش، كما أن هناك فتوة يقوم بالفتك برجلٍ يجنِّد أهل الحارة في صفوف أحد الأحزاب السياسية التي لا تروق لهذا الفتوة، وهناك شاب في مقتبل العمر يجد أن الهجرة خارج الوطن هي الحل الأمثل لتحقيق طموحه المفتقَد، وقوادة تتمتع بالكثير من اللحم وخفة الظل، وهي التي تدفع الأم أن تتزوج بشكلٍ غير شرعي من رجلٍ لا يلبث أن يكشف عن جانبه الآخر؛ إنه يبحث عن المتعة. يموت عمر أمام عينَي أخيه الذي يسعى للانتقام لأخيه بأن يهاجم الرجل الذي أغوى أمه وخدعها، كنوعٍ من البرهان على نُضجه، وانتقاله إلى مرحلة الرجولة.
المدينة التي يعيش فيها أعضاء الأسرة مع جدهم تبدو متسعة بأحداثها، من خلال فتحة الغرفة المطلة على المكان، يمرُّ الزمن من أمام البيت شاهدًا على ما يراه الوطن من أحداث. ﻓ «ديب» شاهد متكلم على ما يدور، أما الأم فإنها تلتزم الصمت، بينما الشام تشهد أحداثًا عظامًا، منها فرحة السوريين حين قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس، فتنتفض الأم تحت وضأة المصابيح الزرق المرتفعة في شتاء العدوان الثلاثي، ثم ها هي تستحم بالأضواء والزينات والزغاريد، عندما يتم إعلان الوحدة بين مصر وسورية، وفي كل صفائح البلَّور تنعكس الوجوه، والمآذن، وخضار الشام، والكل يغني موَّاله وأحلامه.
والحدوتة عند ملص هي إطارٌ هشٌّ لاستجلاب الوقائع الجميلة، مهما كانت قسوتها، التي حملها الماضي في جعبته ورحل، فأراد أن يستعيدها، من خلال مجموعة من الصور والمواقف المتناثرة، إنها رؤًى خصبة تضج بالرؤى والتهاويل وتؤرقها عذابات العصر؛ فالأزمنة تتداخل لا يهم أن تتخلخل الأحداث، أو أن تندمج في مسارٍ درامي محدد. وقد كتب المخرج صلاح دهني في مجلة «الفيديو العربي»:
«الطفل نموذجٌ لجيلٍ برمته، هو جيل الزمن الأسود والخيبات المُرَّة والانتهاكات المستحيلة، وحين ينتضي السكين ليطعن الشر في الشرير، وهو على ما عليه من طيبة وهشاشة ولمَّا تنبت مخالبه، يبدو كدون كيشوت عربي يحارب طواحين الهواء … أو … كناطح صخرة يومًا ليوهنها.
إن حس الفاجعة يظل ماثلًا على مدى الفيلم، الفاجعة التي وقعت، وتلك التي تتكرر كل يوم، وتلك الآتية لا محالة، صورة حياة مقلِقة مضطربة، وأزمنة رديئة مخيِّبة للآمال.
كيف قدَّم محمد ملص هذا كله؟
لقد أطلق مواله، صيحة عمره وسار، قدم فيلمًا من نوع سينما المؤلف دون أن يهتم بالنتائج، هل سيسمع أحد الكلمة، هل سيصغي أحد إلى الموال؟ هذا لم يكن في شأنه.»
وأهمية الفيلم أنه بمثابة سيرة ذاتية للمخرج الذي عاش هذه السنوات التي ارتفعت فيها شعارات الوحدة العربية بين البلاد العربية بقوة، وبالفعل تمَّت الوحدة بين مصر وسورية، ويتوقف الفيلم عند عام ١٩٥٨م، أي عند بدايات الوحدة، ويردد أحد أبطال الفيلم، وهو الصغير ديب أن الله ذاته الوحدة.
والزمن هو حالة خاصة من الحنين التي يُعيد المخرج تجسيدها، ويمتزج فيها العام بالخاص؛ فهناك المشهد الذي يعبِّر عن رد الفعل الخاص على ملامح وجه ديب، وقد التمعت العينان وهو يستمع إلى خطاب عبد الناصر في الجامع الأزهر، خصوصًا تلك الجملة التي يقول فيها: لن نستسلم، لقد فُرِض علينا القتال، لن يُفرَض علينا الاستسلام، سأقاتل معكم إلى آخر قطرة من دمي.
والزمن الأساسي الذي دارت فيه الأحداث، هي الفترة بين عامَي ١٩٥٣م و١٩٥٨م، أي هي السنوات الخمس التي شهد فيها الصبي أهم مراحل التحوُّل، من الصبا إلى الشباب الأول والشعور بالمسئولية، وهي فترة خصبة في حياة المجتمع السوري، والعربي؛ إنها سنوات التكوين الإنساني والثقافي بالنسبة للصبي ديب، وأيضًا بالنسبة للمخرج نفسه، وقد كتب علي أبو شادي في مجلة «فنون» حول الفيلم قائلًا: «كانت هذه الفترة هي سنوات التكوين بالنسبة لمخرجنا، الذي قدَّم عملًا يقترب من السيرة الذاتية، وإن لم يلتزم حرفيتها، ذلك أن الأحداث لا تُروَى من عينَي الطفل ديب، وإنما من عينَي صانع الفيلم ومخرجه؛ حيث يرى ديب وسط العوامل الموضوعية، وحيث يمزج بين السيرة الذاتية (الخاص)، وما يدور في المجتمع السوري في تلك الفترة، على كل المستويات الشعبية والرسمية، اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وعلى المستوى النفسي كذلك، وقد نجح في ذلك، إلى حدٍّ بعيد، مستخدمًا لغة سينمائية نجحت في إيجاد المعادِل الدرامي والبصري والصوتي لما يمكن تسميته بابتعاث الذاكرة وتنشيطها، وساعد المخرج في ذلك عناصر فنية قديرة، أضافت بقدراتها وعطائها وخبرتها إلى موهبته، ونفاذ رؤيته، وحسه الناضج، وظهر أثر ذلك في الصورة التي قدَّمها المصور التركي أدريجان آنجين.»
الفيلم قامت ببطولته الروائية ياسمين خلاط، مع رفيق السبيعي وباسل الأبيض وطلحت حمدي، وقد استقبله النقاد بالكثير من الحفاوة؛ فقد كتبت عنه ماجدة واصف في مجلة «المستقبل»: «هو الفيلم العربي الوحيد الذي مثَّل البلاد العربية كلها هذا العام في مهرجان كان، وقد كان تمثيله مشرفًا لنا جميعًا، كما كان صداه جيدًا في الصحافة الغربية، التي أبدت دهشتها لأن الفيلم لا يتمتع بالعيوب المعتادة في الأفلام العربية، ورغم ما في هذا القول من تجريحٍ إلا أنه يُعتبَر نوعًا من المديح لفيلم محمد ملص الأول؛ فهو بالفعل فيلمٌ متماسكٌ ومحكم، وهو أيضًا فيلم مدروس بعناية، ولم يُترَك فيه عنصر من عناصر تكوينه إلا وتم التفكير فيه وتمحيصه؛ وهذا ما لا يحدث بالنسبة للأغلبية الكبرى من أفلامنا العربية.»
أما الناقد الأردني عدنان مدانات فقد كتب في مجلة «الجيل»: «على المستوى الشخصي ينتهي الفيلم بمشهد الطفل وهو يحاول مهاجمة الرجل الذي أغوى أمه وخدعها، كنوعٍ من البرهان على نُضج شخصية الطفل وسط مشاكل الحياة، وعلى مستوى المدينة ينتهي الفيلم، وبعد انقلاباتٍ عديدة في الحكم، بمشهد قيام الوحدة بين مصر وسورية واحتفالات الناس بها.
هذا المشهد الاحتفالي يجري على خلفية نشيدٍ يسيطر على القاعة، ويستمر حتى تعتيم الشاشة على العناوين الأخيرة للفيلم، هذا النشيد هو الأغنية التي اشتُهرت في حينها، والتي تقول كلماتها: «وحدة ما يغلبها غلَّاب … يباركها وحدة أحباب.»
كأن المخرج يشير بهذه الخاتمة، التي تبدو متفائلة، إلى سلسلة الإحباطات السياسية، وتصدُّع الأمل، وكأن المخرج يريد بهذه النهاية المغلَقة المفتوحة أن يشير إلى أن عدم الثقة بالحاضر والمستقبل، يؤدي إلى التخوف من إحباطات وانتكاسات شديدة جديدة؛ فالوحدة التي اختتم بها الفيلم أحداثه، وبدت فيه كخاتمة الآمال سرعان ما أُحبطَت في الحقيقة والواقع.
صوَّر محمد ملص فيلمه بطريقة واقعية وسط أحياء دمشق العتيقة؛ الأمر الذي جعل الصورة تتسم بشكلها التاريخي ووقت وقوع الأحداث.
سجَّل المخرج بعض الحِرف والمهن التي كانت سائدة في الأحياء الشعبية، وما زالت إلى حدٍّ ما، مثل مهنة صبغ الأصواف، ليؤكد على الطبيعة الواقعية لفيلمه، الممزوجة بنوعٍ من النظرة الرومانسية الناشئة عن استعادة ذكريات الطفولة، حتى لو كانت قاسية.»
وفي مجلة «كراسات السينما» الفرنسية كتب مرك شيفريه — يوليو ١٩٨٤م — أن: «لمحمد ملص علاقة قوية بممثِّليه وشخصياته؛ وهذا يمكن أن يُلمَس من خلال الانتباه إلى الوجوه، وإلى شعاع الشمس على الجدار، إلى ذرات الغبار، والمكواة فوق القماش، والضوء على الستائر التي يرفعها الهواء؛ بحيث يُعيد إيجاد الحقيقة الكاملة لهذا المكان هنا والآن.
وفي كل ذلك فعلٌ إخراجي مدروس جدًّا، دون حذلقة جمالية، بل بانسيابية تعطي لهذا الفيلم الجميل جدًّا قوةً دافقة، وحرارةً حية وملموسة.»
أما محمد عبد الوهاب الحسيني، فيقول في كتابه عن «الفيلم السياسي في السينما السورية» — مصدر سابق — إن «مخرج «أحلام المدينة» لم يكن بمنأًى عن تأثيرات الواقعية الإيطالية الجديدة في فيلمه، وهو بالذات يشير إلى ذلك في حوارٍ أجرته معه مجلة «الوحدة» المغربية؛ حيث يقول محمد ملص بهذا الخصوص: فيما يخص الواقعية الجديدة أولًا، أنا أعتقد بأننا كلنا ننتمي بذاكرتنا السينمائية إلى لحظاتٍ، إلى عالمٍ وجداني كبيرٍ وعميق، تركته في أنفسنا الأفلام التي يُطلِق عليها النقاد اسم «الواقعية الجديدة»، إننا كجزءٍ من الذاكرة الوجدانية، في داخلنا ننتمي إلى هذه «المدرسة السينمائية»، ولا يستطيع أحد أن يضع الواقعية الإيطالية الجديدة في مدرسة واحدة ذات توجهاتٍ فكرية واحدة. وليست الواقعية الجديدة الإيطالية — حسب فهمي — هي الأفلام التي تصدَّت إلى معالجة تناقضات الواقع بمنظورٍ فكري معين؛ الواقعية الجديدة الإيطالية هي اللحظات التي قرر فيها السينمائيون الإيطاليون العظماء أن يخرجوا بموضوعاتهم، ومع موضوعاتهم، من إطار سينما سائدة إلى سينما الشارع؛ الخروج إلى الشارع ليس وسيلة تقنية، إنما هو رؤية فكرية وعلاقة مع الواقع … لعلِّي إذا أسعفني الفخر بالانتماء إلى هذه المدرسة، فأنا أعتقد أنني أنتمي إليها لكون كل مشاهد «أحلام المدينة» صُوِّرت في الشارع.»
أما الفيلم الثاني «الليل» فقد حصل على العديد من الجوائز ومنها: التانيت الذهبي في أيام قرطاج عام ١٩٩٢م، والجائزة الكبرى في مهرجان فريبورج عام ۱۹٩٣م بسويسرا، والجائزة الأولى في مهرجان بروج بلجيكا في العام نفسه، والجائزة الفضية بمهرجان فالنسيا بإسبانيا عام ١٩٩٣م.
وفي هذا الفيلم يعود ملص إلى ما هو أقرب إلى السيرة الذاتية، وتبدأ الأحداث بالشاب علا الله يقول لأمه، من خلال نظرته إلى الكاميرا: «أمي، شايفة القمر، الله بذاته منور على القنيطرة، الله بذاته منور على القنيطرة.»
ومن خلال جملة رُدِّدَت في المشهد الأخير من «أحلام المدينة»، نرى العلاقة الوجدانية بين الفيلمَين، سواء من حيث المكان أو الشخصيات، وإن كنا قد عدنا إلى البواكير بسنواتٍ عديدة: «دياب تعالَ شوف القمر … يا دياب … الله بذاته مع الوحدة.»
البطل هذه المرة هو الأب الذي مات في بداية أحداث الفيلم الأول دون أن نراه، بل نحاول أن نسترجعه؛ فالأم تقول إنها شاهدت زوجها الراحل في المنام يطلب منها أن تقوم بزيارة مقبرته، في مدينة القنيطرة التي دمَّرها الإسرائيليون بعد احتلالها عام ١٩٦٧م. توجد مقبرة لأبٍ كان مجاهدًا ذات يوم، يحاول المؤلف أن يبحث عن قصة هذا الأب خلال تجميع لرفات الذاكرة على لسان الأم، فتُوقظ روايتها عنده ملامح من ذاكرة تحمل مذاق السؤال ومرارة الجواب، فقد مرَّ الأب ذات يومٍ من عام ١٩٣٦م من القنيطرة في طريقه إلى فلسطين مجاهدًا ضد الصهاينة، والاستعمار البريطاني، ثم مرَّ منها وهو عائد من فلسطين، فسحره هواؤها، وقرر الاستقرار فيها، وأن يتزوج من إحدى بناتها، دون أن يثنيه ذلك عن عزمه في مواصلة الجهاد.
