أفلام يتيمة
يبقى أمامنا الحديث عن الأفلام اليتيمة التي أخرجها مخرجون من المجموعة نفسها التي درست في الاتحاد السوفييتي، وأغلب هذه التجارب قدَّمها أصحابها وهم في الأربعين من العمر، ولعل الكثيرين منهم يعلم أن قيامه بعمل تجربة ثانية سوف يستغرق وقتًا طويلًا.
ونحن لا نريد أن نقول إنها بيضة الديك بالفعل لهذه الأسماء التي لمعت في التسعينيات، ولعل هذا الإحساس دفع ببعض المخرجين إلى البحث عن وسائل تمويل مساعِدة، مثلما حدث بالنسبة لفيلم أسامة محمد، وكما سوف نرى فإن عدد هؤلاء المخرجين، الذين عملوا مرة واحدة، أقل بكثيرٍ من هؤلاء الذين أتيحت لهم فرص العمل أكثر من مرة، وسوف نكتشف أن هناك تقاربًا غريبًا بين أصحاب هذه الأسماء؛ فكلٌّ منهم يضع الحدوتة على الهامش قياسًا إلى شغفه الشديد بعنصر الصورة، وقد ذهب كلٌّ من ماهر كدو، ورياض شيا إلى الطبيعة؛ فوقعا في غرامها بشكلٍ ملحوظ، واستعانا بمصورين عُرفَت عنهم الكفاءة، ونجح كلٌّ منهم في تصوير طبيعة حزينة، حزن البشر الذين يعيشون أسفل سمواتها، وسوف نرى أن المرأة في هذه الأفلام هي الشخصية الرئيسة في أطراف سورية شمالًا وجنوبًا، وأنها امرأة منكسرة، تعاني من قسوة المجتمع الذي تعيش فيه، وأن نهايات هذه الأفلام دومًا مغلقة مليئة بالنكبات والألم.
وكما نلاحظ فإن هؤلاء المخرجين ينتمون، في المقام الأول، إلى المناطق الحدودية السورية، وقد انعكس ذلك على البيئات التي تدور فيها أحداث أفلام كلٍّ منهم.
ماهر كدو
وُلِد ماهر كدو في دير الزور عام ١٩٤٩م، درس الإخراج السينمائي في أكاديمية السينما والمسرح في بوخارست بالمجر، وتخرَّج فيها عام ١٩٧٨م، وفي عام ١٩٨٤م أخرج فيلمه التسجيلي القصير «الخباء»، وفي عام ١٩٩٣م قدَّم فيلمه الروائي والوحيد حتى الآن بعنوان «صهيل الجهات».
نحن نضع ماهر كدو وسط المبدعين الذين تخرجوا من جامعات موسكو وكييف، وغيرها باعتبار أنها كانت متقاربة الفكر والهدف في الفترات التي قام بها هؤلاء المخرجون بتلقي دراستهم، خاصة قبل تفكُّك الحدود الشيوعية، وانفصالها عن الاتحاد السوفييتي، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه.
ونحن نتحدث هنا عن المدرسة السوفييتية أو الشرقية، باعتبار أن الحدوتة في أفلامها تأتي باهتة، قياسًا إلى اهتمام الفنان بالتركيز على جماليات الطبيعة؛ ففيلم «صهيل الجهات» لم يعتمد على حدوتة ملموسة، وسوف نرى ذلك واضحًا في فيلم «اللجاة» لرياض شيا، الطبيعة هنا هي الشخصية الرئيسة، باعتبار أنها تحتضن بين ذراعَيها الناس الذين يسكنون في حناياها، بكل ما يحملون من تناقضات، وهذا النوع من الأفلام يصعب الحديث عنه، كما أن الناقد الذي سيتناوله إما أن يتبع أسلوبًا مختلفًا في المتابعة، أو فليقع في محظور التقليدية.
وباعتبار أننا نرصد الأفلام بالشكل التقليدي، دون أن تكون لنا وجهة نظر محددة مع الفيلم أو ضده، وإن كنا نحاول استجماع آراء عديدة حول الفيلم، فإننا سنتحدث عن الفيلم من المنطق التقليدي؛ فهناك عصابات إجرامية تغتال أمن الناس، وتسعى إلى الاستيلاء على ما يمتلكه الناس، هذه العصابة تهدد أمن أسرة تعيش في مكان صحراوي منعزلٍ تقوم بتربية الجياد، وهي أسرة تعيش بشكلٍ آمن؛ حيث تهاجم العصابة الأسرة الآمنة، وتسلبهم الجياد، وتقتل الأب وزوجته بإطلاق وابل الرصاص على جسدَيهما، بعد أن حاول صاحب المزرعة حماية خيوله من السرقة، فيقوم الرجال بقتل الزوج وخنق الأم، ويحرقون المنزل ويهربون تحت جنح الظلام، بعد أن يكونوا قد اغتصبوا ابنتهم الشابة الوحيدة.
