الثلاثاء ٢١ جانفي ١٩٣٠

ألقى إليَّ البريد البارحة تنبيهًا باستلام رسالة. وفي الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ذهبت واستلمتها بعد أن دفعت عليها معلومًا خاصًّا؛ لأنَّها كانت أثقل ممَّا ينبغي أن تكون. تناولت الرسالة من آنسة البريد، فإذا هي مكتوبة بخط صديقي الأديب النابغ الأستاذ محمد الحليوي. فسارعت بحلِّها لعلمي أنَّها لا بدَّ أن تحتوي على شيء بهيج؛ لأنني أعجب بكتابة هذا الصديق الأديب التي لا تخلو من فكرة ناضجة وأسلوب حيٍّ وإن كنت لا أعجب بشعره.

وتلوتها فإذا هي رسالة منه كلُّها لطف ومودة ودماثة أخلاق، ربَّما بلغت غايتها القصوى. وقد أرفقها بمقال كتبه في انتقاد بعض الآراء التي وردت في كتابي «الخيال الشعري عند العرب». ولكنَّ لطفه ومودته أبَيَا عليه إلا أن يوجِّه بانتقاده إليَّ، وأن يفوض إليَّ النظر في نشره أو إهماله. كلُّ ذلك حرصًا على مودة يشفق أن تذروها عواطف النقد. كأنَّه يحسب — سامحه الله — أنَّ انتقاده عليَّ ربما يثير حفيظتي، ويحرك في نفسي عوامل الغضب. مع أنني لست من هاته الطائفة التي لا تفهم من النقد إلا عداء وسِبابًا، ولا ترفع قلمها إلا لغاية سافلة وغرض دنيء. لست — والحمد لله — من هاته الطائفة، ولكنني ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممَّن يُسرُّون بكل انتقاد لا تكون غايته غير الحقيقة، ولا مصدره غير الإخلاص، كانتقاد صديقي الأعز، يقول في رسالته التي صاحبها برسالة النقد على كتابي بعد التحية:

… وعلى كلٍّ فها أنا فوَّضت أمرها إليك. فما شئت فعلت بها.

لو تدري يا أخي كم تنازعت مع نفسي في شأن هذا الانتقاد لعذرتني عن التأخير والتواني في إتمامه حتى اليوم. فقد كنت حريصًا جدَّ الحرص على صداقتك، ضنينًا بها ضنَّ البخيل بالدينار. وكنت أخاف أن تبدو منِّي كلمة أو رأي يكون سببًا في سوء التفاهم بيننا. ذلك لأن «شيطان النقد» لا وظيفة له في الدنيا إلا زرع بذور الشقاق بين الأحبَّاء. وأنا من الذين يحرِّمون هذا النوع من النقد بين الأصدقاء المتحابِّين.

فبربِّك دعني «أيها الأخ» أتمتَّع بصداقتك وأتبادل وُدَّك، ودعني أُعْجَبْ بأدبك عن بُعد، دون أن نُدخل جمهور القراء فيما بيننا. واقنع مني بأني شريكك في جلِّ آرائك، ولا تلُمْني إذا رأيتني أعدل في آخر وقت عن الكلمة الثانية التي وعدت بها في آخر المقال …

يريد بها وعده في مقاله بأنه سينشر كلمة أخرى في بعض مآخذه على الكتاب من جهات أخرى.

أتحسب يا صديقي إذًا أن «شيطان الانتقاد» ما خُلق إلا لزرع بذور الشقاق بين الأحِبَّاء؟ أو تخال أنني بانتقادك على بعض آرائي ربَّما أبتُّ أسباب المودة التي بيننا؟ لتسمح لي يا صديقي أن أخالفك.

فإن رأيي في الانتقاد أنه ليس «شيطانا» يبثُّ بذور الشقاق وإنَّما هو ملاك يحمل سراج الحقيقة في سبيل الإنسان. وإن رأيي في الصداقة أنَّها ليست بمعنى عبودية الفكر، ولكنَّها حرية «النفس». فإنني حينما أجلس إلى صديق أحسُّ بإشعاع الحياة في نفسي، وحينما أجلس إلى عدوٍّ أحسُّ بضيق الحياة فيها. وهاته الحريَّة التي تحسُّ بها النفس بجوار الصديق ليس معناها عبودية الفكر وتكبيل الضمير؛ لأن الحريَّة لا تنتج الاستبعاد، ولأنَّ صديقي الذي يحترم نفسه ويقدِّر عقله الذي وهبته الحياة إياه هو الرجل الذي يكون جديرًا بمحبتي واحترامي. أمَّا الرجل الذي أحبُّه وأستعبده بحيث يصبح ظلًّا لكلِّ أفكاري وخواطري، فإنني أشفق عليه أكثر مما أحبُّه، وأرثي له أكثر ممَّا أحترمه.

وبعد ذلك، فقد رأيت رسالته الانتقادية. وهي رسالة قيِّمة قد لخَّصَتِ الأدوار الأدبيَّة التي مرَّت بها الآداب الفرنسيَّة من عهد النهضة «الرينيسانس» إلى عهد الأدب الواقعي بصورة لم أَرَ من كتب بمثلها في دقَّة تصوير الحالة، وبراعة التحليل، رغم إيجازها. وقد وَدِدْتُ لو أعطيتها إلى الأخ زين العابدين يوم التاريخ لينشرها في «العالم»، ولكن ليس في الإمكان أن يتسلَّمها اليوم. وإذا فإلى الغد وسأبذُلنَّ جهدي حتّى تنشر في العدد الوشيك الظهور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