من جديدٍ يذهب الرجل إلى فلسطين مع جيش الإنقاذ، ثم يرجع إلى القنيطرة مع أولى بوادر الهزيمة وضياع فلسطين، لكنه يظل متمسكًا بالأحلام والمُثُل، مشحونًا بروح الجهاد إلى أن يعرف الإهانة والسجن على أيدي أبناء وطنه، فيموت على أثرها مثقلًا بالقهر، ويدفن في مكانٍ ما من القنيطرة. ويعيش الابن موت والده، ويرث منه الإهانة وثقل السؤال. لقد عرف الأب السجن مرارًا وذلك لأسبابٍ عديدة، منها أنه قام بالهجوم على منزل جاره عندما سمع الراديو يردد البيانات السياسية الكاذبة؛ فجاء رجال الأمن السري إلى بيته ليلًا وأخذوه، ولم يعُد إلى داره إلا بعد أن قام انقلاب جديد.
وقد جاء موت الأب مفاجئًا وغامضًا؛ حيث سقط أمام عينَي ابنه.
وتمر السنوات، ويكبر الابن ويصبح مؤلفًا، يحاول أن يرمِّم سيرة أبيه، وأن يستجمعها، لكنه ينسج لهذا الأب موتًا مختلفًا، حين يجعله مقاتِلًا في صفوف القوات التي جابهت الجيش الإسرائيلي، فدفع حياته ثمن هذا الموقف؛ وصار بطلًا.
نحن، إذن، أمام ما يمكن تسميته ﺑ «أحلام المدينة: الأيام البواكير»، وإذا كان الفيلم السابق قد دار حول ما شهدته دمشق طوال خمس سنوات، فإن المخرج، في فيلمه الروائي الثاني، يضع اهتمامه في قضية فلسطين؛ فمدينة القنيطرة التي وُلِد بها، بحكم جِوارها لفلسطين، قد صارت شاهدًا على أحداثٍ جسام؛ لذا فإن المخرج يصدر الفيلم بإهدائه: «إلى الذين جاهدوا في سبيل فلسطين، وماتوا بصمتٍ.»
كما أننا أمام أزمنة متعددة تتداخل فيما بينها، من عام ١٩٦٧م، إلى ما قبل ذلك بثلاثين سنة مرورًا بالنكبة، عبر الأشخاص أنفسهم، في مراحل زمنية وتغيُّرات بيولوجية وحياتية للأشخاص. وإذا كان المخرج قد شهد على سنوات الخمسينيات في الفيلم الأول، فإنه في «الليل» يشهد على الكثير من وقائع الحياة في الأربعينيات، ويعيد تجسيدها؛ فالمدينة لا يكف الناس فيها عن الحديث حول السياسة، فحلاق القرية الذي يحلق شعر وذقن علا الله قبل ليلة العرس، يروي له قصة الخيانة وإيقاف الثورة، كما أن الناس في المدينة تحس بالشماتة حين يقوم هتلر بالاستيلاء على باريس. ويرحل الضابط الفرنسي كوليه مع مجموعة الفرسان الشركس من أجل الانضمام إلى قوات فرنسا الحرة، ليعود بعد ذلك مع القوات الإنجليزية من أجل القضاء على الفاشيين؛ ولتصبح سورية بعد ذلك حليفة للديجوليين محتلة على أيدي جنودها، وتدور معركة دخول القوات الفرنسية والإنجليزية إلى المدينة حين يكون أبو العشي البكر أبو حامد نائمًا في دكان أبيه.
أبو حامد هذا هو الفتى الصغير، يسمع أصوات القنابل التي يُطلِقها أحد الجنود، ويعثر بالمصادفة على بعض الليرات الذهبية التي تسقط من أحد أكياس المئُونة؛ فيلتقط ليرة منها ثم يهرب، بينما الانفجارات تدوي معبِّرة عن سقوط المدينة.
كما أن الفيلم توقف عند ما شعر به الناس في تلك الحقبة، فيما يخص الانقلابات السياسية؛ فهم يصابون بجنونٍ خاص؛ فالحلاق عندما يقوم الانقلاب يشير إلى أن أوان قص الرءوس قد حان. هذا الانقلاب الذي جعل القائمين به يرددون أنهم إنما جاءوا إلى السلطة من أجل قضية فلسطين، وفي الفيلم مشهدٌ للمناضل علا الله الذي يمنع ابنه من التظاهر مع التلاميذ؛ لأنه فهم الأمور على حقيقتها.
محمد ملص لا يبني الذاكرة في أفلامه، بل أنه — كما يقول محمد سويد في مجلة «عالم الفكر» في المرجع المذكور — يحاول ترميم هذه الذاكرة، فوق أرضٍ جدباء، وهذا أقصى ما يمكن أن يذهب به الألم، إلى زمنٍ لم يعُد زمننا، زمن بات خِلوًا من الذاكرة التي سُوِّيَت بتلك الأرض الخرِبة، وفُصلَت عن سائر العناصر، وعن كل شيء ما عدا العقاب. على هذا المنوال يعود الزمن في «الليل» إلى ظلمته، ويحتفل بنصب تماثيل الزعماء في حلكة السواد؛ فحسب مخرج الفيلم يتجوهر تراث القمع العربي في الليل، وكمن يقرأ في عهدٍ قديمٍ؛ يستشعر محمد ملص الآتي فيما مضى، ويتحوَّل الزمن برمته إلى مدار فصول قوامها الذكرة.
وفي مقاله عن الفيلم (جريدة عمان في ١٨ فبراير ١٩٩٣م) يقول المخرج هيثم حقي: «جمع محمد ملص في فيلمه بين ذاكرتَين: الذاكرة الشخصية وذاكرة الوطن، وهو أمر سبق أن قدَّمه هو شخصيًّا في «أحلام مدينة»، وقدَّمه قبله يوسف شاهين في «إسكندرية ليه»، وسبقهما إليه فيلليني في رائعته «إني أتذكر». وجمع ملص بين الذاكرة والشاعرية البصرية، وهو أسلوب المخرج تاركوفسكي، الذي يحبه محمد كثيرًا. لكن محمد ملص خرج من هذا الفيلم بشكلٍ يخصُّه وحده؛ إذ نسج من الذاكرة الشخصية خيوطًا شكَّلت أرضية القماش التي تزركش بذاكرة الوطن، تلك الذاكرة التي احتلت الصدارة، مليئة بالألم، مليئة بالشجن، مليئة بالحسرة وعدم الرضا.»
وقد قامت هيام منور بعملِ أكثر من زيارة لمواقع تصوير الفيلم، ونشرت تحقيقًا عنه في مجلة «فن»، حين كان ينوي تسمية الفيلم باسم الرواية، وفي هذا التحقيق تكلم المخرج عن مسألة الاحتفاظ على الشاشة بعالمه الداخلي فقال:
«الطفولة هي المحرض الأساسي لديَّ، وبقدر الغوص في الذات، ومحاولة العثور على الأشياء التي تُوجع، والتي هي بالنسبة لي صميمية، بقدر ما أسعى للحديث عن أشياء أعرفها معرفة ملموسة، وبالطبع، الطفولة والمكان هما ركيزتان أساسيَّتان في حياة كل إنسان.
ويبدو أنني حتى الآن ما زلت أعتمد على هذه الركيزة، وأعتقد أن الفيلم قد يشكِّل ما يمكن تسميته بتصفية الحساب مع الطفولة … والمكان الأول.»
إذا كان هذا هو عالم ملص الروائي فمن المهم الرجوع إلى ما كتبه ملص عن فيلمَيه في شهادته البالغة الأهمية، في مجلة «عالم الفكر» (يوليو ۱۹۹۷م):
«سعيتُ أن يبدأ فيلمي الثاني من حيث انتهى فيلمي الأول، على الرغم من أن «الليل» يتناول مرحلة تاريخية تسبق المرحلة التاريخية التي يتناولها «أحلام مدينة».
فما هو المقصود أن يبدأ فيلم «الليل» (١٩٣٦–١٩٤٩م) من حيث انتهى «أحلام مدينة» (١٩٥٨م)؟
كما سعيتُ أن ينتهي فيلم «الليل» (١٩٤٩م)، كما انتهى فيلم «أحلام مدينة» (١٩٥٨م)؟
إن هذا ليس لعبًا بالألفاظ ولا بالأفكار ولا بالصور … ولم يكن هذا بالنسبة لي لعبًا على الذات؛ لقد كان موقفًا فكريًّا وبصريًّا أولًا وأخيرًا.
وكان في الوقت ذاته محاولة في لجم منطق النقد الترابطي والتصنيفي القائم على العلاقات الظاهرية بين الأعمال الفنية.
يبدأ فيلم «الليل» بمشهدٍ نرى فيه صبيًّا يافعًا ينظر إلى القمر، ثم ينادي أمه، ويدعوها لمشاهدة القمر، معتبرًا أن نور القمر هو دليل على أن الله ذاته منور على القنيطرة.
هذا المشهد الذي أبدأ به فيلمي الثاني لأتحدث عبره عن القنيطرة، فلا يمكن أن يتجاهل أحد أن هذه المدينة التي أتحدث عنها في عام ١٩٩٢م كانت قد دُمِّرت على يد العدو الإسرائيلي بعد احتلالها (هذا إذا لم أقل بأن تدميرها على يد الإسرائيليين هو وراء عودتي للبحث عن صورتها، وبنائها سينمائيًّا ما دمتُ لا أستطيع بناءها في الواقع).»
ويستكمل ملص حديثه المهم قائلًا: «ينتهي فيلم «أحلام المدينة» بشابٍّ ناصري ينظر إلى القمر، ثم ينادي الصبي ديب ويدعوه لمشاهدة القمر؛ معتبرًا أن نور القمر هو الدليل على أن الله ذاته مع الوحدة التي أُعلنَت بين مصر وسورية عام ١٩٥٨م، هذا المشهد الذي أُنهي به فيلمي الأول، والذي أردت أن أتحدث عبره عن الشارع السياسي والوطني السوري في الخمسينيات، لا يمكن أن يتجاهل أحدٌ أن هذه الوحدة التي أردت أن أتحدث عنها عام ١٩٨٤م كانت قد انتهت وفُصمَت عُراها عام ١٩٦١م.
لماذا بالنسبة لي يبدأ فيلم «الليل» من حيث انتهى «أحلام المدينة» بصريًّا وفكريًّا؟ ينتهي فيلم «الليل» بمشهد وقوف الأم ودعوة ابنها الصغير للوقوف إلى جانبها، والنظر إلى النصب الذي وضعه الانقلاب العسكري في ساحة المدينة، ودشَّن به الزعيم حكمَه، بينما ينتهي «أحلام المدينة» بدعوة الشاب الناصري ديب للوقوف إلى جانبه والنظر إلى القمر؟»
وفي المقال لم يرد ملص على التساؤلات؛ وإنما حوَّل المقال إلى حالة من الحنين المكتوب عن سنوات علاقاته الأولى بالسينما، وانتهاء عصر اللاءات في السياسة، وعن أمه.
«إن رسم وبناء شخصية الأم في فيلم «أحلام المدينة» كان يهدف إلى التعبير عن شخصية واقعية، قد تسمو إلى مستوى المجاز، فأنا مؤمن إيمانًا عميقًا بأن هذا المجاز هو تألُّق للواقع … ليس هناك مجاز مجرد.
إذا كانت هذه المجادلة صحيحة؛ فإن طموحي للتعبير عنها كان يتجه إلى شخصية الأم.
قد نلحظ في مصير هذه الشخصية في الفيلم، ومصير الأحداث التاريخية في فضاء الفيلم، أحيانًا التوافق، وأحيانًا أخرى التزامن بين المصيرَين.
إن هذا ليس محاولة لجعل الأم هي الوطن، أو الوطن هو الأم … إنه سعي للتماثل والمقارنة الذي قد تستطيع فيه الشخصية أن تتألق أمام المتفرج؛ لترمي له في تلقِّيه مجازها إذا استطاعت أن تصل إليه.»
أما مهدي محمد علي، فقد كتب في مجلة «الحياة السينمائية» — صيف ۱۹۹۳م — تحت عنوان «بين أحلام المدينة وكوابيس الليل» قائلًا: «ثمة قضية ينبغي الانتباه إليها والاهتمام بها، ووضعها في الاعتبار الأول — كما أرى — عند مناقشة أي جزئية أو حرفية في فيلم «الليل»، ألَا وهي أن الفيلم اعتمد «المرثية الهجائية»، أو «المأساة الضاحكة»، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يمضي القول مع هذا الفيلم، وعكس ذلك سيفقد النقد حلقة موجودة، ظانًّا أنها الحلقة المفقودة.»
وعن العلاقة بين الفيلم والرواية التي نشرها محمد ملص بعنوان «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، كتب محمد سويد في مجلة «عالم الفكر» الكويتية — العدد الصادر في يوليو ۱۹۹۷م — قائلًا: «لكأنما كاتب الرواية ومخرجها شاء من العملية برمَّتها ليس إعادة النظر فيما كتب، وإنما الإمعان في تصحيح شيء ما، أخذ يعبِّر عنه منذ أيام دراسته، وهكذا فإن كلًّا من الرواية والفيلم المقتبَس عنها بتصرفٍ كبير، يشكِّل حوارًا مع الذات، ارتقى بتعبيره من الكلمة إلى الصورة، وبطريقة تجعله حوار البصر والبصيرة. وإذا كانت العين هي الأداة، فإن العين بالتالي (سراج الجسد، منسوبة إلى إنجيل متَّى) طبعًا هي عين السينمائي، قياسًا إلى محمد ملص جاءت السينما «للتعويض عن نقيصة العين» فعين الإنسان لا تستطيع تثبيت الحركة أو ملاحظتها بتفاصيلها، لا تستطيع أن تميز أن الحركة هي سلسلة وَثَباتٍ منتظمة التلاحق والتسارع.»