هذه البداية التي نراها في الفيلم قبل نزول العناوين توحي إلينا أننا سنشاهد فيلمًا من نوع الويسترن الأمريكي من طراز «هاني كولدر» الذي قامت ببطولته راكيل والش عام ١٩٧١م، أو «نيفادا سميث»، إخراج هنري هاثاواي عام ١٩٦٦م. ومن الواضح أن ماهر كدو يحاول أن يقدم حدوتة على غرار بعض أفلام الغرب، بالإضافة إلى أنه يقدم فيلمًا يخصُّه، فما إن تنتهي العناوين حتى نرى الفتاة تتحرك في الصحراء في رحلة بحثٍ عن هؤلاء الذين قتلوا أسرتها، لقد رفضت نصائح أهل القرية السلبيين بالعدول عن فكرة الانتقام، إلا أنه لم يعُد لديها ما تحرص عليه بعد ضياع الشرف، ومقتل الأهل.
وتقول ديانا جبور في مجلة «فن»: «ملاحقة القتلى من قِبَل هذه الفتاة العزلاء لا تندرج في إطار الكاوبوي المعكوس والمحلي بأن تحل الفتاة الصحراوية محل رجل الكاوبوي. إذن، فالفيلم ليس فيلم مغامرات، ونحن منذ البداية نلمس استحالة مشروعها بالثأر من مغتصبيها وقتلة والدَيها، لكننا لا نستطيع إلا أن نعترف بمشروعية محاولتها؛ لذلك فملاحقتها تأتي ضمن إطار البحث والكشف، إطار تقديم صورة بانورامية عن الطبيعة والطبائع؛ فهناك الصحراء، النهر، البادية، القرى المقبَّبة، الممالح، البحر، الجبال الجرد. وفي كل منطقة تتوقف فيها تلاقي رجالًا وبشرًا تراوح مواقفهم من السخرية والاستغلال إلى التقدير والتعاطف؛ لتبقى السلبية السِّمة العامة والتي بلغت أوجها عندما وصلت الفتاة إلى منطقة القلمون.»
الموضوع من شكله الخارجي أشبه بأفلام الغرب التي انتشرت في النصف الثاني من الستينيات، والنصف الأول من السبعينيات، لكن من الواضح أن ماهر كدو يراه برؤيته الخاصة؛ فهو يعكس جمال الطبيعة، لكن هذا لا يلغي التقارب الواضح بين «هاني كولدر» والفتاة هنا، التي تلتقي بأسرة مَر عليها أفراد العصابة فتركوا بصماتهم هناك.
مسألة العصابات التي ترتكب مثل هذه الوحشية دون أن يلاحقها رجال الأمن، هي سِمة من سِمات الغرب، فالقوة هي القانون، وحسب الفيلم السوري فإن العصابة قد مرَّت بجرائمها في أكثر من مكان صحراوي دون أن تصل أنباؤها إلى الشرطة السورية، وهذا أمر غير مقبول، فالفيلم يستعرض الكثير من الحالات التي تعرضت لوحشية العصابة، ومنها، على سبيل المثال، العجوز صاحب الفاخورة الذي أخذوا ابنه معهم وضمُّوه إليهم. كما قاموا بالتنكيل بأسرة حدادة تديرها أم عمياء، لها ابن شاب أخرس، وآخر أصم، أو حتى عثورها على فرسها الجميل صريعًا على قارعة الطريق، كما أن مسألة سلبية أهالي القرية ليست عربية؛ فهي موجودة بقوة في الفيلم الأمريكي «ساعة الظهيرة العالية» الذي أخرجه فريد زينمان عام ١٩٥٢م؛ فالناس سلبيون ويتركون شخصًا واحدًا يواجه مصيره بمفرده.
الاختلاف الجذري بين الفيلم العربي والأفلام الأمريكية أن الفتاة لا تنتقم، لكنها تعود إلى بيتها المغتصَب المحترق من أجل إعادة إعماره، بعد أن انتفخ بطنها، وصار عليها أن تداري ابن السِّفاح الذي ملأ بطنها، وذلك بعد أن فشلت مرارًا في إجهاض نفسها، وهناك تجد حبيبها محمد ينتظرها من أجل البدء من جديد، حتى ولو بمهرة صغيرة نجت من المذبحة المجانية، التي لا يعرف المُشاهِد سببًا لها. محمد هذا يعمل في صناعة الملح، وهو يتسلق جدران البيت المحترق مدركًا أن الفتاة قد عادت. وهناك عند البيت القديم تأتي علامات المخاض، الآن سوف يُولَد طفل غير معروف الأب، إنه ابن سِفاح، لا يزال أبوه طليقًا، أو لعله مات ضمن الصراعات الداخلية بين أفراد العصابة، وهو حل درامي أقحمه المخرج على الفيلم.