عبد اللطيف عبد الحميد
مولود في مدينة حمص عام ١٩٥٤م، وهو واحد من أبرز مدرسة الدارسين في المعهد العالي للسينما في موسكو، حيث تخرَّج عام ١٩٨١م. بدأ حياته الفنية كممثلٍ ومخرج، وموسيقي، ومطرب في فِرق الهُواة، وقام بإخراج ثلاثة أفلامٍ قصيرة أثناء دراسته هي: «تصبحون على خير» ثم «درس قديم» و«رأسًا على عقب». وعقب تخرُّجه عمل مخرجًا في مؤسسة السينما، كما عمل مخرجًا مساعدًا في فيلم «أحلام المدينة» لمحمد ملص، وفي فيلم «النهار» إخراج أسامة محمد، كما قام بأداء الدور الرئيس في فيلمه «نجوم النهار»، أخرج فيلمين تسجيليين قصيرَين في عام ١٩٨٣م هما:
أيدينا |
أمنيات |
وحتى عام ٢٠٠٣م أخرج خمسة أفلام روائية هي:
۱۹۸۹م | ليالي ابن آوى |
۱۹۹۰م | رسائل شفهية |
١٩٩٥م | صعود المطر |
۱۹۹۸م | نسيم الروح |
۲۰۰۲م | قمران وزيتونة |
نحن أمام مخرج مؤلف، يقوم بنفسه بكتابة سيناريوهات أفلامه، فتحمل رؤيته الخاصة ووجهات نظره، وذلك على خلاف الكثير من المخرجين الآخرين من المدرسة نفسها، أو من نفس الجيل؛ حيث رأينا محمد ملص، على سبيل المثال، يشارك زملاء له في كتابة السيناريو. وقد بدا ذلك واضحًا في فيلمه «ليالي ابن آوى»، الذي يصوِّره في الريف، وهي المناطق التي سيعود إليها من وقتٍ لآخر في أفلامه التالية، إنها مناطق جبلية موحشة بعيدًا عن صخب المدينة، يتسم سكانها بالقسوة والطبيعة الجبلية، ويعتمد الناس على الزراعة. فنحن هنا أمام عائلة ريفية، يقودها أب متسلط، يفعل ما يشاء، ويتحكم في مصائر الناس من حوله، خاصة أفراد أسرته، سوف يتكرر المكان والأجواء في فيلمه «قمران وزيتونة»، إلا أن المتسلط سيكون هو الزوجة كما سنرى.
هذا الأب (أبو كمال) يميل إلى أن يقوم الجميع بطاعته وسماع أوامره، هذا التسلط يسبِّب الكثير من المتاعب والقهر لأفراد الأسرة، وهم كمال، وطلال، وبسام، ودلال، وريما، ويدفع الابن الأكبر كمال إلى أن يذهب إلى المدينة من أجل الدراسة، لكنه في الحقيقة هارب من تسلُّط الأب وقسوته؛ حيث تدور الأحداث في الفترة التي سبقت العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في عام ١٩٦٧م.
وهذا الابن يعيش في مدينة اللاذقية، في شقة صغيرة، لا يعتني بها أحد، ويفهم كمال الحرية التي وهبها لنفسه بأسلوبٍ خاطئ؛ فالشقة مليئة بالقاذورات، والمخلفات، مما يصيب الأب بدهشة ملحوظة حين يقوم بزيارة مفاجئة لشقة الابن؛ فيغضب عليه غضبًا شديدًا، ثم ما يلبث أن يرثي لحال ابنه الذي يعيش وحيدًا.
أما الابن الأوسط «طلال»، فإنه يعاني من جبروت الأب؛ فيهرب إلى بنتٍ من بنات الجيران الذين يعيشون في المزرعة المجاورة، ويسكن لدى جارته، ويكشف الأب الموقف فيُحضره، ويقوم بدفنه في الطين حتى رقبته، ويحلق له رأسه بالموسى، ولا ينقذ الابن سوى استدعائه لأداء الخدمة العسكرية.
الابن الصغير «بسام» لم يعرف التمرد بعدُ؛ لذا فهو لا يمارس سوى الطاعة، وأمامه وقتٌ طويلٌ من أجل الهرب، وكل ما عليه أن يفعله هو عدم الوقوع في خطأ حتى لا ينال العقاب الصارم من أب لا يعرف الرحمة.
ولهذا الأب ابنتان؛ الكبرى «ريما» تضطر للزواج في سن مبكرة من شخصٍ لم يسبق لها أن تعرَّفت عليه، المطلوب منها أن تعمل في الأرض قبل الزواج وبعده، تُساق عند العرس إلى بيت زوج المستقبل، دون أن يكون لها الحق في أن تُعلِن رأيًا، أو تنبس ببنت شفة، دون أن تعرف أيَّ مصير شقي ينتظرها، ومثل هذا النموذج يتكرر وجوده في العديد من الأفلام الريفية السورية (انظر «الترحال»، على سبيل المثال).
وأمام رحيل الابنة الكبرى فإن أختها دلال، التي تصغرها، تقوم بأعمال البيت لخدمة كل هذا الجمع من أعضاء الأسرة، خاصة أمها، وتتعرَّف على جارهم الذي يبدو عديم الشخصية، لا يجيد الحديث معها إلا عن الحمير والأبقار، يحبها دون أن تكون له القدرة على مصارحة والد حبيبته بمشاعره، طالبًا الزواج منها، رغم أنها أخطأت معه وحملت منه؛ مما يدفع بأمها إلى أن تطردها من البيت؛ فتذهب إلى رجلها من أجل أن تتزوجه، وتعيش مطرودة من رعاية أبيها طيلة حياتها.
هذه الأم عانت الكثير من قسوة زوجها، وهي امرأة صامتة قليلة الكلام، وأصبحت تدري كيف تتعامل مع صاحب القلب القاسي، وهي تسكب حنانها على أبنائها لتعوضهم بهذا الحنان القسوة المضاعفة التي يمارسها الأب.
تدور الأحداث إبان حرب يونيو عام ١٩٦٧م، ففلسطين تسقط بين أيدي القوات الإسرائيلية، ويبدو اليأس وقد سيطر على الأمل، ويشعر الأب أنه مسئول عن الهزيمة، ويحاول أن يغيِّر سلوكه، لكن بعد فوات الأوان. وفي الحرب يموت الابن الأوسط، مما يضاعِف شعور الأب بالندم؛ فكم كان قاسيًا عليه، ويحاول أن يعوض ذلك بأن يهب الحنان لولده الصغير ولزوجته، ويتمكَّن من إخفاء الخبر عن زوجته، لكن دموعه تخونه، ويبكي أمام الزوجة التي سرعان ما تفهم الحقيقة، فتموت لتوِّها ويفقد الأب مَن تبقَّى له سندًا.
نحن في قرية، الخيبة تحاصرها نهارًا، وعواء الذئاب ليلًا، ويبقى الأب وحيدًا مع عواء بنات آوى والوحدة، مع الطفل الصغير، والذي يحاول الحفاظ على أبيه وخدمته، ويشاركه الحياة الجديدة، ويواصل الذهاب إلى المدرسة. لكن أصوات ابن آوى تملأ المكان بالنعيق القاتل المؤلم، ويخرج الأب إليها لمطاردتها؛ لكنه لا يعود مرة أخرى.
عن البيئة في فيلمه تحدَّث المخرج — مجلة «الحياة السينمائية»، ربيع ۱۹۸۹م — قائلًا: «هذه البيئة المتخلفة قابلة للتطور، بدليل أنني كنتُ منها وتطورتُ، وتطور آخرون، لكن وتيرة التطور تختلف بين بيئة وأخرى، حسب التوعية، وتوعية هذه التوعية، أردتُ أن أحكي عن بيئة متخلفة، لها ما يعادلها، حتى في البلدان المتطورة صناعيًّا.
حتى الآن يمكن أن نجد في البيئة التي نعيش فيها أولئك المعزولين عن حركة الحياة، فهم لا يعرفون المدينة، ولم تصل إليهم التقنية الكهربية العجيبة، وفي الشتاء تزداد عُزلتهم في بيوتهم التي صارت جزءًا من الطبيعة القاسية بين الأودية والمرتفعات.»
وحسب محمد الأحمد في مجلة «فن» — ٢٨ /٤ /١٩٩٧م — فإن الفيلم هو السرد المشحون بالحنان والحب وندرة التقاط خصوبة كبيرة تحتويها داخليات ترقُب ما يدور أمامها بصمتٍ متزن. «الأم» بانفعالٍ طيب وأصيل، «الأب»، وبلهفة الاكتشاف «الأولاد والبنات». «ليالي ابن آوى» هو التعرُّف الجميل على أسرة غنية جدًّا بما تحوي، شامخة بما يوفره لها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، من شفافية ومصداقية وحب عميق، واحترام حقيقي وأصيل للبيئة التي خرجت منها، مقدمًا لنا أرواحًا شفافة وقوية ومبدعة، تزداد نصاعة وغِنى بتلك التفاصيل المتأنية التي تقودنا إلى الجوهر والحركة للمجتمع الذي يعرضه.
محمد الأحمد، هو الذي أعد ملفًّا ضخمًا عن الفيلم نشرته مجلة «الحياة السينمائية» في ربيع ١٩٩١م، وفيه تم نشر سيناريو الفيلم، مع تحليلٍ بقلم الكاتب عن الفيلم، بالإضافة إلى مقتطفات من المقالات المنشورة عن الفيلم في الصحف والمجلات العربية. وفي هذا الملف يقول الأحمد مجددًا عن الفيلم: «تكتسب الحبكة الدرامية معنًى آخر وبُعدًا وملمحًا يخترق الصفة المفترَضة لها، كوميديا سوداء، وربما دراما عائلية في صياغة متقنة، وإطار نفسي تأمُّلي، والمخرج الموهوب عبد اللطيف عبد الحميد نجح في تجسيد اللعبة المتجاذبة بين العلاقات العائلية، وفي رسم الفراغ المكاني أو الخارجي يوازيه فراغ داخلي حافزه الصورة المشرعة، واللقطة السينمائية الباهرة … لغة سينمائية حنونة جدًّا، تحب كل ما يكتبه لنا في مناخٍ يتوالد من مناخٍ عبر إيقاعٍ متوترٍ سريع وحازم من وسط الطبيعة الساحرة، يأتي إلينا «ليالي ابن آوى» هادئًا وصاخبًا، في إيقاعاته النفسية المؤلمة، من دون انفعالٍ أو حشوٍ في الكلام … هكذا أصالة الفيلم وتميُّزه على إيقاع كلمات معدودة وبسيطة، تخرج من الصور على حين غفلة.»
وفي هذا الفيلم، كما جاء في كتاب «الفيلم السياسي في السينما السورية» — مرجع سابق — يقول محمد عبد الوهاب الحسيني: «اجتمع الألم والأمل، الحزن والفرح، البكاء والضحك، جملة من الأضداد تعبِّر عن مرحلة قلِقة، متناقضة، مليئة بالأضداد. إن اختيار المخرج للكوميديا التراجيدية — إن صح التعبير كأسلوبٍ فني استخدمه في فيلمه — ربما ينبع من كونها الشكل الأكثر تعبيرًا عن طبيعة الشخصية، ولا سيما شخصية الأب، التي تحمل بين دفتَيها الأفراح والأتراح، الضحك والبكاء في آنٍ واحد معًا.»
هذا العالم سيتكرر مرة أخرى في آخر أفلام المخرج «قمران وزيتونة»، فنحن في بيئة موحشة للغاية، الزوجة هي التي ترعى الأسرة، والزوج أصابه شلل في الحرب؛ وعاد ليقيم في الدار الريفية، بلا حول أو قوة، لا يملك أن يفعل شيئًا، حتى ممارسة حقِّه كأب وزوج؛ فقد ترك كل شيء للزوجة، التي اكتسبت الكثيرَ من القسوة من الطبيعة الجبلية التي تعيش فيها. والقسوة هي سِمة زائدة لدى الكبار في هذه الطبيعة، بينما الأطفال يتمتعون بحسٍّ إنساني وشفافية منقطعة النظير، وسوف نرى هذه الأم تفعل الأشياء التي مارسها الأب في الفيلم السابق، خاصة القيام بقص شعر الأبناء بالموسى حتى الزيرو.
والأطفال هنا هما ذكران (قمران)، وفتاة صغيرة أخت لأحدهما (زيتونة)، أما العنف الذي سكبته المنطقة على أبنائها فلا يتوقف فقط عند الرحمة المفقودة لدى المرأة، لدرجة لا يمكن تصديقها، وهي تقص الشعر الجميل الذي يزيِّن رأس ابنها، دون أن يملك جملة اعتراضية واحدة، عدا البكاء، ثم ها هي الأم، ولسببٍ بالغ الضعف تقوم بقص شعر ابنتها على الزيرو، دون أن تهتز يديها من التردد، أو الندم؛ وكأنها بالفعل تجز فروة خروف.
وتنسحب القسوة إلى صاحب المدرسة، الذي يتلذَّذ بضرب التلاميذ بعصًا غليظة، مما يدفع الطفلان للهرب من المدرسة، وعدم العودة إليها.
تدور الأحداث في الستينيات، وغير خفي أننا أقرب إلى سيرة ذاتية عاشها المخرج، أو عرفها عن قُربٍ بتفاصيلها، لدرجة أنه كان يعود إليها، ويتكلم عنها بشكلٍ تفصيلي من فيلمٍ لآخر.
الأم امرأة كالشجرة الجافة، تعمل كثيرًا، ولا ترتوي من زوجها قَط، وتعيش مع أسرتها في بيتٍ جبلي أقرب إلى الكهف، بلا أثاثٍ تقريبًا، ولا دفء؛ ولذا فإن القسوة تُعتبَر معادلًا منطقيًّا لسلوك الأم، والسبب يبدو واهيًا للغاية بالنسبة للابن الذي اعتاد أن يمتص أصابعه، فأنذرته الأم مرة، وفي المرة التالية قامت بقص شعره، وجعلته يذهب إلى المدرسة أصلع، يجابه سخريات التلاميذ بالبكاء، ورغم هذا فإن الابن لم يتوقف عن عاداته السيئة، رغم أن امتصاص الأصابع يعني أن الصغير مرتبطٌ بشدة بأمه، وأنه لم ينفطم عنها أبدًا.
وللصغير رغباتٌ عديدة، منها رغبته في نتف شعر رأسه، وعندما يصير رأسه أصلع، فإن أخته تمنحه شعرها ليمارس هوايته الغريبة، فتشاهدها الأم؛ وتقرر أن تعدمها تاج الرأس الجميل.
أما الطفل الثاني، فهو يسكن في مكانٍ غير بعيد، يأتي للإقامة مع صديقَيه الأخوَين، وتربط الثلاثة علاقة قوية مليئة بالترابط والإنسانية، وهم قادرون على الإحساس ببعضهم، ويواسون البعض حين المحن، ولا ينفصلون حين يهربون من المدرسة، يظلون قريبًا منها، يتطلعون إلى طابور الصباح.
نحن أمام مجموعة منكسرة من الأشخاص، لم يعرف أفرادها الفرح، الأب الذي انهزم وطنه، فصار عاجزًا، ولم يعُد قادرًا على ممارسة رجولته ولا أبوَّته؛ فالطفلان، رغم قسوة الأم، إلا أنهما أكثر احتكاكًا وارتباطًا بها، والأب عاجز عن الكلام والحركة، وبالتالي لم يتمكن قَط من إسداء نصيحة، أو عمل توجيه، والأم تعوض حرمانها باشتهاء الأشياء جنسيًّا، مثل رغيف العيش، وممارسة الجنس مع نفسها، ومعاقبة الأطفال بأقسى شكلٍ لعله الأشد تحجرًا من الأب، الذي يعيش في أجواءٍ مشابهة ما رأيناه في الفيلم الإيطالي «الأب السيد» إخراج جافينو ليدا عام ١٩٧٧م، والذي حصل في العام نفسه على جائزة السعفة الذهبية.
أما الأطفال، فهم وسط هذا العالم يتلمسون نوعًا مبتسرًا من الحنان، الولد الذي يرضع إصبعه، ومحاولات التدفؤ ببعضهم البعض. ولا يشير الفيلم إلى أن سكان هذا المكان هم جميعهم من القساة؛ فوالد الطفل الآخر رجل أكثر رحمةً بابنه، وأكثر تفهمًا وانفتاحًا.
إذن، فنحن أقرب إلى فيلمٍ واحدٍ بوجهَين متكاملَين، العالم هنا متوحد بشكلٍ بالغ القوة، والمصائر متشابهة، وليس صحيحًا أن الطبيعة قد سكبت وحدها القسوة على الناس، بل أيضًا بعض الظروف، والملابسات.
فهناك الفيلم الثاني للمخرج «رسائل شفهية» يدور في الريف، لكنه أقرب إلى الكوميديا، والشفافية الإنسانية، وهو يبدأ هكذا حسب السيناريو المنشور في مجلة «الحياة السينمائية» بما يشبه النص الأدبي منه إلى السيناريو السينمائي:
«صيف … ومع ذلك، أوحت السماء فوق تلك القرية الصغيرة المؤلَّفة من عدة بيوتٍ طينية متفرقة، هنا وهناك، على سلسلة جبلية مغطاة بأشجار الصنوبر والسنديان والبلوط، أوحت بما لا يدع مجالًا للشك، بأن أمطارًا ستهطل بعد لحظات، هبات ريح نشطة أحيانًا … أوراق أشجار تكنسها الريح هنا وهناك، أوانٍ منزلية تتدحرج على الأرض محدِثة قرقعة، وثمة غبار أيضًا.
أمام أحد البيوت، والذي يقع أسفل هذه القرية، جلس رجلٌ عجوزٌ في الثمانين من عمره، جلس ينقر الرحى، أي يشحذها بأداةٍ حادة صغيرة تشبه البلطة، وقد وضع هذا العجوز نظارة على عينَيه، لا أحد يعرف من أين جاء بها؛ لأن أحدًا لم يرَ لها مثيلًا في العالم، فهي تجمع في شكلها بين نظارات الغواصين وعمال اللحام الكهربي ورواد الفضاء والسادة والأطفال أيضًا.
غير بعيدٍ عن العجوز، جلست زوجته، ولها من العمر ما له تقريبًا، جلست تمشِّط شعرها الأبيض بمشطٍ خشبي مربع الشكل. أمام هذا البيت، ولنقُل على مسافة عشرة أمتار منه، كانت سلمى حفيدتها لابنها، ولها من العمر ما يزيد عن الخمسة عشر عامًا، تتأرجح على أرجوحة متدلية من غصن شجرة سنديان عملاقة، وهي تُصدِر أصواتًا شبيهة بأصوات الأولاد عندما يقلدون أصوات السيارات والطائرات، إن حركاتها وتصرفاتها ولباسها توحي بأنها لم تتجاوز الثامنة من عمرها؛ فهي ترتدي فستانًا بسيطًا ذا فتحة على الصدر، وارتجاج نهدَيها مع كل حركة من حركاتها في الأرجوحة يؤكد بأنها لا تلبس صدارة، وهي، على عكس بنات الريف، لم تكن تلبس بنطلونًا تحت فستانها القصير؛ مما جعلنا نرى ساقَيها العاريتين مع كل حركة هبوط للأرجوحة.
إسماعيل، الذي يقطن القرية، هو نموذج مقارب من سيرانو دي برجراك، لكنه ليس شاعرًا، هو يحب فتاة صغيرة جميلة، من طرفٍ واحد، لكنه لا يتمكَّن من البوح بمشاعره بسبب أنفه الكبير، وما إن تقع عينا إسماعيل على سلمى، باعتبارها حسناء القرية، حتى يهتز أنفه الطويل، وينزلق لسانه إلى داخل حنجرته. يقع اختيار الشاب على صديقه الوحيد غسان الأمي تقريبًا، كي يكون رسول الحب إلى الفتاة. ومثلما حدث في مسرحية أدمون روستان، فإن الفتاة تفضِّل الرسول على الحبيب الذي يحبها، باعتبار أن غسَّان صاحب عيب خفي، هو التبول اللاإرادي، وذلك على عكس العيب الظاهر لإسماعيل.
إسماعيل يسعى إلى جذب قلب الحبيبة بأي ثمن، منها اهتمامه بالبستان الذي يملكه؛ فهو يشذب الأشجار، ويزرع الفاكهة، لكن سكة القطار تقتلع ما زرع.
وبالتدريج، فإن سلمى تسيطر على قلب غسان وعقله، فيتضاعف قدر تبوُّله في الفراش، ويقوم بالرحيل عن القرية بناءً على ضغطٍ من أبيه الذي يبحث عن أمانٍ لأسرته، وهو الجندي الذي يعمل في منطقة عسكرية؛ فيطلب أسرته للإقامة معه، ومن أجل إبعاد ابنه عن أي مؤثرات تشوِّش على دراسته. وتنقلب الأحوال، فها هو إسماعيل يقوم بدور الرسول بين الفتاة وحبيبها غسان، عن طواعية، وتضطر سلمى إلى الزواج من إسماعيل رغمًا عن إرادتها. وتمر السنون، ويعود غسان بعد خمسة عشر عامًا، لقد أصبح إنسانًا مختلفًا تمامًا، فهو الآن ضابط تخلَّص من الكثير من عُقَده وأمراضه القديمة، ويزور صديقته سلمى، وإسماعيل، ويُفاجأ أن أبناءهما قد وُلِدوا بأنوفٍ كبيرة مثل الأب، ويجد غسان نفسه يقوم بمهمته القديمة، بتوصيل رسالة بين سلمى وإسماعيل.»
إنها حكاية إنسانية، رأينا في السينما ما يشبهها، وعلى سبيل المثال الفيلم البريطاني «المرسال» إخراج جوزيف لوزي عام ١٩٧٢م، وخاصة في مسألة عودة المرسال القديم إلى المكان الذي شهد قصة حبِّه، فقام بممارسة المهمة نفسها، لكن التفاصيل الجميلة تخص عبد اللطيف عبد الحميد، في المقام الأول.
والغريب أن الملخص حول الفيلم، المنشور في دليل أفلام مؤسسة السينما السورية، جاء أشبه بتعليقٍ وحكمٍ حول الفيلم: «يحكي عن الحب وجمال الروح وأوجاع القلب، عن الأحلام الجميلة وانكسارها، عن عشَّاق حوَّلهم عشقهم إلى شياطين في الليالي الممطرة والمقمرة، عن الفرح والدهشة ومذاق القُبلة الأولى.
عن الوفاء والصدق والأنانية والقلوب الكبيرة لأناسٍ بسطاء جدًّا، كانوا وأحلامهم وأشياؤهم الصغيرة والحميمة ضحية لما يُسمَّى زلزال الحضارة.»
حول هذا الفيلم تحدث المخرج إلى بندر عبد الحميد — مجلة «الحياة السينمائية» العدد ٣٩ — قائلًا: «في كل متر مربع من حياتنا هناك قضية يمكن أن نتناولها، الحياة تقدِّم لنا مواد غنية، ولكنها تحتاج إلى من يكشف هذه المواد بين الركام، إنها مواد خام على كل حال، وفيها تكمن بذور الأفكار والموضوعات.»
أما بندر عبد الحميد نفسه فيكتب في المقال نفسه:
«وأهم من عبث الطفولة في كل المواقف، وأهم من الضحك المعلَن والضحك الخفي، تلمس في هذا العمل حرارة الواقع. فهذه سلمى التي لعبت بعواطفها وعواطف الآخرين، تصحو من غفوتها، وتُصدَم مشاعرها بجدار الواقع: إما أن، أو … وهكذا تطلب من إسماعيل أن يسافر إلى الجبهة، في النهاية ليحمل السؤال الكبير إلى غسان … فيفعل، كانت تخاف أن يؤنِّبها ضميرها لو أنها اتخذت خطوة حاسمة من طرف واحد.»
المخرج هنا لا يخرج عن الريف الذي يحبه، وإن كان الأشخاص هنا مختلفين تقريبًا عن الفيلمَين السابقين، ويعلِّق المخرج عن هذا في حديثٍ له إلى مجلة «فن»: «كان همي أن أُشبِع عيني من اللون الأخضر، وأن ألمس الحجارة في بيوت القرية التي نصوِّر فيها، على الرغم من أن بيت جدي حجري، لكنها ذاكرة بعيدة وتحتاج لإنعاش. كان المفروض أن يكون هناك زرع حول المنزل؛ فقمتُ بغرسه بنفسي، حتى تقوم علاقة حميمة مع المنزل. في أول الأمر كنت أتذمَّر إن جُرحت وأنا أزرع الورد، أما الآن فأنا أسير في الحقل حافي القدمَين من دون أن أشعر بألمٍ؛ لأنني الآن أسير بقدمَي إسماعيل، صحيح أن هذه التفاصيل لن تظهر على الشاشة لكنها مفيدة جدًّا على صعيد الحالة الشعورية، وأعتقد أن على الفنان أن يضفي خبراته الشخصية على الدور الذي يؤديه، وأن يعمِّق خبراته الشخصية في أثناء تأدية دور إسماعيل.»
وفي دراسته عن أفلام المخرج — انظر مرجعًا سابقًا — يقول محمد الأحمد: «في هذا الفيلم يلفُّ المخرج كلَّ فردٍ من أفراد العائلة الثلاثة التي يعرضها بحنانٍ لافتٍ وبحذرٍ شديد، ويتفاعل بتلقائية وعفوية ناضجة مع القلق الذي من الممكن أن يطول الشخصيات الثلاث، تشرق الكاميرا حين تكون أوضاعهم مستقرة آمنة، وتميل إلى العتمة، والحدة حين تلِم بهم ظروف قاهرة، في رأيي أن البطل الأبرز في هذا السيناريو هو «الحب»، الذي يبرر كل شيء يطالعنا به عبد اللطيف عبد الحميد، في فيلمه المؤثر الحزين جدًّا، والحافل بأواصر الألفة التي لا تخلو من فكاهة يصحبها عبثٌ مرهف، وبالقلق الدائم من الغياب المفاجئ للحنين وحلول الوحدة المتربصة. الفيلم يمثِّل دخولًا في عمق العمق، وولوج اللعبة السينمائية الأصيلة التي أتقنها المخرج دون بلوغ حد الافتعال. ففيلمه هذا على قدرٍ من السهولة والبساطة، لكنها البساطة التي تُخفي الكثيرَ من الأبعاد والمعاني، والمواقف، والسهولة التي لا تخلو من الإتقان والرهافة، والحس السينمائي الصادق الأصيل المحب للسينما، وللحالة السينمائية التي يقصُّها علينا.»
وقد كتب مهدي محمد علي عن الفيلم في مجلة «الحياة السينمائية» — صيف ۱۹۹۳م — أنه: «بين مشهد البداية، ومشهد النهاية تفصيلاتٌ مبدعة حقًّا، كثير منها يقع تحت عنوان «السهل الممتنع»، وهو تأكيد لإبداع عبد اللطيف عبد الحميد وإمكاناته المرموقة في التأليف والإخراج، وفي الإضافة التي يسديها إلى الإرث المتنامي للسينما السورية الجديدة، الصادقة والمبدعة؛ فهناك عبر الفيلم مرتكزات وجماليات سينمائية اختارها المخرج اختيارًا ذكيًّا من معطيات روايته.»
في فيلمه الثالث «صعود المطر» يقدم المخرج رؤًى تمزج بين الواقعي والفنتازي، من خلال ثلاثة خطوط درامية؛ الأول خط واقعي؛ حيث يعيش الكاتب صباح أسعد وسط أسرته، مع آلته الكاتبة وولدَيه من زوجته الثانية، بعد أن طلق زوجته الأولى بحجة أنه لا يريد لحبه لها أن يموت، وحيث ترى مظاهر حياة الكفاف التي يحياها؛ فالشقة الضيقة التي يسكنها فوق أحد المنازل تفتقد إلى الطعام والوقود، والحب والدفء، وإنما هناك المطر الكثيف الذي ينهمر في المنطقة، ولا يكاد ينقطع فوق المدينة الكبيرة، وشرفاتها، وأسطحها المتباينة الارتفاع.
هذا الكاتب، الذي يعاني من ضائقة مالية مزمنة، لا يفكر في الإنفاق أو الصرف بما لا يتفق مع مبادئه، إنه يحترم نفسه؛ فلا يتملق أو ينافق، إنه أب لشابٍّ يدرس في الجامعة، ويأتي إلى المنزل، بين الحين والآخر بفتاة، ويزعم لأبيه أنه سوف يتزوج منها، أما الابن الصغير، فهو يشبه وردة جميلة، إنه قريب منه، يغني معه أغنياتٍ جميلة، ورغم هذه العلاقة فإن الأب لا يستطيع أن يمنح صغيره مبلغًا من المال القليل من أجل أن يشتري شيئًا ما يودُّه.