يقول محيي الدين فتحي في نشرة مهرجان القاهرة السينمائي عام ١٩٩٣م: «تتجلى الرمزية المطلَقة اعتبارًا من عنوان الفيلم ذاته الذي يؤكد صهيل جميع الجهات التي تنطلق فيها الفتاة مطالبة إياها باستعادة الحق السليب، بل وحتى سرقة العصابة للخيول تعني انتزاع قوًى استعمارية غاشمة لرموز انطلاقة الأمة المتجسدة في الجياد للحد من انطلاقاتها الوثابة، وقتل الأب والأم لا يعني قطع الوصال، فهناك ابنة يمكن أن تواصل الطريق، وتأخذ بالثأر القابع في النفس أبدًا، وصراخها الناجم عن آلام المخاض ليس سوى معاناة وقتية يبشِّر زوالها بمحاولاتٍ أخرى قادمة للثأر، واستعادة الحق السليب مهما تعددت الجولات، ويصبح المهر الصغير نواة لتكوين مزرعة الخيول.»
تحدَّث المخرج في حواره مع ايمان الجابر، عن الجماليات في فيلمه قائلًا: «كل فيلم ليس له معادِل بصري ضمن تشكيلات جمالية تخدم المعنى أعتبره فيلمًا لا معنَى له، يقترب من الحدوتة الإذاعية؛ وبالتالي حين صنعتُ هذا الفيلم كان هاجسي الأول أن تخدم الصورة المعنى؛ فالسينما، قبل كل شيء هي صورة، وبالتالي أنا أعتقد أنني رسمتُ خطًّا تشكيليًّا متناغمًا طوال الفيلم، حتى اللقطة الأخيرة عندما تصرخ الصَّبية في نهاية الفيلم، ولو جعلتها تصرخ وهي على الأرض لأخذَت معنًى آخر! وهذا المثال ينسحب على مسار الفيلم كله. الحوار قليل كما لاحظتم في الفيلم، لكن الصورة أعطت، عبر تشكيلها، ما أردت أن أقوله.»
رياض شيا
هو من التلاميذ الذين سافروا إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة السينما، ورغم أنه من مواليد السويداء عام ١٩٥١م، فإنه تخرج من معهد السينما بموسكو عام ١٩٨٢م، أي وهو في الحادية والثلاثين، كما أنه أخرج فيلمه الأول والوحيد — حتى الآن — عام ١٩٩٥م. وقد عمل شيا في العديد من الأفلام قبل تجربته الروائية الأولى، فبالإضافة إلى أفلامه القصيرة، فإنه عمل مساعد مخرج مع أسامة محمد في «نجوم النهار»، ثم عمل مستشارًا فنيًّا في فيلم «الطحالب» لريمون بطرس، وذلك قبل أن يقدِّم فيلمه المأخوذ عن رواية باسم «معراج الموت» تأليف ممدوح عزام، الذي شارك في كتابة السيناريو.
وكما ذهب أبناء كل منطقة إلى ديارهم القديمة يصورون فيها أفلامهم، فإن شيا ذهب إلى منطقة اللجاة في الجنوب السوري؛ حيث البيئة الريفية المنغلقة، التي فيها البيوت الحجرية، والعادات التي لم تتغير منذ زمنٍ طويل، ربما منذ بداية التاريخ، ولعل شيا هو واحد من القلائل الذين لم يهتموا بتصوير تجاربهم الشخصية، لكنه كان أقرب إلى ماهر كدو في الاهتمام — ربما أكثر من اللازم — بالطبيعة وجماليتها. فنحن هنا مع الفتاة اليتيمة سلمى التي تود أن تهرب من الأسر الذي تفرضه عليها أسرة عمها التي تعيش معها؛ فتقرر أن تتزوج من شاب يُدعى سعيد، كي تهرب من هذا العالم الخانق بحثًا عن حرية منشودة، لكنها سرعان ما تعود إلى المنزل نفسه بعد أن يتركها زوجها ويهرب، فتجد نفسها مجددًا وحيدة أمام العالم نفسه الذي سعت للهروب منه، وتقع في غرام حليم المدرس الذي يعمل بالقرية. ويقرر الاثنان الهرب من القرية، ويقيمان لدى شيخ القرية الذي يطلب منهما عدم مس بعضهما، وتعيش الفتاة بين بناته، ويعامِل حليم الفتاة «سلمى» في هذه الفترة كأخته، لكن الحرية التي اختاراها لنفسيهما سرعان ما تكون قصيرة العمر، وتقوم قوة من الشرطة فوق الجياد بالقبض عليها في الطريق الجبلي، وتعيدها إلى منزل عمها، وسط نهنهات بنات الشيخ، بينما الفتى الكسيح يزحف على الأرض، وقد اعتراه حزن ملحوظ.