والمؤلف هذا يستمد قوته الإنسانية، وسط المطر من التلصُّص على بعض جيرانه، وبشكلٍ خاص عاشقَين صغيرين التقيا بعد فراقٍ طويل، فينعمان بحبٍّ شفافٍ بالغ الصفاء؛ مما يُولِّد لديه الرغبة الأبدية في عدم التوقف عن الكتابة، كأنما الحب هو الزاد للإحساس بالحياة.
توجد في حياة المؤلف امرأتان، الأولى هي زوجته السابقة، التي طلقها — كما أشرنا — بسبب الفقر الشديد الذي يعاني منه، وهو يزورها في بيتها، ويتصور أنها قد تزينت من أجله، لكنه لا يلبث أن يسمع منها أنها سوف تتزوج من رجلٍ آخر، فيُصاب بالانكسار الذي تكرر مرة أخرى حين دخل عليه جاره وصفعه بقوة لأن الشكوك ساورته أنه يحب زوجته، هذه الجارة التي تحاول التقرُّب بالفعل إلى صباح أسعد، وتحتفظ في بيتها ببطاقة هُوية للكاتب. المرأة تعرف أن زوجها يخونها مع نساءٍ عديدات، وتحاول أن تخونه مع الكاتب، وعندما يطلب منها بعض الطعام، تُعِد له وليمة شهية، لكن المؤلف لن يتعدَّى حدوده؛ إنه لا يريد منها أكثر من الطعام.
أما الخط الثاني فهو فنتازي، يصوغه المؤلف الذي يكتب رواية غريبة حول رجل يرتدي ملابس أقرب إلى ما كان الناس يرتدونه في خبايا التاريخ القديم، يحاول القيام بثورة، فيجمع حوله مجموعة من الأعوان أشبه بخفافيش الظلام؛ لكن الثورة تفشل.
أما قصة الحب المُستعادَة بين الشابَّين الصغيرَين فهي تمثِّل المحور الثالث في الفيلم، فالعاشقان يتقابلان فوق سطح إحدى البنايات، التي يغرقها المطر، وسط ركامٍ من الزبالة والقاذورات، فلا يعبآن قَط بما يحوطهما، ولكن المهم هو العواطف. ورغم حدة المياه المتساقطة من السماء، فإن العاشقين لا يتوقفان عن أن ينهلا من الحب، إلى أن يتم اكتشاف أمرهما فيسقطان من أعلى ويموتان.
من الواضح أن المخرج، ابن الريف، ذهب هنا سينمائيًّا إلى المدينة، التي رحل إليها قبل ذلك بعدة سنوات، وصوَّر المدينة من خلال بانوراما أسطحها، هذه المدينة التي يعيش فيها نماذج متعددة من البشر، نرى بعضهم في المشهد الأول وهم يرفعون أياديهم نحو السماء الصافية، فوق أسطح البيوت في حي شعبي دمشقي، لكلٍّ منهم هدفه: أحدهم يسأل السماء أن تمنحه المال، والآخر يأمل أن يوافق المدير بمنحه السلفة التي ستحل بعض مشكلاته، أما الثالث فهو، بكل صراحة، يتمنى لو صار وزيرًا، وهناك امرأة تدعو على جيرانها بالخراب العاجل، كما أن هناك امرأة تتمنى عودة ابنها، وفتاة تدعو أن تعيد لها السماء حبيبها الغائب.
ويأتي المخرج باستجابة سريعة، لهؤلاء المحتاجين؛ فبدلًا من المطر واستجابة الدعوات،
تمطر السماء بطيخًا.
وحول هذا المشهد تقول الناقدة حُسن شاه — بانوراما مهرجان القاهرة السينمائي التاسع عشر — «إن من أجمل مشاهد الفيلم، ذلك المشهد الفنتازي الذي تُمطِر فيه السماء بطيخًا بدلًا من المطر، وتتفجر فيه ثمرات البطيخ الحمراء فوق الرءوس، وعلى السيارات وعلى البنايات، مثل القنابل بشكلٍ دموي، في الوقت الذي تُطلَق فيه في الجو صفارات أشبه بصفارات الإنذار.»
أما كمال رمزي، فقد كتب في مجلة «فن» حول الفيلم: «من بين المشاهد الأخيرة من «صعود المطر» تنهض تلك المَشاهِد التي يحاول فيها بطل القصة أن يقوم بثورة، قوامها مارش عسكري يطلبه رجل عجوز، كأنه يعيش في الجليد، ومجموعة من الرجال أقرب إلى القطيع، يمسكون برشاشات الأطفال الضوئية، وها هم يحتفلون بنصرٍ لم يحدث؛ هنا تتبلور صور العالم الخارجي، كما يدركها صباح الأسعد، وهي صور تتكامل مع العالم الذي يعيشه فعلًا، والذي تابعنا فيه علاقاته الحزينة المشروخة.»
وحسب جريدة «السياسة» الكويتية — أول أبريل ١٩٩٧م — فإن المخرج الجزائري أحمد راشدي قد اعتبر أن «صعود المطر» هو أفضل فيلم في تاريخ السينما العربية، أما محمد الأحمد فيقول — مجلة «فن»، ٢٨ أبريل من العام نفسه — إن هذا فيلم «متين في أجوائه.»
عاد عبد اللطيف عبد الحميد من جديدٍ إلى المدينة في فيلمه الرابع «نسيم الروح»، والذي يعتمد على فكرة أن روح الميت تظل ترفرف على الشخص الذي كانت تحبه في الدنيا إلى أن يفارق الحياة، فينتقل إليها في العالم الآخر ليحلِّقا سويًّا في أغوار الماضي، وذلك من خلال قصة حب طالما أحب السينمائيون السوريون المعاصرون الوقوف عندها، وهي قصة الحب بين ثنائي دمشقي بسيط، كل ما ينشده هو، الدفء والصفاء، مثلما فعل سمير ذكرى في فيلمَيه الأولَين. فنحن مع رجل وامرأة في الثلاثينيات من العمر يعيشان حب شفافة، تحمل المشاعر الرقيقة والعواطف النبيلة، الرجل يُدعى سامر عدنان شريف، شاب وسيم مرهف الحس، مات أبوه وهو طفل رضيع، ولكن روح الأب اعتادت الظهور لزوجته وابنه الرضيع كل يوم الساعة الثانية عشرة ودقيقة بالضبط، ويحدث أن يتأخر ظهور الروح ذات يومٍ حتى مطلع الفجر، وعندما تحضر تطلب من الأم أن تُرضِع ابنها طويلًا، حتى لا يرضع من امرأة أخرى، ثم تطلب أن ترتدي الأم رداءً أبيض اللون، وتأخذها معها إلى العالم الآخر، وتترك الوليد سامر بلا عائل.
ينمو سامر في ظروفٍ خاصة، لكن هذا لا يمنعه أن يكون فنانًا بالغ الرهافة؛ فهو يعشق الموسيقى، ويعزف على آلة القانون، ويحب الاستماع إلى أغنيات المطربين الكبار، كما أنه يتعامل مع الناس بمودة شديدة، فهو يحضر المآتم، ويحب جيرانه، ويعيش متعاونًا مع الجيران الذين يمدُّون له العون، إذا كان في حاجة إلى ذلك.
ومن بين الأحداث التي تترك أثرها فيه إصابة صديقه الدائم وليد بانهيارٍ عصبي، بعد أن شاهد فيلمًا إباحيًّا عن طريق إحدى القنوات الفضائية، فيتهم الفن أنه صار إلى البذاءة، ويموت الصديق مكتئبًا تاركًا وراءه زوجة وأبناء صغار، كارهين كل التقنية الحديثة التي خلَّفت هذه البذاءات.
أما المرأة فاسمها مريم، أجبرتها أسرتها على الزواج من يوسف، رغم أنها تكرهه، فإنها ترتبط بسامر منذ أيام الدراسة بالجامعة، إلى أن تم تعيينهما في الوزارة نفسها، وزارة التعليم العالي. ويشتعل الحب أكثر لينتشر وهجه في كل مكان، وتتزوج الفتاة مريم من يوسف الذي يسمع أخبار الحب بين الشابَّين لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، ويفقد القدرة على «فعل» أي شيء مضاد بسبب حبِّه الشديد لزوجته الشابة، ويقوم بإبلاغ مريم أن كل ما سيفعله هو الانتحار شنقًا إذا أصرَّت على طلب الطلاق.
ولا يجد يوسف أمامه سوى مواجهة الحبيب سامر، فيكيل له اللكمات والضربات، لكن سامر لا يتراجع أبدًا عن مشاعره، ويصر على أن يبقى الحبيب، وبعد العديد من المواجهات بين سامر والزوج، يقرر الشاب أن يبتعد عن حبيبته، ويقدم استقالته من العمل بوزارة التعليم العالي، ويعمل بائعًا للزهور في أحد المحلات.
يتعرَّف سامر على الطالبة الجامعية ريم، القادمة من الريف، والتي تتمتع بحسٍّ رومانسي عالٍ للغاية، إنها نموذج بشري لم تلوِّثه الحياة في المدينة بعدُ، وهي تعمل أيضًا في محل بيع للزهور، يملكه صديقٌ لأبيها، وما إن يلتقي سامر وريم حتى تقع في غرامه، ويبدو مشدوهًا لنموذجها الإنساني، وتنمو بينهما قصة ما، لكنها لا تستطيع أن تقلل من حبه الجارف لفتاته مريم.
يتحوَّل سامر إلى شيء دائم يتواجد في أحلام ريم، التي لا تكاد تعرف اسمه؛ إنه يشتري منها الورود من أجل تقديمها إلى المقرَّبين إليه في المناسبات المتباينة.
ويحدث أن يموت سامر ميتةً عبثيةً تشبه موته في عشرات الكوابيس التي طاردته في حياته، وكما جاء من توصيف لمَشاهِد النهاية في نشرة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام ١٩٩٨م، فإنه: «إذا كان الفيلم قد بدأ أحداثه بكابوسٍ مخيفٍ لسامر، فإن هذا الكابوس يتحوَّل في النهاية إلى حقيقة تنتهي بمصرعه؛ حيث يرى سامر في منامه محبوبته مريم تشير إلى شاطئ البحر في منطقة موحشة، وتتصل به من تليفونٍ بلا أسلاك، ولكن زوجها يوسف يظهر لها في الأفق ليُطلِق عليها الرصاص، بينما في الواقع يتوجه ليُطلِق الرصاص على قلب سامر ليُرديه قتيلًا، وهو يتحدث إلى مريم في التليفون أيضًا.
ويبدو مشهد القتل عنيفًا قاسيًا، ولكن والدَي سامر يلوِّحان له في الأفق، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليصحبا روحه في حالة سرمدية خالدة.
ولا يغفل المخرج لوعة الحب التي مُنيَت بها ريم، والتي تظل تمزق بتلات الورود في قلقٍ لاختبار حضور سامر من عدمه حتى يمتلئ المحل بالبتلات، وعندما تنطلق روح سامر من جسده تتطاير بتلات الورود لتعبق المكان، وتملأه بالبهجة في تكوين رومانسي يغلِّفه الشجن.»
وكما يرى المخرج، فإن فيلمه يقوم على فكرة: «أن نستيقظ صباحًا، ونفكر بكَمِّ الخير الذي يمكن أن نبذله من أجل الآخرين، أن نتأمَّل تلك المشاعر الرقيقة والقِيَم النبيلة التي غابت عن حياتنا، وتحوَّلت إلى استثناء كالوفاء والصدق والنُّبل … إلخ، أن نترك الحرية لأرواحنا في أن تختار ما نريده … أفكار استولت عليَّ في فترة خاصة جدًّا من حياتي، وبدأت تتطور وتتمحور حول قصة حب شفافة يعيشها شخصان يحملان في أعماقهما الكثيرَ من قِيَم الخير والعطاء، ثمة شخصٌ ثانٍ يحب الفتاة، ويحاول من أجلها أن يشنق نفسه، فيقرر العاشقان أن يضحيا بالحب والسعادة لإنقاذ روحٍ بشرية؛ وهكذا تتزوج الفتاة من الرجل الذي لا تحبه، وبهذا تكون قد رفعت حبل المشنقة عن عنقه لتلفَّه حول عنقها.»
المخرج حاول هذه المرة أن يلِج إلى حيث عالم العواطف اليوتوبية، بدلًا من انكسار الروح الذي يسود أغلب أبطال أفلامه الأخرى؛ فالأبطال هنا بلا عُقدٍ نفسية، أو مطالب جسدية ملموسة.
وعن الفيلم تحدَّث المخرج إلى نشرة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام ۱۹۹۸م — العدد الثامن — قائلًا: «الفنتازيا تتجسَّد عندي في الفكر، وليس في الشكل، خاصة وأننا في حياتنا نصادف أحداثًا تفوق الخيال؛ لذلك فإنني ألتقط الفكرة من الواقع، وأبني عليها الأحداث من وجهة نظري، وفي كل أفلامي ستجد أن كل موضوع له مفرداته ولغته الخاصة به، «ليالي ابن آوى» مختلف عن «رسائل شفهية»، و«صعود المطر» مختلف عن «نسيم الروح»، الذي يختلف هو الآخر عن كل أعمالي التي ستجد بها روحي من خلال رؤيتي للعالم وحسي والتجديد الدائم فيها.»
حققت أفلام عبد اللطيف عبد الحميد الكثيرَ من النجاحات التجارية، وحصلت على العديد من الجوائز السينمائية. فيلم «ليالي ابن آوى» حصل على جوائز عديدة في مهرجان دمشق عام ١٩٨٩م، هي:
-
الجائزة الذهبية.
-
جائزة أحسن ممثل لأسعد فضة.
-
كما حصل على الجائزة الذهبية من مهرجان باستيا لأفلام البحر المتوسط.
-
وشهادة تقدير من مهرجان مونبيليه في العام نفسه.
أما فيلم «رسائل شفهية» فقد نال الجائزة البرونزية لأفلام البحر المتوسط بإسبانيا عام ١٩٩٢م، ثم جائزة مهرجان الشباب بمهرجان مونبيليه لأفلام البحر المتوسط عام ١٩٩٢م.
وحصل فيلم «صعود المطر» على جائزة أحسن تصوير (جورج لطفي الخوري)، وأحسن موسيقى (علي الكفري)، وأحسن ممثل (تيسير إدريس)، وأحسن ديكور (موفق قات، بسام إبراهيم) في مهرجان دمشق عام ١٩٩٥م، وحصل في مهرجان قرطاج في العام التالي على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
وحصل فيلم «نسيم الروح» على جائزة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة عام ۱۹۹۸م، وحصل فيلم «قمران وزيتونة» على جائزة من مهرجان معهد العالم العربي عام ٢٠٠٢م.