هذا المكان استقى اسمه من أنه كان ملجأً للثوار السوريين الهاربين من رجال الاحتلال العثماني، ثم الفرنسي، وهو يحمل بداخله سحره الخاص، وهُويته المنعزلة الصامتة، وطبيعة البشر ترسم خطوطًا من الوشم التراثي على الوجوه الساكنة من الخارج، بينما تفور بداخلها ثورة مكبوتة بركانية التكوين.
ويقول الفنان التشكيلي محمد فايد: «خلال الجزء الأول من الفيلم يُحكِم رياض شيا قبضة تكويناته اللونية، القانية، الباهتة، الصلبة، ويفرض علينا إيقاع العمل الخاص بمدلولاته الدرامية، وحركة كاميرا متمهلة بشدة، في دعوة مفتوحة للتأمل والغرق في ثنايا العمل، حتى نصل إلى درجة بين التشبُّع للقتامة والحزن … واليأس! وتصبو بداخلنا الرغبة في الانعتاق. تنتقل إلينا الحركة المسكونة داخل الفتاة التي طال انتظارها سنواتٍ طويلة حتى وجدت صدى عمرها الضائع، والخلاص لروحها الهائمة معها دائمًا على صفحات المياه العذبة، في تقنية مستحدَثة سينمائيًّا لمدلولات الأحلام والأماني المخبوءة بداخلنا، وبداخلها. وحين تتعرف على معلم القرية تنمو براعم الحب، وتزدهر على سطح الصخور الصلبة، حين تلتصق القلوب والآذان فوقها وتحلم، وتسمع حكايات الصخر، هنا يتصاعد إيقاع القطع السينمائي.
وتزداد جنبات الصورة السينمائية دفئًا إنسانيًّا، ويتصاعد الإيقاع العام للفيلم في نعومة عازف الفيولينا الساحر، وتتوهج الصورة بالألوان أكثر تفاؤلًا وإشراقًا، وتصفو السماء، وتزداد مساحات الخضرة والماء تدريجيًّا مع رقة وعذوبة نسمات الهواء في المكان.»
يقول المخرج إن السينما التي تبحث عن هُوية لذاتها، سينما خاسرة على مستوى المنتِج الفرد، في العالم أجمع، وكان من المستحيل إنتاج هذه النوعية من الأفلام لولا وجود المؤسسة السينمائية السورية، التي وفَّرت لكل مخرجي السينما فرصة إخراج هذه النوعية المتميزة على المستوى الفكري والتقني، إن السينما هي هُوية المخرج، وهذا شيء يختلف عن صناعة السينما.
أما كمال رمزي فيكتب في مجلة «فن»: «يأتي «اللجاة» مميزًا في استخدامه للألوان، كما أنه تبجيلًا للصورة — اللوحة — يستخدم أبطاله كمجرد ألوان، أو خطوط تدخل في نسيج لقطاته، الطويلة بالضرورة، وتدفع ممثِّليه دفعًا إلى أن يتحركوا على نحوٍ يشوبه القسر والتكيُّف؛ كي لا يُفسِدوا جماليات اللوحة.
والأهم أن علاقات أبطال الفيلم بعضهم مع بعض، تصل في غموضها حدَّ الإبهام، وثمة البعض منهم، لا نعرف من أين جاء، أو إلى أين يذهب، فمثلًا بين الحين والحين، يظهر رجل يجلس فوق التل مطلَق اللحية، وإلى جانبه كلب ضخم، الرجل يعوي بصوتٍ كأنه آتٍ من الجحيم، ويرد عليه الكلب بعواءٍ مماثِل، وهناك فتًى كسيح، حليق الشعر، يقرأ فقرات من كتابٍ صوفي، ويزحف بحثًا عن موقع، داخل البيت، يتلصص منه على شريحة من جسم بطلة الفيلم في أثناء استحمامها.»
أما كاتب السيناريو السوري حسن سامي يوسف فيقول: «في هذا الفيلم ينبني الفعل أحيانًا على عادات وتقاليد من جبل العرب، قد تبدو مستغلَقة وعصية على القراءة بالنسبة للمُشاهِد العادي، مثل إغلاق المضافة كدلالة على عدم الرغبة في مناقشة أمرٍ ما، أو الشعور بالانكسار، ومعنى كشف الرأس كدليلٍ على الإهانة والشعور بالعار، لكن أداء الممثلين يقدِّم لنا مفاتيح هذه التفاصيل البيئية الخاصة بحيث تسهل علينا قراءتها بشكلٍ صحيح.»