(بعض البيانات مأخوذة عن كتاب «السينما العربية المعاصرة» لسمير فريد، المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٩٨م.)
أسامة محمد
وُلِد أسامة محمد في مدينة اللاذقية عام ١٩٥٤م.
«صحيح أننا افتقدنا في طفولتنا الكثيرَ من متطلبات العيش، لكن أبي استطاع — مع أمي — أن يزرع في شجرة أروحنا العارية ذلك الاعتزاز بإنسانيتنا وبحريتنا. كان أبي ذلك الذي ينفق مرتبه كاملًا، يستدين من جديدٍ كي يدفع لأفضل مدرسي الموسيقى والرسم في محافظة اللاذقية آنذاك ليعلِّموا أولاده التسعة شيئًا مما يُفرِح قلب الإنسان، وكانت أمي معلمة في السخرية، وبقيت حتى رحيلها مجدِّدة ومبدعة في السخرية على مبدأ واضحٍ وبسيطٍ، هو الهزء من كل أشكال السلطة والتسلُّط والعنف والتمايز والادعاء، وكل أشكال انتهاك الإنسان لإنسانيته. وكان أبي مبشرًا استراتيجيًّا جبارًا، وأنا أدمنت السخرية على نفس الأسس التي تستطيع الهزء من العنف والاستبداد، والبحث عن الجمال في مكانه الإنساني؛ ولذا طُردت في كل السنين الدراسية، وها أنا أخاف أن أفتقد السخرية؛ ففيها مسافة جديدة داخل المسافة، ووجه آخر للوجه إياه، واحتمال إضافي للحياة، وفيها شيء من الأريحية ومن الحوار والموقف» (انظر مجلة الوسط، ٢٢ / ٦ / ١٩٩٨م).
تخرَّج أسامة محمد في معهد السينما بموسكو عام ١٩٧٩م، أنجز فيلمَين قصيرَين؛ الأول بعنوان «خطوة خطوة» عام ١٩٧٩م، والثاني بعنوان «اليوم وكل يوم» عام ١٩٨٦م، كما ساعد في كتابة فيلم «اللجاة» لرياض شيا، وعمل مساعد مخرج مع محمد ملص في فيلمه «أحلام المدينة»، كما شاركه في كتابة سيناريو فيلمه الثاني «الليل»، وقدم للسينما الروائية:
۱۹۸۸م | نجوم النهار |
۲۰۰۲م | صندوق الدنيا |
تبدأ أحداث فيلم «نجوم النهار» بالإعداد لحفل زفاف مزدوَج في إحدى قرى الساحل السوري، وهو بمثابة المدخل الأساسي. القصة في إطار كوميدي؛ فهناك الأخ الأكبر الذي يبحث دومًا عن مصالحه الشخصية. كاسر يتزوج ابنة العم ميادة، وابن العم «معروف» طبيب، يتزوج من ابنة العم سناء، معروف درس الطب في ألمانيا، ويعيش فيها، أما كاسر فهو ثقيل السمع يُلقَّب بالأطرش، ويحلم دومًا بخيالاتٍ لا علاقة لها بالواقع، فهو أشبه بدُمية بين رغبات الآخرين.
وفي حفل الزفاف هناك العديد من النماذج البشرية التي جاءت لحضور المراسيم، هناك موظفون صغار، ومطربون مشاهير يغنون في التليفزيون، وبعض الضباط، يقوم بعض الحاضرين بترديد الشعائر الفجة الجوفاء، الخالية من المعنى.
مِن هؤلاء مثلًا، مطرب صار رمزًا للهُوية الريفية التي ذهبت للاستقرار في المدينة، وهناك شاعر غير موهوبٍ يتصور نفسه ملهمًا، ويتعامل مع الآخرين على أنهم جمهوره الذي يستحق الشهرة.
يُلقي الفيلم الضوءَ على هذه النماذج وغيرها، وفي أثناء الحوارات الديموجاجية، تقرر إحدى العروسَين، ميادة، الهرب، وتركب حافلة، وقد خلَّفت عريسها الأطرش وراءها؛ مما يدفع بالعروس الأخرى إلى الانتقام لكرامة أخيها الذي هربت زوجته؛ وتقرر أن تفسخ كل شيء مع عريسها الدكتور معروف.
لقد انتهى الحفل، وعلى الأنوار أن تنطفئ، وعلى المدعوين أن ينصرفوا، إلا أنهم يضغطون على الفتاة أن تستكمل زواجها، من أجل كرامة العائلات، لكن سناء ترفض، وتقرر أن تبدأ حياتها في مكان آخر، تتوجَّه إلى اللاذقية، وتتعرَّف على شاب يبادلها الحب، إلا أن أسرتها ترفض هذا الزواج بسبب اختلاف المستوى الاجتماعي بين الطرفَين، ويقوم أشقاء سناء الثلاثة، وهم العريس الأطرش، والموظف، والشاعر، بعمل لقاءٍ مع الفتى الذي يود خطبة أختهم، ويرفضون مجددًا أن يقترن بأختهم.
يقرر الأخ الأكبر خليل أن يعرض على ابن العم عباس أن يتزوج من سناء؛ فهو الأصلح لها اجتماعيًّا، لكن عباس هذا ليس شخصًا سويًّا بالمرة؛ فهو مصاب بالفصام النفسي، وهو يحاول اللعب على مشاعر الأسرة التي تود أن تزوِّج أختها بأي ثمن، وينتهي الأمر بقيام عباس باغتصاب أخته.
يسافر العريس السابق معروف إلى ألمانيا، ويتزوج عباس من سناء كي يمارس عليها ساديَّته، ولا يمتلك أفراد الأسرة سوى الامتثال له خشية الفضيحة، والعار.
أما الأخ الأطرش، فهو يترك اللاذقية بحثًا عن سلوى، وهناك يرى صورًا عديدة لأشخاصٍ يعرفهم فوق الأفيشات، أحدهم المطرب الريفي الذي صار معروفًا، ويبدو كأنه غير قادرٍ على التعامل مع المدينة؛ فيتيه وسط غبارها وأدخنتها والمبيدات المنتشرة في أروقتها.
إنه فيلم مزدحم بالشخصيات، التي من الصعب أن تغيب عن الذاكرة، مثل شخصية الجد، التي ترفل بالحكمة والأصالة، إنها شخصية رمزية، وواقعية مركَّبة في الوقت ذاته، تحمل العديد من الدلالات، مع تلك الشجرة العتيقة التي تضرب جذورها في الأرض «الجد والشجرة هما الأكثر جمالًا أو صمتًا، وستعذبني أنت إن دفعتني لأتكلم — كما تحدَّث إلى علي الكردي في مجلة الوسط ٢٢ / ٦ / ١٩٨٨م — فالجد بشكلٍ أو بآخر هو وحده المعيار المتبقي في مجتمع الفيلم، الذي يقلب مفهوم المقاييس، إنه مرآة مثل هذه الكلمات البسيطة والنادرة: الأصالة في الحب، الخير، الإنسان، إنه كأس ماء طبيعي غير ملوَّث، وغير مغشوش بكل الديماجوجية والعنف، وامتهان الآخر الذي تشبَّثت به الأجيال من الأبناء والأحفاد في بحثها الواهم والمريع عن المرتبة الأعلى.»
كتب خميس خياطي في مجلة اليوم السابع — ١٦ مايو ١٩٨٨م — أنه يراهن أن فيلم «نجوم النهار» سيكون أحد الأفلام العربية المهمة للسنين المقبِلة، ذلك أنه على مستوى الأسلوب يتلاعب بالكاميرا، وكأنها أداة بهلوانية يقِظة تراقب تقلُّب الشخصيات، تعطي عنهم نظرة كفكاوية قلما توجد في السينما العربية (عدا أفلام رأفت الميهي المصري والسوري سمير ذكرى). يبدأ فيلم «نجوم النهار» حيث ينتهي فيلم «أحلام المدينة» لمحمد ملص، من الحلم الوحدوي إلى فرض المشروع مهما كلَّف ذلك من هدمٍ للمقومات الشخصية. نجد أسامة محمد له رؤية واضحة للمسائل المصيرية التي تواجهها سورية والوطن العربي، أسلوبه ملولب وصعب المتابعة، قليل الراحة، يأخذك في دوامة الأخذ والعطاء (والأخذ أكثر من العطاء)، توليفة جد موفقة (أنطوانيت عازرية)، صورة داكنة بلون الحزن الذي لا يفارق الفيلم ولو لمرة واحدة.
وفي الحديث الذي أجراه محمد أحمد الصالح — مجلة «الحياة السينمائية» صيف ۱۹۸۸م — تقول صباح السالم التي لعبت دور سناء: «بعد أن قرأت السيناريو عدة مرات شعرت أنني كنت «سناء» قبل الكثير من التغيُّرات التي طرأت على حياتي بعد انتقالي لدمشق ودخولي الجامعة، وعندما أتطلع إلى ما حققته منذ دخولي الجامعة، وحتى الآن فإنني أشعر بقُربٍ شديدٍ من سناء ابنة الأرض، الطيبة، الصادقة، الفلاحة، الفطرية، البسيطة، الحساسة لدرجة أن أي مؤثر يُبكيها أو يُفرحها. ولا تجد سناء وسيلة للتعبير سوى دموعها، ولكن بسمتها أيضًا حاضرة. تتعرض سناء لهزاتٍ عنيفة أثناء تعاملها مع مجتمعها وأفراده، المشوَّهين من الداخل (المعقدين)، ولكنها تبقى مع ذلك معطاءة كالأرض، ويميزها النقاء الداخلي، ورغم كل ما يقع عليها من ظلمٍ وضغوطٍ؛ فإنها تبقى صامدة صادقة مع نفسها، تحب بصدقٍ، ولا تعرف الكذب. والفاجعة الحقيقية كانت عندما انتُزع منها حبيبها (الطالب الجامعي)، وأُرغمَت على الابتعاد عنه، عندما شعرت أن هؤلاء الذين شوَّهتهم المدينة أخذوا منها كلَّ شيء؛ فتهيم على وجهها في شوارع المدينة باتجاه البحر.»
الفيلم الثاني «صندوق الدنيا» هو أيضًا لا يخلو من السخرية؛ لكنها ممزوجة بالمرارة، المكان ريفي أقرب إلى ما قدَّمه عبد اللطيف عبد الحميد في «قمران وزيتونة». بيت ريفي أعزل، يريد كبير العشيرة العجوز، وهو على فراش الموت، منح اسمه لواحدٍ من الأطفال الذين يُولدون في العائلة كي يرثه، إلا أنه لم يعُد باستطاعته التعرُّف عليهم، في هذا الفراغ والكون البدائي يبقى ثلاثة أحفاد دون أسماء، يبحثون عن النجاة واللذة. الأول يرى أن النجاة تتمثَّل في الهامشية، أما الثاني فيرى أن هذه النجاة تتمثَّل في المرأة حين يقع في هواها، بينما يرى الثالث أن النجاة تتمثل في العنف والسطوة، وفي ممارسة السلطة بالسحق على الآخر.
تشهد الشجرة على ما يدور في المكان، باعتبارها قائمة في المكان منذ سنواتٍ عديدة. هذه الشجرة تظلل الآخرين دومًا، وتسكب للجميع دفئًا، من أجل استمرار الحياة، وفي المساءات تحكي الحكايات، الحكاية نفسها التي سبق أن روتها للآباء والأبناء والأحفاد، حكاية الجد الذي زرعها، وكان شامخًا ورجلًا أمام أهوال الطبيعة والفقر والعزلة، وراح يبحث عنها، إلا أنه تلقَّى كل عنف الدولة العثمانية ودفع الثمن غاليًا.
وعندما رحل الجد الأكبر أصاب التيه الجميع.
في شهادته السينمائية المنشورة في مجلة عالم الفكر — الكويت يوليو ۱۹۹۷م — كتب أسامة محمد أنه:
ليست مهمة الفن التنبؤ بالتغيير الوزاري، أو بالحروب بين الأعداء.
ولا باتساع الهوة بين اللصوص والشرفاء،
وانخفاض سعر الين مقابل المارك.
الفن موجود في المنطقة الأخرى من التنبؤ،
يستطيع أن يقرأ المجزرة التي ستهب بينك،
وبين نفسك ما أن يهطل المطر.
يستطيع الفن أن يُشعِل عالمًا من الحواس،
يصبح التنبؤ فيه أكثر احتمالًا،
تصبح حالة التنبؤ ملكًا للجميع.
ليس الجميع تمامًا، ولكن هؤلاء الذين يهتزون طربًا للتاريخ والعدالة داخل المعزوفة.
ويقول في المقال نفسه حول اتجاهه الفني:
«يقال إنني ساخر، حسنًا، في السخرية رؤية، وفيها خيالٌ وتأمُّل، وفيها رسم خاص لعلاقة الشكل بالمضمون، وفيها نظرة متقدِّمة إلى الواقع، ورؤية احتمالاته، وكشف للرغائب المستترة، وتحرير من الأقنعة والحجب، وفيها تقديمٌ للحقيقي على الزائف، والقوي المتزن على الهش، وفي السخرية يُوضَع التبجُّح في ركنه الحقيقي، وكالطير يرقص مذبوحًا من الألم. في السخرية ألمٌ عميقٌ، واحتجاج عميق، ورفض ودعوة للتغيير، وفيها بعض الرثاء الإنساني للإنسان حين يخون نفسه وصورته، وحقيقته، فيرتدي أثواب الادعاء، والتسلُّط الوهمي.
إن الألم والرثاء يولَدان من الطيبة والحب؛ والذي لا يحب لا يستطيع أن يتعامل مع السخرية أو مع الحياة نفسها.»
ريمون بطرس
مولود في مدينة حماة عام ١٩٥٠م، تخرَّج في معهد السينما في كييف، أنجز خلال دراسته فيلمَه القصير «صهيونية عادية»، ونال عنه الجائزة الكبرى في مهرجان مولدستو، وهو فيلمٌ يروي قصة شاب نازح من مدينة السويس، بعد أن أصابها الدمار إثر الهجمات الاسرائيلية، ثم فيلم: «عندما تهب رياح الجنوب» عام ١٩٧٦م، وهو فيلمٌ يتناول يوميات طالب سوري في الاتحاد السوفييتي إبان حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م. وبعد تخرجه أخرج فيلمًا تسجيليًّا قصيرًا لحساب المؤسسة العامة للسينما بعنوان «الشاهد» في العام نفسه، ونال عنه جائزة سيف دمشق الفضي في مهرجان دمشق السينمائي الخامس. قدَّم للسينما الروائية فيلمَين هما:
۱۹۹۱م | الطحالب |
۱۹۹۷م | الترحال |
كما شارك في كتابة فيلمٍ روسي بعنوان «المؤامرة مستمرة».
تدور أحداث فيلم «الطحالب» في مدينة حماة، من خلال عائلة تتكوَّن من ثلاثة أشقاء وشقيقتين، فأبو أسعد كاتب محكمة يحاول أن يتابع مجرى حياته دون أن يتورط، بما يشاهد بحكم عمله، في حوادث مدينة تعيش سلسلة من جرائم متلاحقة. تعصف بأبي أسعد وأسرته خلافات أشبه بتلك التي يراها في المحكمة، يسكت عن حقه حتى لا تشتد الخلافات، لكن شقيقه مختار يعميه المال، ويطالب باقتسام ميراث الوالد، وتشتد الصراعات التي يحاول أبو أسعد إرجاءها، يقتتل شقيقاه، ويضطر أبو أسعد إلى الرحيل عن المدينة، وتصيبه نوبة قلبية ويتذكر عزيزة، التي حلم كثيرًا بالزواج بها.
نحن هنا أمام صراعٍ غير تقليدي؛ فهو يستمر بين أفراد العائلة الواحدة دون أن ينتصر أحد الطرفين على الآخر: «ما نشهده الآن في حياتنا العربية كلها، وعقب هزائم كثيرة، أو انكسارات لا تُعَد ولا تُحصى، سواء على المستوى الشخصي أو الصعيد العام، أو لما نراه من تعربش — تسلُّق — الطحالب على حياتنا، وتسلُّلها إلى أرواحنا وتدميرها لقلوبنا؛ فإن كل ذلك كافٍ لكي نقول إن الشر، في الكثير من الأحيان، هو الذي ينتصر، وهو الذي يزداد جبروتًا، وقدرة على تدمير كل شيء؛ فالفيلم، ضمن هذا الإطار، ليس فقط مجرد تقديم للشيء الذي يراه الجميع، إنما هو تنبيه وتحذير لخطورة هذه الطحالب التي تنتشر في كل زاوية من زوايا حياتنا، يومًا بعد يوم» (كما ورد في حديث المخرج في مجلة «فن»).
كما يقول المخرج — المصدر نفسه — «المرأة في «الطحالب» تشكِّل أحد أهم محاور الفيلم، وذلك من خلال أكثر من شخصية: عالية أخت البطل، عزيزة صديقته، سامية المرأة التي تأتيه في المحكمة، وزينة التي قتلها أخوها، ونماذج أخرى كثيرة تمثل محورًا رئيسًا، حاولتُ من خلاله أن أعبِّر بشكلٍ تفصيلي وملموس عن معاناة المرأة، ليس في سورية وحدها، بل في منطقتنا العربية كلها؛ حيث تعاني ظلمًا واضطهادًا حقيقيًّا، وإذا فكر أحد في مناصرتها لا يستطيع ذلك إلا عبر الرؤى والأحلام. ولكنه في الواقع عاجز عن ذلك، وهذا ما حاولتُ أن أفعله في الفيلم؛ حيث أردت تمجيد المرأة عبر الصورة، الطقوس الجنائزية، والقرابين، ولعلِّي أشير إلى حجم الظلم الكبير الذي يقع عليها، وما زلتُ عاجزًا — مثل البطل — عن مناصرتها.»
ويقول المخرج عن فيلمه، الذي فار بجائزة برونزية في مهرجان دمشق عام ١٩٩٣م: «إن إصابة البطل بالسكتة القلبية هي محاولة للتنبيه والتحذير لكيلا يترك المجتمع أفرادًا شرفاء مثل أبو أسعد، سلاحهم النظافة، والضمير الحي والتفاني في خدمة المجتمع، ولكن مصيرهم لا يتوافق في النهاية، وهذه الأخلاقيات الشريفة.»
كما يقول إن «بطء إيقاع بعض المَشاهِد يرجع للروح المهزومة لدى البطل، وإظهار عظمة المرأة التي ترتبط بتاريخ النهر.»
ومن المهم الاستعانة بجزءٍ من سيناريو الفيلم — منشور في مجلة «الحياة السينمائية»، العدد ٣٩ — حيث جاء في المشهد ما قبل الأخير، المشهد ٤٥، ما يلي:
«السماء ملبدة بالغيوم الخريفية السوداء، وأبو كمال يخرج من البيت، وقد وضع يده على كتف بسام الذي شُحب وجهه من هول الصدمة، واضح أنه يستعد للرحيل؛ فقد كان يحمل بإحدى يديه حقيبة سفر. ها هما الاثنان يتوقفان تحت شجرة المشمش، أبو كمال يضم رأس بسام إلى صدره، ثم يرفعه قائلًا بصوتٍ مخنوق: الله معك يا بني … سلِّم على أختك وصهرك.
بسام يقبِّل يد والده، وينطلق مغادرًا إلى المدينة ليعيش عند أخته صباح.
أبو كمال يطل واقفًا تحت شجرة المشمش، التي تساقط معظم أوراقها، وهو يصرخ: دير بالك عدراستك يا بسام … خليك رجال.
بسام يتوقف، يلتفت إلى والده، ينظر إليه نظرة طويلة وهو يشهق باكيًا، ثم يتابع سيره حتى يختفي.»
بدت الأفكار التي طرحها المخرج ذاتها واضحة أيضًا في فيلمه الثاني «الترحال»، الذي نال عنه الجائزة الكبرى في مهرجان دمشق عام ١٩٩٧م. فهو يعود فيه إلى التاريخ، في المدينة نفسها، تبدأ المرحلة بعد نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م، وحتى عام ١٩٥٤م، أي إبان فترات الانقلابات العسكرية المتوالية التي شهدتها سورية والمتاجرة بالشعارات. نعيش الأحداث من خلال عائلة مسيحية حموية، يعمل عائلها أبو فهد قاطعًا للأحجار في فلسطين، وعندما تندلع الحرب فإن هذا الرجل يُصاب بجرحٍ بالغٍ في ذراعه يمنعه من العودة إلى أسرته، إلا أنه يعود إلى الوطن مع بدايات الانقلابات، فيقاد إلى السجن، المرة تلو الأخرى، إلى أن يفرَّ لاجئًا إلى لبنان؛ حيث يمارس هناك مهنته القديمة وهي قطع الحجارة، وعندما يصدر عفو عن الملاحقين سياسيًّا، عقب عودة الحكم المدني إلى سورية، عقب مجموعة من الانقلابات، يقرر أبو فهد العودة مع أقرانه إلى حماة عبر نهر العاصي، وعند نقطة الحدود يكون الموت في انتظاره؛ حيث يُطلِق جنود حرس الحدود النار عليه مع زملائه باعتبارهم من المتسللين عبر الحدود.
منذ البداية وأبطال الفيلم، خاصة أبو فهد، في حالٍ لا يتوقف من الترحال، ففي البداية هناك قطار قادم من فلسطين إلى حماة محمَّلًا بالمئات من اللاجئين الفلسطينيين القادمين إلى سورية، هم جميعًا سيعيشون حالًا دائمة من الترحال والغربة الموحشة، يتزاحمون في القطار والمكان الذي ينزلون إليه، وقد علا وجه كلٍّ منهم ملامح المأساة التي سيعيشونها أبدًا.
أما الزوجة، فقد صار عليها أن تنتظر يوليس الخاص بها، الذي شارك في الحرب، يوليس الحقيقي انتصر في حرب طروادة، وعاد بعد عشرين عامًا ليجد زوجته بينيلوب خالصة الوفاء، وهي هنا أشبه بالزوجة في «الترحال»؛ تنتظر، كلتا المرأتين، رغم ابتعاد المسافة الزمنية فيما بينهما، تقضي وقتها في الغزل، فيعود الزوج منهزمًا، مغبَّر الرأس والوجه، وتستمر الحياة هادئة، قبل أن تهب عاصفة جديدة على الأسرة.
نحن أمام أسرة مسيحية تتسم بصفاءٍ إنساني، وتماسك في العلاقات الاجتماعية؛ فالزوجة لا تنسى قَط أن زوجها هو الرجل، حتى وإن غاب، وهي تقوم برعاية الأسرة بحزمٍ ريثما يعود الزوج من ترحالاته المتكررة.
يوليس في ملحمة هوميروس يعود مرة واحدة بعد غربة عشرين عامًا، وهو البطل الأسطوري، أما أبو فهد فيعود ويذهب العديد من المرات. وفي ليلة عودته من الترحال الأول، تكتشف الزوجة فوق الفراش الجرح الغائر الذي أصاب زوجها، هذا الجرح المندمل تقريبًا لا يزال يترك أثره النفسي في نفس الرجل، الذي عرف قسوة الحرب ومهانة الهزيمة.
وأبو فهد، عقب عودته إلى بيته وممارسته دوره كرب أسرة، يذهب إلى عمله مجددًا، ويبدو ذلك النبيل الذي يعامِل كلَّ مَن يلقاه بشفافية، ابتداءً من الحجارة البيضاء، مرورًا بالزملاء، إلى أسرته عقب العودة إلى الدار.
وأبو فهد لا تنفصل حياته الخاصة عن الحياة العامة، وخاصة الأحداث الجسام التي تشهدها البلاد، ومنها انقلاب حسني الزعيم؛ فما حدث يترك أثره على المدن السورية، ومنها حماة؛ فالناس في المدينة، وعقب كل انقلابٍ يخرج البعض منهم للمباركة، وإلقاء الخطب الحماسية، أو الهتاف للزعيم الجديد، وتتدفق الجموع في الشوارع بهدف المباركة والتأييد، هذه الهتافات تصير هي نفسها، مهما اختلف اسم الحاكم العسكري الجديد، وما أكثر الانقلابات التي شهدتها سورية في ذلك الحين.
أما السبب الأول في دخول أبو فهد السجن فيتمثَّل في قيامه بإيواء أحد الشباب الثائرين في منزله، عندما يلتجئ إلى داره، وسرعان ما يتم القبض عليه، ومعه مجموعة أخرى من الرجال، ويتم إيداع المعتقلين في عربة الترحيلات، تتبعها مجموعة من الأهالي الذين يُبدون تعاطفًا ملحوظًا معهم.
أبو فهد المقاتل القديم، لم يكن مشاركًا في التمرد؛ لكنه دفع الثمن، ويأتي الترحال الثاني؛ فتعود الزوجة لتؤدي دور يوتوبيا مرة أخرى، ويصير على الخال رشوان أن يقوم بدور رجل البيت البديل، نيابةً عن أبي فهد، وهو يمارس ضغطًا نفسيًّا على الزوجة وأسرتها، أسوةً بالنبلاء الذين عاشوا حول بيت يوليس أثناء غيابه، يطالبون الزوجة أن تختار واحدًا منهم كزوج.
رشوان يمتلك محل بقالة متواضعًا قريبًا من الدار، يبيع فيه الخضراوات، وهو رجل متناقض، يبدو حملًا وديعًا أمام زوجته، لكنه أسدٌ عندما يدخل بيت الأخت عندما يغيب الزوج؛ إنه يفرض رأيه على الأخت أن تقوم بتزويج ابنتها من شقيق زوجته، وتقبل الأخت المهزومة على مضض، ويتم الزفاف في أجواء أقرب إلى الجنائزية من بهجة الأفراح المألوفة، وفيما بعد ترحل الابنة الجميلة إلى بيتها الريفي حاملة معها انكسارًا أفرزته ظروف أسرتها الغائبة العائل، وتعيش في البيت الجبلي حياة شديدة البؤس مع زوجٍ ضعيف الشخصية.
ويخرج الأب من السجن عقب انقلابٍ ضد حسني الزعيم، ويعود إلى الدار ليُفاجأ بالتغيُّرات الحادة التي دارت أثناء غيابه؛ فيخرج لمشاجرة شقيق زوجته في المحل.
وأثناء الإقامة القصيرة الجديدة يقوم أبو فهد بالعودة إلى كسر الحجارة، ويقضي حياة رتيبة، بين عملٍ روتيني، وحانة يذهب إليها في بعض الأحيان؛ يشرب وينتشي ويبوح للرفاق، منهم صحفي، بهمومه، وفي الليل يستكمل هذا البوح لزوجته التي مَر عليها الزمن بسرعة أكثر من المعتاد، وذلك قبل أن يحل الترحال التالي للزوج أبو فهد، فسرعان ما يتم انقلاب جديد، ويأتي الجنود للقبض على أنصار النظام السابق، ويجد الرجل نفسه في سجن ثم ترحال، بينما تنكسر الأسرة أكثر؛ فزوج الابنة يموت على الجبهة، وترجع الابنة إلى المنزل أرملةً، وتتوالى الانقلابات، وتتزوج ابنة الجيران التي يشعر أبو فهد أنها قريبة إليه، ويجد أبو فهد في لبنان مهربًا قبل العودة والموت تحت وابل رصاصات جنود حرس الحدود، أو ما يمكن تسميته بالترحال الأخير الذي قام به أبو فهد.
الفيلم اهتم في قسمه الثالث بتسييس بطله، فقد اشترك في المظاهرات، ونسمع المثقف أبو غزوان يردد عندما يحدث انقلاب جديد أن «كله أشبه بكله»، وتأتي الأحداث داميةً في الشارع السوري؛ فأعضاء النقابات يتناحرون فيما بينهم، باعتبار أن لكلٍّ منهم مصالحه مع النظامَين؛ الجديد أو المنقلَب عليه.
حول هذا الفيلم كتب كمال رمزي في مجلة «فن» — أول ديسمبر ۱۹۷۷م — أن ««الترحال» يتسم برحابة الأفق، وعمق النظرة؛ فالسيناريو الذي كتبه المخرج ريمون بطرس يربط الخاص بالعام؛ فأبطاله، بجذورهم الضاربة في قلب الواقع، لا يعيشون بمعزلٍ عما يدور في وطنهم من أحداث، إن الوقائع السياسية تؤثر في أدق شئون الأفراد.»
أما محمد فايد، فقد كتب في بانوراما السينما السورية التي صدرت بمناسبة مهرجان الإسكندرية السينمائي عام ١٩٩٨م: «إن البطل في فيلم «الترحال» مهزوم منذ البداية؛ تسطر السلطة السياسية له خطوات حياته العبثية كعبث تلك السلطة، وحماقتها التي تُودي في النهاية بحياته في سبيل هدفٍ لا معنى له، إنها مأساة شخصية تعيش في صمتٍ داخلي، سلبية الملامح في كل ردود أفعالها في مقابل فعلٍ غاشم.
إن أبو فهد خلال مسيرة حياته ومعاناته رمز إنساني لتاريخ مدينة حماة وأهلها، ببُعدَيها التاريخي والإنساني، ومن خلال الطرح السياسي وتداعياته على أسرٍ صغيرة، والتلامس الإنساني المتسامي عن اختلافات الأديان في تفاصيل الحياة اليومية، لأسرة مسيحية، وعلاقات الجِوار والتآخي بالآخر؛ للتأكيد على حرية العقيدة، وتآخي الأديان بين أبناء الوطن. يقدم الفيلم صورة صادقة وواقعية وبسيطة لواقعٍ عربي ما زال مُعاشًا حتى الآن، هذه الرؤيا الإبداعية لماهية السينما في دولٍ يُطلَق عليها — تجاوزًا — العالم الثالث، تتعدى وتتجاوز السينما التقليدية التي لا هَمَّ لها إلا تسطيح وتفريغ الوجدان العربي من ملامحه وتاريخه، وأيضًا مستقبله، في ظل أنظمة تكرس تلك المنظومة، وتسعى إلى تهميش السينما العربية من محتواها الفكري القومي التقدمي.»
من الواضح أن ريمون بطرس، في هذا الفيلم، كان يحتذي بالكثير من أقرانه المخرجين السوريين، الذين تخرجوا من معهد السينما بالاتحاد السوفييتي؛ فقدم عملًا أقرب إلى التجربة الشخصية، ولا نقول السيرة الذاتية؛ فقد كان شاهدًا حقيقيًّا على تلك الأحداث، وعرف هؤلاء الأشخاص عن قُربٍ شديد: «إن إرهاصات هذا الموضوع كانت مبكرة بالنسبة لي؛ ذلك أنني عايشت ما يشبه هذه الأحداث، وإن الحجر أشبه ما يكون بذاكرة المدينة؛ فالحجر وحده سيبقى شاهدًا على غبار الزمن، إنه بمعنًى آخر هو الراوي الذي ينطق بموسيقى خاصة تعرف أصداء الزمن.»
ولو عدنا إلى صورة المرأة في الفيلم من خلال ما سبق الاستعانة به من أراء المخرج عن المرأة العربية، فسوف نرى المخرج قد قدَّم هنا العديدَ من النماذج؛ فالزوجة هنا امرأة حنون، حبيبة، فاضلة، وعلاقة الرجل بزوجته على أحسن ما تكون الصلة بين امرأة وزوجها، لكن الأمر يختلف عندما تكون مع شقيقٍ متناقض؛ فهي تطيع منكسِرة خشية العواقب، ويبدو الانكسار على وجه الابنة الصغيرة التي تُساق إلى بيت زوجٍ دون أن يكون لها رأي، سلبي أو إيجابي، فيما يسوقونها إليه، وهي تعود أرملةً صغيرةً بلا مستقبل، وهناك نماذج إنسانية أخرى، منها الجارة التي تقوم صداقة بينها وبين أبو فهد، إلا أن زوجة الأخ الشرسة هي نموذج ثالث من النساء اللائي يحفل بهن الفيلم.
غسَّان شميط
ينتمي غسَّان شميط إلى المنطقة الجغرافية التي انتمى إليها محمد ملص نفسها؛ فهو من مواليد القنيطرة (الجولان) عام ١٩٥٦م، درس الإخراج السينمائي في معهد كييف بأوكرانيا، وتخرَّج منه عام ١٩٨٣م، أخرج عددًا من الأفلام التسجيلية؛ منها فيلم «يوميات جولانية» عام ١٩٨٩م، ثم «البراعم» عام ١٩٩٠م، وفي مجال السينما الروائية أخرج فيلمَين هما:
۱۹۹۳م | شيء ما يحترق |
۲۰۰۰م | زهر الرمان (الطحين الأسود) |
نال المخرج جائزة مهرجان دمشق عن الفيلم الأول الذي يصوِّر المنطقة التي وُلد بها المخرج؛ فهناك قصة عائلة نازحة من هضبة الجولان السورية، تتكوَّن الأسرة من الأب «أبو رمزي» وزوجته وابنهما الشاب، فعلى أثر القصف الإسرائيلي لقرى الجولان في عام ١٩٧٦م، تهرب العائلات من الجحيم، ومن بينها هذه العائلة الصغيرة، المعروفة باسم أسرة أبو رمزي، وتنزح إلى أطراف مدينة دمشق حيث تتخذ لنفسها مقرًّا للإقامة؛ فتستضيفها إحدى الأسر؛ حيث تعيش العائلة المهاجرة الكثير من الظروف السيئة؛ فتعاني من التشرد والقهر بشتَّى ألوانهما.
وتبدأ المتاعب حين يطلب أبو نهلة، صاحب المكان، غرفته التي قام بتأجيرها، من أجل أن يزوِّج فيها ابنته، هذا الرجل نجار بسيط، وأوضاعه المعيشية بالغة السوء، وعلى الرغم من ذلك قام باستقبال عائلة أبو رمزي، لكنهم يمكثون في الغرفة عشرين عامًا؛ حيث تكبر البنات، ويتقدم شاب لخطبة إحداهن، ولا تستطيع الزواج بسبب أزمة السكن، الأمر الذي يرهق أبو نهلة ويدفعه على استحياء، أن يطلب من «أبو رمزي» مغادرة المكان. بينما يفشل الابن رمزي في علاقته العاطفية مع ابنة الجيران التي يحبها، وسرعان ما ينخرط مع إحدى عصابات التهريب، ويقع في هوى زوجة «أبو حبيب» زعيم العصابة التي ينتمي إليها.
لا يجد أبو رمزي أيَّ حل لمشكلته سوى بناء منزل صغير مهما كان الثمن.
نحن أمام جيلَين شهدا زمن النكسة، الجيل الأول يتمثَّل في الأب وزوجته، وهما اللذان عاشا النكسة، ويحلمان أن يعودا إلى مسقط رأسيهما، إنه المكان الذي تحابا فيه وتزوجا، أما الجيل الثاني فيتمثَّل في الابن المنحرف بحثًا عن المال. الأب يبحث عن منزلٍ مناسب كي يعيش فيه مع زوجته، ويحاول العثور على وظيفة تتيح له أن يدبِّر أمور الحياة لأسرته الصغيرة، لقد قامت الزوجة بتعلُّم الحياكة من أجل مساعدة زوجها في تدبير شئون المعيشة، الأب يحلم بأن يكون له سقف ومأوًى، أما رمزي فإنه يفقد إحساسه أن له جذورًا في مرتفعات الجولان، لقد اعتاد على إيقاع الحياة في المجتمع الاستهلاكي، ويحلم بالثراء السريع، دون أن يضع أي عُرف أو أخلاق في الحسبان وهو يتصرف.
بعد أن مرَّت السنون، ها نحن في عام ١٩٨٧م، لقد مَر عشرون عامًا على النكسة، ولا يزال رب الأسرة يأمل في العودة إلى الجولان، يجلس عند الحدود، ويترقب لحظة العودة، يردد ذات مرة «لعن الله الزمن، فبيني وبين بيتي رمية حجر»، لقد تعامل مع الجولان بمثابة صورة تُعلَّق فقط على الحائط، بعد أن دَبَّ الشيب في الرءوس، ومضى العمر إلى غير رجعة، وتتمكَّن الأسرة من بناء منزل حجري من دورٍ واحدٍ فوق الأرض الزراعية، لقد دفع أبو رمزي المال إلى صهره كي يشيِّد له بيتًا فوق الأرض الزراعية، طبعًا بمساعدة رمزي الذي قدَّم إلى خاله المال الذي كسبه عن طريق التهريب، وسرعان ما تأتي الجرافات لإزالة المنزل، وفي اللحظة التي تأتي فيها الجرافات على البيت المبني بلا جذور، يقوم أبو حبيب باستدراج الشاب رمزي إلى منطقة صحراوية، وهناك يُطلِق الرصاص عليه عقب أن اكتشف أن زوجته تخونه معه، وأنها قد حملت من عشيقها.
نحن أمام فيلمٍ سياسي في المقام الأول؛ ولهذا السبب فإن المخرج استعان مرارًا بالعديد من الصور الوثائقية، منها زيارة وزراء إسرائيل لمرتفعات الجولان، وقيام المظاهرات العربية ضد هذه الزيارة، ثم التقاء الأهل النازحين، والذين ظلوا في الجولان، من خلال الأسلاك الشائكة، بهدف المصافحة، والاطمئنان بعضهم على بعض.
ويصور الفيلم الواقع الذي شهده المجتمع السوري عقب النكسة، فأحمد، الذي سرق مال أسرته صار متعهد بناء، وأبو حبيب صار ثريًّا بالنصب على أبناء جلدته؛ حيث كان ينقلهم بأجورٍ مرتفعة في شاحنة من القرية إلى العاصمة، أما وقد استقر في دمشق بعد النكسة، فها هو يمتهن التهريب والسرقة، والقتل المباشر، سواء تم ذلك بالرصاص أم بالدخول في صفقات استيراد أغذية فاسدة، وهو في النهاية يكتشف أن زوجته تخونه.
وتقول ديانا جبور: «لا بديل عن الوطن وسعي العودة إليه، فكل الخيارات الأخرى قاسية، وتنقلب على أصحابها فواجع ومآسي. في الجانب الفكري من العمل جاء «كل شيء يحترق» منسجمًا مع مسيرة السينما السورية الجادة والمنشغلة بقضايا عامة، أما في الجانب الفني فقد تفاوت تنفيذ المخرج غسَّان شميط؛ فبينما نجده مجدِّدًا، وخاصة في مواقع مثل مشهد اللقاء الأخير لرمزي وابنة الجيران في الحديقة، ومشاهد أحلام وذكريات أبو رمزي في قريته في أثناء طفولته، نجده في مواقع أخرى وقد استكان إلى السائد والمألوف في السينما التجارية، أو إلى الاستسهال بشكلٍ عام، كما في إقحام الرقص والجنس على المَشاهِد التي تشترك فيها ندى زوجة أبي حبيب، وكما في الإصرار على تكرار المونتاج المتوازي السريع بين مشهدَين كي يؤكد على الربط الرمزي بينهما.
أما الاستسهال فتمثَّل أساسًا في موسيقى الفيلم التي اختارها المخرج بنفسه، وهي عبارة عن مقطوعات عالمية معممة على كثيرٍ من برامج التلفزة والإذاعة.»
أما بالنسبة للسيرة الذاتية، التي تحدَّثنا عنها ضمن ما أسميناه بالسِّمات العامة لسينما المخرجين الذين تخرَّجوا في معاهد السينما بالاتحاد السوفييتي، فإن غسَّان شميط تحدَّث إلى جريدة الأنباء الكويتية — ٢٨ ديسمبر ۱۹۹۳م — قائلًا: ««شيء ما يحترق» له علاقة كبيرة بي؛ أولًا أنا من الجولان، والعمل يتكلم بالدرجة الأولى عن الجولان، فيه الكثير من السيرة الذاتية، الذي عايشته أو رأيته، أو سمعت به من ناس قريبين جدًّا مني، ومشاكلهم قريبة مني، وأعاني معهم، وأعيش لحظات حياتهم نفسها، كل ذلك دفعني لإنجاز «شيء ما يحترق»، وأنا عايشتُ موضوع الفيلم بكل لحظاته.»
كما قال في الحديث نفسه: «نحن نعيش هاجسًا إبداعيًّا دائمًا، وهذا ما أعيشه بدوري، وبكل لحظة من حياتي أثناء عملي على تحقيق الفيلم. هاجسي أن أطور الفكرة الموجودة، ثم أثناء كتابة النص أركز على فن البحث عن الفكرة المبتكرة لأزيد من قوة الفكرة الموجودة؛ حتى يشعر المرء أنه بحالة إبداعية مستمرة بكل لحظة، الهاجس الأساسي الذي دعاني لإنجاز فيلمي هذا، هو الذكريات المستمرة عن طفولتي، واللحظات التي غادرنا فيها الجولان، كانت تعنُّ في بالي دائمًا، وأشعر أن لها وقعًا خاصًّا بنفسي، هذه الذكريات كنت أعيشها، ودائمًا كنت أضعها في صورة من الصور، وأقدر أن أحققها على الشاشة.
طبعًا، من هنا انطلقت الفكرة الأساسية للفيلم، بعدها تكوَّنت بقية الأفكار.»
أما الفيلم الثاني للمخرج فهو «الطحين الأسود»، وهو يدور في منطقة ريفية، وسط قرية في جنوب سورية في الأربعينيات، حيث تحدث أشياء جسيمة تجعل من الدقيق الأبيض في طاحونة القمح أسود اللون، كنوعٍ من الإسقاط على فعل القمع الذي يقوم به حاكم القرية، وتسلُّطه على كل من يحاول رفع رأسه. والبطل سلمان هنا يعمل في طاحونة القرية، ويعاني من اضطهاد أبو جبر مختار القرية الذي نكَّل بمن حاول مقاومته في الضيعة؛ لقد أراد سلمان أن يتمرد على المختار، فقام بالرحيل عن القرية، والتحق بالعسكرية، وعاد بعد سنواتٍ لمواصلة معركته ضد المختار.
وفي حديثٍ لغسَّان شميط في الندوة التي عُقدت عن الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام ۲۰۰١م، قال: «إن أسلوب التناول كان من خلال بِنية معينة، وإن الشخصيات تعيش في ظروفٍ خاصة، وإن الناس في مثل هذه الأماكن يفكرون في العلاقات البالغة الخصوصية بأسلوبهم الخاص.»